فهرس تفسير القرطبي للسور

2 - تفسير القرطبي سورة البقرة

التالي السابق

سورة البقرة

 

وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها وما جاء فيها، وهكذا كل سورة إن وجدنا لها ذلك، فنقول: سورة البقرة مدنية، نزلت في مُدَدٍ شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة، إلا قوله تعالى: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن.

وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها جسيم. ويقال لها: فسطاط القرآن، قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبدالله في ثماني سنين كما تقدم.

قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة، وقال له: ( اذهب فأنت أميرهم ) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ) ، قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة. وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ) . وروى الدارمي عن عبدالله قال: ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط. وقال: إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. قال أبو محمد الدارمي. اللباب: الخالص. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ) . قال أبو حاتم البستي: قوله صلى الله عليه وسلم: ( لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ) أراد: مردة الشياطين. وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال قال عبدالله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا خواتيمها، أولها: « لله ما في السموات » [ البقرة: 284 ] . وعن الشعبي عنه: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وقال المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبدالله - : لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى: لم ينس ما قد حفظ. قال أبو محمد الدارمي: منهم من يقول: المغيرة بن سميع. وفي كتاب الاستيعاب لابن عبدالبر: وكان لبيد بن ربيعة بن عام بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الإسلام، سأل عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

قال ابن عبدالبر: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قال في الإسلام:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه القرين الصالح

وسيأتي ما ورد في آية الكرسي وخواتيم البقرة، ويأتي في أول سورة آل عمران زيادة بيان لفضل هذه السورة، إن شاء الله تعالى.

 

الآية :1 ( الم )

 

قوله تعالى: « الم » اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السورة، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها.

قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبدالله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: « الذين يؤمنون بالغيب » [ البقرة: 3 ] .

قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في ( آل عمران ) إن شاء الله تعالى. وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ويلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: « الم » و « المص » استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: « لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه » [ فصلت: 26 ] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: « الم » قال: أنا الله أعلم، « الر » أنا الله أرى، « المص » أنا الله أفضل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله:

فقلت لها قفي فقالت قاف

أراد: قالت وقفت. وقال زهير:

بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا

أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.

وقال آخر:

نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعا كلهم ألا فا

أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: ( من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة ) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أقْ، كما قال عليه السلام ( كفى بالسيف شا ) معناه: شافيا.

وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد ههنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: « لا ريب فيه » فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون « لا » جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح.

فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: « الم » أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: « الم » قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم.

والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الإعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه. ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه « الم » ، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ابن كَيسان النحوي: « الم » في موضع نصب، كما تقول: اقرأ « الم » أو عليك « الم » . وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.

 

الآية: 2 ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )

 

قوله تعالى: « ذلك الكتاب » قيل: المعنى هذا الكتاب. و « ذلك » قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز: « ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم » [ السجدة: 6 ] ، ومنه قول خُفاف بن نُدبة:

أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا

أي أنا هذا. فـ « ذلك » إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم » [ الأنعام: 83 ] « تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق » [ البقرة: 252 ] أي هذه، لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك. وفي البخاري « وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن » . « هدى للمتقين » بيان ودلالة، كقوله: « ذلكم حكم الله يحكم بينكم » [ الممتحنة: 10 ] هذا حكم الله.

قلت: وقد جاء « هذا » بمعنى « ذلك » ، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: ( يركبون ثبج هذا البحر ) أي ذلك البحر، والله أعلم. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.

واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: « ذلك الكتاب » أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه، أي لا مبدل له. وقيل: ذلك الكتاب، أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل ( أن رحمتي سبقت غضبي ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي ) في رواية: ( سبقت ) . وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ) الحديث. وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة: « إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا » [ المزمل: 5 ] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا ( وفي النسخة: مستسرفا ) لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: « الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه » [ البقرة: 1 - 2 ] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة. وقيل: إن « ذلك » إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و « الم » اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما. وقيل: إن « ذلك الكتاب » إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر بـ « بذلك » عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: « إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » [ البقرة: 68 ] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي. وقيل: إن « ذلك » إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال الكسائي: « ذلك » إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: « الم » الحروف التي تحديتكم بالنظم منها.

والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتَّبت الخيل صارت كتائب. وكتبتُ البغلة: إذا جمعت بين شُفْري رَحِمِها بحلقة أو سير، قال:

لا تأمنن فَزاريا حللت به على قَلوصك واكتبها بأسيار

والكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخزر. قال ذو الرمة:

وفراء غرفية أثأى خوارزها مُشَلشِل ضيَّعتْه بينها الكتبُ

والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:

تؤمِّل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء

والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجَعدِي:

يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعنَّ الله ما فعلا

 

قوله تعالى: « لا ريب » نفي عام، ولذلك نصب الريب به. وفي الريب ثلاثة معان:

أحدها: الشك، قال عبدالله بن الزبعرى:

ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول

وثانيها: التهمة، قال جميل:

بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب

وثالثها: الحاجة، قال:

قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا

فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار. وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه.

 

قوله تعالى: « فيه هدى للمتقين » الهاء في « فيه » في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه، أجودها: فيهِ هدى. ويليه فيهُ هدى ( بضم الهاء بغير واو ) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر. ويليه فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير. ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز فيه هدى ( مدغما ) وارتفع « هدى » على الابتداء والخبر « فيه » . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى.

 

الهدى هُديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: « ولكل قوم هاد » [ الرعد: 7 ] . وقال: « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » [ الشورى: 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: « إنك لا تهدي من أحببت » [ القصص: 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: « أولئك على هدى من ربهم » [ البقرة: 5 ] وقوله: « ويهدي من يشاء » [ فاطر: 8 ] والهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: « فلن يضل أعمالهم. سيهديهم » [ محمد: 4 - 5 ] ومنه قوله تعالى: « فاهدوهم إلى صراط الجحيم » [ الصافات: 23 ] معناه فاسلكوهم إليها.

 

الهدى لفظ مؤنث. قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة. وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في « الفاتحة » ، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته. الأولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الأخفش. وفي التنزيل: « اهدنا الصراط المستقيم » و « الحمد لله الذي هدانا لهذا » [ الأعراف: 43 ] وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مُقبل:

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا

 

قوله تعالى: « للمتقين » خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه. وروي عن أبى رَوق أنه قال: « هدى للمتقين » أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. وأصل « للمتقين » : للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين.

الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس. قلت ومنه الحديث ( التقي مُلْجَم والمتقي فوق المؤمن والطائع ) وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

وقال آخر:

فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم

وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث سعيد بن زَربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوما لابن أخيه: يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم. وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله. وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات. وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم: قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

السادسة: التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء، فقال:

يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا

وروى ابن ماجة في سننه عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خير له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ) .

والأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة، كما قالوا: تجاه وتراث، والأصل وجاه ووراث.

 

الآية: 3 ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )

 

قوله تعالى: « الذين » في موضع خفض نعت « للمتقين » ، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. « يؤمنون » يصدقون. والإيمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: « وما أنت بمؤمن لنا » [ يوسف: 17 ] أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » [ آل عمران: 73 ] « فما آمن لموسى » [ يونس: 83 ] وروى حجاج بن حجاج الأحول - ويلقب بزقّ العسل - قال سمعت قتادة يقول: يا ابن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السأمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.

 

قوله تعالى « بالغيب » الغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.

واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.

قلت: وهذا الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان. قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . قال: صدقت. وذكر الحديث. وقال عبدالله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: « الذين يؤمنون بالغيب » [ البقرة: 3 ] .

قلت: وفي التنزيل: « وما كنا غائبين » [ الأعراف: 7 ] وقال: « الذين يخشون ربهم بالغيب » [ الأنبياء: 49 ] فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم بإطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض، والحمد لله. وقيل: « بالغيب » أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن. وقال الشاعر:

وبالغيب أمنا وقد كان قومنا يصلّون للأوثان قبل محمد

 

قوله تعالى: « ويقيمون الصلاة » معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر:

وقامت الحرب بنا على ساق

وقال آخر:

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان

وقيل: « يقيمون » يديمون، وأقامه أي أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

 

إقامة الصلاة معروفة، وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروي عن مالك، واختاره ابن العربي قال: لأن في حديث الأعرابي ( وأقم ) فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء.

قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض. قال ابن عبدالبر قوله: ( وتحريمها التكبير ) دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك. وقال بعض علمائنا: من تركها عمدا أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم.

 

واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أو لا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ثوب بالصلاة فلا يَسْعَ إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك ) . وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع. وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوات الركعة، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب، لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي.

قلت: واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار، لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرجه الدارمي في مسنده قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عُجْرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة ) . فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى: « فاسعوا إلى ذكر الله » [ الجمعة: 9 ] وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام، وإنما عنى العمل والفعل، هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم.

 

واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: ( وما فاتكم فأتموا ) وقوله: ( واقض ما سبقك ) هل هما بمعنى واحد أو لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: « فإذا قضيت الصلاة » [ الجمعة: 10 ] وقال: « فإذا قضيتم مناسككم » [ البقرة: 200 ] . وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو أخرها؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك - منهم ابن القاسم - ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانيا في الأفعال قاضيا في الأقوال. قال ابن عبدالبر: وهو المشهور من المذهب. وقال ابن خويز منداد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن علي. وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبدالحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال، وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ابن عبدالبر: من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام، لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في أخرها، فمن ههنا قالوا: إن ما أدرك فهو أول صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: ( فأتموا ) والتمام هو الآخر.

واحتج الآخرون بقوله: ( فاقضوا ) والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى « فأتموا » أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أول صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجِشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الإمام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها، فهؤلاء اطرد على أصلهم قولهم وفعلهم، رضي الله عنهم.

 

الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها، لقوله تعالى: « ولا تبطلوا أعمالكم » [ محمد: 33 ] وخاصة إذا صلى ركعة منها. وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم.

 

واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الإمام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد - التي تصلى فيها الجمعة - اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الإمام وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد. وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان: إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر. وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد. وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك، وهو الصحيح في ذلك، لقوله عليه السلام. ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) . وركعتا الفجر إما سنة، وإما فضيلة، وإما رغيبة، والحجة عند التنازع حجة السنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الإمام. ومن حجة الثوري والأوزاعي ما روي عن عبدالله بن مسعود أنه دخل المسجد. وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: ( وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد ) ، روى مسلم عن عبدالله بن مالك ابن بُحَينة قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فقال: ( أتصلي الصبح أربعا ) وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت، لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم.

 

الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: ( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل ) أي فليدع. وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. ولما ولدت أسماء عبدالله بن الزبير أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أسماء: ثم مسحه وصلى عليه، أي دعا له. وقال تعالى: « وصل عليهم » [ التوبة: 103 ] أي ادع لهم. وقال الأعشى:

تقول بِنتي وقد قرُبتُ مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليكِ مثلَ الذي صليتِ فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

وقال الأعشى أيضا:

وقابلها الريح في دِنِّها وصلّى على دنها وارتسم

ارتسم الرجل: كبر ودعا، قال في الصحاح، وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صَلْوَي السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع تثنى صلَواه. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان. والمصلي: تالي السابق، لأن رأسه عند صلاه. وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلّث عمر. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه « تصلى نارا حامية » [ الغاشية: 4 ] . وقال الحارث بن عُباد:

لم أكن من جُناتها علم اللـ ـه وإني بحرها اليوم صال

أي ملازم لحرها، وكأن المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به. وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي:

فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم

والصلاة: الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: ( اللهم صل على محمد ) الحديث. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: « وما كان صلاتهم عند البيت » [ الأنفال: 35 ] الآية، أي عبادتهم. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة » [ طه: 132 ] . والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: « فلولا أنه كان من المسبحين » [ الصافات: 143 ] أي من المصلين. ومنه سبحة الضحى. وقد قيل في تأويل « نسبح بحمدك » [ البقرة: 30 ] نصلي. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: « ولا تجهر بصلاتك » [ الإسراء: 110 ] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلّى فيه، قاله ابن فارس. وقد قيل: إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة، فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرع من صلاة، حكاه أبو نصر القشيري.

قلت: فعلى هذا القول لا اشتقاق لها، وعلى قول الجمهور وهي: -

 

اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الإيمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا اختلافهم والأول أصح، لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم، فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء، والله أعلم.

واختلف في المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض. وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما.

 

الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة » [ طه: 132 ] الآية، على ما يأتي بيانه في « طه » إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجة عن أبي هريرة قال: هجّر النبي صلى الله عليه وسلم فهجّرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أشكمت درده ) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ( قم فصل فإن في الصلاة شفاء ) . في رواية: ( أشكمت درد ) يعني تشتكي بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

 

الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لما أخلّ بها، فقال له: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) خرجه مسلم. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وغيره. قال علماؤنا: فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام. أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما. وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع. وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام. وقال بعض أصحابه: الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة، وهو قول الحميدي، ورواية عن الأوزاعي. واحتجوا بقوله عليه السلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل، لأنه المبلغ عن الله مراده. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شيء عليه، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه. وقال أصبغ بن الفرج وعبدالله بن عبدالحكم: ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإن تركه ساهيا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شيء عليه، ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا، لأنه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية.

قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم. وقد ترجم البخاري رحمه الله ( باب إتمام التكبير في الركوع والسجود ) وساق حديث مُطرّف بن عبدالله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. وحديث عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أُمّ لك فدلّك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بهذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدا.

قلت: أتراهم أعادوا الصلاة فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه، وبالله التوفيق.

 

وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور، وأوجبه إسحاق بن راهويه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم ) .

 

وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وأصحابه: الجلوس الأول والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة، والقراض من الإجارات، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا. واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. احتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به، كما لو ترك سجدة أو ركعة، ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما. وفي حديث عبدالله بن بُحينة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم، فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه النسيان والسهو، لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم.

واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أن الجلوس فرض والتشهيد فرض والسلام فرض. وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة، وبه قال داود. قال الشافعي: من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه. وإذا ترك التشهد الأخير ساهيا أو عامدا أعاد. واحتجوا بأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض، لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .

القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة، هذا قول بعض البصريين، وإليه ذهب إبراهيم بن عُلية، وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى، فخالف الجمهور وشذ، إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله. ومن حجتهم حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ( وفي النسخة: العاصي ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته ) وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر، وقد بيناه في كتاب المقتبس. وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس.

القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا. قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين. واحتجوا بحديث ابن المبارك عن الإفريقي عبدالرحمن بن زياد وهو ضعيف، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته ) . قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس:

ويرى الخروج من الصلاة بضرطة أين الضراط من السلام عليكم

قال ابن العربي: وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين، أما أحدهما: فروى عبدالملك عن عبدالملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا، فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه، وهذا مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الإمام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقبل السلام أنه يجزئ من خلفه، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى، وإن عمرت به المجالس للذكرى.

القول الرابع: إن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب. وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية. واحتجوا بأن قالوا: ليس شيء من الذكر يجب إلا تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن.

القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب، قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه، واحتج إسحاق بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال له: ( إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك ) . قال الدارقطني: قوله ( إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك ) أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وشبابة ثقة. وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك، جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

 

واختلف العلماء في السلام، فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق. قال عبدالرحمن بن مهدي: لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه، وهذا تصحيح من عبدالرحمن بن مهدي لحديث علي، وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه. وحسبك به!»

 

وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح فقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعبدالرحمن وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة. وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة، وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة.

 

واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة، فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزئ إلا التكبير، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين، ولا يجزئ عند مالك إلا « الله أكبر » لا غير ذلك. وكذلك قال الشافعي وزاد: ويجزئ « الله الأكبر » و « الله الكبير » والحجة لمالك حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ « الحمد لله رب العالمين » . وحديث علي: وتحريمها التكبير. وحديث الأعرابي: فكبر. وفي سنن ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا: حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبدالحميد بن جعفر قال حدثنا محمد ابن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال: « الله أكبر » وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير، قال الشاعر:

رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأعظمه جنودا

ثم إنه يتضمن القدم، وليس يتضمنه كبير ولا عظيم، فكان أبلغ في المعنى، والله أعلم.

وقال أبو حنيفة: إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه، وإن قال: اللهم اغفر لي لم يجزه، وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: لا يجزئه إذا كان يحسن التكبير. وكان الحكم بن عتيبة يقول: إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه. قال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلل وكبر ولم يقرأ أن صلاته فاسدة، فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره، كما لا يجزئ مكان القراءة غيرها. وقال أبو حنيفة: يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية. قال ابن المنذر: لا يجزيه لأنه خلاف ما عليه جماعات المسلمين، وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال. والله أعلم.

 

واتفقت الأمة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئا روي عن بعض أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة، وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه. قال ابن العربي: والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها، أو قبل ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها، كما لا يعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل، وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في اقترانها بأوله. قال ابن العربي: وقال لنا أبو الحسن القروي بثغر عسقلان: سمعت إمام الحرمين يقول: يحضر الإنسان عند التلبس بالصلاة النية، ويجرد النظر في الصانع وحدوث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة، قال: ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وإنما يكون ذلك في أوحى لحظة، لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل، وتذكارها يكون في لحظة، ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها، إلا أن ذلك لما كان أمرا يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها. سمعت شيخنا أبا بكر الفهري بالمسجد الأقصى يقول قال محمد بن سحنون: رأيت أبي سحنونا ربما يكمل الصلاة فيعيدها، فقلت له ما هذا؟ فقال: عزبت نيتي في أثنائها فلأجل ذلك أعدتها.

قلت: فهذه جملة من أحكام الصلاة، وسائر أحكامها يأتي بيانها في مواضعها من هذا الكتاب بحول الله تعالى، فيأتي ذكر الركوع وصلاة الجماعة والقبلة والمبادرة إلى الأوقات، وبعض صلاة الخوف في هذه السورة، ويأتي ذكر قصر الصلاة وصلاة الخوف، في « النساء » والأوقات في « هود وسبحان والروم » وصلاة الليل في « المزمل » وسجود التلاوة في « الأعراف » وسجود الشكر في « ص » كل في موضعه إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ومما رزقناهم ينفقون » رزقناهم: أعطيناهم، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه، وإن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال، والرزق لا يكون إلا بمعنى الملك.

قالوا: فلو نشأ صبي مع اللصوص ولم يأكل شيئا إلا ما أطعمه اللصوص إلى أن بلغ وقوي وصار لصا، ثم لم يزل يتلصص ويأكل ما تلصصه إلى أن مات، فإن الله لم يرزقه شيئا إذ لم يملكه، وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئا.

وهذا فاسد، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا، ولا البهائم التي ترتع في الصحراء، ولا السخال من البهائم، لأن لبن أمهاتها ملك لصاحبها دون السخال.

ولما اجتمعت الأمة على أن الطفل والسخال والبهائم مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ولأن الأمة مجمعة على أن العبيد والإماء مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين، فعلم أن الرزق ما قلناه لا ما قالوه. والذي يدل على أنه لا رازق سواه قول الحق: « هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض » [ فاطر: 3 ] وقال: « إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين » [ الذاريات: 58 ] وقال: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] وهذا قاطع، فالله تعالى رازق حقيقة وابن آدم تجوّزا، لأنه يملك ملكا منتزعا كما بيناه في الفاتحة، مرزوق حقيقة كالبهائم التي لا ملك لها، إلا أن الشيء إذا كان مأذونا له في تناوله فهو حلال حكما، وما كان منه غير مأذون له في تناوله فهو حرام حكما، وجميع ذلك رزق.

وقد خرّج بعض النبلاء من قوله تعالى: « كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور » [ سبأ: 15 ] فقال: ذكر المغفرة يشير إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام.

 

قوله تعالى: « ومما رزقناهم » الرزق مصدر رزق يرزق رَزقا ورِزقا، فالرزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وجمعه أرزاق، والرزق: العطاء. والرازقية: ثياب كتان بيض. وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم. والرزقة: المرة الواحدة، هكذا قال أهل اللغة. وقال ابن السكيت: الرزق بلغة أزْدِشَنوءة: الشكر، وهو قوله عز وجل: « وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » [ الواقعة: 82 ] أي شكركم التكذيب. ويقول: رزقني أي شكرني.

 

قوله تعالى: « ينفقون » ينفقون: يخرجون. والإنفاق: إخراج المال من اليد، ومنه نفق البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري. ونفقت الدابة: خرجت روحها، ومنه النافقاء لجُحْر اليربوع الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى. ومنه المنافق، لأنه يخرج من الإيمان أو يخرج الإيمان من قلبه. ونَيفق السراويل معروفة وهو مخرج الرجل منها. ونفِق الزاد: فنى وأنفقه صاحبه. وأنفق القوم: فني زادهم، ومنه قوله تعالى: « إذا لأمسكتم خشية الإنفاق » [ الإسراء: 100 ] .

 

واختلف العلماء في المراد بالنفقة ههنا، فقيل: الزكاة المفروضة - روي عن ابن عباس - لمقارنتها الصلاة. وقيل: نفقة الرجل على أهله - روي عن ابن مسعود - لأن ذلك أفضل النفقة. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دينارٌ أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك ) . وروي عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ) قال أبو قِلابة: وبدأ بالعيال [ ثم ] قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. وقيل: المراد صدقة التطوع - روي عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوع. قال الضحاك: كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله جل وعز على قدر جِدَتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في « براءة » . وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة، لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها. وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعنّ في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه. وقيل: الإيمان بالغيب حظ القلب. وإقام الصلاة حظ البدن. ومما رزقناهم ينفقون حظ المال، وهذا ظاهر. وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى: « ومما رزقناهم ينفقون » أي مما علّمناهم يعلّمون، حكاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القُشيري.

 

الآية: 4 ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون )

 

قوله تعالى: « والذين يؤمنون بما أنزل إليك » قيل: المراد مؤمنو أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام وفيه نزلت، ونزلت الأولى في مؤمني العرب. وقيل: الآيتان جميعا في المؤمنين، وعليه فإعراب « الذين » خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف أي وهم الذين. ومن جعلها في صنفين فإعراب « الذين » رفع بالابتداء، وخبره « أولئك على هدى » ويحتمل الخفض عطفا....

 

قوله تعالى: « بما أنزل إليك » يعني القرآن « وما أنزل من قبلك » يعني الكتب السالفة، بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله: « وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا » [ البقرة: 91 ] الآية. ويقال: لما نزلت هذه الآية: « الذين يؤمنون بالغيب » قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب، فلما قال: « ويقيمون الصلاة » [ البقرة: 3 ] قالوا: نحن نقيم الصلاة، فلما قال « ومما رزقناهم ينفقون » قالوا: نحن ننفق ونتصدق، فلما قال: « والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك » نفروا من ذلك. وفي حديث أبي ذر قال قلت: يا رسول الله كم كتابا أنزل الله؟ قال: ( مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ) . الحديث أخرجه الحسين الآجرّي وأبو حاتم البستي.

وهنا مسألة: إن قال قائل: كيف يمكن الإيمان بجميعها مع تنافي أحكامها؟ قيل له فيه جوابان: أحدهما - أن الإيمان بأن جميعها نزل من عند الله، وهو قول من أسقط التعبد بما تقدم من الشرائع. الثاني - أن الإيمان بما لم ينسخ منها، وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدمة، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « وبالآخرة هم يوقنون » أي وبالبعث والنشر هم عالمون. واليقين: العلم دون الشك، يقال منه: يَقِنْتُ الأمر ( بالكسر ) يقنا، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى، وأنا على يقين منه. وإنما صارت الياء واوا في قولك: موقن، للضمة قبلها، وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مييقن والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع. وربما عبروا باليقين عن الظن، ومنه قول علمائنا في اليمين اللغو: هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شيء عليه، قال الشاعر:

تحسّبَ هوّاسٌ وأيقن أنني بها مفتد من واحد لا أغامره

يقول: تشمم الأسد ناقتي، يظن أنني مفتد بها منه، وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير، وسيأتي. والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها، كما أن الدنيا مشتقة من الدنوّ، على ما يأتي.

 

الآية 5 ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )

 

قوله تعالى: « أولئك على هدى » قال النحاس أهل نجد يقولون: أُلاك، وبعضهم يقول: أُلالك، والكاف للخطاب. قال الكسائي: من قال أولئك فواحده ذلك، ومن قال ألاك فواحدة ذاك، وألالك مثل أولئك، وأنشد ابن السكيت:

ألالك قومي لم يكونوا أُشابة وهل يعظ الضِّلّيل إلا ألالكا

وربما قالوا: أولئك في غير العقلاء، قال الشاعر:

ذُم المنازل بعد منزلة اللوى والعيشَ بعد أولئك الأيام

وقال تعالى: « إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا » [ الإسراء: 36 ] وقال علماؤنا: إن في قوله تعالى: « من ربهم » ردا على القدرية في قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم ولو كان كما قالوا لقال: « من أنفسهم » ، وقد تقدم الكلام فيه وفي الهدى فلا معنى لإعادة ذلك.

 

« وأولئك هم المفلحون » « هم » يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره « المفلحون » ، والثاني وخبره خبر الأول، ويجوز أن تكون « هم » زائدة - يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عمادا - و « المفلحون » خبر « أولئك » .

والفلح أصله في اللغة الشق والقطع، قال الشاعر:

إن الحديد بالحديد يُفلَح

أي يشق، ومنه فلاحة الأرضين إنما هو شقها للحرث، قال أبو عبيد. ولذلك سمي الأكّار فلاحا. ويقال للذي شقت شفته السفلى أفلح، وهو بيّن الفلَحة، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. وقد يستعمل في الفوز والبقاء، وهو أصله أيضا في اللغة، ومنه قول الرجل لامرأته: استفلحي بأمرك، معناه فوزي بأمرك، وقال الشاعر:

لو كان حيّ مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح

وقال الأضبط بن قُرَيع السعدي في الجاهلية الجهلاء:

لكل هم من الهموم سعهْ والمُسيُ والصُبح لا فلاح معهْ

يقول: ليس مع كر الليل والنهار بقاء. وقال آخر:

نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

أي البقاء: وقال عبيد:

أفلح بما شئت فقد يدرك بالضـ ـعف وقد يُخدَّع الأريب

أي أبق بما شئت من كيس وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل. فمعنى « وأولئك هم المفلحون » : أي الفائزون بالجنة والباقون فيها. وقال ابن أبي إسحاق: المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا، والمعنى واحد. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث: حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. أخرجه أبو داود. فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سماه فلاحا. والفلاح ( بتشديد اللام ) : المُكاري في قول القائل:

لها رِطل تكيل الزيت فيه وفلاح يسوق لها حمارا

ثم الفلاح في العرف: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.

مسألة: إن قال كيف قرأ حمزة: عليهُم وإليهُم ولديهُم، ولم يقرأ من ربهُم ولا فيهُم ولا جنتيهُم؟ فالجواب أن عليهم وإليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف، والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها، وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم ولا جنتيهم، ووافقه الكسائي في « عليهم الذلة » و « إليهم اثنين » على ما هو معروف من القراءة عنهما.

 

 

الآية 6 ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا » لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضد الإيمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان، ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف: ( ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء ) قيل: بم يا رسول الله؟ قال: ( بكفرهن ) ، قيل أيكفرن بالله؟ قال: ( يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط ) أخرجه البخاري وغيره.

وأصل الكفر في كلام العرب: الستر والتغطية، ومنه قول الشاعر:

في ليلة كفر النجومَ غمامُها

أي سترها. ومنه سمي الليل كافرا، لأنه يغطي كل شيء بسواده، قال الشاعر:

فتذكرا ثَقلا رثيدا بعدما ألقت ذُكاء يمينها في كافر

ذكاء ( بضم الذال والمد ) : اسم للشمس، ومنه قول الآخر:

فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كَفر

أي في ليل. والكافر أيضا: البحر والنهر العظيم. والكافر: الزارع، والجمع كفار، قال الله تعالى: « كمثل غيث أعجب الكفار نباته » [ الحديد: 20 ] . يعني الزراع لأنهم يغطون الحب. ورماد مكفور: سفت الريح عليه التراب. والكافر من الأرض: ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور: القرى.

 

قوله تعالى: « سواء عليهم » معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه، أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية، ومثله قوله تعالى: « سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين » [ الشعراء: 136 ] . وقال الشاعر:

وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها

 

قوله تعالى: « أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » الإنذار الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا، قال الشاعر:

أنذرت عَمرا وهو في مهَل قبل الصباح فقد عصى عمرو

وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية.

 

قوله تعالى « لا يؤمنون » موضعه رفعٌ خبر « إنّ » أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل: خبر « إن » « سواء » وما بعده يقوم مقام الصلة، قاله ابن كيسان. وقال محمد بن يزيد: « سواء » رفع بالابتداء، « أأنذرتهم أم لم تنذرهم » الخبر، والجملة خبر « إن » . قال النحاس: أي إنهم تبالهوا فلم تغن فيهم النذارة شيئا. واختلف القراء في قراءة « أأنذرتهم » فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والأعمش وعبدالله بن أبي إسحاق: « آنذرتهم » بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، واختارها الخليل وسيبويه، وهي لغة قريش وسعد بن بكر، وعليها قول الشاعر:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آنت أمْ أمّ سالم

هجاء « آنت » ألف واحدة. وقال آخر:

تطاللت فاستشرفته فعرفته فقلت له آنت زيد الأرانب

وروي عن ابن مُحَيصِن أنه قرأ: « أنذرتهم أم لم تنذرهم » بهمزة لا ألف بعدها، فحذف لالتقاء الهمزتين، أو لأن أم تدل على الاستفهام، كما قال الشاعر:

تروح من الحي أم تبتكر وماذا يضيرك لو تنتظر

أراد: أتروح، فاكتفى بأم من الألف. وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: « أأنذرتهم » فحقق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم: ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية، وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين: « أأنذرتهم » وهو اختيار أبي عبيد، وذلك بعيد عند الخليل. وقال سيبويه: يشبه في الثقل ضَنِنوا. قال الأخفش: ويجوز تخفيف الأولى من الهمزتين وذلك رديء، لأنهم إنما يخففون بعد الاستثقال، وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه من القراءات، ووجه ثامن يجوز في غير القرآن، لأنه مخالف للسواد. قال الأخفش سعيد: تبدل من الهمزة هاء تقول: هأنذرتهم، كما يقال هياك وإياك، وقال الأخفش في قوله تعالى: « ها أنتم » [ آل عمران: 66 ] إنما هو أاأنتم.

 

الآية 7 ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « ختم الله » بَيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله: « ختم الله » . والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه.

وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار. فقال في الإنكار: « قلوبهم منكرة وهم مستكبرون » [ النحل: 22 ] . وقال في الحمية: « إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية » . [ الفتح: 26 ] وقال في الانصراف: « ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون » [ التوبة: 127 ] . وقال في القساوة: « فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله » [ الزمر: 22 ] . وقال: « ثم قست قلوبكم من بعد ذلك » [ البقرة: 74 ] . وقال في الموت: « أو من كان ميتا فأحييناه » [ الأنعام: 122 ] . وقال: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » [ الأنعام: 36 ] . وقال في الرين: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » . [ المطففين: 14 ] . وقال في المرض: « في قلوبهم مرض » . [ محمد: 29 ] وقال في الضيق: « ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا » . [ الأنعام: 125 ] . وقال في الطبع: « وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون » [ التوبة: 87 ] . وقال: « بل طبع الله عليها بكفرهم » [ النساء: 155 ] . وقال في الختم: « ختم الله على قلوبهم » . [ البقرة: 7 ] . وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى.

 

الختم يكون محسوسا كما بينا، ومعنى كما في هذه الآية. فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق - سبحانه - مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم.

 

في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا، وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم « ومن يضلل الله فما له من هاد » [ الزمر: 23 ] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.

فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميه والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: « بل طبع الله عليها بكفرهم » [ النساء: 155 ] . وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به، دليله قوله تعالى: « كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به » [ الحجر: 12 ] . وقال: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه » [ الأنعام: 25 ] . أي يفقهوه، وما كان مثله.

 

قوله تعالى: « على قلوبهم » فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للإنسان وغيره. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته. وقلبت الإناء: رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه، كما قيل:

ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل

ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله. روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة ) . ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول: ( اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ) . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به، قال الله تعالى: « واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه » [ الأنفال: 24 ] . وسيأتي.

 

الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب - وإن رئيسها وملكها - بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه ) . وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: ( أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه ) . قال: وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » [ المطففين: 14 ] . وقال مجاهد: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع، ثم يطبع.

قلت: وفي قول مجاهد هذا، وقوله عليه السلام: ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) دليل على أن الختم يكون حقيقيا، والله أعلم. وقد قيل: إن القلب يشبه الصنوبرة، وهو يعضد قول مجاهد، والله أعلم.

وقد روى مسلم عن حذيفة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن ( الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ) . ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل كجمر دحرجته على رجلك فنَفطَ فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا ) .

ففي قوله: ( الوكت ) وهو الأثر اليسير. ويقال للبُسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب: قد وكَّت، فهو موكت. وقوله: ( المَجْل ) ، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( كجمر دحرجته ) أي دورته على رجلك فنفط. ( فتراه منتبرا ) أي مرتفعا - ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه، وكذلك الختم والطبع، والله أعلم. وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشْرِبها نُكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسودُ مُربادٌّ كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه... ) وذكر الحديث ( مجخيا ) : يعني مائلا.

 

القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى: « كذلك لنثبت به فؤادك » [ الفرقان: 32 ] وقال: « ألم نشرح لك صدرك » [ الشرح: 1 ] يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل، قال الله تعالى: « إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » [ ق: 37 ] أي عقل، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وعلى سمعهم » استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه، وقال تعالى: « قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم » [ الأنعام: 46 ] . وقال: « وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة » [ السجدة: 9 ] . قال: والسمع يدرك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع. وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام، والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها. قالوا: فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست.

 

إن قال قائل: لم جمع الأبصار ووحد السمع؟ قيل له: إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير، يقال: سمعت الشيء أسمعه سمعا وسماعا، فالسمع مصدر سمعت، والسمع أيضا اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر. وقيل: إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة، كما قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

إنما يريد جلودها فوحد، لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر في مثله:

لا تنكر القتل وقد سبينا في حلقكم عظم وقد شجينا

يريد في حلوقكم، ومثله قول الآخر:

كأنه وجه تركيين قد غضبا مستهدف لطعان غير تذبيب

وإنما يريد وجهين، فقال وجه تركيين، لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد، ومثله كثير جدا. وقرئ: « وعلى أسماعهم » ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد يكون السمع بمعنى الاستماع، يقال: سَمْعُك حديثي - أي استماعك إلى حديثي - يعجبني، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:

وقد توجس رِكزا مقفر نَدُسٌ بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

أي ما في استماعه كذب، أي هو صادق الاستماع. والندس: الحاذق. والنبأة: الصوت الخفي، وكذلك الركز. والسِّمع ( بكسر السين وإسكان الميم ) : ذكر الإنسان بالجميل، يقال: ذهب سمعه في الناس أي ذكره. والسمع أيضا: ولد الذئب من الضبع. والوقف هنا: « وعلى سمعهم » . و « غشاوة » رفع على الابتداء وما قبله خبر. والضمائر في « قلوبهم » وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش، وقيل من المنافقين، وقيل من اليهود، وقيل من الجميع، وهو أصوب، لأنه يعم. فالختم على القلوب والأسماع. والغشاوة على الأبصار. والغشاء: الغطاء. ومنه غاشية السرج، وغشيت الشيء أغشيه. قال النابغة:

هلا سألت بنى ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البَرَمَا

وقال آخر:

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

قال ابن كيسان: فإن جمعت غشاوة قلت: غشاء بحذف الهاء. وحكى الفراء: غشاوى مثل أداوى. وقرئ: « غشاوة » بالنصب على معنى وجعل، فيكون من باب قوله:

علفتها تبنا وماء باردا

وقول الآخر:

يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا

المعنى وأسقيتها ماء، وحاملا رمحا، لأن الرمح لا يتقلد. قال الفارسي: ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. قال: ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو. وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار، والوقف على « قلوبهم » . وقال آخرون: الختم في الجميع، والغشاوة هي الختم، فالوقف على هذا على « غشاوة » . وقرأ الحسن « غشاوة » بضم الغين، وقرأ أبو حَيْوة بفتحها، وروي عن أبي عمرو: غشوة، رده إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان: ويجوز غَشوة وغِشوة وأجودها غِشاوة، كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشيء، نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك.

 

قوله تعالى: « ولهم » أي للكافرين المكذبين « عذاب عظيم » نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان. وفي التنزيل: « وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين » [ النور: 2 ] وهو مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لأنها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه، ومنه قول علي رضي الله عنه: أعذبوا نساءكم عن الخروج، أي احبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال: أعذبوا عن ذكر النساء [ أنفسكم ] فإن ذلك يكسركم عن الغزو، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته، وفي المثل: « لألجمنك لجاما معذِبا » أي مانعا عن ركوب الناس. ويقال: أعذب أي امتنع. وأعذب غيره، فهو لازم ومتعد، فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.

 

الآية 8 ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين )

 

روى ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين، واثنتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. وروى أسباط عن السدي في قوله: « ومن الناس » قال: هم المنافقون. وقال علماء الصوفية: الناس اسم جنس، واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء.

 

واختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة، على غير اللفظ، وتصغيره نويس. فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس أي تحرك، ومنه حديث أم زرع: « أناسَ من حُليٍّ أذني » . وقيل: أصله من نسي، فأصل ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا. وقال عليه السلام: ( نسي آدم فنسيت ذريته ) . وفي التنزيل: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » [ طه: 115 ] وسيأتي وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر:

لا تنسين تلك العهود فإنما سميت إنسانا لأنك ناسي

وقال آخر:

فإن نسيت عهودا منك سالفة فاغفر فأول ناس أول الناس

وقيل: سمي إنسانا لأنسه بحواء. وقيل: لأنسه بربه، فالهمزة أصلية، قال الشاعر:

وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب

 

لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم، إذ الكفر والإيمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي الإيمان عنهم بقوله الحق: « وما هم بمؤمنين » . ففي هذا رد على الكرَّامية حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، واحتجوا بقوله تعالى: « فأثابهم الله بما قالوا » [ المائدة: 85 ] . ولم يقل: بما قالوا وأضمروا، وبقوله عليه السلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم ) . وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة من العمل مع القول والاعتقاد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان ) . أخرجه ابن ماجة في سننه. فما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد.

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راض عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معاد له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معاد له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: -

 

بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولأجل هذا قلنا: إن الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به.

وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطا على إبليس وقت عبادته، ولا راضيا عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا لعمر. ويدل عليه إجماع الأمة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإنما الأعمال بالخواتيم ) ولهذا قال علماء الصوفية: ليس الإيمان ما يتزين به العبد قولا وفعلا، لكن الإيمان جَرْيُ السعادة في سوابق الأزل، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عاريا، وربما يكون حقيقة.

قلت: هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) . فإن قيل وهي: -

 

فقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، وهو محمد بن أبي قيس، عن سليمان بن موسى وهو الأشدق، عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أخبرنا أبو رَزين العقيلي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لأشربن أنا وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه ) قال قلت: كيف يحيي الله الموتى؟ قال: ( أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة ) قلت: بلى. قال: ( كذلك النشور ) قال قلت: كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: ( ليس أحد من هذه الأمة - قال ابن أبي قيس: أو قال من أمتي - عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازيه بها خيرا أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شرا أو يغفرها إلا مؤمن ) .

قلت: وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود، فإن ذلك موقوف على الخاتمة، كما قال عليه السلام: ( وإنما الأعمال بالخواتيم ) . وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال، والله أعلم.

 

قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر، وقد تقدم هذا المعنى.

 

الآية 9 ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون )

 

قال علماؤنا: معنى « يخادعون الله » أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الحسن وغيره. وجعل خداعهم لرسوله خداعا له، لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين. وقال أهل اللغة: أصل المخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي. وأنشد:

أبيض اللون لذيذ طعمه طيب الريق إذا الريق خدع

قلت: فـ « يخادعون الله » على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء. وكذا جاء مفسر عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي. وفي التنزيل: « يراؤون الناس » . [ النساء: 142 ] وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: أنخدع الضب في جحره.

 

قوله تعالى: « وما يخدعون إلا أنفسهم » نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه. ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد تقدم من قوله عليه السلام أنه قال: ( لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر ) قالوا: يا رسول الله، وكيف يخادع الله؟ قال: ( تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره ) . وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: « يخادعون » في الموضعين، ليتجانس اللفظان. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: « يخدعون » الثاني. والمصدر خدع ( بكسر الخاء ) وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. وقرأ مورِّق العجلي: « يخدِّعون الله » ( بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال ) على التكثير. وقرأ أبو طالوت عبدالسلام بن شداد والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال، على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فحذف حرف الجر، كما قال تعالى: « واختار موسى قومه » [ الأعراف: 155 ] أي من قومه.

 

قوله تعالى: « وما يشعرون » أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم: « ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا » [ الحديد: 13 ] على ما يأتي. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء أي فطنت له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني. ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت.

 

الآية 10 ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون )

 

قوله تعالى: « في قلوبهم مرض » ابتداء وخبر. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا. والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. قال ابن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر. والقراء مجمعون على فتح الراء من « مرض » إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء.

 

قوله تعالى: « فزادهم الله مرضا » قيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة، كما قال الشاعر:

يا مرسل الريح جنوبا وصبا إذ غضبت زيد فزدها غضبا

أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى: « فزادتهم رجسا إلى رجسهم » [ التوبة: 125 ] . وقال أرباب المعاني: « في قلوبهم مرض » أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. وقوله: « فزادهم الله مرضا » أي وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين. « ولهم عذاب أليم » بما يفنى عما يبقى. وقال الجنيد: علل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن.

 

قوله تعالى: « ولهم عذاب أليم » ( أليم ) في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع، مثل السميع بمعنى المسمع، قال ذو الرمة يصف إبلا:

ونرفع من صدور شمردلات يصُك وجوهها وهج أليم

وآلم إذا أوجع. والإيلام: الإيجاع. والألم: الوجع، وقد ألِم يألم ألما. والتألم: التوجع. ويجمع أليم على ألماء مثل كريم وكرماء، وآلام مثل أشراف.

 

قوله تعالى: « بما كانوا يكذبون » ما مصدرية، أي بتكذيبهم الرسل وردهم على الله جل وعز وتكذيبهم بآياته، قاله أبو حاتم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، ومعناه بكذبهم وقولهم آمنا وليسوا بمؤمنين.

مسألة: واختلف العلماء في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال:

القول الأول: قال بعض العلماء: إنما لم يقتلهم لأنه لم يعلم حالهم أحد سواه. وقد اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإنما اختلفوا في سائر الأحكام. قال ابن العربي: وهذا منتقض، فقد قُتِلَ بالمُجذَّر بن زياد الحارثُ بن سويد بن الصامت، لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بُعاث، فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله، فأخبر به جبريلُ النبيَ صلى الله عليه وسلم فقتله به، لأن قتله كان غيلة، وقتل الغيلة حد من حدود الله.

قلت: وهذه غفلة من هذا الإمام، لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر، لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع. والله أعلم.

القول الثاني: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل. قال ابن العربي: وهذا وهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم علمه بهم. فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن استتابة الزنديق جائزة قال قولا لم يصح لأحد.

القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر: ( معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ) أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا، وهذا هو قول علمائنا وغيرهم. قال ابن عطية. وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واحتج بقوله تعالى: « لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض » [ الأحزاب: 60 ] إلى قوله: « وقتلوا تقتيلا » [ الأحزاب: 61 ] . قال قتادة: معناه إذا هم أعلنوا النفاق. قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، وهو أحد قولي الشافعي. قال مالك: وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يشهد على المنافقين. قال القاضي إسماعيل: لم يشهد على عبدالله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجُلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل. وقال الشافعي رحمه الله محتجا للقول الآخر: السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه. وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم. قال الشافعي وأصحابه. وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يجُبُّ ما قبله. وقال الطبري: جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر، لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله. وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: « والله يشهد إن المنافقين لكاذبون » [ المنافقون: 1 ] قال ابن عطية: ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا.

قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟ فيقول له: لا.

القول الرابع: وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم ضرر، وليس كذلك اليوم، لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا.

 

الآية 11 ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون )

 

قوله: « إذا » في موضع نصب على الظرف والعامل فيها « قالوا » ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري: « إذا » اسم يدل على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة، تقول: أجيئك إذا أحمر البسر، وإذا قدم فلان. والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدم فلان، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا، فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسن إليك. وإذا كقوله تعالى: « وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون » [ الروم: 36 ] . ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم:

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب

فعطف « فنضارب » بالجزم على « كان » لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوما لقال: فنضارب، بالنصب. وقد تزاد على « إذا » « ما » تأكيدا، فيجزم بها أيضا، ومنه قول الفرزدق:

فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم وكان إذا ما يسلل السيف يضرب

قال سيبويه: والجيد ما قال كعب بن زهير:

وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا

يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا، كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان، لأنها تضمنت جُثة. وهذا مردود، لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: « اليوم خمر وغدا أمر » فمعناه وجود خمر ووقوع أمر.

 

قوله: « قيل » من القول وأصله قَوِل، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء. ويجوز: « قيلْ لّهم » بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين، لأن الياء حرف مد ولين. قال الأخفش: ويجوز « قيل » بضم القاف والياء. وقال الكسائي: ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت. وكذلك روى هشام عن ابن عباس، وروي عن يعقوب. وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة. وزاد ابن ذكوان: حيل وسيق، وكسر الباقون في الجميع. فأما هذيل وبنود دبير من أسد وبني فقعس فيقولون: « قول » بواو ساكنة.

 

قوله: « لا تفسدوا » ( لا ) نهي. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد. والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران. وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى: « ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها » [ الأعراف: 56 ] .

 

قوله: « في الأرض » الأرض مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضي أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا آرُضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أي زكية بينة الأراضة. وقد أرِضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا:

ولم يقلب أرضها البَيطار ولا لحبليه بها حبار

أي أثر والأرض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبدالله بن الحارث قال: زلزلت الأرض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرْض؟ أي أم بي رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا:

إذا توجس ركزا من سنابكها أو كان صاحب أرض أو به الموم

والأرض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة ( بكسر الراء ) وهو أن يكون له عرق في الأرض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والإراض ( بالكسر ) : بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أي أخلقهم. وشيء عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدي أريض أي سمين.

 

قوله: « نحن » أصل « نَحْن » نَحُن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي. وقال الزجاج: « نحن » لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة « نحن » لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل: « أولئك الذين اشتروا الضلالة » [ البقرة: 16 ] وقال محمد بن يزيد: « نحن » مثل قبل وبعد، لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر، فـ « أنا » للواحد « نحن » للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله: نحن قمنا، قال الله تعالى: « نحن قسمنا بينهم معيشتهم » [ الزخرف: 32 ] والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر، تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فاعلم.

 

قوله تعالى: « مصلحون » اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشيء ( بضم اللام وفتحها ) لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح ( بضم الصاد ) مصدر صلح ( بضم اللام ) ، قال الشاعر:

فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني وما بعد شتم الوالدين صلوح

وصلاح من أسماء مكة. والصلح ( بكسر الصاد ) : نهر.

وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لأن إفسادهم عندهم إصلاح، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره.

 

الآية: 12 ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون )

 

قوله عز وجل: « ألا إنهم هم المفسدون » ردا عليهم وتكذيبا لقولهم. قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عز وجل يقول: ألا إنهم هم المفسدون وهذا صحيح. وكسرت « إن » لأنها مبتدأة، قال النحاس. وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها، كما أجاز سيبويه: حقا أنك منطلق، بمعنى ألا. و « هم » يجوز أن يكون مبتدأ و « المفسدون » خبره والمبتدأ وخبره خبر « إن » . ويجوز أن تكون « هم » توكيدا للهاء والميم في « إنهم » . ويجوز أن تكون فاصلة - والكوفيون يقولون عمادا - و « المفسدون » خبر « إن » ، والتقدير ألا إنهم المفسدون، كما تقدم في قوله: « وأولئك هم المفلحون » [ لقمان: 5 ] .

 

قوله تعالى: « ولكن لا يشعرون » قال ابن كيسان يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم، قال: ففيه جوابان: أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه « ولكن » حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات، إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الإيجاب، ولكنك تذكر جملة مضادة لما قبلها كما في هذه الآية، وقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ، ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت، لأنهم قد استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن، وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو.

 

الآية: 13 ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لهم » يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. « آمنوا كما آمن الناس » أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب. وألف « آمنوا » ألف قطع، لأنك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا كإيمان الناس.

 

قوله تعالى: « قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء » يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس. وعنه أيضا: مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، وقرر أن السفه ورِقَّة الحُلوم وفساد البصائر إنما هي في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على قلوبهم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس: عبدالله بن سلام وأصحابه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء! يعني الجهال والخرقاء. وأصل السَّفَه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر: مالت به، قال ذو الرمة:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم

وتسفهت الشيء: استحقرته. والسفه: ضد الحلم. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا.

 

قوله تعالى: « ولكن لا يعلمون » مثل « ولكن لا يشعرون » ، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه ( بالضم في المستقبل ) . غلبته بالعلم.

 

الآية: 14 ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون )

 

قوله تعالى: « وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا » أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لقوا: لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السميقع اليماني: « لاقوا الذين آمنوا » . والأصل لاقيوا، تحركت الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا، اجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ثم حركت الواو بالضم.

وإن قيل: لم ضمت الواو في لاقوا في الإدراج وحذفت من لقوا؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها، وحركت في لاقوا لأن قبلها فتحة.

 

قوله تعالى: « وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم » إن قيل: لم وصلت « خلوا » بـ « إلى » وعرفها أن توصل بالباء؟ قيل له: « خلوا » هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا، ومنه قول الفرزدق:

كيف تراني قالبا مجني أضرب أمري ظهره لبطن

قد قتل الله زيادا عني

لما أنزل منزلة صَرَف. وقال قوم: « إلى » بمعنى مع، وفيه ضعف. وقال قوم: « إلى » بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ « إلى » على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، فقال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي: هم شياطين الجن. وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إنما نحن مستهزئون » أي مكذبون بما ندعى إليه. وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز:

قد هزئت مني أم طيسلة قالت أراه معدِما لا مال له

وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر:

قد استهزؤوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جثّم

 

الأية : 15 ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون )

 

قوله تعالى: « الله يستهزئ بهم » أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال الله عز وجل: « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . وقال: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » [ البقرة: 194 ] والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق وجب، ومثله: « ومكروا ومكر الله » [ آل عمران: 54 ] . و « إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا » [ الطارق: 15 - 16 ] . و « إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم » وليس منه سبحانه مكر ولا هزء إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، وكذلك « يخادعون الله وهو خادعهم » [ النساء: 142 ] . « فيسخرون منهم سخر الله منهم » [ التوبة: 79 ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا ) . قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون. وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل. وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر، حسب ما روى: ( إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ) . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: « وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا أمنا » هم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر - على ما تقدم قالوا: إنا معكم على دينكم « إنما نحن مستهزئون » بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. « الله يستهزئ بهم » في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك - وهي السرر - في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عز وجل: « الله يستهزئ بهم » أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب، فذلك قوله تعالى: « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون » [ المطففين: 34 - 35 ] إلى أهل النار « هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون » [ المطففين: 36 ] . وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راض عنهم، وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع، ودل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ) . ثم نزع بهذه الآية: « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين » [ الأنعام: 44 - 45 ] . وقال بعض العلماء في قوله تعالى: « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون » : [ الأعراف: 182 ] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة.

 

قوله تعالى: « ويمدهم » أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: « إنما نملي لهم ليزدادوا إثما » [ آل عمران: 178 ] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد لهم في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى: « وأمددناكم بأموال وبنين » . [ الإسراء: 6 ] . وقال: « وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون » [ الطور: 22 ] . وحكي عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفراء واللحياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مد النهرُ النهرَ، وفي التنزيل: « والبحر يمده من بعده سبعة أبحر » [ لقمان: 27 ] . وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره، كقولك: أمددت الجيش بمدد، ومنه: « يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة » . [ آل عمران: 125 ] . وأمدّ الجرح، لأن المدة من غيره، أي صارت فيه مدة.

 

قوله تعالى: « في طغيانهم » كفرهم وضلالهم. وأصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: « إنا لما طغى الماء » [ الحاقة: 11 ] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخُزان. وقوله في فرعون: « إنه طغى » [ طه: 24 ] أي أسرف في الدعوى حيث قال: « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] . والمعنى في الآية: يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم.

 

قوله تعالى: « يعمهون » يعمون. وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر. وحكى أهل اللغة: عَمِه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه وعمه: حائر متردد، وجمعه عُمّه. وذهبت إبله العُمّهى إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين، والعمه في القلب، وفي التنزيل: « فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » [ الحج: 46 ]

 

الآية: 16 ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » قال سيبويه: ضمت الواو في « اشتروا » فرقا بينها وبين الواو الأصلية، نحو: « وأن لو استقاموا على الطريقة » . [ الجن: 16 ] . وقال ابن كيسان: الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها. وقال الزجاج: حركت بالضم كما فعل في « نحن » . وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السمال العدوي أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. واشتروا: من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبوا الكفر على الإيمان، كما قال: « فاستحبوا العمى على الهدى » [ فصلت: 17 ] فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب:

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال له جل وعز: « فعلتها إذا وأنا من الضالين » [ الشعراء: 20 ] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عز وجل: « وقالوا أإذا ضللنا في الأرض » [ السجدة: 10 ] .

 

قوله تعالى: « فما ربحت تجارتهم » أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم. وقال الشاعر:

نهارك هائم وليلك نائم كذلك في الدنيا تعيش البهائم

ابن كيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل.

 

قوله تعالى: « وما كانوا مهتدين » في اشترائهم الضلالة. وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال، وقد تقدم.

 

 

الآية: 17 ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون )

 

قوله تعالى: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارا » فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم، كما هي في قول الأعشى:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وقول امرئ القيس:

ورحنا بكابن الماء يُجنَب وسطنا تَصَوَّبُ فيه العين طورا وترتقي

أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه. والمتماثلان: المتشابهان، هكذا قال أهل اللغة.

قوله « الذي » يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقيل في قول الله تعالى « والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون » [ الزمر: 33 ] : إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: « مثلهم كمثل الذي » قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال: « ذهب الله بنورهم » ، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. فأما قوله تعالى: « وخضتم كالذي خاضوا » [ التوبة: 69 ] فإن الذي ههنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا. وقيل: إنما وحد « الذي » و « استوقد » لأن المستوقد كان واحدا من جماعة تولي الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا فقال « بنورهم » . واستوقد بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجبه. واختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من « نورهم » ، فقيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في « نورهم » على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى: « فضرب بينهم بسور له باب » [ الحديد: 13 ] . وقيل: جوابه « ذهب » ، والضمير في « نورهم » عائد على « الذي » ، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، وذلك أن ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم - كما أخبر التنزيل: « إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار » [ النساء: 145 ] - ويذهب نورهم، ولهذا يقولون: « انظرونا نقتبس من نوركم » [ الحديد: 13 ] . وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا.

قوله: « نارا » النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق. وهي من الواو، لأنك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها.

 

قوله تعالى: « فلما أضاءت ما حوله » ضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضيء، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالألف، قال الشاعر:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

« ما » زائدة مؤكدة. وقيل: مفعولة بأضاءت. و « حوله » ظرف مكان، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. « ذهب » وأذهب لغتان من الذهاب، وهو زوال الشيء. « وتركهم » أي أبقاهم. « في ظلمات » جمع ظُلْمة. وقرأ الأعمش: « ظلْمات » بإسكان اللام على الأصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي: « ظلَمات » بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف. وقال الكسائي: « ظلمات » جمع الجمع، جمع ظلم. « لا يبصرون » فعل. مستقبل في موضع الحال، كأنه قال: غير مبصرين، فلا يجوز الوقف على هذا على « ظلمات » .

 

الآية: 18 ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون )

 

قوله تعالى: « صم بكم عمي » ( صمٌّ ) أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر. وفي قراءة عبدالله بن مسعود وحفصة: صماً بكماً عمياً، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى: « ملعونين أينما ثقفوا » [ الأحزاب: 61 ] ، وكما قال: « وامرأته حمالة الحطب » [ المسد: 4 ] ، وكما قال الشاعر:

سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور

فنصب « عداة الله » على الذم. فالوقف على « يبصرون » على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما بـ « تركهم » ، كأنه قال: وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على « يبصرون » . والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم: من انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال:

فليت لساني كان نصفين منهما بكيم ونصف عند مجرى الكواكب

والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: « فعميت عليهم الأنباء يومئذ » [ القصص: 66 ] . وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال:

أصم عما ساءه سميع

وقال آخر:

وعوراء الكلام صممت عنها ولو أني أشاء بها سميع

وقال الدارمي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الجدر

وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:

أدخل إذا ما دخلت أعمى واخرج إذا ما خرجت أخرس

وقال قتادة: « صم » عن استماع الحق، « بكم » عن التكلم به، « عمي » عن الإبصار له.

قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل ( وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها ) . والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فهم لا يرجعون » أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورَجَعَه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى: « يرجع بعضهم إلى بعض القول » [ سبأ: 31 ] أي يتلاومون فيما بينهم، حسب ما بينه التنزيل في سورة « سبأ » .

 

الآية: 19 ( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين )

 

قوله تعالى: « أو كصيب من السماء » قال الطبري: « أو » بمعنى الواو، وقاله الفراء.

وأنشد:

وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وقال آخر:

نال الخلافة أو كانت له قَدَرا كما أتى ربه موسى على قدر

أي وكانت. وقيل: « أو » للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب: المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، قال علقمة:

فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقتك روايا المزن حيث تصوب

وأصله: صَيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين. وقال بعض الكوفيين: أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس: « لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب » .

 

قوله تعالى: « من السماء » السماء تذكر وتؤنث، وتجمع على أسمية وسموات وسمي، على فُعول، قال العجاج: تلفه الرياح والسُّمِيّ

والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت:

ديارٌ من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء

وقال آخر:

إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلأ والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه، قال:

وأحمر كالديباج أما سماؤه فَرَيّا وأما أرضه فمحول

والسماء: ما علا. والأرض: ما سفل، على ما تقدم.

 

قوله تعالى: « فيه ظلمات » ابتداء وخبر. « ورعد وبرق » معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدَّجْن، وهو الغيم، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى.

واختلف العلماء في الرعد، ففي الترمذي عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) . فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: ( زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله ) قالوا: صدقت. الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. فالرعد: اسم الصوت المسموع، وقاله علي رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:

فَجَّعني الرعد والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجد

وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت. واختلفوا في البرق، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب.

قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب. وعنه أيضا البرق ملك يتراءى.

وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل، والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان. وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: ( فجيء بهما ترعد فرائصهما ) الحديث. أخرجه أبو داود. والبرق أصله من البريق والضوء، ومنه البراق: دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله. ورعدت السماء من الرعد، وبرقت من البرق. ورعدت المرأة وبرقت: تحسنت وتزينت. ورعد الرجل وبرق: تهدد وأوعد، قال ابن أحمر:

يا جُلَّ ما بعدت عليك بلادنا وطِلابُنا فابرُق بأرضك وارعُدِ

وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق. وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الأصمعي. واحتج عليه بقول الكميت:

أبرق وأرعد يا يزيـ ـد فما وعيدك لي بضائر

فقال: ليس الكميت بحجة.

فائدة: روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال: فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفرق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس قال: وما ذاك؟ قال: فحدثته حديث كعب. قال: سبحان الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به. وستأتي هذه الرواية في سورة « الرعد » إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) .

 

قوله تعالى: « يجعلون أصابعهم في آذانهم » جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام، وذلك عندهم كفر والكفر موت. وفي واحد الأصابع خمس لغات: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعا، وضمهما جميعا، وبكسرهما جميعا، ومؤنثة. وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر، فيقال: أذينة. ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت: أذين، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر فأما قولهم: أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا، والجمع آذان. وتقول: أذنته إذا ضربت أذنه. ورجل أذُن: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وأذاني: عظيم الأذنين. ونعجة أذناء، وكبش آذن. وأذّنت النعل وغيرها تأذينا: إذا جعلت لها أذنا. وأذنت الصبي: عركت أذنه.

 

قوله تعالى: « من الصواعق » أي من أجل الصواعق. والصواعق جمع صاعقة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد. وحكى الخليل عن قوم: الساعقة ( بالسين ) . وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. وقرأ الحسن: من « الصواقع » ( بتقديم القاف ) ، ومنه قول أبي النجم:

يحكون بالمصقولة القواطع تَشَقُّق البرق عن الصواقع

قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم. الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عز وجل: « فأخذتهم صاعقة العذاب الهون » [ فصلت: 17 ] ويقال: صعق الرجل صعقة وتصعاقا، أي غشي عليه، وفي قوله تعالى: « وخر موسى صعقا » [ الأعراف: 143 ] فأصعقه غيره. قال ابن مقبل:

ترى النُعَرات الزرقَ تحت لَبانه أُحادَ ومثنى أصعقتها صواهله

وقوله تعالى: « فصعق من في السموات ومن في الأرض » [ الزمر: 68 ] أي مات. وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به. وقيل: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق. والصواعق، مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل. وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما.

 

قوله: « حذر الموت » حذر وحذار بمعنى، وقرئ بهما. قال سيبويه: هو منصوب، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه:

وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

وقال الفراء: هو منصوب على التمييز والموت: ضد الحياة. وقد مات يموت، ويمات أيضا، قال الراجز: بنيتي سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتي

فهو ميت وميت، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون. والموات ( بالضم ) : الموت. والموات ( بالفتح ) : ما لا روح فيه. والموات أيضا: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والمَوَتان ( بالتحريك ) : خلاف الحيوان، يقال: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الأرضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والمُوتان ( بالضم ) : موت يقع في الماشية، يقال: وقع في المال موتان. وأماته الله وموته، شدد للمبالغة. وقال:

فعروة مات موتا مستريحا فهأنذا أُمَوَّتُ كل يوم

وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مميت ومميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مماويت. قال ابن السكيت: أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون. والمتماوت من صفة الناسك المرائي. وموت مائت، كقولك: ليل لائل، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به. والمستميت للأمر: المسترسل له، قال رؤبة:

وزبد البحر له كتيت والليل فوق الماء مستميت

المستميت أيضا: المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت، وفي الحديث: ( أرى القوم مستميتين ) وهم الذين يقاتلون على الموت. والمُوتة ( بالضم ) : جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ومُؤتة ( بضم الميم وهمز الواو ) : اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام.

 

قوله تعالى: « والله محيط بالكافرين » ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم

ومنه قوله تعالى: « وأحيط بثمره » [ الكهف: 42 ] . وأصله محيط، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت. فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، كما قال: « والأرض جميعا قبضته يوم القيامة » [ الزمر: 67 ] . وقيل: « محيط بالكافرين » أي عالم بهم. دليله: « وأن الله قد أحاط بكل شيء علما » [ الطلاق: 12 ] . وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى: « إلا أن يحاط بكم » [ يوسف: 66 ] أي إلا أن تهلكوا جميعا. وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية. والله أعلم.

 

الآية: 20 ( يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « يكاد البرق يخطف أبصارهم » ( يكاد ) معناه يقارب، يقال: كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل. ويجوز في غير القرآن: يكاد أن يفعل، كما قال رؤبة:

قد كاد من طول البلى أن يمصحا

مشتق من المصح وهو الدرس. والأجود أن تكون بغير « أن » ، لأنها لمقاربة الحال، و « أن » تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهذا متناف، قال الله عز وجل: « يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار » [ النور: 43 ] . ومن كلام العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال. وكاد فعل متصرف على فعل يفعل. وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل، قال: « وما كدت آئبا » . ويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق، في كون خبرها بغير « أن » ، قال الله عز وجل: « وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة » [ الأعراف: 22 ] لأنها كلها بمعنى الحال والمقاربة، والحال لا يكون معها « أن » ، فاعلم.

 

قوله تعالى: « يخطف أبصارهم » الخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته. فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم. ويخْطَف ويخْطِف لغتان قرئ بهما. وقد خطفه ( بالكسر ) يخطفه خطفا، وهي اللغة الجيدة، واللغة الأخرى حكاها الأخفش: خطف يخطف. الجوهري: وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى « يكاد البرق يخطف أبصارهم » وقال النحاس: في « يخطف » سبعة أوجه، القراءة الفصيحة: يخطَف. وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: يخطف بكسر الطاء، قال سعيد الأخفش: هي لغة. وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء. قال الفراء: وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء. قال الكسائي والأخفش والفراء: يجوز « يخطف » بكسر الياء والخاء والطاء. فهذه ستة أوجه موافقة للخط. والسابعة حكاها عبدالوارث قال: رأيت في مصحف أبي بن كعب « يتخطف » ، وزعم سيبويه والكسائي أن من قرأ « يخطف » بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده يختطف، ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: ومن فتح الخاء ألقى حركة التاء عليها. وقال الكسائي: ومن كسر الياء فلأن الألف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين. قال النحاس وغيره.

قلت: وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء « يخِطَّف » . قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك بأن « خطِف الخطفة » لم يقرأه أحد بالفتح.

« أبصارهم » جمع بصر، وهي حاسة الرؤية. والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم. ومن جعل « البرق » مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم.

 

قوله تعالى: « كلما أضاء لهم مشوا فيه » « كلما » منصوب لأنه ظرف. وإذا كان « كلما » بمعنى « إذا » فهي موصولة والعامل فيه « مشوا » وهو جوابه، ولا يعمل فيه « أضاء » ، لأنه في صلة ما. والمفعول في قول المبرد محذوف، التقدير عنده: كلما أضاء لهم البرق الطريق. وقيل: يجوز أن يكون فعل وأفعل بمعنى، كسكت وأسكت، فيكون أضاء وضاء سراء فلا يحتاج إلى تقدير حذف مفعول. قال الفراء: يقال ضاء وأضاء، وقد تقدم. والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه « قاموا » أي ثبتوا على نفاقهم، عن ابن عباس. وقيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم، عن ابن مسعود وقتادة. قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته: « ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه » [ الحج: 11 ] وقال علماء الصوفية: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءا، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر، كأن تضيء عليه أحوال الإرادة لو صححها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها. وروي عن ابن عباس أن المراد اليهود، لما نصر النبي صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا، وهذا ضعيف. والآية في المنافقين، وهذا أصح عن ابن عباس، والمعنى يتناول الجميع.

 

قوله تعالى: « ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم » « لو » حرف تمن وفيه معنى الجزاء، وجوابه اللام. والمعنى: ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان. وقرئ « بأسماعهم » على الجمع، وقد تقدم الكلام في هذا.

 

قوله تعالى: « إن الله على كل شيء قدير » عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه. وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر. والقدير أبلغ في الوصف من القادر، قاله الزجاجي. وقال الهروي: والقدير والقادر بمعنى واحد، يقال: قدرت على الشيء أقدر قدْرا وقدَرا ومقْدِرة ومقْدُرة وقدرانا، أي قدرة. والاقتدار على الشيء: القدرة عليه. فالله جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره. ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته. وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها، لأنه تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك. والله أعلم.

فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين، أربع آيات في وصف المؤمنين، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين، وبقيتها في المنافقين. وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج، وقاله مجاهد أيضا.

 

الآية: 21 ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )

 

قوله سبحانه وتعالى: « يا أيها الناس اعبدوا ربكم » قال علقمة ومجاهد: كل آية أولها « يا أيها الناس » فإنما نزلت بمكة، وكل آية أولها « يا أيها الذين آمنوا » فإنما نزلت بالمدينة. قلت: وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يا أيها الناس. وأما قولهما في « يا أيها الذين آمنوا » [ النساء: 19 ] الآية فصحيح. وقال عروة بن الزبير: ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة. وهذا واضح.

و « يا » في قوله: « يا أيها » حرف نداء « أي » منادى مفرد مبني على الضم، لأنه منادى في اللفظ، و « ها » للتنبيه. « الناس » مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين، ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياسا على جوازه في: يا هذا الرجل. وقيل: ضمت « أي » كما ضم المقصود المفرد، وجاؤوا بـ « ها » عوضا عن ياء أخرى، وإنما لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاؤوا بـ « ها » حتى يبقى الكلام متصلا. قال سيبويه: كأنك كررت « يا » مرتين وصار الاسم بينهما، كما قالوا: ها هو ذا. وقيل لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادي مجرد عن حرف تعريف، وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء، والتزموا رفعه، لأنه المقصود بالنداء، فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيها على أنه المنادي، فاعلمه.

واختلف من المراد بالناس هنا على قولين: أحدهما: الكفار الذي لم يعبدوه، يدل عليه قوله: « وإن كنتم في ريب » [ البقرة: 23 ] الثاني: أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها. وهذا حسن.

 

قوله تعالى: « اعبدوا » أمر بالعبادة له. والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه. وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالأقدام. قال طرفة:

وظيفا وظيفا فوق مَوْرٍ معبَّد

والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. وعبدت فلانا: اتخذته عبدا.

 

قوله تعالى: « الذي خلقكم » خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم. وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم. وفي أصل الخلق وجهان: أحدهما: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع، قال الشاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري

وقال الحجاج: ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت. الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع، قال الله تعالى: « وتخلقون إفكا » [ العنكبوت: 17 ] .

 

قوله تعالى: « والذين من قبلكم » فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم، فالجواب: أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة، فذكرهم من قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم وهو خلقهم يميتهم، وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا، وعلى أي الأمور مضوا من إهلاك من أهلك، وليعلموا أنهم يبتلون كما ابتلوا. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « لعلكم تتقون » « لعل » متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي. وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله: « لعلكم تعقلون، لعلكم تشكرون، لعلكم تذكرون، لعلكم تهتدون » فيه ثلاث تأويلات.

الأول: أن « لعل » على بابها من الترجي والتوقع، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا. هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان قال سيبويه في قوله عز وجل: « اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى » [ طه: 43 - 44 ] قال معناه: اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى. واختار هذا القول أبو المعالي.

الثاني: أن العرب استعملت « لعل » مجردة من الشك بمعنى لام كي. فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا، وعلى ذلك يدل قول الشاعر:

وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملا متألق

المعنى: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت « لعل » هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا القول عن قطرب والطبري.

الثالث: أن تكون « لعل » بمعنى التعرض للشيء، كأنه قيل: افعلوا متعرضين لأن تعقلوا، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا. والمعنى في قوله « لعلكم تتقون » أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أي جعلناه وقاية لنا من العدو. وقال عنترة:

ولقد كررت المهر يدمى نحره حتى اتقتني الخيل بابني حِذيم

 

الآية: 22 ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « الذي جعل » معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين: ويأتي بمعنى خلق، ومنه قوله تعالى: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » [ المائدة: 103 ] وقوله: « وجعل الظلمات والنور » [ الأنعام: 1 ] ويأتي بمعنى سمى، ومنه قوله تعالى: « حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآنا عربيا » [ الزخرف: 1 - 3 ] . وقوله: « وجعلوا له من عباده جزءا » [ الزخرف: 15 ] . « وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا » [ الزخرف: 19 ] أي سموهم. ويأتي بمعنى أخذ، كما قال الشاعر:

وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهما ها يقرع العظم نابها

وقد تأتي زائدة، كما قال الآخر:

وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر

وقد قيل في قوله تعالى « وجعل الظلمات والنور » : إنها زائدة. وجعل واجتعل بمعنى واحد، قال الشاعر:

ناط أمر الضعاف واجتعل اللي ل كحبل العاديّة الممدود

« فراشا » أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها. وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال كالأوتاد كما قال: « ألم نجعل الأرض مهادا. والجبال أوتادا » [ النبأ: 6 - 7 ] . والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال: « والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس » [ البقرة: 164 ] .

 

قال أصحاب الشافعي: لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا. وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين، فإن عدم ذلك فالعرف.

 

قوله تعالى: « والسماء بناء » السماء للأرض كالسقف للبيت، ولهذا قال وقوله الحق « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » [ الأنبياء: 32 ] وكل ما علا فأظل قيل له سماء، وقد تقدم القول فيه والوقف على « بناء » أحسن منه على « تتقون » ، لأن قوله: « الذي جعل لكم الأرض فراشا » نعت للرب. ويقال: بنى فلان بيتا، وبنى على أهله - بناء فيهما - أي زفها. والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ، وكأن الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل بأهله: بان. وبنّى ( مقصورا ) شدد للكثرة، وابتنى دارا وبنى بمعنى، ومنه بنيان الحائط، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت.

وأصل الماء موه، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه، فالتقى حرفان خفيان فأبدلت من الهاء همزة، لأنها أجلد، وهي بالألف أشبه، فقلت: ماء، الألف الأولى عين الفعل، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء، وبعد الهمزة بدل من التنوين. قال أبو الحسن: لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين، وإن شئت بثلاث، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا: مويه وأمواه ومياه، مثل جمال وأجمال.

 

قوله تعالى: « فأخرج به من الثمرات رزقا لكم » الثمرات جمع ثمرة. ويقال: ثمر مثل شجر. ويقال ثمر مثل خشب. ويقال: ثمر مثل بدن. وثمار مثل إكام جمع ثمر. وسيأتي لهذا مزيد بيان في « الأنعام » إن شاء الله. وثمار السياط: عقد أطرافها.

والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات. « رزقا » طعاما لكم، وعلفا لدوابكم، وقد بين هذا قوله تعالى: « إنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم » [ عبس: 25 - 32 ] وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله.

فإن قيل: كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك؟ قيل له: لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع، فهي رزق.

قلت: ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى: ( والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه ) . أخرجه مسلم. ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا. وقال علماء الصوفية: أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء، والماء طيبا والكلأ طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه، من غير منة فيه لأحد عليك. وقال نوف البكالي: رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام... وذكر باقي الخبر، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى: « أجيب دعوة الداع » [ البقرة: 186 ] إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فلا تجعلوا » نهي. « لله أندادا » أي أكفاء وأمثالا ونظراء، واحدها ند، وكذلك قرأ محمد بن السميقع « ندا » ، قال الشاعر:

نحمد الله ولا ند له عنده الخير وما شاء فعل

وقال حسان:

أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء

ويقال: ند ونديدة على المبالغة، قال لبيد:

ليكلا يكون السندري نديدتي وأجعل أقواما عموما عماعما

وقال أبو عبيدة « أندادا » أضدادا. النحاس: « أندادا » مفعول أول، و « لله » في موضع الثاني. الجوهري: والند ( بفتح النون ) : التل المرتفع في السماء. والند من الطيب ليس بعربي. وند البعير يند ندا وندادا وندودا: نفر وذهب على وجهه، ومنه قرأ بعضهم « يوم التناد » . وندد به أي شهره وسمع به.

 

قوله تعالى: « وأنتم تعلمون » ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، والخطاب للكافرين والمنافقين، عن ابن عباس. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى. فالجواب من وجهين: أحدهما - « وأنتم تعلمون » يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد. الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، والله أعلم. وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد. وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.

 

الآية: 23 ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « وإن كنتم في ريب » أي في شك. « مما نزلنا » يعني القرآن، والمراد المشركون الذين تُحدوا، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وإنا لفي شك منه؛ فنزلت الآية. ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده.

 

قوله تعالى: « على عبدنا » يعني محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل، فسمى المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه، قال طرفة:

إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد

أي المذلل. قال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط، سمى نبيه عبدا، وأنشدوا:

يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

 

قوله: « فأتوا بسورة من مثله » الفاء جواب الشرط، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء، قاله ابن كيسان. وهو أمر معناه التعجيز، لأنه تعالى علم عجزهم عنه. والسورة واحدة السور. وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن، فلا معنى للإعادة. « ومن » في قوله « من مثله » زائدة، كما قال « فأتوا بسورة مثله » والضمير في « مثله » عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء، كقتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: يعود على التوراة والإنجيل. فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ. فمن على هذين التأويلين للتبعيض والوقف على « مثله » ليس بتام، لأن « وادعوا » نسق عليه.

 

قوله تعالى: « وادعوا شهداءكم » معناه أعوانكم ونصراءكم. الفراء: آلهتكم. وقال ابن كيسان: فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا، أو ليخبروا بأمر شهدوه، وإنما قيل لهم: « فأتوا بسورة من مثله » ؟ فالجواب: أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم.

قلت: هذا هو معنى قول مجاهد. قال مجاهد: معنى: « وادعوا شهداءكم » أي ادعوا ناسا يشهدون لكم، أي يشهدون أنكم عارضتموه. النحاس: « شهداءكم » نصب بالفعل جمع شهيد، يقال: شاهد وشهيد، مثل قادر وقدير. وقوله « » من دون الله « أي من غيره، ودون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا. والدون: الحقير الخسيس، قال:»

إذا ما علا المرء رام العلاء ويقنع بالدون من كان دونا

ولا يشتق منه فعل، وبعضهم يقول منه: دان يدون دونا. ويقال: هذا دون ذاك، أي أقرب منه. ويقال في الإغراء بالشيء: دونكه. قالت تميم للحجاج: أقبرنا صالحا - وكان قد صلبه - فقال: دونكموه.

 

قوله تعالى: « إن كنتم صادقين » فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، لقولهم في آية أخرى: « لو نشاء لقلنا مثل هذا » [ الأنفال: 31 ] والصدق: خلاف الكذب، وقد صدق في الحديث. والصدق: الصلب من الرماح. ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق. ويقال: رجل صدق، كما يقال: نعم الرجل. والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود.

 

الآية: 24 ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين )

 

قوله تعالى: « فإن لم تفعلوا » يعني فيما مضى « ولن تفعلوا » أي تطيقوا ذلك فيما يأتي. والوقف على هذا على « صادقين » تام. وقال جماعة من المفسرين: معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على « صادقين » .

فإن قيل: كيف دخلت « إن » على « لم » ولا يدخل عامل على عامل؟ فالجواب أن « إن » ههنا غير عاملة في اللفظ، فدخلت على « لم » كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في « لم » كما لا تعمل في الماضي، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل. قوله تعالى « ولن تفعلوا » نصب بلن، ومن العرب من يجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة:

فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد

وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه: فقيل لي « لن تُرَع » . هذا على تلك اللغة. وفي قوله: « ولن تفعلوا » إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان: « ولن تفعلوا » توقيفا لهم على أنه الحق، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر، وأنه أساطير الأولين، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله.

 

وقوله « فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة » جواب « فإن لم تفعلوا » أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها. ويقال: إن لغة تميم وأسد « فتقوا النار » . وحكى سيبويه: تقى يتْقي، مثل قضى يقضي. « النار » مفعولة. « التي » من نعتها. وفيها ثلاث لغات: التي واللتِ ( بكسر التاء ) واللتْ ( بإسكانها ) . وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير، ولا تتم إلا بصلة. وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا: اللتان واللتا ( بحذف النون ) واللتان ( بتشديد النون ) وفي جمعها خمس لغات: اللاتي، وهي لغة القرآن. واللات ( بكسر التاء بلا ياء ) . واللواتي. واللوات ( بلا ياء ) ، وأنشد أبو عبيدة:

من اللواتي واللتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لداتي

واللوا ( بإسقاط التاء ) ، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري: اللائي ( بالهمز وإثبات الياء ) . واللاء ( بكسر الهمزة وحذف الياء ) . واللا ( بحذف الهمزة ) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي وفي اللائي: اللوائي. قال الجوهري: وتصغير التي اللتيا ( بالفتح والتشديد ) ، قال الراجز: بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفس تردت

وبعض الشعراء أدخل على « التي » حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله، وحده. فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها، وقال:

من أجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني

ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية. والوقود ( بالفتح ) : الحطب. وبالضم: التوقد. و « الناس » عموم، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها، أجارنا الله منها. « والحجارة » هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وليس في قوله تعالى: « وقودها الناس والحجارة » دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها. وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لقوله تعالى: « إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم » [ الأنبياء: 98 ] أي حطب جهنم. وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس. وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة. وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل مؤذ في النار ) . وفي تأويله وجهان: أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار. الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة. والله أعلم.

روى مسلم عن العباس بن عبدالمطلب قال قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: ( نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . « وقودها » مبتدأ. « الناس » خبره. « والحجارة » عطف عليهم. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف: « وُقودها » ( بضم الواو ) . وقرأ عبيد بن عمير: « وقيدها الناس » . قال الكسائي والأخفش: الوقود ( بفتح الواو ) : الحطب، و ( بالضم ) : الفعل، يقال: وقدت النار تقد وقودا ( بالضم ) ووَقَدا وقِدة ووقيدا ووقْدا ووقدانا، أي توقدت. وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والاتقاد مثل التوقد، والموضع موقد، مثل مجلس، والنار موْقَدة. والوقدة: شدة الحر، وهي عشرة أيام أو نصف شهر. قال النحاس: يجب على هذا ألا يقرأ إلا « وقودها » بفتح الواو لأن المعنى حطبها، إلا أن الأخفش قال: وحكي أن بعض العرب يجعل الوَقود والوُقود بمعنى الحطب والمصدر. قال النحاس: وذهب إلى أن الأول أكثر، قال: كما أن الوضوء الماء، والوضوء المصدر.

 

قوله تعالى: « أعدت للكافرين » ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة، على ما يأتي. وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن. وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي. روى مسلم عن عبدالله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تدرون ما هذا ) قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ( هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب به من أشاء وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها ) . وأخرجه مسلم بمعناه. يقال: احتجت بمعنى تحتج، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة، فلا معنى لما خالف ذلك. وبالله التوفيق. و « أعدت » يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة، وأضمرت معه قد، كما قال: « أو جاؤوكم حصرت صدورهم » [ النساء: 90 ] فمعناه قد حصرت صدورهم، فمع « حصرت » قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد، فعلى هذا لا يتم الوقف على « الحجارة » . ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله، كما قال: « وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم » [ فصلت: 23 ] . وقال السجستاني: « أعدت للكافرين » من صلة « التي » كما قال في آل عمران: « واتقوا النار التي أعدت للكافرين » [ آل عمران: 131 ] . ابن الأنباري: وهذا غلط، لأن التي في سوره البقرة قد وصلت بقوله: « وقودها الناس » فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية، وفي آل عمران ليس لها صله غير « أعدت » .

 

الآية: 25 ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون )

 

لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر يرد عليك، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى « فبشرهم بعذاب أليم » [ الانشقاق: 24 ] ويقال: بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة ( بكسر الباء ) فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة ( بفتح الباء ) . والبشرى: ما يعطاه المبشر. وتباشير الشيء: أوله.

 

أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول، فقال أصحاب الشافعي: نعم، لأن كل واحد منهم مخبر. وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد بن الحسن بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فقال: إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر - ولا نية له - فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لأن هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لأنه قال: أي غلام أخبرني فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى - حين حلف - بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال: وإذا قال أي غلام لي حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم.

 

قوله تعالى: « وعملوا الصالحات » رد على من يقول: إن الإيمان بمجرده يقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل: الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات. والله أعلم.

« أن لهم » في موضع نصب بـ « بشر » والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم، أو لأن لهم، فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقال الكسائي وجماعة من البصريين: « أن » في موضع خفض بإضمار الباء. « جنات » في موضع نصب اسم « أن » ، « وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها، ومنه: المجن والجنين والجنة. » تجري « في موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. » من تحتها « أي من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لأن الجنات دالة عليها.»

 

« الأنهار » أي ماء الأنهار، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] أي أهلها. وقال الشاعر:

نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس

أراد: أهل المجلس، فحذف. والنهر: مأخوذ من أنهرت، أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها

أي وسعتها، يصف طعنة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ) . معناه: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر. وجمع النهر: نهر وأنهار. ونهر نهر: كثير الماء، قال أبو ذؤيب:

أقامت به فابتنت خيمة على قصب وفرات نهر

وروي: أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على « الأنهار » حسن وليس بتام، لأن قوله: « كلما رزقوا منها من ثمرة » من وصف الجنات. « رزقاً » مصدره، وقد تقدم القول في الرزق. ومعنى « من قبل » يعني في الدنيا، وفيه وجهان: أحدهما: أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني: هذا الذي رزقنا في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: « من قبل » يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول.

 

قوله: « وأتوا » فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور « وأتوا » بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة، وفي الثانية للخدام. « به متشابهاً » حال من الضمير في « به » ، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: « كتابا متشابها » [ الزمر: 23 ] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لأن فيها خيارا وغير خيار.

 

قوله: « ولهم فيها أزواج » ابتداء وخبر. وأزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة. وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق:

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري، واختاره الكسائي.

« مطهرة » نعت للأزواج ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبدالرزاق قال أخبرني الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: « مطهرة » قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفة الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله.

« وهم فيها خالدون » « هم » مبتدأ. « خالدون » خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود: البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير:

ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا

وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.

 

الآية: 26 ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين )

 

قوله تعالى: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة » قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني « مثلهم كمثل الذي استوقد نارا » [ البقرة: 17 ] وقوله: « أو كصيب من السماء » [ البقرة: 19 ] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: « وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه » [ الحج: 73 ] وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية.

و « يستحيي » أصله يستحيِيُ، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا: مستحيٍ، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن « يستحي » بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، وروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر ابن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى « يستحيي » في هذه الآية فقيل: لا يخشى، ورجحه الطبري، وفي التنزيل: « وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه » [ الأحزاب: 37 ] بمعنى تستحي. وقال غيره: لا يترك. وقيل: لا يمتنع. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره.

 

قوله تعالى: « أن يضرب مثلا ما » « يضرب » معناه يبين، و « أن » مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. « مثلا » منصوب بيضرب « بعوضة » في نصبها أربعة أوجه:

الأول: تكون « ما » زائدة، و « بعوضة » بدلا من « مثلا » .

الثاني: تكون « ما » نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: « مثلا » . و « بعوضة » نعت لما، فوصفت « ما » بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل، قاله الفراء والزجاج وثعلب.

الثالث: نصبت على تقدير إسقاط الجار، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت « بين » وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس:

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل

أراد ما بين قرن، فلما أسقط « بين » نصب.

الرابع: أن يكون « يضرب » بمعنى يجعل، فتكون « بعوضة » المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج « بعوضة » بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن « ما » اسم بمنزلة الذي، و « بعوضة » رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: « تماما على الذي أحسن » أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في « ما » أقبح منه في « الذي » ، لأن « الذي » إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلا، مثلت له مثلا. وهذه الأبنية على ضرب واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة: فعولة من بَعَض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض. والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قال الجوهري وغيره.

 

قوله تعالى: « فما فوقها » قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى، ومن جعل « ما » الأولى صلة زائدة فـ « ما » الثانية عطف عليها. وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى « فما فوقها » - والله أعلم - ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى. وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر.

 

قوله تعالى: « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » الضمير في « أنه » عائد على المثل أي أن المثل حق. والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحقة ( بفتح الحاء ) أخص منه، يقال: هذه حقتي، أي حقي. « وأما الذين كفروا » لغة بني تميم وبني عامر في « أما » أيما، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة:

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصر

قوله تعالى: « فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا » اختلف النحويون في « ماذا » ، فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، فيكون في موضع نصب بـ « أراد » . قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: « ما » اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و « ذا » بمعنى الذي وهو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام. و « مثلا » منصوب على القطع، التقدير: أراد مثلا، قاله ثعلب. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال.

 

قوله تعالى: « يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا » قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى. وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، وهو أشبه، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويحذل، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى « يضل به كثيرا » التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لأن الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الإضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم.

« وما يضل به إلا الفاسقين » ولا خلاف أن قوله: « وما يضل به إلا الفاسقين » أنه من قول الله تعالى. و « الفاسقين » نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزير اعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: « أإذا ضللنا في الأرض » [ السجدة:10 ] وقد تقدم في الفاتحة. والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها. والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ) . روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم. وفي رواية ( العقرب ) مكان ( الحية ) . فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذيتها، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا - فسقا وفسوقا، أي فجر. فأما قوله تعالى: « ففسق عن أمر ربه » فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال: وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري.

قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب « الزاهر » له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:

يذهبن في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا

والفِسّيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يا أيها الفاسق، ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان.

 

الآية: 27 ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون )

 

قوله تعالى: « الذين » ( الذين ) في موضع نصب على النعت للفاسقين، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، أي هم الذين. وقد تقدم. « ينقضون عهد الله » النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر: ما ينقض به. والنقض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره. وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به. وقيل: بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده جل وعز ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين » [ آل عمران: 81 ] إلى قوله تعالى: « وأخذتم على ذلكم إصري » [ آل عمران: 81 ] أي عهدي.

قلت: وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.

قوله تعالى: « من بعد ميثاقه » الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل، لأن أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها - والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الأعرابي:

حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق

والموثق: الميثاق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: « وميثاقه الذي واثقكم به » .

 

قوله تعالى: « ويقطعون » القطع معروف، والمصدر - في الرحم - القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطَع وقطعة، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قُطوعا وقُطاعا وقِطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم. ورجل به قطع: أي انبهار.

 

قوله تعالى: « ما أمر الله به أن يوصل » « ما » في موضع نصب بـ « يقطعون » . و « أن » إن شئت كانت بدلا من « ما » وإن شئت من الهاء في « به » وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم. وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا.

 

قوله تعالى: « ويفسدون في الأرض » أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.

 

قوله: « أولئك هم الخاسرون » ابتداء وخبر. و « هم » زائدة، ويجوز أن تكون « هم » ابتداء ثان، « الخاسرون » خبره، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم. والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير:

إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنّه

يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشيء ( بالفتح ) وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر، لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة.

 

في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال: « أوفوا بالعقود » [ المائدة: 1 ] وقد قال لنبيه عليه السلام: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ الأنفال: 58 ] فنهاه عن الغدر وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 28 ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون )

 

« كيف » سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب بـ « تكفرون » ، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أم محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد. وقيل: « كيف » لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شيء، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.

 

قوله تعالى: « وكنتم أمواتا » هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد. وقال الفراء: « أمواتا » خبر « كنتم » . « فأحياكم ثم يميتكم » هذا وقف التمام، كذا قال أبو حاتم. ثم قال: « ثم يحييكم » . واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من موتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم - أي خلقكم - ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعده هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت.

قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات. وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذِن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ) . فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم.

قلت: فقوله ( فأماتهم الله ) حقيقة في الموت، لأنه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم. وقيل: يجوز أن يكون ( أماتهم ) عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة، والأول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وإنما هو على الحقيقة، ومثله: « وكلم الله موسى تكليما » [ النساء: 164 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث.

 

قوله تعالى: « ثم إليه ترجعون » أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم. وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة، كما قال تعالى: « كما بدأنا أول خلق نعيده » [ الأنبياء: 104 ] فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع. و « تُرجَعون » قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت.

 

الآية: 29 ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم )

 

قوله: « خلق » معناه اخترع وأوجد بعد العدَم. وقد يقال في الإنسان: « خلق » عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:

من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلة

وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن كيسان: « خلق لكم » أي من أجلكم. وقيل: المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم. وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار.

قلت وهذا هو الصحيح على ما نبينه. ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.

 

استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله: « وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه » [ الجاثية: 13 ] الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا، فلا بد لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة، بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق، بل قد استدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه. قال ابن عطية: وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به، أو لها حال تستصحب. قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف.

 

الصحيح في معنى قوله تعالى: « خلق لكم ما في الأرض » الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة. فإن قيل: إن معنى « لكم » الانتفاع، أي لتنفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا. فان قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات، قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته. وقال أرباب المعاني في قوله: « خلق لكم ما في الأرض جميعا » لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.

 

روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا ) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله:

أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بذلك أمرت ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله، لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: « خلق لكم ما في الأرض جميعا » « وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه » [ الجاثية: 13 ] . فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: « وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين » [ سبأ: 39 ] وقال: « فإن ربي غني كريم » [ النمل: 40 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي يا ابن آدم أنْفِق أنفق عليك يمين الله ملأى سحّا لا يغيضها شيء الليل والنهار ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ) . وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئه في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك ) . وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك ) قلت: نعم، قال: ( مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك ) .

 

قوله تعالى: « ثم استوى » « ثم » لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: « فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك » [ المؤمنون: 28 ] ، وقال « لتستووا على ظهوره » [ الزخرف: 13 ] ، وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى

أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه، قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى » [ طه: 5 ] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء أخرجوه. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. وقال الفراء في قوله عز وجل: « ثم استوى إلى السماء فسواهن » قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين، أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى أقبل إلي وعلي. فهذا معنى قوله: « ثم استوى إلى السماء » والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعد. وهذا كقولك: كان قاعدا فاستوى قائما، وكان قائما فاستوى قاعدا، وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين: قوله: « استوى » بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة « ثم » تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف. وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله « ثم استوى إلى السماء » : قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

قال ابن عطية: وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى » [ طه: 5 ] .

قلت: قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة « الأعراف » إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.

 

يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء، وكذلك في « حم السجدة » . وقال في النازعات: « أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها » [ النازعات: 27 ] فوصف خلقها، ثم قال: « والأرض بعد ذلك دحاها » [ النازعات: 30 ] . فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وقال تعالى « الحمد لله الذي خلق السموات والأرض » [ الأنعام: 1 ] وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولا، حكاه عنه الطبري. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوة.

قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك.

ومما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات » [ البقرة: 29 ] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين. فجعل الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: « ن والقلم » [ القلم: 1 ] والحوت في الماء و [ الماء ] على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسل عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: « وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم » [ النحل: 15 ] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: « قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين » [ فصلت: 9، 10 ] يقول: من سأل فهكذا الأمر، « ثم استوى إلى السماء وهي دخان » وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين، في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، « وأوحى في كل سماء أمرها » [ فصلت: 12 ] قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، قال فذلك حين يقول: « خلق السموات والأرض في ستة أيام » [ الحديد: 4 ] ويقول: « كانتا رتقا ففتقناهما » [ الأنبياء: 30 ] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى. وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: ( إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء « القلم » فقال له اكتب. فقال: يا رب وما اكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النون فدحا الأرض عليها، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة. ) ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان، خلاف الرواية الأولى. والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى، لقوله تعالى: « والأرض بعد ذلك دحاها » [ النازعات: 30 ] والله أعلم بما فعل، فقد اختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل.

وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها، فألقى في قلبه، فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع. قال: فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج إلى الله فخرجت. قال كعب: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت.

 

أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجة في سننه، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء. قال: ( كل شيء خلق من الماء ) فقلت: أخبرني عن شيء إذا علمت به دخلت الجنة. قال: ( أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام ) . قال أبو حاتم قول أبي هريرة: « أنبئني عن كل شيء » أراد به عن كل شيء خلق من الماء. والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: ( كل شيء خلق من الماء ) وإن لم يكن مخلوقا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون ) ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا. قال البيهقي: وإنما أراد - والله أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش « القلم » . وذلك بين في حديث عمران بن حصين، ثم خلق السموات والأرض. وذكر عبدالرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس قال: جاء رجل إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. قال: ثم أتى الرجل عبدالله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبدالله بن عمرو. قال: فأتى الرجل عبدالله بن عباس فسأله، فقال: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ فتلا عبدالله بن عباس: « وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه » [ الجاثية: 13 ] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه. خلق الماء أولا، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلا لما خلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه، سبحانه جل وعز.

 

قوله تعالى: « فسواهن سبع سماوات » ذكر تعالى أن السموات سبع. ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: « ومن الأرض مثلهن » [ الطلاق: 12 ] وقد اختلف فيه، فقيل: ومن الأرض مثلهن أي في العدد، لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعين العدد. وقيل: « ومن الأرض مثلهن » أي في غلظهن وما بينهن. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض، قال الداودي. والصحيح الأول، وأنها سبع كالسماوات سبع. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين ) . وعن عائشة رضي الله عنها مثله، إلا أن فيه « من » بدل « إلى » . ومن حديث أبي هريرة: ( لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين ) وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ) . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ( هل تدرون ما هذا ) فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ( هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم ) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: ( فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها ) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ( بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام - ثم قال: - هل تدرون ما فوق ذلك ) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ( فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ) ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض. ثم قال: ( هل تدرون ما فوق ذلك ) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال ( فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال: - هل تدرون ما الذي تحتكم ) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ( فإنها الأرض - ثم قال: - هل تدرون ما تحت ذلك ) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ( فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة ) حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: ( والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) . قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [ علم الله وقدرته وسلطانه ] في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه. قال: هذا حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية. وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال: « الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن » [ الطلاق: 12 ] قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض » ابتداء وخبر. « ما » في موضع نصب « جميعا » عند سيبويه نصب على الحال « ثم استوى » أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء، وأهل الحجاز يفخمون. « سبع » منصوب على البدل من الهاء والنون، أي فسوى سبع سماوات. ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات، كما قال الله جل عز: « واختار موسى قومه سبعين رجلا » [ الأعراف: 155 ] أي من قومه، قال النحاس. وقال الأخفش: انتصب على الحال. « وهو بكل شيء عليم » ابتداء وخبر والأصل في « هو » تحريك الهاء، والإسكان استخفاف.

والسماء تكون واحدة مؤنثة، مثل عنان، وتذكيرها شاذ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش، وسماءة في قول الزجاج، وجمع الجمع سماوات وسماءات. فجاء « سواهن » إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس. وقيل: جعلهن سواء.

 

قوله تعالى: « وهو بكل شيء عليم » أي بما خلق وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، وقد قال: « ألا يعلم من خلق » [ الملك: 14 ] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية. وقالت الجهمية: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات، والرد على هؤلاء في كتب الديانات. وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: « أنزله بعلمه والملائكة يشهدون » [ النساء: 166 ] ، وقال: « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » [ هود: 14 ] ، وقال: « فلنقصن عليهم بعلم » [ الأعراف: 7 ] ، وقال: « وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه » [ فاطر: 11 ] ، وقال: « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » [ الأنعام: 59 ] الآية. وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله: « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » [ البقرة: 185 ] إن شاء الله تعالى. وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من: هو وهي، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم. وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من « أن يمل هو » والباقون بالتحريك.

 

الآية: 30 ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )

 

قوله تعالى « وإذ قال ربك للملائكة » إذ وإذا حرفا توقيت، فإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. وقال المبرد: إذا جاء « إذ » مع مستقبل كان معناه ماضيا،

نحو قوله: « وإذ يمكر بك » [ الأنفال: 30 ] « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه » [ الأحزاب: 37 ] معناه مكروا، وإذ قلت. وإذا جاء « إذا » مع الماضي كان معناه مستقبلا، كقوله تعالى: « فإذا جاءت الطامة » [ النازعات: 34 ] « فإذا جاءت الصاخة » [ عبس: 33 ] و « إذا جاء نصر الله » [ النصر: 1 ] أي يجيء. وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة: « إذ » زائدة، والتقدير: وقال ربك، واستشهد بقول الأسود بن يعفر:

فإذ وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد

وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين. قال النحاس: وهذا خطأ، لأن « إذ » اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد. وقال الزجاج: هذا اجترام من أبي عبيدة، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال:

فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما

يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال. وقيل: هو مردود إلى قوله تعالى: « اعبدوا ربكم الذي خلقكم » [ البقرة: 21 ] فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم. وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي. وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلى. والرب: المالك والسيد والمصلح والجابر، وقد تقدم بيانه.

 

قوله تعالى: « للملائكة » الملائكة واحدها ملك. قال ابن كيسان وغيره: وزن ملك فعل من الملك. وقال أبو عبيدة، هو مفعل من لأك إذا أرسل. والألوكة والمألَكة والمألُكة: الرسالة، قال لبيد:

وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل

وقال آخر:

أبلغ النعمان عني مألكا إنني قد طال حبسي وانتظاري

ويقال: ألكني أي أرسلني، فأصله على هذا مألك، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا: ملأك، ثم سهلوه فقالوا ملك. وقيل أصله ملأك من ملك يملك، نحو شمأل من شمل، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا، وقد تأتي في الشعر على الأصل، قال الشاعر:

فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب

وقال النضر بن شميل. لا اشتقاق للملك عند العرب. والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة. والصلادم: الخيل الشداد، واحدها صلدم. وقيل: هي للمبالغة، كعلامة ونسابة. وقال أرباب المعاني: خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس، ثم ردهم إلى قيمتهم، فقال عز وجل: « اسجدوا لآدم » [ البقرة: 34 ] .

 

قوله تعالى: « إني جاعل في الأرض خليفة » « جاعل » هنا بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد، وقد تقدم. والأرض قيل إنها مكة. روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دحيت الأرض من مكة ) ولذلك سميت أم القرى، قال: وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. و « خليفة » يكون بمعنى فاعل، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روي. ويجوز أن يكون « خليفة » بمعنى مفعول أي مخلف، كما يقال: ذبيحة بمعنى مفعولة. والخلف ( بالتحريك ) من الصالحين، وبتسكينها من الطالحين، هذا هو المعروف، وسيأتي له مزيد بيان في « الأعراف » إن شاء الله. و « خليفة » بالفاء قراءة الجماعة، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ « خليقة » بالقاف. والمعني بالخليفة هنا - في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل - آدم عليه السلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله أنبيا كان مرسلا؟ قال: ( نعم ) الحديث ويقال: لمن كان رسولا ولم يكن / في الأرض أحد؟ فيقال: كان رسولا إلى ولده، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال الله تعالى: « خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء » [ النساء: 1 ] . وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولم الخنزير. وعاش تسعمائة وثلاثين سنة، هكذا ذكر أهل التوراة وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة، والله أعلم.

 

هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك. ودليلنا قول الله تعالى: « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] ، وقوله تعالى: « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض » [ ص: 26 ] ، وقال: « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض » [ النور: 55 ] أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي.

وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الإمام غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب. ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

وقالت الرافضة: يجب نصبه عقلا، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل. وهذا فاسد، لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل، وهذا واضح. فإن قيل وهي:

 

إذا سلم أن طريق وجوب الإمامة السمع، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الأئمة فيه، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه؟.

فالجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه. وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الإمام، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلا، وأبطلوا القياس أصلا وفرعا. ثم اختلفوا على ثلاث فرق: فرقة تدعي النص على أبي بكر، وفرقة تدعي النص على العباس، وفرقة تدعي النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك، لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة الله في غير معين، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين، وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين، لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواترا أوجب العلم ضرورة أو استدلالا، أو يكون من أخبار الآحاد، ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه، كما أن كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات، وصوم رمضان، وحج البيت ونحوها، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة، فبطلت هذه الدعوى، وبطل أن يكون معلوما بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به. وأيضا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي وجه كان، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس، لأن لكل واحد منهما قوما ينقلون النص صريحا في إمامته، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد - على ما يأتي بيانه - كذلك الواحد، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر. وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد. فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضا في جملتها مقام النص، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص، وهم الخلق الكثير والجم الغفير. والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما.

 

في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادا، منها قوله عليه السلام: ( من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) . قالوا: والمولى في اللغة بمعنى أولى، فلما قال: ( فعلي مولاه ) بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله « مولى » أنه أحق وأولى. فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة، وقوله عليه السلام لعلي: ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) . قالوا: ومنزلة هارون معروفة، وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي، وكان خليفة، فعلم أن المراد به الخلافة، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

والجواب عن الحديث الأول: أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله ) . قالوا: فلو كان قد قال: ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) لكان أحد الخبرين كذبا. جواب ثان: وهو أن الخبر وإن كان صحيحا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته، وإنما يدل على فضيلته، وذلك أن المولى بمعنى الولي، فيكون معنى الخبر: من كنت وليه فعلي وليه، قال الله تعالى: « فإن الله هو مولاه » [ التحريم: 4 ] أي وليه. وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه، وذلك فضيلة عظيمة لعلي. جواب ثالث: وهو أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك أن أسامة وعليا اختصما، فقال علي لأسامة: أنت مولاي. فقال: لست مولاك، بل أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) .

جواب رابع: وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها: النساء سواها كثير. شق ذلك عليها، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردا لقولهم، وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي عليه السلام. وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام - على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة « المائدة » - وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون، فلو أراد بقوله: ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) الخلافة لقال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه. وقد قيل: إن هذا الحديث خرج على سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه، فأرجف به أهل النفاق وقالوا: إنما خلفه بغضا وقلى له، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن المنافقين قالوا كذا وكذا! فقال: ( كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون ) . وقال: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) . وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليا في هذه الفضيلة غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه، منهم: ابن أم مكتوم، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد. وروي في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له: ألا تنفذ أبا بكر وعمر؟ فقال: ( إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس ) . وقال: ( هما وزيراي في أهل الأرض ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال: ( أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى ) . وهذا الخبر ورد ابتداء، وخبر علي ورد على سبب، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة، والله أعلم.

 

واختلف فيما يكون به الإمام إماما وذلك ثلاث طرق، أحدها: النص، وقد تقدم الخلاف فيه، وقال به أيضا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبدالواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة، وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق، أو على جماعة كما فعل عمر، وهو الطريق الثاني، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه. الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد، وذلك أن الجماعة في مصر من أنصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام، إذا لم يكن الإمام معلنا بالفسق والفساد، لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة ) .

 

فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود. قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: وهذا مجمع عليه.

 

فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا، وقد سئل سهل بن عبدالله التستري: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام؟ قال: تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه. وقال ابن خويز منداد: ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، والله أعلم.

 

واختلف في الشهادة على عقد الإمامة، فقال بعض أصحابنا: إنه لا يفتقر إلى الشهود، لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع، وليس ههنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة. ومنهم من قال: يفتقر إلى شهود، فمن قال بهذا احتج بأن قال: لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعي كل مدع أنه عقد له سرا، وتؤدي إلى الهرج والفتنة، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان، خلافا للجُبّائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له، لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك. ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر.

 

شرائط الإمام، وهي أحد عشر: الأول: أن يكون من صميم قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( الأئمة من قريش ) . وقد اختلف في هذا. الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه. الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم. الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعا فيه، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام، وله أن يباشر الفصل والحكم، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالما بذلك كله قيما به. والله أعلم.

الخامس: أن يكون حرا، ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس.

السابع: أن يكون ذكرا، سليم الأعضاء وهو الثامن. وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه. التاسع والعاشر: أن يكون بالغا عاقلا، ولا خلاف في ذلك. الحادي عشر: أن يكون عدلا، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، لقوله عليه السلام: ( أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون ) . وفي التنزيل في وصف طالوت: « إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم » [ البقرة: 247 ] فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء. وقوله: « اصطفاه » معناه اختاره، وهذا يدل على شرط النسب. وليس من شرطه أن يكون معصوما من الزلل والخطأ، ولا عالما بالغيب، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعثمان وليسوا من بني هاشم.

 

يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة، وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها. فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم، والله أعلم.

 

الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة: ( وألا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ) . وفي حديث عوف بن مالك: ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ) الحديث. أخرجهما مسلم. وعن أم سلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع - قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: - لا ما صلوا ) . أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. أخرجه أيضا مسلم.

ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة. فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره؟ اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته. ومنهم من قال: له أن يفعل ذلك. والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني. وقول الصحابة: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك! رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك! فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له: ليس لك أن تقول هذا، وليس لك أن تفعله. فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك، ولأن الإمام ناظر للغيب فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم، والوكيل إذا عزل نفسه. فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه، وكذلك الإمام بجب أن يكون مثله. والله أعلم.

 

إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين. وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته. والأول أظهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) . رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم. وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: ( ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر ) . رواه مسلم أيضا، ومن حديث عرفجة: ( فاضربوه بالسيف كائنا من كان ) . وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده، فإن كان الإمام فاسقا والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف من ما أظهر.

 

فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا. قال الإمام أبو المعالي: ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم، ثم قالوا: لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر. قال: والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز وقد حصل الإجماع عليه. فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع. وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم. وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد، وصاروا إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين. قالوا: وإذا كانا اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى، ولا تؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة. والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله: ( فاقتلوا الآخر منهما ) ولأن الأمة عليه. وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة. ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام. فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه. وقلنا: أقوى السمع الإجماع، وقد وجد على المنع.

 

قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله: « لا يسبقونه بالقول » خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ؟ فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم: « إني أعلم » وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه. وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء. وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال، فمن حينئذ دخلته العزة. فجاء قولهم: « أتجعل فيها » على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟ قاله أحمد بن يحيى ثعلب. وقال ابن زيد وغيره. إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا: الاستخلاف والعصيان. وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى: « إني جاعل في الأرض خليفة » أهو الذي أعلمهم أم غيره.

وهذا قول حسن، رواه عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله « أتجعل فيها من يفسد فيها » قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فلذلك قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها » . وفي الكلام حذف على مذهبه، والمعنى إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا، فقالوا: أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره؟ والقول الأول أيضا حسن جدا، لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء، وما بين القولين حسن، فتأمله. وقد قيل: إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله: ( كيف تركتم عبادي ) - على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره - إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال: أتجعل فيها، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم: « إني أعلم ما لا تعلمون » .

 

قوله: « من يفسد فيها » « من » في موضع نصب على المفعول بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه « فيها » . « يفسد » على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى. وفي التنزيل: « ومنهم من يستمع إليك » [ الأنعام: 25 ] على اللفظ، « ومنهم من يستمعون » على المعنى. « ويسفك » عطف عليه، ويجوز فيه الوجهان. وروى أسيد عن الأعرج أنه قرأ: « ويسفك الدماء » بالنصب، يجعله جواب الاستفهام بالواو كما قال:

ألم أك جاركم وتكون بيني وبينكم المودة والإخاء

والسفك: الصب. سفكت الدم أسفكه سفكا: صببته، وكذلك الدمع، حكاه ابن فارس والجوهري. والسفاك: السفاح، وهو القادر على الكلام. قال المهدوي: ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وقد يستعمل في نثر الكلام يقال سفك الكلام إذا نثره. وواحد الدماء دم، محذوف اللام. وقيل: أصله دمي. وقيل: دمي، ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه، والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل، قال الشاعر:

فلو أنا على حجر ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين

 

قوله تعالى: « ونحن نسبح بحمدك » أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك. والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:

أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر

أي براءة من علقمة. وروى طلحة بن عبيدالله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال: ( هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء ) . وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب، قال الله تعالى: « إن لك في النهار سبحا طويلا » [ المزمل: 7 ] فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء. وقد تقدم الكلام في « نحن » ، ولا يجوز إدغام النون في النون لئلا يلتقي ساكنان.

مسألة: واختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة، فقال ابن مسعود وابن عباس: تسبيحهم صلاتهم، ومنه قول الله تعالى: « فلولا أنه كان من المسبحين » [ الصافات: 143 ] أي المصلين. وقيل: تسبيحهم رفع الصوت بالذكر، قاله المفضل، واستشهد بقول جرير:

قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا إهلالا

وقال قتادة: تسبيح قوله تعالى: « بحمدك » أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به. والحمد: الثناء، وقد تقدم. ويحتمل أن يكون قولهم: « بحمدك » اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ونقدس لك » أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون، قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما. وقال الضحاك وغيره: المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك. وقال قوم منهم قتادة: « نقدس لك » معناه نصلي. والتقديس: الصلاة. قال ابن عطية: وهذا ضعيف.

قلت: بل معناه صحيح، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح ) . روته عائشة أخرجه مسلم. وبناء « قدس » كيفما تصرف فإن معناه التطهير، ومنه قوله تعالى: « ادخلوا الأرض المقدسة » [ المائدة: 21 ] أي المطهرة. وقال: « الملك القدوس » [ الحشر: 23 ] يعني الطاهر، ومثله: « بالواد المقدس طوى » [ طه: 12 ] وبيت المقدس سمي به لأنه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر، ومنه قيل للسطل: قَدَس، لأنه يتوضأ فيه ويتطهر، ومنه القادوس. وفي الحديث: ( لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها ) . يريد لا طهرها الله، أخرجه ابن ماجة في سننه. فالقدس: الطهر من غير خلاف، وقال الشاعر:

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا كما شبرق الولدان ثوب المقدس

أي المطهر. فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إني أعلم » فيه تأويلان، قيل: إنه فعل مستقبل. وقيل: إنه اسم بمعنى فاعل، كما يقال: الله أكبر، بمعنى كبير، وكما قال:

لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول

فعلى أنه فعل تكون « ما » في موضع نصب بأعلم، ويجوز إدغام الميم في الميم. وإن جعلته اسما بمعنى عالم تكون « ما » في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في « أفعل » إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه. قال المهدوي: يجوز أن تقدر التنوين في « أعلم » إذا قدرته بمعنى عالم، وتنصب « ما » به، فيكون مثل حواج بيت الله. قال الجوهري: ونسوة حواج بيت الله، بالإضافة إذا كن قد حججن، وإن لم يكن حججن قلت: حواج بيت الله، فتنصب البيت، لأنك تريد التنوين في حواج.

 

قوله تعالى « ما لا تعلمون » اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى: « ما لا تعلمون » . فقال ابن عباس: كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزية له، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام. وقالت الملائكة: « ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » [ البقرة: 30 ] وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، فقال الله تعالى لهم: « إني أعلم ما لا تعلمون » . [ البقرة: 30 ] . وقال قتادة: لما قالت الملائكة « أتجعل فيها » [ البقرة: 30 ] وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم « إني أعلم ما لا تعلمون » .

قلت: ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن، فهو عام.

 

الآية: 31 ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « وعلم آدم الأسماء كلها » ( علّم ) عرّف. وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة. ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام ، على ما يأتي. وقرئ: « وعُلِّم » غير مسمى الفاعل. والأول أظهر، على ما يأتي. قال علماء الصوفية: علمها بتعليم الحق إياه وحفظها بحفظه عليه ونسي ما عهد إليه، لأن وكله فيه إلى نفسه فقال: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما » . [ طه: 115 ] . وقال ابن عطاء: لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها. وهذا واضح.

وآدم عليه السلام يكنى أبا البشر. وقيل: أبا محمد، كني بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله السهيلي. وقيل: كنيته في الجنة أبو محمد، وفي الأرض أبو البشر. وأصله بهمزتين، لأنه أفعل إلا أنهم لينوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا فقلت: أوادم في الجمع، لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن الأخفش.

واختلف في اشتقاقه، فقيل: هو مشتق من أدمة الأرض وأديمها وهو وجهها، فسمي بما خلق منه، قال ابن عباس. وقيل: إنه مشتق من الأدمة وهي السمرة. واختلفوا في الأدمة، فزعم الضحاك أنها السمرة، وزعم النضر أنها البياض، وأن آدم عليه السلام كان أبيض، مأخوذ من قولهم: ناقة أدماء، إذا كانت بيضاء. وعلى هذا الاشتقاق جمعه أدم وأوادم، كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه. وعلى أنه مشتق من الأدمة جمعه آدمون، ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه.

قلت: الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض. قال سعيد بن جبير: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي، ذكره ابن سعد في الطبقات. وروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال: فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين - ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض - فصعد به، فقال الله تعالى له: ( أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك ) فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها. فقال: ( أنت تصلح لقبض أرواح ولده ) فبل التراب حتى عاد طينا لازبا، اللازب: هو الذي يلتصق بعضه ببعض، ثم ترك حتى أنتن، فذلك حيث يقول: « من حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] قال: منتن. ثم قال للملائكة: « إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين » [ ص: 71 ] . فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه. يقول: أتتكبر عما خلقت بيدي ولم أتكبر أنا عنه! فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة، فذلك حين يقول: « من صلصال كالفخار » [ الرحمن: 14 ] . ويقول لأمر ما خلقت!. ودخل من فمه وخرج من دبره، فقال إبليس للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولئن سلطت عليه لأهلكنه. ويقال: إنه كان إذا مر عليه مع الملائكة يقول: أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون! قالوا: نطيع أمر ربنا، فأسر إبليس في نفسه لئن فضل علي فلا أطيعه، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: « خلق الإنسان من عجل » [ الأنبياء: 37 ] « فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين » [ الأعراف: 11 ] وذكر القصة. وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. أديم: جمع أدم، قال الشاعر:

الناس أخياف وشتى في الشيم وكلهم يجمعهم وجه الأدم

فآدم مشتق من الأديم والأدم لا من الأدمة، والله أعلم. ويحتمل أن يكون منهما جميعا. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في خلق آدم في « الأنعام » وغيرها إن شاء الله تعالى.

و « آدم » لا ينصرف. قال أبو جعفر النحاس: « آدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين، لأنه على أفعل وهو معرفة، ولا يمتنع شي من الصرف عند البصريين إلا لعلتين. فإن نكرته ولم يكن نعتا لم يصرفه الخليل وسيبويه، وصرفه الأخفش سعيد، لأنه كان نعتا وهو على وزن الفعل، فإذا لم يكن نعتا صرفه. قال أبو إسحاق الزجاج: القول قول سيبويه، ولا يفرق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه » .

 

قوله تعالى: « الأسماء كلها » « الأسماء » هنا بمعنى العبارات، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى، كقولك: زيد قائم، والأسد شجاع. وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك: أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال: الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد المسمى، وقد يجرى اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها، ومنه قوله تعالى: « وعلم آدم الأسماء كلها » [ البقرة: 31 ] على أشهر التأويلات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تسعة وتسعين اسما ) . ويجري مجرى الذات، يقال: ذات ونفس وعين واسم بمعنى، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى: « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى: 1 ] « تبارك اسم ربك » [ الرحمن: 78 ] « إن هي إلا أسماء سميتموها » [ النجم: 23 ] .

 

واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها. وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن علي قال: كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس: « وعلم آدم الأسماء كلها » .

قلت: وقد روي هذا المعنى مرفوعا على ما يأتي، وهو الذي يقتضيه لفظ « كلها » إذ هو اسم موضوع للإحاطة والعموم، وفي البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ) الحديث. قال ابن خويز منداد: في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا. وكذلك قال ابن عباس: علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب. وروى شيبان عن قتادة قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه. قال النحاس: وهذا أحسن ما روي في هذا. والمعنى علمه أسماء الأجناس وعرفه منافعها، هذا كذا، وهو يصلح لكذا. وقال الطبري: علمه أسماء الملائكة وذريته، واختار هذا ورجحه بقوله: « ثم عرضهم على الملائكة » قال ابن زيد: علمه أسماء ذريته، كلهم. الربيع ابن خثيم: أسماء الملائكة خاصة. القتبي: أسماء ما خلق في الأرض. وقيل: أسماء الأجناس والأنواع.

قلت: القول الأول أصح، لما ذكرناه آنفا ولما نبينه إن شاء الله تعالى.

 

واختلف المتأولون أيضا هل عرض على الملائكة أسماء الأشخاص أو الأسماء دون الأشخاص، فقال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص لقوله تعالى: « عرضهم » وقوله: « أنبئوني بأسماء هؤلاء » . وتقول العرب: عرضت الشيء فأعرض، أي أظهرته فظهر. ومنه: عرضت الشيء للبيع. وفي الحديث ( إنه عرضهم أمثال الذر ) . وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء وفي حرف ابن مسعود: « عرضهن » ، فأعاد على الأسماء دون الأشخاص، لأن الهاء والنون أخص بالمؤنث. وفي حرف أبي: « عرضها » . مجاهد: أصحاب الأسماء. فمن قال في الأسماء إنها التسميات فاستقام على قراءة أبي « عرضها » . وتقول في قراءة من قرأ « عرضهم » : إن لفظ الأسماء يدل على أشخاص، فلذلك ساغ أن يقال للأسماء: « عرضهم » . وقال في « هؤلاء » المراد بالإشارة: إلى أشخاص الأسماء، لكن وإن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها. قال ابن عطية: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرضهن عليه مع تلك الأجناس بأشخاصها، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها، ثم إن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا. وقال الماوردي: وكان الأصح توجه العرض إلى المسمين. ثم في زمن عرضهم قولان: أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم. الثاني - أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم.

 

واختلف في أول من تكلم باللسان العربي، فروي عن كعب الأحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها بالألسنة كلها آدم عليه السلام. وقاله غير كعب الأحبار.

فإن قيل: قد روي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال: أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام، ورواه ثور ابن زيد عن خالد بن معدان عن كعب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين ) . وقد روي أيضا: أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقد روي غير ذلك. قلنا: الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له، قال الله تعالى: « وعلم آدم الأسماء كلها » [ البقرة: 31 ] واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة، قال صلى الله عليه وسلم: ( وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقصيعة ) وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام. وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا، والله أعلم. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « هؤلاء » لفظ مبني على الكسر. ولغة تميم وبعض قيس وأسد فيه القصر، قال الأعشى:

هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيـ ـت نعالا محذوة بمثال

ومن العرب من يقول: هولاء، فيحذف الألف والهمزة.

 

قوله تعالى: « إن كنتم صادقين » شرط، والجواب محذوف تقديره: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني، قاله المبرد. ومعنى « صادقين » عالمين، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: « سبحانك » ! حكاه النقاش قال: ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: « كم لبثت » فلم يشترط عليه الإصابة، فقال ولم يصب ولم يعنف، وهذا بين لا خفاء فيه. وحكى الطبري وأبو عبيد: أن بعض المفسرين قال إن معنى « إن كنتم » : إذ كنتم، وقالا: هذا خطأ. و « أنبئوني » معناه أخبروني. والنبأ: الخبر، ومنه النبيء بالهمزة، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

قال بعض العلماء: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون. وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف. وسيأتي القول في تكليف ما لا يطاق - هل وقع التكليف به أم لا - في آخر السورة، إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 32 ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )

 

قوله تعالى: « سبحانك » أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك. وهذا جوابهم عن قوله: « أنبئوني » فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا. و « ما » في « ما علمتنا » بمعنى الذي، أي إلا الذي علمتنا، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا.

 

الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون. وأما ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي البقاع شر؟ قال: ( لا أدري حتى أسأل جبريل ) فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق. وقال الصديق للجدة: ارجعي حتى أسأل الناس. وكان علي يقول: وأبردها على الكبد، ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به! ذكره الدارمي في مسنده. وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيدالله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج؟ فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى: ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه. وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.

قلت: ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم. قال ابن عبدالبر: من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم. روى يونس بن عبدالأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.

قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام! وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى. أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت: ما ذلك لك! قال: ولم؟ قالت لأن الله عز وجل يقول: « وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا » [ النساء: 20 ] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ! وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم. وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار ) فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد - فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلت. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نمرة. فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف. وقال يزيد بن الوليد بن عبدالملك فأحسن:

إذا ما تحدثت في مجلس تناهى حديثي إلى ما علمت

ولم أعد علمي إلى غيره وكان إذا ما تناهى سكت

 

قوله تعالى: « سبحانك » ( سبحان ) منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا. وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف. و « العليم » فعيل للمبالغة والتكبير في المعلومات في خلق الله تعالى. و « الحكيم » معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن الأنباري. وقال قوم: الحكيم المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد. قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

أي امنعوهم من الفساد. وقال زهير:

القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا

القد: الجلد. والأبق: القنب. والعرب تقول: أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه. والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل. ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد. فهو محكم وحكيم على التكثير.

 

الآية: 33 ( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون )

 

قوله تعالى: « أنبئهم بأسمائهم » أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم.

في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله، وفي الحديث: ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ) أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله، ورضا منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم.

 

اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل. احتج من فضل الملائكة بأنهم « عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون » [ الأنبياء: 27 ] « لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » [ التحريم: 6 ] . وقوله: « لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون » [ النساء: 172 ] وقوله: « قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك » [ الأنعام: 50 ] . وفي البخاري: ( يقول الله عز وجل: « من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ) . وهذا نص. احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: » إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة « [ الأنعام: 50 ] بالهمز، من برأ الله الخلق. وقوله عليه السلام: ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم ) الحديث. أخرجه أبو داود، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، والله أعلم. وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ههنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة. ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى، لأن السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد، وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا. »

 

قوله تعالى: « إني أعلم غيب السماوات والأرض » دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في « الأنعام » إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » 0

 

قوله تعالى: « وأعلم ما تبدون » أي من قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » حكاه مكي والماوردي. وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم. « وما كنتم تكتمون » قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية: وجاء « تكتمون » للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: « إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون » [ الحجرات: 4 ] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع. وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شيء، قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه. و « ما » في قوله: « ما تبدون » يجوز أن ينتصب بـ « أعلم » على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به « ما » فيكون مثل حواج بيت الله، وقد تقدم.

 

الآية: 34 ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين )

 

قوله تعالى: « وإذ قلنا » أي واذكر. وأما قول أبي عبيدة: إن « إذ » زائدة فليس بجائز، لأن إذ ظرف. وقال: « قلنا » ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره. والملائكة جمع ملك، وروي عن ابن جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعا لضم الجيم في « اسجدوا » . ونظيره « الحمد لله » . 0

 

قوله تعالى: « اسجدوا » السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر:

يجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

الأكم: الجبال الصغار. جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل. والإسجاد: إدامة النظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال:

فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها

قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:

وقلن له أسجد لليلى فأسجدا

يعني البعير إذا طأطأ رأسه. ودراهم الإسجاد: دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال:

وافى بها كدراهم الإسجاد

 

استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة: « اسجدوا لآدم » . قالوا: وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى « اسجدوا لآدم » اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] أي عند دلوك الشمس وكقوله: « ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين » [ ص: 72 ] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة.

فإن قيل: فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » لما قال لهم: « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: « إني خالق بشرا من طين » [ ص: 71 ] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل: فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: « لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون » [ الحجر: 72 ] . وأمنه من العذاب بقوله: « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] . وقال للملائكة: « و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم » [ الأنبياء: 29 ] . قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل: لعمري. وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه: « ومن يقل منهم إني إله من دونه » [ الأنبياء: 29 ] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام: « لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » [ الزمر: 65 ] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم.

 

واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا. ومعنى « لآدم » : إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة. وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل. « فسجدوا » أي امتثلوا ما أمروا به.

واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى: « ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا » [ يوسف: 100 ] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: ( لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين ) . روى ابن ماجة في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما هذا ) فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: ( فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ) . لفظ البستي. ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة. وفي بعض طرق معاذ: ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة.

قلت: وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم.

 

قوله: « إلا إبليس » نصب على الاستثناء المتصل، لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد. روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وحكى الماوردي عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال سعيد بن جبير: إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور. وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا، وروى نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: « ما لهم به من علم إلا اتباع الظن » [ النساء: 175 ] وقوله: « إلا ما ذكيتم » [ المائدة: 3 ] في أحد القولين، وقال الشاعر:

ليس عليك عطش ولا جوع إلا الرقاد والرقاد ممنوع

واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال: « لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » [ التحريم: 6 ] ، وقوله تعالى: « إلا إبليس كان من الجن » [ الكهف: 50 ] والجن غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة. وقول من قال: إنه كان من جن الأرض فسبي، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل: « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا » [ الصافات: 158 ] ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام:

وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر

وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم. وإبليس وزنه إفعيل، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى. ولم ينصرف، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قال أبو عبيدة وغيره. وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره.

 

قوله تعالى: « أبى » معناه امتنع من فعل ما أمر به، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي راوية: يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ) . خرجه مسلم. يقال: أبي يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل: إن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى إسماعيل نحوا غير هذا الحرف.

 

قوله تعالى: « واستكبر » الاستكبار: الاستعظام، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ) . في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: ( إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) . أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ويروى: « وغمص » بالصاد المهملة، والمعنى واحد، يقال: غمصه يغمصه غمصا واغتمصه، أي استصغره ولم يره شيئا. وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها. وغمصت عليه قولا قاله، أي عبته عليه. وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: « أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين » [ ص: 76 ] . « أأسجد لمن خلقت طينا » [ الإسراء: 61 ] . « لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة. وقال قتادة: حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.

 

قوله تعالى: « وكان من الكافرين » قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى: « فكان من المغرقين » . وقال الشاعر:

بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

أي صارت. وقال ابن فورك. « كان » هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول. وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.

قلت: وهذا صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: ( وإنما الأعمال بالخواتيم ) . وقيل: إن إبليس عبدالله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطي المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال: أنا خير منه، ولذلك قال الله عز وجل: « ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين » [ ص: 75 ] أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي فلذلك قال: « وكان من الكافرين » . [ ص: 74 ] . وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال: « فبعزتك لأغوينهم أجمعين » [ ص: 82 ] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال: خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة.

 

قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - : ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله. قالوا: ولا نمنع أن يطلع بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره. وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.

 

واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء.

 

الآية: 35 ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )

 

قوله تعالى: « وقلنا يا آدم اسكن » لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا، وهو محل السكون. وسكن إليه يسكن سكونا. والسكن: النار، قال الشاعر:

قد قومت بسكن وأدهان

والسكن: كل ما سكن إليه. والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته. وسكان السفينة عربي، لأنه يسكنها عن الاضطراب.

 

في قوله تعالى: « اسكن » تنبيه على الخروج، لأن السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة.

قلت: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقول الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان. وكان الشعبي يقول: إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات. ونحو من السكنى العمرى، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى. وسيأتي الكلام في العمرى في « هود » إن شاء الله تعالى. قال الحربي: سمعت ابن الإعرابي يقول: لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعرية والسكنى والإطراق. وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط.

والعمرى: هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره. ومثله الرقبى: وهو أن يقول: إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك، وهي من المراقبة. والمراقبة: أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها، فأجازها أبو يوسف والشافعي، وكأنها وصية عندهم. ومنعها مالك والكوفيون، لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه. وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجة في سننه، الأول رواه جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ) ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم. الثاني رواه ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته ) . قال: والرقبى أن يقول هو للآخر: مني ومنك موتا. فقوله: ( لا رقبى ) نهي يدل على المنع، وقوله: ( من أرقب شيئا فهو له ) يدل على الجواز، وأخرجهما أيضا النسائي. وذكر عن ابن عباس قال: العمرى والرقبى سواء. وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ) . فقد صحح الحديث ابن المنذر، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء. وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا، وبه قال إسحاق. وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث. والإفقار مأخوذ من فقار الظهر. أفقرتك ناقتي: أعرتك فقارها لتركبها. وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه. ومثله الإخبال، يقال: أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه، قال زهير:

هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

والمنحة: العطية. والمنحة: منحة اللبن. والمنيحة: الناقه أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ) . رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما، وهو صحيح. والإطراق: إعارة الفحل، استطرق فلان فلانا فحله: إذا طلبه ليضرب في إبله، فأطرقه إياه، ويقال: أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي. وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها. وطروقة الفحل: أنثاه، يقال: ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل.

 

قوله تعالى: « أنت وزوجك » « أنت » تأكيد للمضمر الذي في الفعل، ومثله « فاذهب أنت وربك » . ولا يجوز اسكن وزوجك، ولا اذهب وربك، إلا في ضرورة الشعر، كما قال:

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا

ف « زهر » معطوف على المضمر في « أقبلت » ولم يؤكد ذلك المضمر. ويجوز في غير القرآن على بعد: قم وزيد.

 

قوله تعالى: « وزوجك » لغة القرآن « زوج » بغير هاء، وقد جاء في صحيح مسلم: « زوجة » حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال: ( يا فلان هذه زوجتي فلانة ) : فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) . وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له: من هذه؟ قال: امرأة قيل: وما اسمها؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه. قالوا: فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء. وقال ابن مسعود وابن عباس: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وهو معنى قوله تعالى: « هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها » [ الزمر: 6 ] . قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية: وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) . وقال الشاعر:

هي الضلع العوجاء ليست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال في اللحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء. فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « الجنة » الجنة: البستان، وقد تقدم القول فيها. ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن. واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول: « لا لغو فيها ولا تأثيم » [ الطور: 23 ] وقال « لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا » [ النبأ: 35 ] وقال: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما » [ الواقعة: 25 ] . وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: « وما هم منها بمخرجين » [ الحجر: 48 ] . وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها. وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى؟ فالجواب: أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام، ومن قال: أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا. وأما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم. وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي.

 

قوله تعالى: « وكلا منها رغدا حيث شئتما » قراءة الجمهور « رغدا » بفتح الغين. وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها. والرغد: العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه، قال:

بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد

ويقال: رغد عيشهم ورغد ( بضم الغين وكسرها ) . وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، وحيثُ وحيثَ وحيثِ، وحوثَ وحوثِ وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره.

قوله تعالى « وكلا منها رغدا » حذفت النون من « كلا » لأنه أمر، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وحذفها شاذ. قال سيبويه: من العرب من يقول أأكل، فيتم. يقال منه: أكلت الطعام أكلا ومأكلا. والأكلة ( بالفتح ) : المرة الواحدة حتى تشبع. والأكلة ( بالضم ) : اللقمة، تقول: أكلت أكلة واحدة، أي لقمة، وهي القرصة أيضا. وهذا الشيء أكلة لك، أي طعمة لك. والأكل أيضا ما أكل. ويقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع. « رغدا » نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. وقال مجاهد: « رغدا » أي لا حساب عليهم. والرغد في اللغة. الكثير الذي لا يعنيك، ويقال: أرغد القوم، إذا وقعوا في خصب وسعة. وقد تقدم هذا المعنى. « حيث » مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت. قال الكسائي: لغة قيس وكنانة الضم، ولغة تميم الفتح. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض، وينصبونها في موضع النصب، قال الله تعالى: « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون » [ الأعراف: 182 ] وتضم وتفتح. « ولا تقربا هذه الشجرة » الهاء من « هذه » بدل من ياء الأصل، لأن الأصل هذي. قال النحاس: ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء « هذه » ومن العرب من يقول: هاتا هند، ومنهم من يقول: هاتي هند. وحكى سيبويه: هذه هند، بإسكان الهاء. وحكى الكسائي عن العرب: ولا تقربا هذي الشجرة. وعن شبل ابن عباد قال: كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في « هذه » في جميع القرآن. وقراءة الجماعة « رغدا » بفتح الغين. وروي عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكّنا الغين. وحكى سلمة عن الفراء قال يقال: هذه فعلت وهذي فعلت، بإثبات ياء بعد الذال. وهذِ فعلت، بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء. وتا فعلت. قال هشام ويقال: تا فعلت. وأنشد:

خليلي لولا ساكن الدار لم أقم بتا الدار إلا عابر ابن سبيل

قال ابن الأنباري: وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي، وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه. وقد قال الفراء: من قال هذ قامت لا يسقط ها، لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة.

 

قوله تعالى: « ولا تقربا هذه الشجرة » أي لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت. قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النضر [ بن شميل ] يقول: إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان ( بضم الراء ) فإن معناه لا تدن منه. وفي الصحاح: قرب الشيء يقرب قربا أي دنا. وقربته ( بالكسر ) أقربه قربانا أي دنوت منه. وقربت أقرب قرابة - مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب. قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما القرب؟ فقال: سير الليل لورد الغد. وقال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب. قال ابن عطية: وهذا مثال بين في سد الذرائع. وقال بعض أرباب المعاني قوله: « ولا تقربا » إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه فيها لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى. والدليل على هذا قوله تعالى « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] فدل على خروجه منها.

 

قوله تعالى: « هذه الشجرة » الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير، كقولك: مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة. وقرأ ابن محيصن: « هذي الشجرة » بالياء وهو الأصل، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها، وذلك لأن أصلها الياء.

والشجرة والشجرة والشيرة، ثلاث لغات وقرئ « الشجرة » بكسر الشين. والشَجرة والشِجرة: ما كان على ساق من نبات الأرض. وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار، وواد شجير، ولا يقال: واد أشجر. وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء. وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء: حلفة، بكسر اللام مخالفة لأخواتها. وقال سيبويه: الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء. والمشجرة: موضع الأشجار. وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا، قال الجوهري.

 

التاسعة: واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة: هي السنبلة، والحبة منها ككلى البقر، أحلى من العسل وألين من الزبد، قاله وهب بن منبه. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التين، وكذا روى سعيد عن قتادة، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها، ذكره السهيلي. قال ابن عطية: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها. وقال القشيري أبو نصر: وكان الإمام والدي رحمه الله يقول: يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة.

 

واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: « فتكونا من الظالمين » ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر قال ابن العربي: وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول. قال: « وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث. وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث فيه. وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى.»

وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين، قال في الكتاب: يحنث، لأنها هكذا تؤكل. وقال ابن المواز: لا شيء عليه، لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة. ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف. قال آخرون: تأولا النهي على الندب. قال ابن العربي: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك ههنا، لقوله: « فتكونا من الظالمين » [ البقرة: 35 ] فقرن النهي بالوعيد، وكذلك قوله سبحانه: « فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى » [ طه: 117 ] . وقال ابن المسيب: إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله. وكذلك قال يزيد بن قسيط، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل. قال ابن العربي: وهذا فاسد نقلا وعقلا، أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال: « لا فيها غول » . وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.

قلت: قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى: « فلما أنبأهم بأسمائهم » [ البقرة: 33 ] فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز. وقيل: أكلها ناسيا، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد.

قلت: وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما » [ طه: 115 ] . ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا، أي مخالفا. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى: « ولم نجد له عزما » .

قلت: قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم. وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا. وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء. والله أعلم.

قلت: والقول الأول أيضا حسن، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال: ( هذان حرامان على ذكور أمتي ) . وقال في خبر آخر: ( هذان مهلكان أمتي ) . وإنما أراد الجنس لا العين.

 

يقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبا - « حبك الشيء يعمي ويصم » - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد، فألح على حواء وألحت حواء على آدم، إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت، فأكلت فلم يضرها، فأتت آدم فقالت: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، لقول الله تعالى: « ولا تقربا هذه الشجرة » فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا، وخفيت على آدم هذه المسألة، ولهذا قال بعض العلماء: إن من قال لزوجتيه أو أمتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان، إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما. وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ. وقاله سحنون. وقال ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما، لأن بعض الحنث حنث، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه بحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما. وقال أشهب: تعتق وتطلق التي دخلت وحدها، لأن دخول كل واحدة منهما شرطا في طلاقها أو عتقها. قال ابن العربي: وهذا بعيد، لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا.

قلت: الصحيح الأول، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما، لأنك إذا قلت: لا تدخلا الدار، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما، لأن قول الله تعالى « ولا تقربا هذه الشجرة » [ البقرة: 35 ] نهي لهما « فتكونا من الظالمين » [ البقرة: 35 ] جوابه، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا، فلما أكلت لم يصبها شيء، لأن المنهي عنه ما وجد كاملا. وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » [ طه: 115 ] وقيل: نسي قوله: « إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى » [ طه: 115 ] . والله أعلم.

 

واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا - بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رزيلة فيها شين ونقص إجماعا عند القاضي أبي بكر، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم. خلافا للرافضة حيث قالوا: إنهم معصومون من جميع ذلك، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث، وهذا ظاهر لا خفاء فيه. وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين. قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: واختلفوا في الصغائر، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم، وصار بعضهم إلى تجويزها، ولا أصل لهذه المقالة. وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول: الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك أحادها، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات، [ بالنسبة ] إلى مناصبهم وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليهم وسلامه.

 

قوله تعالى: « فتكونا من الظالمين » ( فتكونا ) عطف على « تقربا » فلذلك حذفت النون. وزعم الجرمي أن الفاء هي الناصبة، وكلاهما جائز.

الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. والأرض المظلومة: التي لم تحفر قط ثم حفرت. قال النابغة:

وقفت فيها أصيلا لا وأسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤيَ كالحوض بالمظلومة الجلد

ويسمى ذلك التراب الظليم. قال الشاعر:

فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمها

وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم، ومنه:.. ظلامون للجزر

ويقال: سقانا ظليمة طيبة، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه. وقد ظلم وطبه، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده. واللبن مظلوم وظليم. قال:

وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم

ورجل ظليم: شديد الظلم. والظلم: الشرك، قال الله تعالى: « إن الشرك لظلم عظيم » . [ لقمان: 13 ]

 

الآية: 36 ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين )

 

قوله تعالى: « فأزلهما الشيطان عنها » قرأ الجماعة « فأزلهما » بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقهما فيها. وقرأ حمزة « فأزالهما » بألف، من التنحية، أي نحاهما. يقال: أزلته فزال. قال ابن كيسان: فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.

قلت: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزللته فزل. ودل على هذا قوله تعالى: « إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا » [ آل عمران: 155 ] ، وقوله: « فوسوس لهما الشيطان » والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته [ على ] إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال. قال امرؤ القيس:

يزل الغلام الخف عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل

وقال أيضا:

كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

 

قوله تعالى: « فأخرجهما مما كانا فيه » إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: « فأخرجهما » تأكيد وبيان للزوال، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض، لأنهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس - لعنه الله - إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن. قال الله جل ثناؤه: « ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى » [ طه: 122 ] فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، فكم بين الخليفة والجار صلى الله عليه وسلم. ونسب ذلك إلى إبليس، لأنه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: « وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين » والمقاسمة ظاهرها المشافهة. وقال بعضهم، وذكره عبدالرزاق عن وهب بن منبه،: دخل الجنة في فم الحية وهى ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها. ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: أين أنت؟ فقال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال أستحي منك يا رب، قال: أهبط إلى الأرض التي خلقت منها. ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، على ما يأتي بيانه. وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) . والله أعلم. وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من ورقه فاستتر به، فبلي بالعري دون الشجر. والله أعلم. وقيل: إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا.

 

يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب، وقيل لها: أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك. روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس يقتلهن المحرم ) فذكر الحية فيهن. وروى أن إبليس قال لها: أدخليني الجنة وأنت في ذمتي، فكان ابن عباس يقول: أخفروا ذمة إبليس. وروت ساكنه بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اقتلوا ) الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا ) . قال علماؤنا: وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده، فذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا ) . أخرجه مسلم وغيره.

 

روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اقتلوها ) فسبقتنا إلى حجر فدخلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا ) . قال علماؤنا: وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى، قالوا: فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر.

فإن قيل: قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثلة. قيل له: يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل على الأثر الذي جاء: ( لا تعذبوا بعذاب الله ) فكان على هذا سبيل العمل عنده.

فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبدالله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه: « والمرسلات عرفا » [ المرسلات: 1 ] فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: ( اقتلوها ) ، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وقاها الله شركم كما وقاكم شرها ) . فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها. قيل له: يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها، أو لم يكن الحجر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان. والله أعلم. وقوله: ( وقاها الله شركم ) أي قتلكم إياها ( كما وقاكم شرها ) أي لسعها.

 

الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، لقوله: ( اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل ) . فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما. وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الأمر العام، ولأن نوع الحيات غالبه الضرر، فيستصحب ذلك فيه، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية ) . فشجع على قتلها. وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعا: ( اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني ) . والله أعلم.

 

ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام، لقوله عليه السلام: ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ) . وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها، قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا، قاله ابن نافع. وقال مالك: نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. وهو الصحيح، لأن الله عز وجل قال: « وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن » [ الأحقاف: 29 ] الآية. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن ) وفيه: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، الحديث. وسيأتي بكماله في سورة « الجن » إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست انتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة ) . فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا، الحية أم الفتى قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: ( استغفروا لأخيكم - ثم قال: - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان ) . وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر - وقال لهم: - اذهبوا فادفنوا صاحبكم ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا، لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة، إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا:

قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده

ورميناه بسهمي ن فلم نخط فؤاده

وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم. روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها: لقد قتلت مسلما، فقالت: لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة، فتصدقت وأعتقت رقابا. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي، وعن علقمة نحوه.

 

في صفة الإنذار، قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار، وإن ظهر في اليوم مرارا. ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل: يكفي ثلاث مرار، لقوله عليه السلام: ( فليؤذنه ثلاثا ) ، وقوله: ( حرجوا عليه ثلاثا ) ولأن ثلاثا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى، لقوله عليه السلام: ( ثلاثة أيام ) . وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه.

قلت: وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الإذن مرة واحدة، والحديث يرده. والله أعلم. وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: ( أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان - عليه السلام - ألا تؤذينا وألا تظهرن علينا ) 0

 

روى جبير عن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون ) . وروى أبو الدرداء - واسمه عويمر - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ) .

 

ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يقتل ابتداء، لأجل إذايته من غير خلاف، كالحية والعقرب والفأر والوزغ، وشبهه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم... ) . وذكر الحديث.

فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به. وقال لها إبليس أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال: ( اقتلوها ولو كنتم في الصلاة ) يعني الحية والعقرب. والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت. وهذا من نوع ما يروى في الحية. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قتل وزغة فكأنما قتل كافرا ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك ) وفي راوية أنه قال: ( في أول ضربة سبعون حسنة ) . والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها. وروى عبدالرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة ) . واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها. والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة. هذا كله في معنى الحية، فلذلك ذكرناه. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في « المائدة » وغيرها إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى « وقلنا اهبطوا » حذفت الألف من « اهبطوا » في اللفظ لأنها ألف وصل. وحذفت الألف من « قلنا » في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها. وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في « اهبطوا » ، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل. والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان، في قول ابن عباس. وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة. وقال مجاهد والحسن أيضا: بنو آدم وبنو إبليس. والهبوط: النزول من فوق إلى أسفل، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له « بوذ » ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع، فأورث ولده الصلع. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ) الحديث. وأخرجه مسلم وسيأتي. وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة، والحية ببيسان، وقيل: بسجستان. وسجستان أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لأخليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي.

 

قوله تعالى « بعضكم لبعض عدو » « بعضكم » مبتدأ، « عدو » خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم. وحذفت الواو من و « بعضكم » لأن في الكلام عائدا، كما يقال: رأيتك السماء تمطر عليك. والعدو: خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم. وذئب عدوان: يعدو على الناس. والعدوان: الظلم الصراح. وقيل: هو مأخوذ من المجاوزة، من قولك: لا يعدوك هذا الأمر، أي لا يتجاوزك. وعداه إذا جاوزه، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز.

قلت: وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: « بعضكم لبعض عدو » [ البقرة: 36 ] على الإنسان نفسه، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى. يدل عليه قوله عليه السلام: ( إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ) . فإن قيل: كيف قال « عدو » ولم يقل أعداء، ففيه جوابان أحدهما: أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى، وذلك في القرآن، قال الله تعالى: « وكلهم آتيه يوم القيامة فردا » [ مريم: 95 ] على اللفظ، وقال تعالى: « وكل أتوه داخرين » [ النمل: 87 ] على المعنى. والجواب الآخر: أن عدوا يفرد في موضع الجمع، قال الله عز وجل: « وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا » [ الكهف: 50 ] بمعنى أعداء، وقال تعالى: « يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو » [ المنافقون: 4 ] . وقال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث، وقد يجمع.

 

لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال « إني جاعل في الأرض خليفة » وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقول ثانية « قلنا أهبطوا » وسيأتي.

 

قوله تعالى: « ولكم في الأرض مستقر » ابتداء وخبر، أي موضع استقرار. قاله أبو العالية وابن زيد. وقال السدي: « مستقر » يعني القبور. قلت: وقول الله تعالى: « جعل لكم الأرض قرارا » [ النمل: 61 ] يحتمل المعنيين. والله أعلم. قوله تعالى: « ومتاع » المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها وأنشد سليمان بن عبدالملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه:

وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق

 

قوله تعالى: « إلى حين » اختلف المتأولون في الحين على أقوال، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا وقيل إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول المستقر هو القبور وقال الربيع « إلى حين » إلى أجل والحين الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد :

كأبي الرماد عظيم القدر جفنته حين الشتاء كحوض المنهل اللقف

لقف الحوض لقفا، أي تهور من أسفله واتسع. وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة:

العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم

والحين أيضا: المدة ومنه قوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] والحين الساعة قال الله تعالى « أو تقول حين ترى العذاب » [ الزمر: 58 ] قال ابن عرفة الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها وقوله « فذرهم في غمرتهم حتى حين » [ المؤمنون: 54 ] أي حتى تفنى آجالهم وقوله تعالى « تؤتي أكلها كل حين » [ إبراهيم: 25 ] أي كل سنة وقيل بل كل ستة أشهر وقيل بل غدوة وعشيا قال الأزهري الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت. والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة قال والحين يوم القيامة. والحين الغدوة والعشية قال الله تعالى « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » [ الروم: 17 ] ويقال عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا وحان حين كذا أي قرب. قالت بثينة:

وإن سُلُوّي عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها

 

لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم في فقال الفراء الحين حينان حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه « تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها » [ إبراهيم: 25 ] ستة أشهر: قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة. ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة والشافعي يرى الأقل وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر. ولا معنى لقوله لأن المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر. وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أولا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أولا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه.

قلت هذا الاتفاق إنما هو في المذهب. قال مالك رحمه الله: من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة. وقال عنه ابن وهب: إنه شك في الدهر أن يكون سنة. وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن أن الدهر ستة أشهر. وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى « تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها » [ إبراهيم: 25 ] أنه ستة أشهر وقال الأوزاعي وأبو عبيدالحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا وقال لا نحنثه أبدا، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم قال الكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين وقال بعض العلماء في قوله تعالى « إلى حين » قائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم.

 

الآية: 37 ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم )

 

قوله تعالى « فتلقى آدم من ربه كلمات » تلقى قيل معناه فهم وفطن. وقيل: قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه. تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم. وقيل معنى تلقى تلقن هذا في المعنى صحيح ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الأصل لأن أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا، مثل تظنوا من تظنن وتقصى من تقصص ومثله تسريت من تسررت، وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال: تقبل من تقبل ولا تلقى من تلقن فاعلم. وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها. وقال الحسن قبولها تعلمه لها وعمله بها

 

واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله « ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين » [ الأعراف: 23 ] وعن مجاهد أيضا: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم: وقالت طائفة رأى مكتوبا على ساق العرش « محمد رسول الله » فتشفع بذلك، فهي الكلمات. وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء وقيل: الندم والاستغفار والحزن. قال ابن عطية: وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود. وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقول المذنب فقال يقول ما قاله أبواه « ربنا ظلمنا أنفسنا » الآية وقال موسى « رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي » [ القصص: 16 ] وقال يونس « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » [ الأنبياء: 87 ] وعن ابن عباس ووهب بن منبه: أن الكلمات « سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي اغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم » وقال محمد بن كعب هي قوله: « لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين » وقيل: الكلمات قوله حين عطس « الحمد لله » والكلمات: جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير وقد تقدم:

 

قوله تعالى: « فتاب عليه » أي قبل توبته، أو وفقه للتوبة. وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وتاب العبد: رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب: كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال: تاب وثاب وأب وأناب: رجع.

 

إن قيل: لم قال « عليه » لم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال « ولا تقربا هذه الشجرة » [ البقرة: 35 ] و « قالا ربنا ظلمنا أنفسنا » [ الأعراف: 23 ] فالجواب: أن آدم عليه السلام لما خاطب في أول القصة بقوله « اسكن » خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله « وعصى آدم ربه فغوى » [ طه: 121 ] وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله « ألم أقل لك » [ الكهف: 75 ] وقيل: إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء، قاله الحسن. وقيل: إنه مثل قوله تعالى « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » [ الجمعة: 11 ] أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب. وقال الشاعر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن فوق الطوي رماني

وفي التنزيل « والله ورسوله أحق أن يرضوه » [ التوبة: 62 ] فحذف إيجازا واختصارا

 

قوله تعالى: « إنه هو التواب الرحيم » وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا، وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » [ البقرة: 222 ] . قال ابن العربي: ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال أحدها: أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول وقال آخرون: هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة وقال آخرون: توبة الله على العبد قبوله توبته، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة.

 

لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب اسم فاعل من تاب يتوب لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين، وإن كان في اللغة محتملا جائزا. هذا هو الصحيح في هذا الباب على ما بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) قال الله تعالى « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار » [ التوبة: 117 ] وقال: « وهو الذي يقبل التوبة عن عباده » [ التوبة: 104 ] وإنما قيل لله عز وجل تواب، لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.

 

اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة، لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال، خلافا للمعتزلة ومن قال بقولهم. وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه قال علماؤنا: وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله » [ التوبة: 31 ] جل وعز، وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه « افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين » [ الأنعام: 140 ]

 

قرأ ابن كثير « فتلقى آدم من ربه كلمات » والباقون برفع « آدم » ونصب « كلمات » والقراءتان ترجعان إلى معنى، لأن آدم إذا تلقي الكلمات فقد تلقته. وقيل لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعله وكأن الأصل على هذه القراءة « فتلقت آدم من ربه كلمات » ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث. وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام إذ ا جاء فعل المؤنث بغير علامة ومنه قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. وقيل: إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر. وقرأ الأعمش « آدم من ربه » مدغما. وقرأ أبو نوفل بن أبي عقرب « أنه » بفتح الهمزة على معنى لأنه وكسر الباقون على الاستئناف. وأدغم الهاء في الهاء عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم وقيل لا يجوز لأن بينهما واوا في اللفظ لا في الخط. قال النحاس أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد:

له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير

فعلى هذا يجوز الإدغام وهو رفع بالابتداء « التواب » خبره والجملة خبر « إن » ويجوز أن يكون « هو » توكيدا للهاء ويجوز أن تكون فاصلة، على ما تقدم.

وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشى على رجليه ويبطش بيديه فقال الحوت: لئن كنت صادقا لي منه في البحر منجى ولا لك في البر منه مخلص.

 

الآية: 38 ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

قوله تعالى: « قلنا اهبطوا » كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده، كما تقول لرجل: قم قم. وقيل: كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى. وقيل: الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي

 

« جميعا » نصب على الحال وقال وهب بن منبه: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقى معه ومع أولاده وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في « الأعراف » إن شاء الله تعالى ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه

 

قوله تعالى: « فإما يأتينكم مني هدى » اختلف في معنى قوله « هدى » فقيل: كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية، وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر وخرجه الآجري وفي قوله « مني » إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم. وقرأ الجحدري « هديّ » وهو لغة هذيل يقولون: هدي وعصي ومحيي وأنشد النحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه

سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع

قال النحاس: وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت و « ما » في قوله « إما » زائدة على « إن » التي للشرط وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله « فمن تبع » و « من » في موضع رفع بالابتداء و « تبع » في موضع جزم بالشرط « فلا خوف » جوابه قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول وقال الكسائي « فلا خوف عليهم » جواب الشرطين جميعا

 

قوله تعالى: « فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون » الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى « أو يأخذهم على تخوف » [ النحل: 47 ] وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب « فلا خوف » بفتح الفاء على التبرئة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن « لا » لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون « لا » في قولك فلا خوف بمعنى ليس.

والحُزن والحَزَن ضد السرور ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرجل ( بالكسر ) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بني عليه. قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزن بمعنىً، والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم.

 

الآية: 39 ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « والذين كفروا » أي أشركوا، لقوله: « وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار » الصحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما في زمان ما فإن كانت الملازمة والخلطة فهي كمال الصحبة وهكذا هي صحبة أهل النار لها. وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة على ما نبينه في « براءة » إن شاء الله. وباقي ألفاظ الآية تقدم معناها والحمد لله.

 

الآية: 40 ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون )

 

قوله تعالى: « يا بني إسرائيل » نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة. الواحد ابن والأصل فيه بني وقيل بنو فمن قال المحذوف منه واو احتج بقولهم البنوة وهذا لا حجة فيه لأنهم قد قالوا الفتوة وأصله الياء. وقال الزجاج: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت. الأخفش اختار أن يكون المحذوف منه الواو لأن حذفها أكثر لثقلها ويقال ابن بين البنوة والتصغير بني. قال الفراء يقال يا بنيِّ ويا بنيَّ لغتان، مثل يا أبت ويا أبت وقرئ بهما وهو مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع للأب وهو موضوع عليه. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال أبو الفرج الجوزي وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة ذكره في كتاب « فهوم الآثار » له

قلت: وقد قيل في المسيح أنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق وقد سماه الله روحا وكلمة، وكانوا يسمونه أبيل الأبيلين، ذكره الجوهري في الصحاح. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم.

قلت: ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة بيانها في مواضعها. وإسرائيل: اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالإضافة وفيه سبع لغات إسرائيل وهي لغة القرآن وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ عن ورش وإسراييل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن والزهري بغير همز ولا مد وإسرائِل بغير ياء بهمزة مكسورة، وإسراءَل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون إسرائين بالنون. ومعنى إسرائيل عبدالله قال ابن عباس: إسرا بالعبرانية هو عبد وإيل هو الله، وقيل إسرا هو صفوة الله وإيل هو الله وقيل إسرا من الشد فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه، ذكره المهدوي. وقال السهيلي: سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله، ونحو هذا فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب والله أعلم.

 

قوله تعالى: « اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الإنصات وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا واجعله منك على ذكر ( بضم الذال ) أي لا تنسه. قال الكسائي: ما كان بالضمير فهو مضموم الذال وما كان باللسان فهو مكسور الذال. وقال غيره هما لغتان يقال ذِكر وذُكر، ومعناهما واحد والذكر ( بفتح الذال ) خلاف الأنثى، والذكر أيضا الشرف ومنه قوله « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف 44 ] قال ابن الأنباري والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة. وقيل إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن. والنعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع قال الله تعالى « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » [ إبراهيم: 34 ] أي نعمه ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم في الحجر الماء إلى ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم.

تنبيه: قال أرباب المعاني ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره فقال « اذكروني أذكركم » [ البقرة: 152 ] ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة.

 

قوله تعالى: « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » أمر وجوابه. وقرأ الزهري « أوَفِّ » ( بفتح الواو وشد الفاء ) للتكثير. واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن: عهده قوله: « خذوا ما آتيناكم بقوة » [ البقرة: 63 ] وقوله « ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا » [ المائدة: 12 ] وقيل هو قوله « وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه » [ آل عمران: 187 ] وقال الزجاج « أوفوا بعهدي » الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم « أوف بعهدكم » بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة وقيل « أوفوا بعهدي » في أداء الفرائض على السنة والإخلاص « أوف » بقبولها منكم ومجازاتكم [ في النسخة: مجاراتكم ] عليها. وقال بعضهم « أوفوا بعهدي » في العبادات « أوف بعهدكم » أي أوصلكم إلى منازل الرعايات. وقيل « أوفوا بعهدي » في حفظ آداب الظواهر « أوف بعهدكم » بتزيين سرائركم وقيل هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره. هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح. وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة.

قلت: وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى « أوفوا بالعقود » [ المائدة: 1 ] « أوفوا بعهد الله » [ النحل: 91 ] ، وهو كثير ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له بل ذلك تفضل منه عليهم

 

قوله تعالى: « وإياي فارهبون » أي خافون والرهب والرهب والرهبة الخوف ويتضمن الأمر به معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية. وقرأ ابن أبي إسحاق « فارهبوني » بالياء وكذا « فاتقوني » على الأصل « وإياي » منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الأمر والنهي والاستفهام، التقدير: وإياي ارهبوا فارهبون. ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر وكون « فارهبون » الخبر على تقدير الحذف، المعنى وأنا ربكم فارهبون.

 

الآية: 41 ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون )

 

قوله تعالى: « وآمنوا بما أنزلت » أي صدقوا، يعني بالقرآن. « مصدقا » حال من الضمير في « أنزلت » ، التقدير بما أنزلته مصدقا، والعامل فيه أنزلت. ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير آمنوا بالقران مصدقا. ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال. « لما معكم » يعني من التوراة.

 

قوله تعالى: « ولا تكونوا أول كافر به » الضمير في « به » قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية. وقال ابن جريج: هو عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله « بما أنزلت » . وقيل: على التوراة، إذ تضمنها قوله: « لما معكم » فإن قيل كيف قال « كافر » ولم يقل كافرين قيل التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به وزعم الأخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لأن المعنى أول من كفر به. وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله وقال « أول كافر به » وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم علم. و « أول » عند سيبويه نصب على خبر كان وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل عينه وفاؤه واو وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين العين والفاء، وهذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: هو من وأل إذا نجا فأصله أوأل ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة، قال الجوهري: والجمع الأوائل والأوالي أيضا على القلب وقال قوم أصله وولِّ على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع وقيل هو أفعل من آل يؤول فأصله أأول قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم.

مسألة: لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب، وهم الكوفيون ومن وافقهم، لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا، وخص الأول بالذكر لأن التقدم فيه أغلظ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا، وهذا واضح.

 

قوله تعالى: « ولا تشتروا » معطوف على قوله « ولا تكونوا » نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشى. وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قال قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره. وقيل كانت لهم مأكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك وقيل إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك وفي كتبهم يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة، قاله أبو العالية وقيل المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له، فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا وقد تقدم هذا المعنى وقال الشاعر:

إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به فما أصبت بترك الحج من ثمن

قلت: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية والله أعلم وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) يعني ريحها

 

وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم - لهذه الآية وما كان في معناها فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام وقد قال تعالى « ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا » . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين. روى أبو هريرة قال قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين قال ( درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء ) وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها ) . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام حديث ابن عباس حديث الرقية ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ) أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه.

وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام فاسد لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن قال ابن المنذر وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم، فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة.

وأما الجواب عن الآية - فالمراد بها بنو إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا، فيه خلاف، وهو لا يقول به.

جواب ثان: وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته. وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك. وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن سلمة عن أبي جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضا وهو حديث لا أصل له. وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه، والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير هذا منها، قاله أبو عمر. ثم قال وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لأنه روي عن عبادة من وجهين، وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي، وهو منقطع. وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل لأنه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجرا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه، أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار )

 

واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة، فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، وهو أشد كراهة له في الفريضة. وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الأوزاعي لا صلاة له. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم: قال ابن عبدالبر وهذه المسألة معلقة من التي قبلها وأصلهما واحد.

قلت: ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في « براءة » إن شاء الله تعالى. وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو. وقال ابن حبيب لا بأس بالإجارة على تعليم ا لشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء، قال أبو الحسن اللخمي ويلزم على قوله أن يجيز الإجارة على كتبه. وأما الغناء والنوح فممنوع على كل حال.

 

روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمر بن الكميت قال حدثنا علي بن وهب الهمداني قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال مر سليمان بن عبدالملك بالمدينة وهو يريد مكة فأقام بها أياما فقال هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي قالوا له أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء قال أبو حازم يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت مني، قال أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني قال يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك. قال فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهري فقال أصاب الشيخ وأخطأت، قال سليمان يا أبا حازم ما لنا نكره الموت قال لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال أصبت يا أبا حازم فكيف القدوم غدا على الله تعالى، قال أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعري ما لنا عند الله قال اعرض عملك على كتاب الله قال وأي مكان أجده قال « إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم » [ الإنفطار: 13 - 14 ] قال سليمان فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم رحمة الله قريب من المحسنين قال له سليمان يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم؟ قال أولو المروءة والنهى قال له سليمان فأي الأعمال أفضل قال أبو حازم أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال سليمان: فأي الدعاء أسمع قال دعاء المحسن إليه للمحسن، فقال أي الصدقة أفضل قال للسائل البائس وجهد المقل ليس فيها منٌ ولا أذى قال: فأي القول أعدل قال: قول الحق عند من تخافه أو ترجوه قال فأي المؤمنين أكيس قال رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها، قال: فأي المؤمنين أحمق قال رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال له سليمان أصبت فما قولك فيما نحن فيه قال يا أمير المؤمنين أوتعفيني قال له سليمان لا ولكن نصيحة تلقيها إلي، قال يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوه وما قيل لهم فقال له رجل من جلسائه بئس ما قلت يا أبا حازم، قال أبو حازم كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينه للناس ولا يكتمونه قال له سليمان فكيف لنا أن نصلح قال: تدعون الصلف وتتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية قال له سليمان فكيف لنا بالمأخذ به قال أبو حازم تأخذه من حله وتضعه في أهله قال له سليمان هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك. قال أعوذ بالله قال له سليمان ولم ذاك قال أخشى أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات. قال له سليمان ارفع إلينا حوائجك قال تنجيني من النار وتدخلني الجنة قال له سليمان ليس ذاك إلي قال أبو حازم فما لي إليك حاجة غيرها قال فادع لي قال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى. قال له سليمان قط قال أبو حازم قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر. قال له سليمان أوصني قال سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير، قال: فردها عليه وكتب إليه يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلا وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي، إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسألهما فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل، فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وذلك أنه كان جائعا خائفا لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام هذا رجل جائع فقالت إحداهما اذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت « أجر ما سقيت لنا » ولم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعا مستوحشا فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجيزتها وكانت ذات عجز وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب اجلس يا شاب فتعشى فقال له موسى عليه السلام: أعوذ بالله فقال له شعيب لم؟ أما أنت جائع؟ قال: بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بملء الأرض ذهبا فقال له شعيب لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل فإن كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت فالميتة

قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء. انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضا ولا على وصيته بدلا ولا على نصيحته قصدا بل بين الحق وصدع ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول بالحق حيث كان ) وفي التنزيل « يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم » [ المائدة 54 ]

 

قوله تعالى: « وإياي فاتقون » قد تقدم معنى التقوى. وقرئ « فاتقوني » بالياء وقد تقدم وقال سهل بن عبدالله قوله « وإياي فاتقون » قال موضع علمي السابق فيكم. « وإياي فارهبون » قال موضع المكر والاستدراج لقول الله تعالى « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون » [ الأعراف: 182 ] « فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون » [ الأعراف: 99 ] فما استثنى نبيا ولا صديقاً

 

الآية 42 ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « ولا تلبسوا الحق بالباطل » اللبس: الخلط، لبست عليه الأمر ألبسه، إذا مزجت بينه بمشكله وحقه بباطله قال الله تعالى « وللبسنا عليهم ما يلبسون » [ الأنعام: 9 ] وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث ( إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله ) وقالت الخنساء:

ترى الجليس يقول الحق تحسبه رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا

صدق مقالته واحذر عداوته والبس عليه أمورا مثل ما لبسا

وقال العجاج:

لما لبسن الحق بالتجني غنين واستبدلن زيدا مني

روى سعيد عن قتادة في قوله: « ولا تلبسوا الحق بالباطل » [ البقرة: 42 ] ، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله - الذي لا يقبل غيره ولا يجزئ إلا به - الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله. والظاهر من قول عنترة:

وكتيبة لبستها بكتيبة

أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون من اللباس. وقد قيل هذا في معنى الآية، أي لا تغطوا. ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها. قال الجعدي

إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه فكانت لباسا

وقال الأخطل:

وقد لبست لهذا الأمر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا

واللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودرع، قال الله تعالى « وعلمناه صنعة لبوس لكم » [ الأنبياء: 80 ] ولابست فلانا حتى عرفت باطنه. وفي فلان ملبس أي مستمتع قال:

ألا إن بعد العدم للمرء قنوة وبعد المشيب طول عمر وملبسا

ولبس الكعبة والهودج ما عليهما من لباس ( بكسر اللام ) . قوله تعالى « بالباطل » الباطل في كلام العرب خلاف الحق، ومعناه الزائل قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وبطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا ذهب ضياعا وخسرا وأبطله غيره ويقال ذهب دمه بطلا أي هدرا والباطل الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه، قال النابغة:

لهم لواء بأيدي ماجد بطل لا يقطع الخرق إلا طرفه سامي

والمرأة بطلة. وقد بطل الرجل ( أي بالضم ) يبطل بطولة وبطالة أي صار شجاعا وبطل الأجير ( بالفتح ) بطالة أي تعطل فهو بطال. واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: « الحق بالباطل » فروي عن ابن عباس وغيره لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل. وقال أبو العالية قالت اليهود محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا. فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل. وقال ابن زيد: المراد بالحق التوراة، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره. وقال مجاهد: لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام. وقاله قتادة وقد تقدم.

قلت: وقول ابن عباس أصوب، لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال والله المستعان.

 

قوله تعالى: « وتكتموا الحق » يجوز أن يكون معطوفا على « تلبسوا » فيكون مجزوما ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن، التقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه قال ابن عباس: ( يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه ) وقال محمد بن سيرين:

نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه، وهو معنى قوله تعالى « فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به » [ البقرة: 89 ]

 

قوله تعالى: « وأنتم تعلمون » جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق، فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل. وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: « أتأمرون الناس بالبر » [ البقرة: 44 ] الآية.

 

الآية: 43 ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ( فيه أربع وثلاثين مسألة ) )

 

الأولى: قوله تعالى: « وأقيموا الصلاة » أمر معناه الوجوب ولا خلاف فيه، وقد تقدم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها، والحمد لله.

 

الثانية: قوله تعالى: « وآتوا الزكاة » أمر أيضا يقتضي الوجوب. والإيتاء: الإعطاء، آتيته: أعطيته. قال الله تعالى « لئن آتانا من فضله لنصدقن » [ التوبة: 75 ] وأتيته - بالقصر من غير مد - جئته، فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مُدّ، ومنه الحديث ( ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه ) وسيأتي.

 

الثالثة: الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد. يقال زكا الزرع والمال يزكو، إذا كثر وزاد ورجل زكي أي زائد الخير وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي ويقال: زرع زاك بين الزكاء. وزكأت الناقة بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها وزكا الفرد: إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا. قال الشاعر:

كانوا خسا أو زكا من دون أربعة لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج

جمع جد وهو الحظ والبخت. تعتلج: أي ترتفع اعتلجت الأرض طال نباتها. فخسا: الفرد وزكا: الزوج

وقيل: أصلها الثناء الجميل ومنه زكّى القاضي الشاهد. فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والإغفال. فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس، وقد قال تعالى « خذ من أموالهم صدقه تطهرهم وتزكيهم بها » [ التوبة: 103 ]

 

الرابعة: واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها الصلاة وقيل: صدقة الفطر قاله مالك في سماع ابن القاسم.

قلت: فعلى الأول - وهو قول أكثر العلماء - فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة ) وقال البخاري: ( خمس أواق من الورق ) وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر ) وسيأتي بيان هذا الباب في « الأنعام » إن شاء الله تعالى. ويأتي في « براءة » زكاة العين والماشية وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا، وقوله تعالى « قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى » [ الأعلى: 15 ] والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة « الأعلى » ، ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان، الحديث. وسيأتي، فأضافها إلى رمضان.

 

الخامسة: قوله تعالى: « واركعوا » الركوع في اللغة الانحناء بالشخص وكل منحن راكع قال لبيد

أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع

وقال ابن دريد: الركعة الهوة في الأرض لغة يمانية وقيل الانحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة. قال:

ولا تعاد الضعيف علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه

 

السادسة: واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر فقال قوم جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة.

قلت: وهذا ليس مختصا بالركوع وحده فقد جعل الشرع القراءة عبارة عن الصلاة والسجود عبارة عن الركعة بكمالها فقال: « وقرآن الفجر » أي صلاة الفجر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة وقيل إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع وقيل لأنه كان أثقل على القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم أظنه عمران بن حصين للنبي صلى الله عليه وسلم: وعلى ألا أخر إلا قائما فمن تأويله على ألا أركع فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه وأمتثل ما أمر به من الركوع.

 

السابعة: الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه ( روى مسلم عن عائشة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك ) وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره الحديث.

 

الثامنة: الركوع فرض، قرآنا وسنة، وكذلك السجود لقوله تعالى في آخر الحج « اركعوا واسجدوا » [ الحج: 77 ] . وزادت السنة الطمأنينة فيهما والفصل بينهما، وقد تقدم القول في ذلك وبينا صفة الركوع آنفا وأما السجود فقد جاء مبينا من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ( إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه ) . خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) . وعن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ) . وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوّى بيديه - يعني جنح حتى يرى وضح إبطيه من ورائه - وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى.

 

التاسعة: واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته، فقال مالك: يسجد على جبهته وأنفه، وبه قال الثوري وأحمد، وهو قول النخعي. قال أحمد: لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر، وبه قال أبو خيثمة وابن أبي شيبة. قال إسحاق: إن سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبدالرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الأنف. وقالت طائفة: يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه، هذا قول عطاء وطاوس وعكرمة وابن سيرين والحسن البصري، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال ابن المنذر: وقال قائل: إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة، هذا قول النعمان. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه.

قلت: الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف، لحديث أبي حميد، وقد تقدم. وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر ) . وهذا كله بيان لمجمل الصلاة فتعين القول به. والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه، كقول عطاء والشافعي والمختار عندنا قول الأول ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته.

 

العاشرة: ويكره السجود على كور العمامة، وإن كان طاقة أو طاقتين مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس، والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخول فلا الصلاة، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة. وروى مسلم عن معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال ( إن كنت فاعلا فواحدة ) وروي عن أنس بن مالك قال: ( كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه ) .

 

الحادية عشرة: لما قال تعالى: « اركعوا واسجدوا » [ الحج: 77 ] قال بعض علمائنا وغيرهم يكفي منها ما يسمى ركوعا وسجودا، وكذلك من القيام ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقل الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة قال ابن عبدالبر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا. وهو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهى رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الأصل وسقوط الطمأنينة وهو وهم عظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلمها. فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم روى النسائي والدارقطني وعلي بن عبدالعزيز عن رفاعة بن رافع قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلى، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) وجعل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها فلما جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( وعليك ارجع فصل فانك لم تصل ) قال همام فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الرجل ما ألوت فلا ادري ما عبت علي من صلاتي فقال صلى الله عليه وسلم ( إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله تعالى ويثني عليه ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه وتيسر ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائما حتى يقيم صلبه ويأخذ كل عظم مأخوذه ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه. قال همام وربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك ) ومثله حديث أبي هريرة خرجه مسلم وقد تقدم.

قلت: فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبي عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام فمن لم يقف عند هذا البيان وأخل بما فرض عليه الرحمن ولم يمتثل ما بلغه عن نبيه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى: « فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات » [ مريم: 59 ] على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. روى البخاري عن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال ( ما صلت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم )

 

الثانية عشرة: قوله تعالى: « مع الراكعين » ( مع ) تقتضي المعية والجمعية ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن إن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم بقوله « مع » شهود الجماعة وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضا على الكفاية قال ابن عبدالبر وهذا قول صحيح لإجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة لقوله عليه السلام ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) أخرجه مسلم من حديث ابن عمر. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا ) . وقال داود الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة واحتج بقوله عليه السلام: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم. وقال الشافعي: لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر. حكاه ابن المنذر وروى مسلم عن أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال ( هل تسمع النداء بالصلاة ) قال نعم قال ( فأجب ) وقال أبو داود في هذا الحديث ( لا أجد لك رخصة ) . خرجه من حديث ابن أم مكتوم وذكر أنه كان هو السائل وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( من سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر قالوا وما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى ) قال أبو محمد عبدالحق: هذا يرويه مغراء العبدي والصحيح موقوف على ابن عباس ( من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له ) على أن قاسم بن أصبغ ذكره في كتابه فقال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ) وحسبك بهذا الإسناد صحة ومغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق وقال ابن مسعود ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وقال عليه السلام ( بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما ) قال ابن المنذر ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا ( من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له ) منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعري وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست لهم علة فأحرقها عليهم ) هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضا وهى ظاهرة في الوجوب وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة بدليل حديث ابن عمر وأبي هريرة وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه ( لا صلاة له ) على الكمال والفضل وكذلك قول عليه السلام لابن أم مكتوم ( فأجب ) على الندب وقوله عليه السلام ( لقد هممت ) لا يدل على الوجوب الحتم لأنه هم ولم يفعل وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة يبين هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبدالله قال: ( من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. فبين رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سنة من سنن الهدى وتركه ضلال، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض: اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن، هل يقاتل عليها أو لا، والصحيح قتالهم، لأن في التمالؤ عليها إماتتها.

قلت: فعلى هذا إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحت روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم أرحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه ) . قيل لأبي هريرة: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط.

 

الثالثة عشرة: واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث قولان. والأول أظهر لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم. والله أعلم وما كان من إكثار الخطى إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمكث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة والله أعلم.

 

الرابعة عشرة: واختلفوا أيضا هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الإمام؟ فقال مالك لا وقال ابن حبيب نعم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله ) رواية أبي بن كعب وأخرجه أبو داود وفي إسناده لين.

 

الخامسة عشرة: واختلفوا أيضا فمن صلى في جماعة هل يعيد صلاته تلك في جماعة أخرى فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الإمام من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته، وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي جائز لمن صلى في جماعة ووجد أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة. وروي ذلك عن حذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي، وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب احتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصلى صلاة في يوم مرتين ) ومنهم من يقول لا تصلوا رواه سليمان بن يسار عن ابن عمر واتفق أحمد وإسحاق على أن معنى هذا الحديث أن يصلي الإنسان الفريضة ثم يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنة أو تطوع فليس بإعادة الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة ( إنها لكم نافلة ) من حديث أبي ذر وغيره.

 

السادسة عشرة: روى مسلم عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْما، ولا يؤمّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه ) وفي رواية ( سناً ) مكان ( سلما ) ، وأخرجه أبو داود وقال: قال شعبة فقلت لإسماعيل: ما تكرمته؟ قال: فراشه. وأخرجه الترمذي وقال حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم.

قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة وقالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة. وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به. وكرهه بعضهم وقالوا السنة أن يصلي صاحب البيت. قال ابن المنذر: روينا عن الأشعث بن قيس أنه قّدم غلاما، وقال إنما أقّدم القرآن. وممن قال يؤم القوم أقرؤهم ابن سيرين والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: بهذا نقول لأنه موافق للسنة. وقال مالك: يتقدم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة وإن للسن حقا. وقال الأوزاعي: يؤمهم أفقههم وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن وذلك لأن الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة. وتأولوا الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان الأفقه لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء، واستدلوا بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه وقال إسحاق: إنما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ليدل على أنه خليفته بعده. ذكره أبو عمر في التمهيد وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا سافرتم فليؤمكم أقرؤكم وإن كان أصغركم وإذا أمّكم فهو أميركم ) قال لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية أبي هريرة بهذا الإسناد.

قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئا. ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا أوحى إليه كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامها فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبي الله حقا، قال: ( صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا ) . فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني ببن أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. وممن أجاز إمامة الصبي غير البالغ الحسن البصري وإسحاق بن راهويه واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها لدخوله في جملة قوله صلى الله عليه وسلم ( يؤم القوم أقرؤهم ) ولم يستثن، ولحديث عمرو بن سلمة وقال الشافعي في أحد قوليه يؤم في سائر الصلوات ولا يؤم في الجمعة وقد كان قبل يقول ومن أجزأت إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الأعياد غير أني أكره فيها إمامة غير الوالي وقال الأوزاعي: لا يؤم الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شيء فإنه يؤمهم الغلام المراهق. وقال الزهري إن اضطروا إليه أمهم ومنع ذلك جملة مالك والثوري وأصحاب الرأي.

 

السابعة عشرة: الائتمام بكل إمام بالغ مسلم حر على استقامة جائز من غير خلاف إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحن في أم القرآن لحنا يخل بالمعنى مثل أن يكسر الكاف من « إياك نعبد » [ الفاتحة: 5 ] ويضم التاء في « أنعمت » ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد وإن لم يفرق بينهما لا تصح إمامته، لأن معناهما يختلف ومنهم من رخص في ذلك كله إذا كان جاهلا بالقراءة وأم مثله ولا يجوز الائتمام بامرأة ولا خنثى مشكل ولا كافر ولا مجنون ولا أميّ ولا يكون واحد من هؤلاء إماما بحال من الأحوال عند أكثر العلماء على ما يأتي ذكره إلا الأمي لمثله، قال علماؤنا لا تصح إمامة الأمي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره وكذلك قال الشافعي فإن أم أميا مثله صحت صلاتهم عندنا وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة إذا صلى الأمي بقوم يقرؤون وبقوم أميين فصلاتهم كلهم فاسدة. وخالفه أبو يوسف فقال صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامة. وقالت فرقة: صلاتهم كلهم جائزة لأن كلا مؤد فرضه وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء والمصلي قاعدا يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا، لأن كلا مؤد فرض نفسه.

قلت: وقد يحتج لهذا القول بقول عليه السلام ( ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه ) أخرجه مسلم وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام، والله أعلم. وكان عطاء بن أبي رباح يقول إذا كانت امرأته تقرأ كبر هو، وتقرأ هي فإذا فرغت من القراءة كبر وركع وسجد وهى خلفه تصلي، وروي هذا المعنى عن قتادة.

 

الثامنة عشرة: ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشل والأقطع والخصي والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة. وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل لأنه منتقص عن درجة الكمال وكرهت إمامته لأجل النقص. وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح لأنه عضو لا يمنع فقده فرضا من فروض الصلاة فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين، وقد روى أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى، ) وكذا الأعرج والأقطع والأشل والحصى قياسا ونظرا والله أعلم. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الأعمى: وما حاجتهم إليه وكان ابن عباس وعتبان بن مالك يؤمان وكلاهما أعمى، وعليه عامة العلماء.

 

التاسعة عشرة: واختلفوا في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا وكره ذلك عمر بن عبدالعزيز، وكان عطاء بن أبي رباح يقول له أن يؤم إذا كان مرضيا، وهو قول الحسن البصري والزهري والنخعي وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي وغيره أحب إليهم. وقال الشافعي أكره أن ينصب إماما راتبا من لا يعرف أبوه ومن صلى خلفه أجزأه وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء. ونحوه قال ابن عبدالحكم إذا كان في نفسه أهلا للإمامة قال ابن المنذر يؤم لدخوله جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يؤم القوم أقرؤوهم ) وقال أبو عمر: ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيها دلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين.

 

الموفية عشرين: وأما العبد فروى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآناً. وعنه قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يوم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر بن ربيعة وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. قال ابن المنذر وأم أبو سعيد مولى أبي أسيد - وهو عبد - نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حذيفة وأبو مسعود.

ورخص في إمامة العبد النخعي والشعبي والحسن البصري والحكم والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وكره ذلك أبو مجلز، وقال مالك لا يؤمهم إلا أن يكون العبد قارئا ومن معه من الأحرار لا يقرؤون إلا أن يكون في عيد أو جمعة فإن العبد لا يؤمهم فيها ويجزئ عند الأوزاعي إن صلوا وراءه. قال ابن المنذر العبد داخل في جمله قول النبي صلى الله عليه وسلم ( يؤم القوم أقرؤهم ) .

 

الحادية والعشرون: وأما المرأة فروى البخاري عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) وذكر أبو داود عن عبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقه بنت عبدالله قال: ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها قال: وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها ) قال عبدالرحمن ( فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا ) قال ابن المنذر: والشافعي يوجب الإعادة على من صلى من الرجال خلف المرأة. قال أبو ثور لا إعادة عليهم. وهذا قياس قول المزني.

قلت: وقال علماؤنا لا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء وروى ابن أيمن جواز إمامتها للنساء. وأما الخنثى المشكل فقال الشافعي: لا يؤم الرجال ويؤم النساء. وقال مالك: لا يكون إماما بحال، وهو قول أكثر الفقهاء..

 

الثانية والعشرون: الكافر المخالف للشرع كاليهودي والنصراني يؤم المسلمين وهم لا يعلمون بكفره. وكان الشافعي وأحمد يقولان لا يجزئهم ويعيدون وقاله مالك وأصحابه لأنه ليس من أهل القربة. وقال الأوزاعي: يعاقب. وقال أبو ثور والمزني لا إعادة على من صلى خلفه ولا يكون بصلاته مسلما عند الشافعي وأبي ثور. وقال أحمد: يجبر على الإسلام.

 

الثالثة والعشرون: وأما أهل البدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما فذكر البخاري عن الحسن: صل وعليه بدعته. وقال أحمد لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه وقال مالك ويصلى خلف أئمة الجور ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم وقال ابن المنذر كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة ولا يجوز تقديم من هذه صفته.

 

الرابعة والعشرون: وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب فيه فقال ابن حبيب من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران قال من لقيت من أصحاب مالك وروي من حديث جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر ( لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا ولا يؤمن فاجر برا إلا أن يكون ذلك ذا سلطان ) قال أبو محمد عبدالحق: هذا يرويه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب والأكثر يضعف علي بن زيد وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن سركم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم ) في إسناده أبو الوليد خالد بن إسماعيل المخزومي وهو ضعيف قاله الدارقطني. وقال فيه أبو أحمد بن عدي: كان يضع الحديث على ثقات المسلمين وحديثه هذا يرويه عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وذكر الدارقطني عن سلام بن سليمان عن عمر عن محمد بن واسع عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفد فيما بينكم وبين الله ) قال الدارقطني عمر هذا هو عندي عمر بن يزيد قاضي وسلام بن سليمان أيضا مدائني ليس بالقوي قاله عبدالحق.

 

الخامسة والعشرون: روى الأئمة أن رسول الله صلى قال ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ) .

وقد اختلف العلماء فيمن ركع أو خفض قبل الإمام عامدا على قولين: أحدهما: أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها وهو قول أهل الظاهر وروي عن ابن عمر. ذكر سنيد قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الورد الأنصاري قال صليت إلى جنب ابن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله فلما سلم الإمام أخذ ابن عمر بيدي فلواني وجذبني فقلت مالك قال من أنت؟ قلت فلان بن فلان قال أنت من أهل بيت صدق فما يمنعك أن تصلي قلت أوما رأيتني إلى جنبك قال قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه ( لا صلاة لمن خالف الإمام ) . وقال الحسن بن حي فيمن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الإمام أو يسجد لم يعتد بذلك ولم يجزه. وقال أكثر الفقهاء من فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالأئمة سنه حسنة فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها لأنه لو شاء أن ينفرد فصلى قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة قالوا ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يكن في ركعة وإمامه في أخرى فقد افتدى وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله لأنه بركوعه يركع وبسجوده يسجد ويرفع وهو في ذلك تبع له إلا أنه مسيء في فعله ذلك لخلافه سنة المأموم المجتمع عليها.

قلت: ما حكاه ابن عبدالبر عن الجمهور ينبئ على أن صلاة المأموم عندهم غير مرتبطة بصلاة الإمام لأن الاتباع الحسي والشرعي مفقود وليس الأم هكذا عند أكثرهم والصحيح في الأثر والنظر القول الأول فإن الإمام إنما جعل ليؤتم به ويقتدى به بأفعاله ومنه قوله تعالى « إني جاعلك للناس إماما » [ البقرة: 124 ] أي يأتمون بك على ما يأتي بيانه.

هذا حقيقة الإمام لغة وشرعا فمن خالف إمامه لم يتبعه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين فقال ( إذا كبر فكبروا ) الحديث. فأتى بالفاء التي توجب التعقيب وهو المبين عن الله مراده. ثم أوعد من رفع أو ركع قبل وعيدا شديدا فقال ( أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار ) أخرجه الموطأ والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وقال أبو هريرة إنما ناصيته بيد شيطان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) يعني مردود فمن تعمد خلاف إمامه عالما بأنه مأمور باتباعه منهي عن مخالفته فقد استخف بصلاته وخالف ما أمر به فواجب ألا تجزي عنه صلاته تلك والله أعلم.

 

السادسة والعشرون: فإن رفع رأسه ساهيا قبل الإمام فقال مالك رحمه الله: السنة فيمن سها ففعل ذلك في ركوع أو في سجود أن يرجع راكعا أو ساجدا وينتظر الإمام وذلك خطأ ممن فعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ) قال ابن عبدالبر: ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على فعله عامدا لقوله « وذلك خطأ ممن فعله » لأن الساهي الإثم عنه موضوع.

 

السابعة والعشرون: وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام أما السلام فقد تقدم القول فيه وأما تكبيرة الإحرام فالجمهور على أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام إلا ما روي عن الشافعي في أحد قوليه: أنه إن كبر قبل إمامه تكبيرة الإحرام أجزأت عنه لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة فلما كبر انصرف وأومأ إليهم - أي كما أنتم - ثم خرج ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم فلما انصرف قال: ( إني كنت جنبا فنسيت أن أغتسل ) ومن حديث أنس ( فكبر وكبرنا معه ) وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: « ولا جنبا » في « النساء » [ النساء: 43 ] إن شاء الله تعالى.

 

الثامنة والعشرون: وروى مسلم عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول ( استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) قال أبو مسعود ( فأنتم اليوم أشد اختلافا ) . زاد من حديث عبدالله ( وإياكم وهيشات الأسواق ) . وقوله ( استووا ) أمر بتسوية الصفوف وخاصة الصف الأول وهو الذي يلي الإمام على ما يأتي بيانه في سورة « الحجر » إن شاء الله تعالى وهناك يأتي الكلام على معنى هذا الحديث بحول الله تعالى.

 

التاسعة والعشرون: واختلف العلماء في كيفية الجلوس في الصلاة لاختلاف الآثار في ذلك فقال مالك وأصحابه: يفضي المصلي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى، لما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد ( أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ) ، ثم قال: أراني هذا عبدالله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك..

قلت: وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم.

قلت: ولهذا الحديث - والله أعلم - قال ابن عمر: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي ( ينصب اليمنى ويعقد على اليسرى ) ، لحديث وائل بن حجر، وكذلك قال الشافعي وأحمد وإسحاق في الجلسة الوسطى. وقالوا في الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك لحديث أبي حميد الساعدي رواه البخاري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته ) . قال الطبري إن فعل هذا فحسن كل ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الثلاثين الموفية: مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبدالرحمن المعاوي أنه قال: رآني عبدالله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرف نهاني فقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قال: كان ( إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال: هكذا كان يفعل ) . قال ابن عبدالبر: ( وما وصفه ابن عمر من وضعه كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع، كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجمع عليه ولا خلاف علمته بين العلماء فيها وحسبك بهذا. إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميعه مباح والحمد لله. وروى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه قال سفيان وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال ( هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا ) .

قلت: روى أبو داود في حديث ابن الزبير أنه عليه السلام ( كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها ) وإلى هذا ذهب بعض العراقيين فمنع من تحريكها وبعض علمائنا رأوا أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين تأول من والاه بأن قال إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة وتأول في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد والله أعلم.

 

الحادية والثلاثون: واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة فقال مالك هي كالرجل ولا تخالفه فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر وقال الثوري تسدل المرأة جلبابها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النخعي وقال أبو حنيفة وأصحابه تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها وهو قول الشعبي تقعد كيف تيسر لها وقال الشافعي تجلس بأستر ما يكون لها.

 

الثانية والثلاثون: روى مسلم عن طاوس قال قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين، فقال: ( هي السنة فقلنا له إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ) وقد اختلف العلماء في صفة الإقعاء فقال أبو عبيد: ( الإقعاء جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ) قال ابن عبدالبر وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه. وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه. وقال أبو عبيد: وأما أهل الحديث فانهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين قال القاضي عياض: والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السنة، الذي فسر به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين، وكذا جاء مفسرا عن ابن عباس: من السنة أن تمس عقبك أليتك. رواه إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عنه، ذكره أبو عمر قال القاضي: وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار وسموه إقعاء. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يقعون بين السجدتين.

 

الثالثة والثلاثون: لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض إلا ما روي عن الحسن بن حي أنه أوجب التسليمتين معا. قال أبو جعفر الطحاوي: لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره. قال ابن عبدالبر من حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعا وقوله إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته - قوله صلى الله عليه وسلم ( تحليلها التسليم ) ثم بين كيف التسليم فكان يسلم عن يمينه وعن يساره ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم ( تحليلها التسليم ) قالوا: والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم.

قلت: هذه المسألة مبنية على الأخذ بأقل الاسم أو بآخره ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة إلا أنه تواردت السنن الثابتة من حديث ابن مسعود - وهو أكثرها تواترا - ومن حديث وائل بن حجر الحضرمي وحديث عمار وحديث البراء بن عازب وحديث بن عمر وحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين. روى ابن جريج وسليمان بن بلال وعبدالعزيز بن محمد الدرداوردي كلهم عن عمرو ابن يحيى المازني. عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : قلت لابن عمر : حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله عن يساره قال ابن عبدالبر وهذا إسناد مدني صحيح، والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عنهم أيضا وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان، وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف وحديث التسليمة الواحدة رواه سعد بن أبي وقاص وعائشة وأنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث.

 

الرابعة والثلاثون: روى الدارقطني عن ابن مسعود أنه قال: من السنة أن يخفى التشهد. واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو التحيات لله الزكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. واختار الشافعي وأصحابه والليث بن سعد تشهد ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: ( التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ) .

واختار الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضا، قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله السلام على فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ( إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسول ثم يتخير من المسألة ما شاء ) وبه قال أحمد وإسحاق وداود. وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد ابن مسعود. وهذا كله اختلاف في مباح ليس شيء منه على الوجوب والحمد لله وحده فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمنها قوله جل وعز « واركعوا مع الراكعين » [ البقرة: 43 ] وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى « وقوموا لله قانتين » [ البقرة: 238 ] . ويأتي هناك حكم الإمام المريض وغيره من أحكام الصلاة ويأتي في « آل عمران » حكم صلاة المريض غير الإمام ويأتي في « النساء » في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل ويأتي في سورة « مريم » حكم الإمام يصلي أرفع من المأموم إلى غير ذلك من الأوقات والأذان والمساجد وهذا كله بيان لقوله تعالى « وأقيموا الصلاة » وقد تقدم في أول السورة جملة من أحكامها والحمد لله على ذلك.

 

الآية 44 ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « أتأمرون الناس بالبر » هذا استفهام التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود. قال ابن عباس ( كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمد صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه ) وعن ابن عباس أيضا ( كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم ) وقال ابن جريج: كان الأحبار يحضون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الإشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالقون عن ظواهر رسومها.

 

في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ) وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا ) .

قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين، لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الإمام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو - فيما حكى يحيى بن معين - حزور القرشي مولى خالد بن عبدالله بن أسيد وقيل مولى باهلة. وقيل مولى عبدالرحمن الحضرمي. كان يختلف إلى الشام في تجارته قال يحيى بن معين هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ) القصب ( بضم القاف ) المعى وجمعه أقصاب والأقتاب الأمعاء واحدها قتب ومعنى « فتندلق » : فتخرج بسرعة. وروينا « فتنفلق » .

قلت: فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اشد

الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ) أخرجه ابن ماجه في سننه.

 

اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال « أتأمرون الناس بالبر » الآية وقال منصور الفقيه فأحسن:

إن قوما يأمرونا بالذي لا يفعلونا

لمجانين وإن هم لم يكونوا يصرعونا

وقال أبو العتاهية:

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم

وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض

قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.

 

قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: « أتأمرون الناس بالبر » [ البقرة: 44 ] الآية، وقوله: « لم تقولون ما لا تفعلون » [ الصف: 2 ] ، وقوله: « وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه » [ هود: 88 ] . وقال سلم بن عمرو:

ما أقبح التزهيد من واعظ يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا أضحى وأمسى بيته المسجد

إن رفض الدنيا فما باله يستمنح الناس ويسترفد

والرزق مقسوم على من ترى يناله الأبيض والأسود

وقال الحسن لمطرف بن عبدالله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء.

 

قوله تعالى: « البر » البر هنا الطاعة والعمل الصالح. والبر: الصدق. والبر: ولد الثعلب. والبر: سوق الغنم، ومنه قولهم: « لا يعرف هرا من بر » أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها. فهو مشترك، وقال الشاعر:

لا هم رب إن بكرا دونكا يبرك الناس ويفجرونكا

أراد بقوله « يبرك الناس » : أي يطيعونك. ويقال: إن البر الفؤاد في قوله:

أكون مكان البر منه ودونه واجعل ما لي دونه وأوامره

والبر ( بضم الباء ) معروف، و ( بفتحها ) الإجلال والتعظيم، ومنه ولد بر وبار، أي يعظم والديه ويكرمهما.

 

قوله تعالى: « وتنسون أنفسكم » أي تتركون. والنسيان ( بكسر النون ) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: « نسوا الله فنسيهم » [ التوبة: 67 ] ، وقوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » [ الأنعام: 44 ] ، وقوله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » [ البقرة: 237 ] . ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث: ( نسي آدم فنسيت ذريته ) . وسيأتي. يقال: رجل نسيان ( بفتح النون ) : كثير النسيان للشيء. وقد نسيت الشيء نسيانا، ولا تقل نَسَيانا ( بالتحريك ) ، لأن النسَيان إنما هو تثنية نسا العرق. وأنفس: جمع نفس، جمع قلة. والنفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، قال أبو خراش:

نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » [ الزمر: 42 ] يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي، وذلك بين في قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم ( إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا ) رواهما مالك. وهو أولى ما يقال به. والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر:

تسيل على حد السيوف نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل

وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس أيضا الجسد قال الشاعر:

نبئت أن بني سحيم أدخلوا أبياتهم تامور نفس المنذر

والتامور أيضا: الدم.

 

قوله تعالى: « وأنتم تتلون الكتاب » توبيخ عظيم لمن فهم. « وتتلون » : تقرؤون « الكتاب » التوراة. وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم وأصل التلاوة الاتباع، ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه: يقال: تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتلية والتلاوة ( بضم التاء ) البقية يقال تليت لي من حقي تلاوة وتلية أي بقيت. وأتليت أبقيت وتتّليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه. قال أبو زيد تلى الرجل إذا كان بآخر رمق.

 

قوله تعالى: « أفلا تعقلون » أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل المنع، ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني، ومنه اعتقال البطن واللسان، ومنه يقال للحصن معقل والعقل نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج. قال علقمة:

عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه كأنه من دم الأجواف مدموم

المدموم ( بالدال المهملة ) الأحمر وهو المراد هنا والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره. ويقال هما ضربان من البرود قال ابن فارس: والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم. وقال الزجاج: العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل.

 

اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوما لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى. وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم محله الدماغ لأن الدماغ محل الحس، وقالت طائفة أخرى محله القلب لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا وقيل إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت. وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد. واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة. وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبدالله بن مجاهد أنهما قال: العقل آلة التمييز. وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز. وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال: والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة. والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر، وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 45 ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين )

 

قوله تعالى: « واستعينوا بالصبر والصلاة » الصبر الحبس في اللغة: وقتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف. وصبرت نفسي على الشيء: حبستها. والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت، وهي المجثَّمة. وقال عنترة:

فصبرتُ عارفةً لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع

أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال « واصبروا » يقال فلان صابر عن المعاصي، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، هذا أصح ما قيل. قال النحاس ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر، إنما يقال صابر على كذا. فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا، قال الله تعالى « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » [ الزمر: 10 ] .

 

قوله تعالى: « والصلاة » خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ومنه ما روي أن عبدالله بن عباس نعي له أخوه قثم - وقيل بنت له - وهو في سفر فاسترجع وقال: ( عورة سترها الله، ومؤونة كفاها الله، وأجر ساقه الله. ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: « واستعينوا بالصبر والصلاة » فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية، وقال قوم: هي الدعاء على عرفها في اللغة، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: « إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله » [ الأنفال 45 ] لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء. وقول ثالث قال مجاهد الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم.

 

الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، قال يحيى بن اليمان: الصبر ألا تتمنى حال سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك. وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبري: وصدق علي رضي الله منه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به.

 

وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » [ الأنعام 160 ] وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال: « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة » [ البقرة: 261 ] الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » [ الزمر: 10 ] وقال « ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور » [ الشورى: 43 ] . وقد قيل أن المراد بالصابرين في قوله « إنما يوفى الصابرون » [ الزمر: 10 ] أي الصائمون، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الصيام لي وأنا أجزي به. فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر والله اعلم.

 

من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى، إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم ) . أخرجه البخاري. قال علماؤنا: وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قال ابن فورك وغيره: وجاء في أسمائه « الصبور » للمبالغة في الحلم عمن عصاه.

 

قوله تعالى: « وإنها لكبيرة » اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله: « وإنها » ، فقيل: على الصلاة وحدها خاصة، لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم. والصبر هنا الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق، فيتسلى بتلك الأشياء عما منع والمصلي يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال « وإنها لكبيرة » وقيل عليهما، ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة، كقوله « والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله » [ التوبة: 34 ] وقوله « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » [ الجمعة: 11 ] . فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم. وقيل إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها كما قال: « والله ورسوله أحق أن يرضوه » [ التوبة: 62 ] ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ومنه قول الشاعر:

إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا، رد إلى الشباب لأن الشعر داخل فيه وقيل رد الكناية إلى كل واحد منهم لكن حذف اختصارا، قال الله تعالى « وجعلنا ابن مريم وأمه آية » [ المؤمنون: 50 ] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر:

فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب

وقال آخر:

لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا فلاح معه

أراد: لغريبان، لا فلاح معهما، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة وقيل على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله: « واستعينوا » وقيل على أجابه محمد عليه السلام، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه. وقيل على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها. « وكبيرة » معناه ثقيلة شاقة، خبر « إن » ويجوز في غير القرآن: « وإنه لكبيرة إلا على الخاشعين » فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى.

 

قوله تعالى: « على الخاشعين » الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع. وقال قتادة الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة. قال الزجاج الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقوان؟؟ هذا هو الأصل قال النابغة:

رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

ومكان خاشع: لا يهتدى له. وخشعت الأصوات أي سكنت، وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة قطعة من الأرض رخوة. وفي الحديث ( كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد ) . وبلدة خاشعة مغبرة لا منزل بها. قال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال أعيمش تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. وقال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى « قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون » [ المؤمنون: 1 - 2 ] فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق. قال سهل بن عبدالله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: « تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم » [ الزمر: 23 ] .

قلت: هذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا. وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان. روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الخاشعون هم المؤمنون حقا.

 

الآية: 46 ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون )

 

قوله تعالى: « الذين يظنون » ( الذين ) في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى « إني ظننت أني ملاق حسابيه » [ الحاقة: 20 ] وقوله: « فظنوا أنهم مواقعوها » [ الكهف: 53 ] . قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد

وقال أبو داود:

رب هم فرجته بغريم وغيوب كشفتها بظنون

وقد قيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية: وهذا تعسف. وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر: أظن هذا إنسانا. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر، وكقوله تعالى « فظنوا أنهم مواقعوها » . وقد يجيء اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول: سؤت به ظنا وأسأت به الظن. يدخلون الألف إذا جاؤوا بالألف واللام. ومعنى « ملاقو ربهم » جزاء ربهم. وقيل: إذا جاء على المفاعلة وهو من واحد، مثل عافاه الله. « وأنهم » بفتح الهمزة عطف على الأول ويجوز « وإنهم » بكسرها على القطع. « إليه » أي إلى ربهم، وقيل إلى جزائه. « راجعون » إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى.

 

الآية: 47 ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين )

 

قوله تعالى: « يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » تقدم. « وأني فضلتكم على العالمين » يريد على عالمي زمانهم، وأهل كل زمان عالم. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.

 

الآية: 48 ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون )

 

قوله تعالى: « واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا » أمر معناه الوعيد، وقد مضى الكلام في التقوى. « يوماً » يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة. وتنصب على المفعول بـ « اتقوا » . ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزي على الإضافة. وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون: التقدير يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال:

ويوما شهدناه سليما وعامرا

أي شهدنا فيه. وقال الكسائي: هذا خطأ لا يجوز حذف « فيه » ولكن التقدير: واتقوا يوما لا تجزيه نفس، ثم حذف الهاء. وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها قال: لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال: ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد. وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه. وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. ومعنى « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول: جزى عني هذا الأمر يجزي، كما تقول قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به، قال الشاعر:

فإن الغدر في الأقوام عار وأن الحر يجزأ بالكراع

أي يكتفي بها وفي حديث عمر ( إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك ) يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس. وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الأضحية ( لن تجزي عن أحد بعدك ) أي لن تغني. فمعنى لا تجزي لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء، فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني، بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) . خرجه البخاري. ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم. وقرئ « تجزئ » بضم التاء والهمز. ويقال جزى وأجزى بمعنى واحد وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ، وأجزى بمعنى أغنى وكفى. أجزأني الشيء يجزئني: أي كفاني قال الشاعر

وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ليجزئ إلا كامل وابن كامل

 

قوله تعالى: « ولا يقبل منها شفاعة » الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان، تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، تقول منه: شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة واستشفعته إلى فلان سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع.

 

مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما: الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول ولم يبد من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة.

فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله « ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع » [ غافر: 18 ] قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون وقال « من يعمل سوءا يجز به » [ النساء: 123 ] « ولا يقبل منها شفاعة » [ البقرة: 48 ] قلنا: ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » [ المدثر: 48 ] وقال « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » [ الأنبياء: 28 ] وقال « ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له » [ سبأ: 23 ] فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى « واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة » النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] وقوله « انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون » [ يوسف: 87 ] .

فإن قالوا: فقد قال تعالى: « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال « لمن ارتضى » ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله « لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » [ مريم 87 ] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما عهد الله مع خلقه قال ( أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا ) وقال المفسرون إلا من قال لا إله إلا الله

فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم، وقال « فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك » [ غافر: 7 ] وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله « فاغفر للذين تابوا » أي من الشرك « واتبعوا سبيلك » أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] .

فإن قالوا جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم.

قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده انه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم ( لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل: ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) .

 

قوله تعالى: « ولا يقبل » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « تقبل » بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع وقال الأخفش حسن التذكير لأنك قد فرقت، كما تقدم في قوله « فتلقى آدم من ربه كلمات » [ البقرة: 37 ] .

 

قوله تعالى: « ولا يؤخذ منها عدل » أي فداء. والعدل ( بفتح العين ) الفداء و ( بكسرها ) المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر. ويقال: عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل ( بالكسر ) هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير

 

قوله تعالى: « ولا هم ينصرون » أي يعانون والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله « من أنصاري إلى الله » [ آل عمران: 52 ] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وانتصر الرجل أنتقم والنصر الإتيان يقال نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر :

إذا دخل الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانصري أرض عامر

والنصر المطر يقال نصرت الأرض مطرت والنصر العطاء قال :

إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصرا نصرا

وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر، لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي.

 

الآية: 49 ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( فيها ثلاثة عشرة مسألة ) : )

 

الأولى: قوله تعالى: « وإذ نجيناك » « إذ » في موضع نصب عطف على « اذكروا نعمتي » وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم. والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال « إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية » [ الحاقة: 11 ] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال « نجيناكم » لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين. ومعنى « نجيناكم » ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرىء « وإذ نجيتكم » على التوحيد.

 

الثانية: قوله تعالى: « من آل فرعون » « آل فرعون » قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه. خلافا للرافضة حيث قالت: إن آل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى « وأغرقنا آل فرعون » [ البقرة: 50 ] « أدخلوا آل فرعون أشد العذاب » [ غافر: 46 ] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح « إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح » [ هود: 46 ] وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول ( ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صلت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال ( اللهم صل عليهم ) فأتاه أبي بصدقته فقال ( اللهم صل على آل أبي أوفى )

 

الثالثة: اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا؟ فقال الكسائي: إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.

 

الرابعة: واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبدالمطلب:

لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك

وقال ندبة:

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

الحقيقة [ بقافين ] ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته

 

الخامسة: واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت: أهيل وقال المهدوي: أصله أول وقيل: أهل، قبلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي. وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس وقال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت آلا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.

 

السادسة: قوله تعالى: « فرعون » قيل: إنه اسم ذلك الملك بعينه وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي: وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون وكان فارسيا من أهل اصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفي الحديث ( أخذنا فرعون هذه الأمة ) « وفرعون » في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته

 

السابعة: قوله تعالى: « يسومونكم » قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال الأخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم

 

الثامنة: قوله تعالى: « سوء العذاب » مفعول ثان لـ « يسومونكم » ومعناه أشد العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب.

 

التاسعة: قوله تعالى: « يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم » « يذبحون » بغير واو على البدل من قومه « يسومونكم » كما قال أنشده سيبويه:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

قال الفراء وغيره « يذبحون » بغير واو على التفسير لقوله « يسومونكم سوء العذاب » [ البقرة: 49 ] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: « ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب » [ الفرقان: 68 - 69 ] وفي سورة إبراهيم « ويذبحون » بالواو لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله « ويذبحون أبناءكم » جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم

قلت قد يحتمل أن يقال إن الواو زائدة بدليل سورة « البقرة » والواو قد تزاد كما قال:

فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى

أي قد انتحى وقال آخر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير

 

العاشرة: قوله تعالى: « يذبحون » قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيصن « يذبحون » بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح والذباح تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح أحد السعود والمذابح المحاريب والمذابح جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل وقالت طائفة « يذبحون أبناءكم » يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله « نساءكم » والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم

 

الحادية عشرة: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله قال الطبري: ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.

قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقال الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود وفي المأمور قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا يقتل السيد وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة يقتلان جميعا وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك يقتل لا واحد منهما عنده والله أعلم

 

الثانية عشرة: قرأ الجمهور « يذبحون » بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن « يذبحون » بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رآه في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب

 

الثالثة عشرة: قوله تعالى: « وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم » إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و « بلاء » نعمة ومنه قوله تعالى « وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا » [ الأنفال: 17 ] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة بـ « ذلكم » إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار أبتليته وبلوته قاله النحاس..

 

الآية 50 ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون )

 

قوله تعالى: « وإذ فرقنا » « إذا » في موضع نصب و « فرقنا » فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه: « فالفارقات فرقا » [ المرسلات: 4 ] يعني الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه « يوم الفرقان » [ الأنفال: 41 ] يعني يوم بدر كان، فيه فرق بين الحق والباطل ومنه « وقرآنا فرقناه » [ الإسراء: 106 ] أي فصلناه وأحكمناه. وقرأ الزهري « فرقنا » بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى « بكم » أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه « فانفلق » .

 

قوله تعالى: « بكم البحر » البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة ( وإن وجدناه لبحرا ) والبحر الماء الملح ويقال أبحر الماء ملح قال نصيب وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب والبحر البلدة يقال هذه بحرتنا أي بلدتنا. قال الأموي والبحر السلال يصيب الإنسان. ويقولون لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال إن لله ملكا يقال له صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم في ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب.

 

قوله تعالى: « فأنجيناكم » أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة. وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما « وإذ نجيناكم » « فأنجيناكم » .

 

قوله تعالى: « وأغرقنا آل فرعون » يقال غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم :

من بين مقتول وطاف غارق

وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى والتغريق: القتل قال الأعشى :

ألا ليت قيسا غرقته القوابل

وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة:

إذا غرقت أرباضها ثني بكرة بتيهاء لم تصبح رؤوما سلوبها

والأرباض الحبال والبكرة الناقة الفتية وثنيها بطنها الثاني، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.

القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل

فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين كما قال تعالى « فأتبعوهم مشرقين » [ الشعراء: 60 ] وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف. وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف وقيل: إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت، ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط، قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر لقد استكبرت يا موسى وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك قال: ومع موسى رجل على حصان له قال: فقال له ذلك الرجل: أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه قال فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمر ت يا نبي الله؟ فقال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه « أن اضرب بعصاك البحر » [ الأعراف 160 ] فضربه موسى بعصاه « فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم » [ الشعراء 63 ] فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا، لكل سبط طريق يتراءون، وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفلق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد ذكره ابن أبي شيبة أيضا وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة « يونس والشعراء » زيادة بيان أن شاء الله تعالى.

فصل: ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم ( ما هذا اليوم الذي تصومونه ) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فنحن أحق وأولى بموسى منكم ) فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( أنتم أحق بموسى منهم فصوموا ) .

مسألة: ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبره به اليهود. وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم.

فإن قيل: يحتمل أن تكون قريش إنما صامته بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال ( نحن أحق وأولى بموسى منكم ) فصامه اتباعا لموسى. ( وأمر بصيامه ) أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار قلنا: هذه شبهة من قال: إن النبي صلى لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في « الأنعام » عند قوله تعالى « فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ]

مسألة: اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر؟ فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن. ثم أردفه: أنبأنا قتيبة أنبأنا عبدالوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره: وقول ابن عباس للسائل ( فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ) ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط يبينه ما خرجه ابن ماجة في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع ) .

فضيلة: روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) أخرجه مسلم والترمذي وقال: لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال: ( صيام يوم عاشوراء كفارة سنة ) إلا في حديث أبي قتادة.

 

قوله تعالى: « وأنتم تنظرون » جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة. وقد قيل: إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل: المعنى « وأنتم تنظرون » أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل: المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الأمر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالى عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا: يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه.

ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا قال: فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال: أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال: « يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم » [ المائدة: 21 ] إلى قول « قاعدون » حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين. فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام - على ما يأتي بيانه - ثم سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل - على ما يأتي بيانه - ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - على ما يأتي - وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا إنه آدر. فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول: يا حجر ثوبي فذلك قوله تعالى « يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا » [ الأحزاب: 69 ] - على ما يأتي بيانه - ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه - وسيأتي في المائدة - ثم سألوه أن يعلموا آية في قبول قربانهم فجعلت نار تجيء من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب ( عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك ) يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بن إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

الآية: 51 ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون )

 

قوله تعالى: « وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة » قرأ أبو عمرو « وعدنا » بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر « واعدنا » قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن، كقوله عز وجل: « وعدكم وعد الحق » ( إبراهيم: 22 ) وقوله: « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات » ( الفتح: 29 ) وقوله: « وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم » [ الأنفال: 7 ] قال مكي: وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا « وعدنا » بغير ألف، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يَعِد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكي: المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار « واعدنا » بالألف لأنه بمعنى « وعدنا » في أحد معنييه، ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة « واعدنا » بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عز وجل: « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات » من هذا في شيء، لأن « واعدنا موسى » إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج: « واعدنا » ههنا بالألف جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله جل وعز وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة « وعدنا » وليس بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.

 

قوله تعالى: « موسى » اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف والقبط على - ما يروى - يقولون للماء: مو، وللشجر: شا. فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمي موسى. قال السدي: لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليَمّ - كما أوحى الله إليها - فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.

 

قوله تعالى: « أربعين ليلة » أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال « واسأل القرية » والأربعون كلها داخلة في الميعاد.

والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال: « يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى » [ طه: 90 ] فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: « فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم » [ البقرة: 54 ] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا: يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي.

 

إن قيل: لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لأن الليلة أسبق من اليوم قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها.

 

قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول: ابن حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم « آتنا غداءنا » [ الكهف: 62 ]

قلت: وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى ويأتي في « الأعراف » زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى « وواعدنا موسى ثلاثين ليلة » [ الأعراف: 142 ] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخواره هناك وفي « طه » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ثم اتخذتم العجل من بعده » أي اتخذتموه إلها من بعد موسى وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه أفتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى « قل اتخذتم عند الله عهدا » [ البقرة: 80 ] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر:

استحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب

ونحوه في القرآن « أطلع الغيب » [ مريم: 78 ] « أصطفى البنات » [ الصافات: 153 ] « أستكبرت أم كنت » [ ص: 75 ] ومذهب أبي علي الفارسي أن « اتخذتم » من تخذ لا من أخذ.

 

قوله تعالى: « وأنتم ظالمون » جملة في موضع الحال وقد تقدم معنى الظلم والحمد لله.

 

الآية 52 ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون )

 

قوله تعالى: « ثم عفونا عنكم » العفو عفو الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى « حتى عفوا » . [ الأعراف 95 ]

 

قوله تعالى: « من بعد ذلك » أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم والعجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة عن أبي الجراح.

 

قوله تعالى: « لعلكم تشكرون » كي تشكروا عفو الله عنكم وقد تقدم معنى لعل وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم في الفاتحة. قال الجوهري: الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) قال الخطابي: هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما - أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الآخر - أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.

 

في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبدالله الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى « اعملوا آل داود شكرا » [ سبأ: 13 ] فقال داود: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال: يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال: يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يعصى الله بنعمه فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي وقال الشبلي الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

 

الآية 53 ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون )

 

قوله تعالى: « وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان » « إذا » اسم للوقت الماضي و « إذا » اسم للوقت المستقبل و « آتينا » أعطينا وقد تقدم جميع هذا والكتاب: التوراة بإجماع من المتأولين واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه وأما المعنى فقد قال تعالى « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان » قال أبو إسحاق الزجاج: يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيدا وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر:

وقدمت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذبا ومينا

وقال آخر :

ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد

فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة:

حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

قال النحاس: وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا وقيل: الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى « إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا » [ الأنفال: 29 ] أي فرجا ومخرجا وقيل: إنه الحجة والبيان قال ابن بحر وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد :

إلى الملك القرم وبن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل: « ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء » [ الأنعام: 154 ] أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك. وقيل: الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك ونظيره: « يوم الفرقان » فقيل يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه.

 

قوله تعالى: « لعلكم تهتدون » لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم.

 

الآية 54 ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم )

 

قوله تعالى: « وإذ قال موسى لقومه » القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى: « لا يسخر قوم من قوم » [ الحجرات: 11 ] ثم قال: « ولا نساء من نساء » [ الحجرات: 11 ] وقال زهير:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

وقال تعالى: « ولوطا إذ قال لقومه » [ الأعراف: 80 ] أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجل والنساء قال الله تعالى: « إنا أرسلنا نوحا إلى قومه » [ نوح: 1 ] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا.

 

قوله تعالى: « يا قوم » منادى مضاف وحذفت الياء في « يا قوم » لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت: يا قوما وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول: قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.

 

قوله تعالى: « إنكم ظلمتم أنفسكم » استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى: « ثلاثة قروء » « البقرة: 228 ] وقال » وفيها ما تشتهيه الأنفس « [ الزخرف: 71 ] ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأت إلى نفسك وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. »

 

قوله تعالى: « باتخاذكم العجل » قال بعض أرباب المعاني: عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله

 

قوله تعالى: « فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم » لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف؟ قال « فاقتلوا أنفسكم » قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل: إماتة الحركة وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري: لما قيل لهم: « فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم » قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين: أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبدالعجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه. بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم - يعني من قتل - وأقبل الرجل يقتل من يليه ذكره النحاس وغيره وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم - على القول الأول - لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب ) أخرجه ابن ماجة في سننه وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة وقرأ قتادة فأقيلوا أنفسكم - من الإقالة - أي استقبلوها من العثرة بالقتل.

 

قوله تعالى: بارئكم « البارئ الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية: الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو » بارئكم « - بسكون الهمزة - ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمه والكسرة في الوصل وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره: وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا:»

إذا اعوججن قلت صاحب قوم بالدو أمثال السفين العوم

وقال امرؤ القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل

وقال آخر: قالت سليمى اشتر لنا سويقا

وقال الآخر: رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بدا هنك من المئزر

فمن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب قال أبو علي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات وأصل برأ من تبري الشيء من الشيء وهو انفصاله منه فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ومنه برئت من المرض برءا ( بالفتح ) كذا يقول أهل الحجاز وغيرهم يقول: برئت من المرض برءا ( بالضم ) وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة وقد بارأ شريكه وامرأته

 

قوله تعالى: « فتاب عليكم » في الكلام حذف تقديره ففعلتم « فتاب عليكم » أي فتجاوز عنكم أي على الباقين منكم.

 

قوله تعالى: « إنه هو التواب الرحيم » تقدم معناه والحمد لله.

 

الآية 55 ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون )

 

قوله تعالى: « وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله » « وإذ قلتم » معطوف « يا موسى » نداء مفرد « لن نؤمن لك » أي نصدقك « حتى نرى الله جهرة » قيل: هم السبعون الذين اختارهم موسى وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك: « لن نؤمن لك » [ البقرة: 55 ] والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم فأرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى: « ثم بعثناكم من بعد موتكم » [ البقرة: 56 ] وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى قال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقة بقولهم لموسى « أرنا الله جهرة » [ النساء: 153 ] وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام

وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالا وقد سألها موسى عليه السلام. وسيأتي الكلام في الرؤية في « الأنعام » و « الأعراف » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « جهرة » مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس « جهرة » بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهرة وزهرة وفي الجهر وجهان:

أحدهما - أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وإذ قلتم جهرة يا موسى.

الثاني - أنه صفة لما سألوه من روية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام.

 

قوله تعالى: « فأخذتكم الصاعقة » قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة وقرأ عمر وعثمان وعلي « الصعقة » وهي قراءة ابن محيصين في جميع القرآن.

 

قوله تعالى: « وأنتم تنظرون » جملة في موضع الحال ويقال: كيف يموتون وهم ينظرون؟ فالجواب أن العرب تقول دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل: المعنى « تنظرون » أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة.

 

الآية 56 ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون )

 

أي أحييناكم. قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس: وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى « لعلكم تشكرون » ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل: ماتوا موت همود يعتبر به الغير، ثم أرسلوا وأصل البعث الإرسال. وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محله، يقال: بعثت الناقة: أثرتها، أي حركتها، قال امرؤ القيس:

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين ونشوان

وقال عنترة:

وصحابة شم الأنوف بعثتهم ليلا وقد مال الكرى بطلاها

وقال بعضهم: « بعثناكم من بعد موتكم » [ البقرة: 56 ] علمناكم من بعد جهلكم.

قلت: والأول أصح، لأن الأصل الحقيقة، وكان موت عقوبة، ومنه قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم » على ما يأتي [ البقرة: 243 ]

قال الماوردي: واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.

قلت: والأول أصح، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان، وبقاء التكليف ثابت عليهم، ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين والله أعلم.

 

الآية: 57 ( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )

 

قوله تعالى: « وظللنا عليكم الغمام » أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم المساء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قول عليه السلام: ( إنه ليغان على قلبي ) قال صاحب العين: غين عليه غطى عليه والغين شجر ملتف وقال السدي: الغمام السحاب الأبيض وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيؤوا بالقمر ليلا وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى: « فاذهب أنت وربك فقاتلا » [ المائدة: 24 ] فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام فأنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا من لنا من حر الشمس فظلل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي: عمود من نار قالوا: من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر قالوا: من لنا باللباس فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وأنزلنا عليكم المن والسلوى » اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل: الترنجبين - بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال: الطرنجبين بالطاء - وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل: صمغة حلوة وقيل عسل: وقيل شراب حلو. وقيل: خبز الرقاق عن وهب بن منبه وقيل: « المن » مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ( الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين ) في رواية ( من المن الذي أنزل الله على موسى ) . رواه مسلم قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في الآية قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس مَن بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء.

 

لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب: أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة وأما لغير ذلك فمركبة مع غيرها وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين. وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة « النحل » إن شاء الله تعالى وقال أهل اللغة: الكمء واحد وكمآن اثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا كمأة - بالتاء - على عكس شجرة وشجر والمن اسم جنس لا واحد له لفظه مثل الخير والشر قاله الأخفش.

 

قوله تعالى: « والسلوى » اختلف في السلوى فقيل: هو السماني بعينه قاله الضحاك قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال:

وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ظن السلوى العسل.

قلت: ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمي به لأنه يسلى به ومنه عين السلوان، وأنشد:

لو أشرب السلوان ما سليت ما بي غنى عنك وإن غنيت

وقال الجوهري: والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي:

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ولم يذكر غلطا والسلوانة ( بالضم ) : خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال:

شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش ياميّ ما أسلو

واسم ذلك الماء السلوان وقال بعضهم السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المفرح يقال: سليت وسلوت لغتان. وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد.

 

واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش: جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته كما قالوا: دفلى للواحد والجماعة وسمانى وشكاعى في الواحد والجميع. وقال الخليل: واحده سلواة وأنشد:

وإني لتعروني لذكرك هزة كما أنتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى

 

« السلوى » عطف على « المن » ولم يظهر فيه الإعراب لأنه مقصور ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته وقال الفراء: لو حركت الألف صارت همزة.

 

قوله تعالى: « كلوا من طيبات ما رزقناكم » « كلوا » فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.

 

قوله تعالى: « وما ظلمونا » يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر « ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » لمقابلتهم النعم بالمعاصي.

 

الآية: 58 ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين )

 

قوله تعالى: « وإذ قلنا ادخلوا » حذفت الألف من « قلنا » لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل..

 

قوله تعالى: « هذه القرية » أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى ( بكسر القاف ) مقصور وكذلك ما قري به الضيف قال الجوهري: والمقراة للحوض والقري لمسيل الماء والقرا للظهر ومنه قوله:

لاحق بطن بقرا سمين

والمقاري: الجفان الكبار. قال:

عظام المقاري ضيفهم لا يفزع

وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز والقرية ( بكسر القاف ) لغة اليمن واختلف في تعيينها فقال الجمهور: هي بيت المقدس وقيل: أريحاء من بيت المقدس قال عمر بن شبة كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كيسان الشام: الضحاك: الرملة والأردن وفلسطين وتدمر. وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.

 

قوله تعالى: « فكلوا منها حيث شئتم » إباحة.

 

قوله تعالى: « رغدا » كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال « رغدا »

 

قوله تعالى: « وادخلوا الباب سجدا » الباب يجمع أبوابا وقد قالوا: أبوبة للازدواج قال الشاعر:

هتاك أخيية ولاج أبوبة يخلط بالبر منه الجد واللينا

ولو أفرده لم يجز. ومثله قول عليه السلام: ( مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا ندامى ) وتبوبت بوابا اتخذته. وأبواب مبوبة كما قالوا: أصناف مصنفة. وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك. وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته والحمد لله.

والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ « باب حطه » عن مجاهد وغيره وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و « سجدا » قال ابن عباس: منحنين ركوعا وقيل: متواضعين خشوعا لا على هية متعينة.

 

قوله تعالى: « وقولوا » عطف على أدخلوا.

 

قوله تعالى: « حطة » بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الأخفش: وقرئت « حطة » بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. قال النحاس: الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة - تفسير للنصب، أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال: قل خيرا والأئمة من القراء على الرفع. وهو أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى: يقال بدلته، أي غيرته ولم أزل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال:

عزل الأمير للأمير المبدل

وقال الله عز وجل: « قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله » [ يونس: 15 ] وحديث ابن مسعود قالوا « حطة » تفسير على الرفع هذا كله قول النحاس وقال الحسن وعكرمة: « حطه » بمعنى حط ذنوبنا، أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم. وقال ابن جبير: معناه الاستغفار أبان بن تغلب: التوبة قال الشاعر:

فاز بالحطة التي جعل اللـ ـه بها ذنب عبده مغفورا

وقال ابن فارس في المجمل: « حطة » كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم وقاله الجوهري أيضا في الصحاح.

قلت: يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث روى مسلم عن أبي هريرة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة ) وأخرجه البخاري وقال: ( فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة ) في غير الصحيحين: « حنطة في شعر » وقيل: قالوا هطا سمهاثا وهي لفظة عبرانية تفسيرها: حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزؤوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب وقال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا. وروي أن الباب جعل فصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم والله أعلم.

استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة وقال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التاء والياء ونحو هذا وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه. وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم. وروى نحوه عن عبدالله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ.

وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه. والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها. وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى. وقال قتادة عن زرارة بن أوفى: لقيت عده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك. وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى. وقال وكيع رحمه الله: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب.

فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها ) وذكر الحديث. وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه: ( آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ) فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ونبيك الذي أرسلت ) قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: ( فأداها كما سمعها ) قيل لهم: أما قوله ( فأداها كما سمعها ) فالمراد حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتد به. ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: ( فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل على الجواز وأما رده عليه السلام الرجل من قوله: ( ورسولك - إلى قوله - ونبيك ) لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي صلى الله عليه وسلم يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال: ( ونبيك ) جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله: ( الذي أرسلت ) وأيضا فإن نقله من قوله: ( ورسولك - إلى قوله - ونبيك ) ليجمع بين النبوة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك: رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبدالله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أوفي وقعة كذا والله ولي التوفيق.

فإن قيل: إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز. قال ابن العربي: الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق والله أعلم.

قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم، لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله اعلم.

 

قوله تعالى: « نغفر لكم خطاياكم » قراءة نافع بالياء مع ضمها وابن عامر بالتاء مع ضمها وهي قراءة مجاهد وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لأن قبلها « وإذ قلنا ادخلوا » فجرى « نغفر » على الأخبار عن الله تعالى، والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده « وسنزيد » بالنون. و « خطاياكم » اتباعا للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أثبت لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » [ البقرة: 37 ] وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله « وإذ قلنا » لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة.

واختلف في أصل خطايا جمع خطية بالهمزة فقال الخليل: الأصل في خطايا أن يقول: خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول: خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة، فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطائى ثم عملت كما عملت في الأول. وقال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همزة كما تقول: هدية وهدايا. قال الفراء: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءا وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت: دواب.

 

قوله تعالى: « وسنزيد المحسنين » أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال: يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم. وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. وفي حديث جبريل عليه السلام: ( ما الإحسان قال أن تعبدالله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت... ) وذكر الحديث. خرجه مسلم.

 

الآية: 59 ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )

 

قوله تعالى: « فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم » « الذين » في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة، على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل.

« فبدل » تقدم معنى بدل وأبدل وقرئ « عسى ربنا أن يبدلنا » على الوجهين قال الجوهري: وأبدلت الشيء بغيره. وبدله الله من الخوف أمنا. وتبديل الشيء أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل. واستبدل الشيء بغيره، وتبدل به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والأبدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دريد الواحد بديل والبديل البدل. وبدل الشيء: غيره يقال: بدل وبدل لغتان مصل: شبَه وشِبْه ومثَلَ ومِثْل ونكَلَ ونِكْل قال أبو عبيد: لم يسمع في فعَلَ وفِعْل غير هذه الأربعة اليدين والرجلين. وقد بدل ( بالكسر ) يبدل بدلا.

 

قوله تعالى: « فأنزلنا على الذين ظلموا » كرر لفظ « ظلموا » ولم يضمره تعظيما للأمر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله: « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم » [ البقرة: 79 ] ثم قال بعد: « فويل لهم مما كتبت أيديهم » ولم يقل: مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء:

تعرقني الدهر نهسا وحزا وأوجعني الدهر قرعا وغمزا

أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغيرياتها والضرب الثاني: مجي تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة:1 - 2 ] و « القارعة ما القارعة » [ القارعة: 1 - 2 ] كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم: الحاقة ما هي، والقارعة ما هي، ومثله: « فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة. » كرر « أصحاب الميمنة » تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ « أصحاب المشأمة » لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر:

ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج

وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الأول ومنه قول الآخر:

ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد

فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها

 

قوله تعالى: « رجزا من السماء » قراءة الجماعة « رجزا » بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء والرجز: العذاب ( بالزاي ) و ( بالسين ) النتن والقذر ومنه قوله تعالى « فزادتهم رجسا إلى رجسهم » [ التوبة: 125 ] أي نتنا إلى نتنهم قاله الكسائي وقال الفراء الرجز هو الرجس. قال أبو عبيد: كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى. قال الفراء: وذكر بعضهم أن الرجز ( بالضم ) اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قوله تعالى: « والرجز فاهجر » والرجز ( بفتح الراء والجيم ) نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها.

 

قوله تعالى: « بما كانوا يفسقون » أي بفسقهم والفسق الخروج وقد تقدم. وقرأ ابن وثاب والنخعي « يفسقون » بكسر السين..

 

الآية 60 ( وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين )

 

قوله تعالى: « وإذ استسقى موسى لقومه » كسرت الذال لالتقاء الساكنين والسين سين السؤال مثل استعلم واستخبر واستنصر ونحو ذلك أي طلب وسأل السقيَ لقومه. والعرب تقول: سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال::

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

وقيل: سقيته من سقي الشفة وأسقيته دللته على الماء.

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى لكن قد قال صلى في حديث ابن عمر: ( ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ) الحديث. وسيأتي بكماله إن شاء الله.

سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى - على الصفة التي ذكرنا - والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج وإنما هو دعاء لا غير. واحتج بحديث أنس الصحيح أخرجه البخاري ومسلم. ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفي به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنة ولما قصد البيان بين بفعله حسب ما رواه عبدالله بن يزيد المازني قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين رواه مسلم. وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة « هود » إن شاء الله.

 

قوله تعالى: « فقلنا اضرب بعصاك الحجر » العصا: معروف وهو اسم مقصور مؤنث وألفه منقلبة عن واو، قال:

على عصويها سابري مشبرق

والجمع عُصِيّ وعِصِيّ وهو فعول وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعص أيضا مثله مثل زمن وأزمن وفي المثل: « العصا من العصية » أي بعض الأمر من بعض وقولهم « ألقى عصاه » أي أقام وترك الأسفار وهو مَثَل. قال:

فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر

وفي التنزيل: « وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها » [ طه:17 - 18 ] وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى. قال الفراء: أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق، ومنه يقال في الخوارج: قد شقوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم. وانشقت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر:

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند

أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك براد به الأدب والله أعلم. والحجر معروف وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار، وفي الكثير حجار وحجارة، والحجارة نادر. وهو كقولنا: جمل وجمالة، وذكر وذكارة، كذا قال ابن فارس والجوهري.

قلت: وفي القرآن « فهي كالحجارة » [ البقرة: 74 ] « وإن من الحجارة » [ البقرة: 74 ] « قل كونوا حجارة » [ الإسراء: 50 ] « ترميهم بحجارة » [ الفيل: 4 ] « وأمطرنا عليهم حجارة » [ الحجر: 74 ] فكيف يكون نادرا، إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فانفجرت منه » في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن بربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. والانفجار: الانشقاق ومنه انشق الفجر. وانفجر الماء انفجارا: انفتح. والفجرة: موضع تفجر الماء. والانبجاس أضيق من الانفجار، لأنه يكون انبجاسا ثم يصير انفجارا. وقيل: انبجس وتبجس وتفجر وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره.

 

قوله تعالى: « اثنتا عشرة عينا » « اثنتا » في موضع رفع بـ « انفجرت » وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبدا لصحة معناها. « عينا » نصب على البيان. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى « عشرة » بكسر الشين وهي لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر، لأن سبيلهم التخفيف. ولغة أهل الحجاز « عشْرة » وسبيلهم التثقيل. قال جميعه النحاس. والعين من الأسماء المشتركة يقال: عن الماء وعين الإنسان وعين الركبة وعين الشمس. والعَيْن: سحابة تقبل من ناحية القبلة والعين: مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع. وبلد قليل العَيْن: أي قليل الناس. وما بها عين، محركة الياء والعين: الثقب في المزادة والعَين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان. وقيل: لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبهت به عين الماء لأنها أشرف ما في الأرض.

لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قيل مربعا طوريا ( من الطور ) على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحله في منزلته من المرحلة الأولى وهذا أعظم في الآية والإعجاز. وقيل: إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الإعجاز. وقيل: إن الله تعالى أمره أن يضرب حجرا بعينه بينه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ التعريف. قال سعيد بن جبير: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون.

قلت: ما أوتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم. روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات عن عبدالله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتور؟؟ فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول: ( حي على الطهور ) قال الأعمش: فحدثني سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي.

 

قوله تعالى: « قد علم كل أناس مشربهم » يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها. والمشرب: موضع الشرب وقيل: المشروب. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها. قال عطاء: كان للحجر أربعة أوجه يخرج من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم. وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم. قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولا ثم يسيل.

 

قوله تعالى: « كلوا واشربوا من رزق الله » في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل..

 

قوله تعالى: « ولا تعثوا في الأرض » أي لا تفسدوا والعيث: شدة الفساد، نهاهم عن ذلك. يقال: عث يعث عثيا وعثا يعثو عثوا، وعاث يعيث عيثا وعيوثا ومعاثا والأول لغة القرآن. ويقال: عث يعث في المضاعف أفسد ومنه العثة، وهي السوسة التي تلحس الصوف.

 

قوله تعالى: « مفسدين » حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ. وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها والتقدم في المعاصي والنهي عنها..

 

الآية: 61 ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )

 

قوله تعالى: « وإذ قلتم يا موسى لن نصبر » كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: لن نصبر على طعام واحد وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا طعام واحد وقيل لتكرارهما: في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة: هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل: المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم.

 

قوله تعالى: « على طعام واحد » الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى « ومن لم يطعمه فإنه مني » وقال: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » [ المائدة: 93 ] أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه. وإن كان السلوى العسل - كما حكى المؤرج - فهو مشروب أيضا. وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير الحديث. والعرف جار بأن القائل: ذهبت إلى سوق الطعام فليس يفهم منه إلا موضع به دون غيره مما يؤكل أو يشرب والطعم ( بالفتح ) : هو ما يؤديه الذوق يقال: طعمه مر. والطعم أيضا: ما يشتهى منه يقال: ليس له طعم. وما فلان بذي طعم: إذا كان غثا. والطعم ( بالضم ) : الطعام قال أبو خراش:

أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم

وأغتبق الماء القراح فأنتهي إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى. منه وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى « ومن لم يطعمه فإنه مني » [ البقرة: 249 ] أي من لم يذقه. وقال: « فإذا طعمتم فانتشروا » [ الأحزاب: 53 ] أي أكلتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم: ( إنها طعام طعم وشفاء سقم ) واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه. وفي الحديث: ( إذا استطعمكم الإمام فأطعموه ) يقول: إذا استفتح فافتحوا عليه وفلان ما يطعم النوم إلا قائما. وقال الشاعر:

نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما

 

قوله تعالى: « فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض » لغة بني عامر « فادع » بكسر العين لالتقاء الساكنين، يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف. و « يخرج » مجزوم على معنى سلْه وقل له: أخرج، يخرج. وقيل: هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج. و « من » في قول « مما » زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه لأن الكلام موجب. قال النحاس: وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا لـ « يخرج » فأراد أن يجعل « ما » مفعولا. والأوْلى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام، التقدير: يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا. فـ « من » الأولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص.

 

قوله تعالى: « من بقلها » بدل من « ما » بإعادة الحرف، والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق. والشجر: ما له ساق. و « وقثائها » عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف لغتان والكسر. أكثر وقيل في جمع قثاء: قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول: اقثأئت القوم أي أطعمتهم ذلك. وقثأت القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي:

تفور علينا قدرهم فنديمها ونفثؤها عنا إذا حميها غلا

وقثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه. وعدا حتى أفثأ أي أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم: إن الرثيئة تفثأ في الغضب. وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جامعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم. الرثيئة: اللبن المحلوب على الحامض ليخثر. رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر.

وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيح.

 

قوله تعالى: « وفومها » اختلف في الفوم فقيل هو الثوم لأنه المشاكل للبصل. رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا: مغافير ومغاثير. وجدث وجدف للقبر. وقرأ ابن مسعود « ثومها » بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس. وقال أمية بن أبي الصلت:

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل

الفراديس: واحدها فرديس. وكرم مفردس أي معرش. وقال حسان:

وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل

يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل. وقيل: الفوم الحنطة. روي عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال: وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب. وأنشد عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح:

قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم

وقل أبو إسحاق الزجاج: وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء!. وقال الجوهري أبو نصر: الفوم الحنطة. وأنشد الأخفش:

قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوم

وقال ابن دريد: الفومة السنبلة وأنشد:

وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتان

والهاء في « كفه » غير مشبعة. وقال بعضهم: الفوم الحمص لغة شامية. وبائعه فامي مغير عن فومي لأنهم قد يغيرون في النسب، كما قالوا: سهلي ودهري. ويقال: فوموا لنا أي اختبزوا. قال الفراء: هي لغة قديمة. وقال عطاء وقتادة: الفوم كل حب يختبز.

مسألة: اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول. جمهور العلماء إلى إباحة ذلك، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر - القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا - إلى المنع، وقالوا: كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به. واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة، والله عز قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث. ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا، قال: فأخبر بما فيها من البقول، فقال: ( قربوها ) - إلى بعض أصحابه كان معه - فلما رآه كره أكلها، قال: ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) . أخرجه مسلم وأبو داود. فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لم يأكل. ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ولكني أكرهه ) . قال: فإني أكره ما تكره أو ما كرهت، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى ( يعني يأتيه الوحي ) . فهذا نص على عدم التحريم. وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها: ( أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها ) الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك. لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال: ( من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه مسلم.

 

قوله تعالى: « وعدسها وبصلها » العدس معروف. والعدسة: بثرة تخرج بالإنسان، وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال:

عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

والعدس: شدة الوطء، والكدح أيضا، يقال: عدسة. وعدس في الأرض: ذهب فيها. وعدست إليه المنية أي سارت، قال الكميت:

أكلفها هول الظلام ولم أزل أخا الليل معدوسا إلي وعادسا

أي يسار إلي بالليل. وعدس: لغة في حدس، قاله الجوهري. ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال: ( عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم ) ، ذكره الثعلبي وغيره. وكان عمر بن عبدالعزيز يأكل يوما خبزا بزيت، ويوما بلحم، ويوما بعدس. قال الحليمي: والعدس والزيت طعام الصالحين، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية. وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم. والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل.

 

قوله تعالى: « قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير » الاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم. و « أدنى » مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة، من قولهم: ثوب مقارب، أي قليل الثمن. وقال علي بن سليمان: هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس، إلا أنه خفف همزته. وقيل: هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون، أفعل، قلب فجاء أفلع، وحولت الواو ألفا لتطرفها. وقرئ في الشواذ « أدنى » . ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير.

واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة:

الأول: أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج.

الثاني: لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه.

الثالث: لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.

الرابع: لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى.

الخامس: لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه.

مسألة: في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب، وسيأتي هذا المعنى في « المائدة » و « النحل » إن شاء الله مستوفى.

 

قوله تعالى: « اهبطوا مصرا » تقدم معنى الهبوط، وهذا أمر معناه التعجيز، كقوله تعالى: « قل كونوا حجارة أو حديدا » [ الإسراء: 50 ] لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم. وقيل: إنهم أعطوا ما طلبوه. و « مصرا » بالتنوين منكرا قراءة الجمهور، وهو خط المصحف، قال مجاهد وغيره: فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: « اهبطوا مصرا » قال: مصرا من هذه الأمصار. وقالت طائفة ممن صرفها أيضا: أراد مصر فرعون بعينها. استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه. واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث، بني إسرائيل ديار آل فرعون وأثارهم، وأجازوا صرفها. قال الأخفش والكسائي: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وأنشد:

لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلب

فجمع بين اللغتين. وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف. وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة: « مصر » بترك الصرف. وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود. وقالوا: هي مصر فرعون. قال أشهب قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، ذكره ابن عطية. والمصر أصله في اللغة الحد. ومصر الدار: حدودها. قال ابن فارس ويقال: إن أهل هجر يكتبون في شروطهم « اشترى فلان الدار بمصورها » أي حدودها، قال عدي:

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

 

قوله تعالى: « فإن لكم ما سألتم » « ما » نصب بإن، وقرأ ابن وثاب والنخعي « سألتم » بكسر السين، يقال: سألت وسلت بغير همز. وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم: يتساولان.

 

قوله تعالى: « وضربت عليهم الذلة والمسكنة » أي ألزموهما وقضي عليهم بهما، مأخوذ من ضرب القباب، قال الفرزدق في جرير:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

وضرب الحاكم على اليد، أي حمل وألزم. والذلة: الذل والصغار. والمسكنة: الفقر. فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته. وقيل: الذلة فرض الجزية، عن الحسن وقتادة. والمسكنة الخضوع، وهي مأخوذة من السكون، أي قلل الفقر حركته، قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: الذلة الصغار. والمسكنة مصدر المسكين. وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس: « وضربت عليهم الذلة والمسكنة » قال: هم أصحاب القبالات.

 

قوله تعالى: « وباؤوا بغضب من الله » أي انقلبوا ورجعوا، أي لزمهم ذلك. ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته: ( أبو ء بنعمتك علي ) أي أقر بها وألزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا، أي رجع به، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع. والبواء: الرجوع بالقود. وهم في هذا الأمر بواء، أي سواء، يرجعون فيه إلى معنى واحد. وقال الشاعر:

ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم

أي لا يرجع الدم بالدم في القود. وقال:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

أي رجعوا ورجعنا. وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة.

 

قوله تعالى: « ذلك » تعليل. « بأنهم كانوا يكفرون » أي يكذبون، « بآيات الله » أي بكتابه ومعجزات أنبيائه، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام. و « ويقتلون النبيين » معطوف على « يكفرون » وروي عن الحسن « يقتلون » وعنه أيضا كالجماعة. وقرأ نافع « النبيئين » بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين: في سورة الأحزاب: « إن وهبت نفسها للنبي إن أراد » [ الأحزاب. 50 ] . و « لا تدخلوا بيوت النبي إلا » [ الأحزاب: 53 ] فإنه قرأ بلا مد ولا همز. وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين. وترك الهمز في جميع ذلك الباقون. فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخر، واسم فاعله منبئ. ويجمع نبيء أنبياء، وقد جاء في جمع نبي نبآء، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

يا خاتم النبآء إنك مرسل بالحق كل هدى السبيل هداكا

هذا معنى قراءة الهمز. واختلف القائلون بترك الهمز، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز، ثم سهل الهمز. ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر. فالنبي من النبوة وهو الارتفاع، فمنزلة النبي رفيعة. والنبي بترك الهمز أيضا الطريق، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق، قال الشاعر:

لأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبي من الكاثب

رتمت الشيء: كسرته، يقال: رتم أنفه ورثمه، بالتاء والثاء جميعا. والرتم أيضا المرتوم أي المكسور. والكاثب اسم جبل. فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض. ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله، وهمز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله ) ولم يهمز. قال أبو علي: ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح:

يا خاتم النبآء...

ولم يؤثر في ذلك إنكار.

 

قوله تعالى: « بغير الحق » تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه « . فإن قيل: هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به. قيل له: ليس كذلك، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن يقتل على الحق، فصرح قوله: « بغير الحق » عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله. »

فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر.

 

قوله تعالى: « ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » « ذلك » رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه. والباء في « بما » باء السبب. قال الأخفش: أي بعصيانهم. والعصيان: خلاف الطاعة. واعتصت النواة إذا اشتدت. والاعتداء: تجاوز الحد في كل شيء، وعرف في الظلم والمعاصي.

 

الآية 62 ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان: المراد المنافقون. كأنه قال: الذين أمنوا في ظاهر أمرهم، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم

 

قوله تعالى: « والذين هادوا » معناه صاروا يهودا، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلبت العرب الذال دالا، لأن الأعجمية إذا عربت غيرت عن لفظها. وقيل: سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد: تاب. والهائد: التائب، قال الشاعر:

إني امرؤ من حبه هائد

أي تائب. وفي التنزيل: « إنا هدنا إليك » [ الأعراف: 156 ] أي تبنا. وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا. وقال ابن عرفة: « هدنا إليك » أي سكنا إلى أمرك. والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قوله تعالى: « إن الذين أمنوا والذين هادوا » . وقرأ أبو السمال: « هادوا » بفتح الدال.

 

قوله تعالى: « والنصارى » جمع واحده نصراني. وقيل: نصران بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه. والأنثى نصرانة، كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرف بالألف واللام، قال الشاعر:

صدت كما صد عما لا يحل له ساقي نصارى قبيل الفصح صوام

فوصفه بالنكرة. وقال الخليل: واحد النصارى نصري، كمهري ومهارى. وأنشد سيبويه شاهدا على قوله:

تراه إذا دار العشا متحنفا ويضحي لديه وهو نصران شامس

وأنشد:

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما أسجدت نصرانة لم تحنف

يقال: أسجد إذا مال. ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب، لأنهم قالوا: رجل نصراني وامرأة نصرانية. ونصره: جعله نصرانيا. وفي الحديث: ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) . وقال عليه السلام: ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها، وقياسه النصرانيون. ثم قيل: سموا بذلك لقرية تسمى « ناصرة » كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى، قاله ابن عباس وقتادة. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى، ويقال ناصرة. وقيل: سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا، قال الشاعر:

لما رأيت نبطا أنصارا شمرت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النصارى جارا

وقيل: سموا بذلك لقول: « من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله » [ آل عمران: 52 ] .

 

قوله تعالى: « والصابئين » جمع صابئ، وقيل: صاب، ولذلك اختلفوا في همزه، وهمزه الجمهور إلا نافعا. فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال. فالصابئ في اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ. فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب.

لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم على ما يأتي بيانه في المائدة وضرب الجزية عليهم، على ما يأتي في، سورة « براءة » إن شاء الله. واختلف في الصابئين، فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر وقال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة: لا بئس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام. وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد ابن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة. والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم.

 

قوله تعالى: « من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم » أي صدق. و « من » في قوله: « من آمن » في موضع نصب بدل من « الذين » . والفاء في قوله « فلهم » داخلة بسبب الإبهام الذي في « من » . و « لهم أجرهم » ابتداء وخبر في موضع خبر إن. ويحسن أن يكون « من » في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط. و « آمن » في موضع جزم بالشرط، والفاء الجواب. و « لهم أجرهم » خبر « من » ، والجملة كلها خبر « إن » ، والعائد على « الذين » محذوف، تقديره من آمن منهم بالله. وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث.

إن قال قائل: لم جمع الضمير في قوله تعالى: « لهم أجرهم » و « آمن » لفظ مفرد ليس بجمع، وإنما كان يستقيم لو قال: له أجره. فالجواب أن « من » يقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا، قال الله تعالى: « ومنهم من يستمعون إليك » [ يونس: 42 ] على المعنى. وقال: « ومنهم من يستمع إليك » على اللفظ. وقال الشاعر:

ألما بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها عوجي على من تخلفوا

وقال الفرزدق:

تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال: يصطحب وتخلف. قال تعالى: « ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات » فحمل على اللفظ. ثم قال: « خالدين » فحمل على المعنى، ولو راعى اللفظ لقال: خالدا فيها. وإذا جرى ما بعد « من » على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية. وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ لأن الإلباس يدخل في الكلام. وقد مضى الكلام في قوله تعالى: « فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون » . والله أعلم.

روي عن ابن عباس أن قوله: « إن الذين آمنوا والذين هادو » [ الحج: 17 ] الآية. منسوخ بقوله تعالى: « يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه » [ آل عمران: 85 ] الآية. وقال غيره: ليست بمنسوخة. وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام.

 

الآية 63 ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون )

 

قوله تعالى: « وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور » هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى: « وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة » [ الأعراف: 171 ] . قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته. وقيل: نتقناه رفعناه. قال ابن الأعرابي: الناتق الرافع، والناتق الباسط، والناتق الفاتق. وامرأة ناتق ومنتاق: كثيرة الولد. وقال القتبي: أخذ ذلك من نتق السقاء، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه. قال وقوله: « وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة » قال: قلع من أصله.

واختلف في الطور، فقيل: الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس. وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. إلا أن مجاهدا قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية، وقال أبو العالية. وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وزعم البكري أنه سمي بطور بن إسماعيل عليه السلام، والله تعالى أعلم.

القول في سبب رفع الطور

وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها. فقالوا: لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة الله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق. وكان سجودهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده، فأمروا سجودهم على شق واحد. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.

 

قوله تعالى: « خذوا » أي فقلنا خذوا، فحذف. « ما آتيناكم » أعطيناكم. « بقوة » أي بجد واجتهاد، قال ابن عباس وقتادة والسدي. وقيل: بنية وإخلاص. مجاهد: القوة العمل بما فيه. وقيل: بقوة، بكثرة درس. « واذكروا ما فيه » أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيعوه.

قلت: هذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها، على ما قاله الشعبي وابن عيينة، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى: « نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب » [ البقرة: 101 ] . وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من شر الناس وجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه ) . فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا. وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا. قال الله تعالى: « واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم » [ الزمر: 55 ] فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه، لكن تركنا ذلك، كما تركت اليهود والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا، لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء. روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: ( هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء ) . فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا. فقال: ( ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم ) وذكر الحديث، وسيأتي. وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد: ( ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ) . وفي الموطأ عن عبدا لله بن مسعود قال لإنسان: « إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدؤون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم » . وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا. وقد قال يحيى: سألت ابن نافع عن قوله. يبدؤون أهواءهم قبل أعمالهم؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم.

 

قوله تعالى: « لعلكم تتقون » وتقدم القول في معناه فلا معنى لإعادته.

 

الآية 64 ( ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين )

 

قوله تعالى: « ثم توليتم » تولى تفعل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم ا ستعمل في الإعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا.

 

قوله تعالى: « من بعد ذلك » أي من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل.

 

قوله تعالى: « فلولا فضل الله عليكم » « فضل » مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره، لأن العرب استغنت عن إظهاره، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاؤوا بأن، فإذا جاؤوا بها لم يحذفوا الخبر. والقدير فلولا فضل الله تدارككم.

 

قوله تعالى: « ورحمته » عطف على « فضل » أي لطفه وإمهاله. « لكنتم » جواب « لولا » « من الخاسرين » خبر كنتم. والخسران: النقصان، وقد تقدم. وقيل: فضله قبول التوبة، و « رحمته » العفو. والفضل: الزيادة على ما وجب. والإفضال: فعل ما لم يجب. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان.

 

الآية 65 ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين )

 

قوله تعالى: « ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم » « علمتم » معناه عرفتم أعيانهم. وقيل: علمتم أحكامهم. والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى. والعلم متوجه إلى أحوال المسمى. فإذا قلت: عرفت زيدا، فالمراد شخصه وإذا قلت: علمت زيدا، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص. فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وهو قول سيبويه: « علمتم » بمعنى عرفتم. وعلى الثاني إلى مفعولين وحكى الأخفش ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه. وفي التنزيل: « لا تعلمونهم الله يعلمهم » [ الأنفال: 60 ] كل هذا بمعنى المعرفة، فاعلم. « الذين اعتدوا منكم في السبت » [ البقرة: 65 ] صلة « الذين » . والاعتداء. التجاوز، وقد تقدم.

روى النسائي عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال له صاحبه: لا تقل نبي لو سمعك فإن له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: ( لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرفوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت ) . فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: ( فما يمنعكم أن تتبعوني ) قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود. وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي لفظه في سورة « سبحان » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « في السبت » معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت. والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال. وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. وسيأتي في « الأعراف » قول من قال: إنهم كانوا ثلاث فرق. وهو أصح من قول من قال: إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين. والله أعلم.

والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع، فقيل: إن الأشياء سبتت وتمت خلقتها. وقيل: هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة.

واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين. قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم. واختاره القاضي أبو بكر بن العربي. وقال الجمهور: الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. قال ابن عباس: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.

قلت: هذا هو الصحيح من القولين. وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: ( فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته ) . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم، وبحديث الضب رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر، قال جابر: أتي، النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال: ( لا أدري لعله من القرون التي مسخت ) فمتأول على ما يأتي. قال ابن العربي: وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث « قد زنت » وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا: نعم كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون.

قلت: هذا كلامه في الأحكام، ولا حجة في شيء منه. وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم. كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، فذكر في كتاب أيام الجاهلية. وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري. والذي قال البخاري في التاريخ الكبير: قال نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن أبي بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية فردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم. وليس فيه « قد زنت » . فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية. وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبدالله « معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك، لأن رواته مجهولون. وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودي مختصرا قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها - يعني القردة - فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا. وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبدالملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما » . وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: ( ولا أراها إلا الفأر ) وفي الضب: ( لا أدري لعله من القرون التي مسخت ) وما كان مثله، فإنما كان ظنا وخوفا لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ، وكان هذا حدسا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال: ( إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك ) . وهذا نص صريح صحيح رواه عبدالله بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القدر. وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر، فدل على صحة ما ذكرنا. وبالله توفيقنا. وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين » « قردة » خبر كان. « خاسئين » نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أوحالا من الضمير في « كونوا » . ومعناه مبعدين. يقال: خسأته فخسأ وخسئ، وانخسأ أي أبعدته فبعد. وقوله تعالى: « ينقلب إليك البصر خاسئا » [ الملك: 4 ] أي مبعدا. وقوله: « اخسؤوا فيها » [ المؤمنون: 108 ] أي تباعدوا. تباعد سخط. قال الكسائي: خسأ الرجل خسوءا، وخسأته خسأ. ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القميء. يقال: قمؤ الرجل قماء وقماءة صار قميئا، وهو الصاغر الذليل. وأقمأته: صغرته وذللته، فهو قميء على فعيل.

 

الآية 66 ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين )

 

قوله تعالى: « فجعلناها نكالا » نصب على المفعول الثاني. وفي المجعول نكالا أقاويل، قيل: العقوبة. وقيل: القرية، إذ معنى الكلام يقتضيها وقيل: الأمة التي مسخت. وقيل: الحيتان، وفيه بعد. والنكال: الزجر والعقاب. والنكل والأنكال: القيود. وسميت القيود أنكالا لأنها ينكل بها، أي يمنع. ويقال للجام الثقيل: نَكل ونِكل، لأن الدابة تمنع به ونكل عن الأمر ينكل، ونكل ينكل إذا امتنع. والتنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي تجبنهم. وقال الأزهري: النكال العقوبة. ابن دريد: والمنكل: الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال:

فارم على أقفائهم بمنكل

 

قوله تعالى: « لما بين يديها » قال ابن عباس والسدي: لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم.

 

قوله تعالى: « وما خلفها » لمن يعمل مثل تلك الذنوب. قال الفراء: جعلت المسخة نكالا لما مضى من الذنوب، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم. قال ابن عطية: وهذا قول جيد، والضميران للعقوبة. وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس: لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم. واختاره النحاس، قال: وهو أشبه بالمعنى، والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا. « لما بين يديها وما خلفها » من القرى. وقال قتادة: « لما بين يديها » من ذنوبهم « وما خلفها » من صيد الحيتان.

 

قوله تعالى: « وموعظة للمتقين » عطف على نكال، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار. والوعظ: التخويف. والعظة الاسم. قال الخليل: الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الماوردي: وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين قال ابن عطية: واللفظ يعم كل متق من كل أمة وقال الزجاج « وموعظة للمتقين » لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله جل وعز ما نهاهم عنه: فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم.

 

الآية 67 ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )

 

قوله تعالى: « إن الله يأمركم » حكي عن أبي عمرو أنه قرأ « يأمركم » بالسكون، وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد: لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب، وإنما الصحيح عن أبي عمرو انه كان يختلس الحركة. « أن تذبحوا » في موضع نصب بـ « يأمركم » أي بأن تذبحوا. « بقره » نصب « تذبحوا » . وقد تقدم معنى الذبح فلا معنى لإعادته.

قوله تعالى: « أن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » مقدم في التلاوة وقوله « قتلتم نفسا » مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله: « قتلتم » في النزول مقدما، والأمر بالذبح مؤخرا. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون « وإذ قتلتم » مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا، لأن الواو لا توجب الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين » إلى قوله « إلا قليل » [ هود: 40 ] . فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله: « وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها » [ هود: 41 ] . فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى: « الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما » [ هود: 19 ] . وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير.

 

لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخير في البقر. وقيل: الذبح أولى، لأنه الذي ذكره الله، ولقرب المنحر من المذبح. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح مما ينحر. وكره مالك ذلك. وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه. وسيأتي في سورة « المائدة » أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى: « إلا ما ذكيتم » [ المائدة: 3 ] مستوفى إن شاء الله تعالى. قال الماوردي: وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

 

قوله تعالى: « بقرة » البقرة اسم للأنثى، والثور اسم للذكر مثل ناقه وجمل وامرأة ورجل. وقيل: البقرة واحد البقر، الأنثى والذكر سواء. واصله من قولك: بقر بطنه، أي شقه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين، لأنه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه. والبقيرة: ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين. وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد ( فبقر الأرض ) . قال شمر: بقر نظر موضع الماء، فرأى الماء تحت الأرض. قال الأزهري: البقر اسم للجنس وجمعه باقر. ابن عرفة: يقال بقير وباقر وبيقور. وقرأ عكرمة وابن يعمر « إن الباقر » . والثور: واحد الثيران. والثور: السيد من الرجال. والثور القطعة من الأقط. والثور: الطحلب. وثور: الجبل. وثور: قبيلة من العرب. وفي الحديث: ( ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق ) يعني انتشاره، يقال: ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق وفي الحديث: ( من أراد العلم فليثور القرآن ) . قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.

 

قوله تعالى: « قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين » هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال، لهم: « إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » [ البقرة: 67 ] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل: اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول الله بين أظهرنا، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزؤا؟ والهزء: اللعب والسخرية، وقد تقدم. وقرأ الجحدري « أيتخذنا » بالياء، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: « أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين » [ البقرة: 67 ] لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزؤا، لمن يخبرهم عن الله تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، وقال: إن الله يأمرك بكذا: أتتخذنا هزؤا؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر: اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين.

« هزوا » مفعول ثان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجعلها حفص واوا مفتوحة، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل، كقوله: « السفهاء ولكن » . ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد، فتقول: هزؤا، كما قرأ أهل الكوفة، وكذلك « ولم يكن له كفؤا أحد » . وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل، نحو العسر واليسر والهزء.

ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب، ورسل ورسل، وعون وعون. وأما قوله تعالى: « وجعلوا له من عباده جزءا » [ الزخرف: 15 ] فليس مثل هزء وكفء، لأنه على فعل، من الأصل. على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

مسألة: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد. وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده. قال ابن خويز منداد: وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيدالله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيدالله فقال: جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي فقال له عبيدالله: وابن وجدت المزاج جهلا فتلا عليه هذه الآية، فأعرض عنه عبيدالله، لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء، وليس أحدهما من الآخر بسبيل.

 

الآية 68 ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون )

 

قوله تعالى: « قالوا ادع لنا ربك » هذا تعنيت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ونحو ذلك روى الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولغة بنى عامر « ادع » .

 

قوله تعالى: « يبين لنا » مجزوم على جواب الأمر، « ما هي » ابتداء وخبر وماهية الشيء: حقيقته وذاته التي هو عليها.

 

قوله تعالى: « قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره، كما لو قال: في ثلاثين من الإبل بنت مخاض، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة. وكذلك ههنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم. والفارض: المسنة. وقد فرضت تفرض فروضا، أي أسنت. ويقال للشيء القديم فارض، قال الراجز:

شيب أصداغي فرأسي أبيض محامل فيها رجال فرض

يعني هرمي، قال آخر:

لعمرك قد أعطيت جارك فارضا تساق إليه ما تقوم على رجل

أي قديما، وقال آخر:

يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض

أي قديم. و « لا فارض » رفع على الصفة لبقرة. « ولا بكر » عطف. وقيل: « لا فارض » خبر مبتدأ مضمر، أي لا هي فارض وكذا « لا ذلول » ، وكذلك « لا تسق الحرث » وكذلك « مسلمة » فاعلمه. وقيل: الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، قال بعض المتأخرين. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل. وحكى القتبي أنها التي ولدت. والبكر: الأول من الأولاد، قال:

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد

والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم: ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء. وبفتحها الفتي من الإبل. والعوان: النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه، بخلاف الخيل، قال الشاعر يصف فرسا:

كميت بهيم اللون ليس بفارض ولا بعوان ذات لون مخصف

فرس أخصف: إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه. وقال مجاهد: العوان من البقرة هي التي قد ولدت مرة بعد مرة. وحكاه أهل اللغة. ويقال: إن العوان النخلة الطويلة، وهي فيما زعموا لغة يمانية. وحرب عوان: إذا كان قبلها حرب بكر، قال زهير:

إذا لقحت حرب عوان مضرة ضروس تهر الناس أنيابها عصل

أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة، أي هي عوان، وجمعها « عون » بضم العين وسكون الواو وسمع « عون » بضم الواو كرسل. وقد تقدم. وحكى الفراء من العوان عونت تعوينا.

 

قوله تعالى: « فافعلوا ما تؤمرون » تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقول الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الأمر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال: « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ البقرة: 71 ] . وقيل: لا، بل على التراخي، لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال ابن خويز منداد.

 

الآية 69 ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين )

 

قوله تعالى: « قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها » « ما » استفهام مبتدأة و « لونها » الخبر. ويجوز نصب « لونها » بـ « يبين » ، وتكون « ما » زائدة. واللون واحد الألوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة. واللون: النوع. وفلان متلون: إذا كان لا يثبت على خلاق واحد وحال واحد، قال:

كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

ولون البسر تلوينا: إذا بدا فيه أثر النضج. واللون: الدقل، وهو ضرب من النخل. قال الأخفش هو جماعة، واحدها لينة.

 

قوله تعالى: « قال إنه يقول إنها بقرة صفراء » جمهور المفسرين أنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة. قال مكي عن بعضهم: حتى القرن والظلف. وقال الحسن وابن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط. وعن الحسن أيضا: « صفراء » معناه سوداء، قال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب

قلت: والأول أصح لأنه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، قال الله تعالى « كأنه جمالة صفر » [ المرسلات: 33 ] وذلك أن السود من الإبل سوادها صفرة. ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة، وليس يوصف السواد بذلك تقول العرب: أسود حالك وحَلَكوك وحُلْكوك، ودجوجي وغربيب، وأحمر قانئ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب. قال الكسائي: يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته. والإفقاع: سوء الحال. وفواقع الدهر بوائقه. وفقع بأصابعه إذا صوت، ومنه حديث ابن عباس: نهى عن التفقيع في الصلاة، وهي الفرقعة، وهي غمز الأصابع حتى تنقض. ولم ينصرف « صفراء » في معرفة ولا نكرة، لأن فيها ألف التأنيث وهى ملازمة فخالفت الهاء، لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة، كفاطمة وعائشة.

 

قوله تعالى: « فاقع لونها » يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها.

 

قوله تعالى: « تسر الناظرين » قال وهب: كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، ولهذا قال ابن عباس: الصفرة تسر النفس. وحض على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش. وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه: من لبس نعلي جلد أصفر قل همه، لأن الله تعالى يقول: « صفراء فاقع لونها تسر الناظرين » حكاه عنه الثعلبي. ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم. ومعنى « تسر » تعجب. وقال أبو العالية: معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين، والله أعلم.

 

الآية 70 ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون )

 

قوله تعالى: « قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا » سألوا سؤالا رابعا، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان. وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: « إن البقر تشابه علينا » فذكره للفظ تذكير البقر. قال قطرب: جمع البقرة باقر وباقور وبقر. وقال الأصمعي: الباقر جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على باقورة، حكاه النحاس. وقال الزجاج: المعنى إن جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس، والأعرج فيما ذكر الثعلبي « إن البقر تشابه » بالتاء وشد الشين، جعله فعلا مستقبلا وأنثه. والأصل تتشابه، ثم أدغم التاء في الشين. وقرأ مجاهد « تشبه » كقراءتهما، إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبي « تشابهت » بتشديد الشين. قال أبو حاتم: وهو غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يعمر « إن الباقر يشابه » جعله فعلا مستقبلا، وذكر البقر وأدغم. ويجوز « إن البقر تشابه » بتخفيف الشين وضم الهاء، وحكاها الثعلبي عن الحسن. النحاس: ولا يجوز « يشابه » بتخفيف الشين والياء، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين. والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى، والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في « تشابه » . وقيل إنما قالوا: « إن البقر تشابه علينا » لأن وجوه البقر تشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ( فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر ) . يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه، ولذلك قالت بنو إسرائيل: إن البقر تشابه علينا.

 

قوله تعالى: « وإنا إن شاء الله لمهتدون » استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا ) . وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و « شاء » في موضع جزم بالشرط، وجوابه عند سيبويه الجملة « إن » وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد محذوف.

 

الآية 71 ( قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون )

 

قوله تعالى: « قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول » قرأ الجمهور « لا ذلول » بالرفع على، الصفة لبقرة. قال الأخفش: « لا ذلول » نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « لا ذلول » بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول، لا هي تسقى الحرث، هي مسلمة. ومعنى « لا ذلول » لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذللة بينة الذل ( بكسر الذال ) . ورجل ذليل بين الذل ( بضم الذال ) . أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل.

 

قوله تعالى: « تثير الأرض ولا تسقي الحرث » « تثير » في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن: وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف ههنا حسن. وقال قوم: « تثير » فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي. والوقف على هذا التأويل « لا ذلول » والقول الأول أصح لوجهين: أحدهما: ما ذكره النحاس، عن علي بن سليمان أنه قال: لا يجوز أن يكون « تثير » مستأنفا، لأن بعده « ولا تسقي الحرث » ، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و « لا » . الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله: « لا ذلول » قلت: ويحتمل أن تكون « تثير الأرض » في غير العمل مرحا ونشاطا، كما قال امرؤ القيس:

يهيل ويذري تربه ويثيره إثارة نباث الهواجر مخمس

فعلى هذا يكون « تثير » مستأنفا، « ولا تسقي » معطوف عليه، فتأمله. وإثارة الأرض: تحريكها وبحثها، ومنه الحديث: ( أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين ) وفي رواية أخرى: ( من أراد العلم فليثور القرآن ) وقد تقدم. وفي التنزيل: « وأثاروا الأرض » [ الروم: 9 ] أي قلبوها للزراعة. والحرث: ما حرث وزرع. وسيأتي.

مسألة: في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ) . أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول. وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا: لا يجوز السلم في الحيوان. وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبدالرحمن بن سمرة، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين، إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « مسلمة » أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال: مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها. وقال الحسن: يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.

 

قوله تعالى: « لا شية فيها » أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد، كما قال: « فاقع لونها » . وأصل « شية » وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي، والأصل يوشي، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين. وثور موشى: في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عرفة: الشية اللون. ولا يقال لمن نم: واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء. والوشي: الكثرة. ووشى بنو فلان: كثروا. ويقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه كل ذلك بمعنى البلقة، هكذا نص أهل اللغة.

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم، نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها: أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي. ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها: إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها، فساموه فاشتط عليهم. وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة. السدي: بوزنها عشر مرات. وقيل: بملء مسكها دنانير. وذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم.

 

قوله تعالى: « قالوا الآن جئت بالحق » أي بينت الحق، قاله قتادة. وحكى الأخفش: « قالوا الآن » قطع ألف الوصل، كما يقال: يا الله. وحكى وجها آخر « قالوا لان » بإثبات الواو. نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو « عادا لولى » وقرأ الكوفيون « قالوا الآن » بالهمز. وقراءة أهل المدينة « قال لان » بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: « الآن » مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد، تقول: أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت. فبنيت كما بني هذا، وفتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل.

 

قوله تعالى: « فذبحوها وما كادوا يفعلون » أجاز سيبويه: كاد أن يفعل، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة. وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القرظي محمد بن كعب: لغلاء ثمنها. وقيل: خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب بن منبه.

 

الآية 72 ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون )

 

هذا الكلام مقدم على أول القصة، التقدير: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله: « الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما » [ الكهف: 1 - 2 ] أي أنزل على عبده قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله كثير، وقد بيناه أول القصة. وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. الثاني: قتله طلبا لميراثه، فإنه كان فقيرا وادعى قتله على بعض الأسباط. قال عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط، فادعى هؤلاء على هؤلاء، وادعى هؤلاء على هؤلاء، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال: « إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » [ البقرة: 67 ] الآية. ومعنى « ادارأتم » [ البقرة: 72 ] الآية. ومعنى « ادارأتم » : اختلفتم وتنازعتم، قال مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجوز الابتداء بالمدغم، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل.

 

قوله تعالى: « والله مخرج » ابتداء وخبر. « ما كنتم » في موضع نصب بـ « مخرج » ، ويجوز حذف التنوين على الإضافة. « تكتمون » جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه.

وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس: قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية: وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمه الله في « موطئه » أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله 0 وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول له آخر: لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية. وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي. ورواه الشعبي عمر وعلي وزيد قالوا: لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا. وروي عن مجاهد القولان جميعا. وقالت طائفة من البصريين: يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا، حكاه أبو عمر. وقول مالك أصح، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى.

 

الآية 73 ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون )

 

قوله تعالى: « فقلنا اضربوه ببعضها » قيل: باللسان لأنه آلة الكلام. وقيل: بعجب الذنب، إذ فيه يركب خلق الإنسان. وقيل: بالفخذ. وقيل: بعظم من عظامها، والمقطوع به عضو من أعضائها، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان.

مسألة: استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، قالوا: وهو الصحيح، لأن قول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم إباحته إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال، فافترقا. قال ابن العربي: المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا: كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم.

مسألة: اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبدالعزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور: الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة: يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا ] استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرؤون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار، وفيه: فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبدالرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: ( أيحلف منكم خمسون رجلا ) . فأبو ا، فقال للأنصار: ( استحقوا ) فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود، لأنه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام: ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) فعينوا.

قالوا: وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث، وقد أخرجه النسائي وقال: ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبدالوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الأصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من أبل الصدقة، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر. فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمي به المقذوف وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) . خرجه الدارقطني. وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية، فتأمله هناك.

مسألة: واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن: ( أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ) . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بني نضر بن مالك. قال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك أبو عمر بن عبدالبر يصحح حديث عمرو بن شعيب، ويحتج به، وقال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة، وإنما توجب الدية. روي هذا عن عمر وابن عباس، وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبدالله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار: ( إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب ) . قالوا: وهذا يدل على الدية لا على القود، قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: ( وتستحقون دم صاحبكم ) دية دم قتيلكم لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم.

مسألة: الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه. واللوث: أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل. وقد اختلف في اللوث والقول به، فقال مالك: هو قول المقتول دمي عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم عنه. وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافا كثيرا، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي. قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبدالحكم. وروي عن عبدالملك بن مروان: أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند فلان ومات كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال: قتلني فلان. وقال الشافعي: اللوث الشاهد العدل، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن، به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد. وقال سفيان: وهذا مما أجمع عليه عندنا، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم، ولا سلف لهم فيه، وهو مخالف للقرآن والسنة، ولأن فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم. وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبدالعزيز هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة.

مسألة: قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وببن اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال ابن أبي زيد: وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال: قتلني فلان، وبأن العداوة لوث قال الشافعي: ولا نرى قول المقتول لوثا، كما تقدم. قال الشافعي: إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه.

مسألة: واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها، فقال أصحاب الرأي: هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شيء.

ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال: القسامة والدية على السكان في الدور. وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم. قال الثوري ونحن نقول: هو على أصحاب الأصل، يعني أهل الدور. وقال أحمد: القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية. وقال الشافعي: وذلك كله سواء، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء. قال ابن المنذر: وهذا أصح.

مسألة: ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، لقول عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة: ( يقسم خمسين منكم على رجل منهم ) . فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود. وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم، وهو قول الشافعي. قال الشافعي: لا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أومن جعل الله له الملك من الورثة، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين. ثم مقصود هذه الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه بريء. وقال مالك في الخطأ: يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه، وقد روى عنه أنه. لا يرى في الخطأ قسامة.

وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق.

مسألة: في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا، وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه مال الشافعي، وقد قال الله: « فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « كذلك يحي الله الموتى » أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب، لأنه نعت لمصدر محذوف. « ويريكم آياته » أي علاماته وقدرته. « لعلكم تعقلون » كي تعقلوا وقد تقدم أي تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل: الحصون.

 

الآية 74 ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون )

 

قوله تعالى: « ثم قست قلوبكم من بعد ذلك » القسوة: الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ) . وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) .

 

قوله تعالى: « فهي كالحجارة أو أشد قسوة » « أو » قيل هي بمعنى الواو كما قال: « آثما أو كفورا » [ الإنسان: 24 ] . « عذرا أو نذرا » وقال الشاعر:

نال الخلافة أو كانت له قدرا

أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل، كقوله تعالى: « وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر:

بدت مثل الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح

أي بل أنت وقيل: معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليا

فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا

ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت قال: كلا، ثم استشهد بقوله تعالى: « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » [ سبأ: 24 ] وقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. قيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: « إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى: هم فرقتان.

« أو أشد » أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله « كالحجارة » ، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أو « أشد » بالفتح عطف على الحجارة. و « قسوة » نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة « قساوة » والمعنى واحد.

 

قوله تعالى: « وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء » قد تقدم معنى الانفجار. ويشقق أصله بتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف « ينشقق » بالنون، وقرأ « لما يتفجر » « لما يتشقق » بتشديد « لما » في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار « ينفجر » بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق، فهو في الأصل مصدر، تقول: بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل: شقاق، إنما الشقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها، عن يعقوب. والشق: الصبح. و « ما » في قوله: « لما يتفجر » في موضع نصب، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. « منه » على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك « وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء » . وقرأ قتادة « وإن » في الموضعين، مخففة من الثقيلة.

 

قوله تعالى: « وإن منها لما يهبط من خشية الله » يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر. من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله: « وإن منها لما يهبط من خشية الله » : البرد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: « يريد أن ينقض » ، وكما قال زيد الخيل:

لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع

وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: « وإن منها » راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.

قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: ( إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن ) . وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله ) . فناداه حراء: إلي يا رسول الله. وفي التنزيل: « إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال » [ الأحزاب: 72 ] الآية. وقال: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله » [ الحشر: 21 ] يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « سبحان » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « وما الله بغافل عما تعملون » « بغافل » في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد « عما تعملون » أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره » [ الزلزلة: 7، 8 ] ولا تحتاج « ما » إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم، أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كثير « يعلمون » بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.

 

الآية 75 ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )

 

قوله تعالى: « أفتطمعون أن يؤمنوا لكم » هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و « أن » في موضع نصب، أي في أن يؤمنوا، نصب بأن، ولذلك حذفت منه النون. يقال: طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع، على وزن فعل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع. والطمع: رزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم، أي بأرزاقهم. وامرأة مطماع: تطمع ولا تمكن.

 

قوله تعالى: « وقد كان فريق منهم » الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقة، وفي الكثير أفرقاء. قوله تعالى: « يسمعون » في موضع نصب خبر « كان » . ويجوز أن يكون الخبر « منهم » ، ويكون « يسمعون » نعتا لفريق وفيه بُعد.

 

قوله تعالى: « كلام الله » قراءة الجماعة. وقرأ الأعمش « كلم الله » على جمع كلمة. قال سيبويه: واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون « منهم » بكسر الهاء اتباعا لكسرة الميم، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده. « كلام الله » مفعول بـ « يسمعون » . والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف. ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السدي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى: « وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله » . [ التوبة: 6 ] .

فإن قيل: فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور: « إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة » .

قلت: هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق: « إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي » [ الأعراف: 144 ] . وهذا واضح.

واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: « إني أنا ربك » [ طه: 12 ] هو الله جل وعز. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة « القصص » بيان معنى قوله تعالى: « نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة » [ القصص: 30 ] إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ثم يحرفونه » قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم. قوله تعالى: « من بعد ما عقلوه وهم يعلمون » أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم

ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.

الآية [ 76 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 76 - 77 ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون، أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون )

 

قوله تعالى: « وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا » هذا في المنافقين. أصل لقوا: لقيوا وقد تقدم.

قوله تعالى: « وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » الآية في اليهود، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود: « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » أي حكم الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، عن ابن عباس والسدي. وقيل: إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له، فقال: ( أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك ) ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم: ( أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ) فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا! روي هذا المعنى عن مجاهد.

« وإذا خلا » الأصل في « خلا » خلو، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى « خلا » في أول السورة. ومعنى « فتح » حكم. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين » أي الحاكمين، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، يقال: بيني وبينك الفتاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح: النصر، ومنه قوله: « يستفتحون على الذين كفروا » ، [ البقرة: 89 ] ، وقوله: « إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح » [ الأنفال: 19 ] . ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين.

 

قوله تعالى: « ليحاجوكم به » نصب بلام كي، وإن شئت بإضمار أن، وعلامة النصب، حذف النون. قال يونس: وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش: لأن الفتح الأصل. قال خلف الأحمر: هي لغة بني العنبر. ومعنى « ليحاجوكم » ليعيروكم، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم. وقيل: المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه. وقيل: إن الرجل من اليهود كان يلقى صديقه من المسلمين فيقول له: تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا.

 

قوله تعالى: « عند ربكم » قيل في الآخرة، كما قال: « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » [ الزمر: 31 ] . وقيل: عند ذكر ربكم. وقيل: « عند » بمعنى « في » أي ليحاجوكم به في ربكم، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عن الحسن. والحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجة الطريق. وحاججت فلانا فحججته، أي غلبته بالحجة. ومنه الحديث: ( فحج آدم موسى ) .

 

قوله تعالى: « أفلا تعقلون » قيل: هو من قول الأحبار للأتباع. وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال، ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال: « أولا يعلمون » الآية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور « يعلمون » بالياء، وابن محيصن بالتاء، خطابا للمؤمنين. والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به.

 

الآية: 78 ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون )

 

قوله تعالى: « ومنهم أميون » أي من اليهود. وقيل: من اليهود والمنافقين أميون، أي من لا يكتب ولا يقرأ، واحدهم أمي، منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، ومنه قوله عليه السلام: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) الحديث. وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين. علي رضي الله عنه: هم المجوس. قلت: والقول الأول أظهر، والله اعلم.

 

قوله تعالى: « لا يعلمون الكتاب إلا أماني » « إلا » ههنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع، كقوله تعالى: « وما لهم به من علم إلا اتباع الظن » [ النساء: 157 ] . وقال النابغة:

حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب

وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج « إلا أماني » خفيفة الياء، حذفوا إحدى الياءين استخفافا. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف، مثل أثافي وأغاني وأماني، ونحوه. وقال الأخفش: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتيح ومفاتح، وهي ياء الجمع. قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال الشاعر:

وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

والأماني جمع أمنية وهي التلاوة، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية، ومنه قوله تعالى: « إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته » [ الحج: 52 ] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك:

تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر:

تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل

والأماني أيضا الأكاذيب، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ أي افتعلته. وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد « أماني » في الآية. والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه. قال قتادة: « إلا أماني » يعني انهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقيل: الأماني التقدير، يقال: منى له أي قدر، قال الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني

أي يقدر لك المقدر.

 

قوله تعالى: « وإن هم » « إن » بمعنى ما النافية، كما قال تعالى: « إن الكافرون إلا في غرور » [ الملك: 20 ] . قوله تعالى: « إلا يظنون » يكذبون ويحدثون، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرؤون به. قال أبو بكر الأنباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل « وإن هم إلا يظنون » أراد إلا يكذبون.

 

الآية: 79 ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون )

 

قوله تعالى: « فويل » « فويل » اختلف في الويل ما هو، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار. وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا. وروى سفيان وعطاء بن يسار: أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وقيل: صهريج في جهنم. وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب. وقال الخليل: الويل شدة الشر. الأصمعي: الويل تفجع وترحم. سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة. ابن عرفة: الويل الحزن: يقال: تويل الرجل إذا دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه، ومنه قوله: « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم » [ البقرة: 79 ] . وقيل: أصله الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى: « يا ويلتنا مال هذا الكتاب » [ الكهف: 49 ] . وهي الويل والويلة، وهما الهلكة، والجمع الويلات، قال:

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم

وقال أيضا:

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

وارتفع « ويل » بالابتداء، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء. قال الأخفش: ويجوز النصب على إضمار فعل، أي ألزمهم الله ويلا. وقال الفراء: الأصل في الويل « وي » أي حزن، كما تقول: ويل لفلان، أي حزن له، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها. والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع، لأنه يقتضي الوقوع. ويصح النصب على معنى الدعاء، كما ذكرنا.

قال الخليل: ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب، وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها قوم، وهي مصادر لم تنطلق العرب منها بفعل. قال الجرمي: ومما ينتصب انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت: ويل له، وويح له.

 

قوله تعالى: « للذين يكتبون الكتاب » الكتابة معروفة. وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام، وجاء ذلك في حديث أبي ذر، خرجه الآجري وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطي الخط فصار وراثة في ولده.

 

قوله تعالى: « بأيديهم » تأكيد، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله: « ولا طائر يطير بجناحيه » [ الأنعام: 38 ] ، وقوله: « يقولون بأفواههم » [ آل عمران: 167 ] . وقيل: فائدة « بأيديهم » بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له وقال ابن السراج: « بأيديهم » كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم.

في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) الحديث، وسيأتي. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس، وقد وقع ما حذره وشاع، وكثر وذاع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم » [ البقرة: 79 ] الآية. وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرنا ذنب، فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة « يا أحباري ويا أبناء رسلي » فغيروه وكتبوا « يا أحبائي ويا أبنائي » فأنزل الله تكذيبهم: « وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم » [ المائدة: 18 ] . فقالت: لن يعذبنا الله، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل، فأنزل الله تعالى: « وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا » [ البقرة: 80 ] قال ابن مقسم: يعني توحيدا، بدليل قوله تعالى: « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » [ مريم: 87 ] يعني لا إله إلا الله « فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون » [ البقرة: 80 ] ثم أكذبهم فقال: « بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » . [ البقرة: 81 - 82 ] . فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان، لا بما قالوه.

 

قوله تعالى: « ليشتروا به ثمنا قليلا » وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة، إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم، فمن ثم غيروا.

 

قوله تعالى: « فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون » قيل من المآكل. وقيل من المعاصي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.

 

الآية: 80 ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « وقالوا » يعني اليهود. « لن تمسنا النار إلا أياما معدودة » اختلف، في سبب نزولها، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: ( من أهل النار ) . قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: ( كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم ) فنزلت هذه الآية، قال ابن زيد. وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام، فأنزل الله الآية، وهذا قول مجاهد. وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم. ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم. وقالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، فأكذبهم الله، كما تقدم.

في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام: ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، قالوا: لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » [ البقرة. 196 ] ، « تمتعوا في داركم ثلاثة أيام » [ هود: 65 ] ، « سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما » [ هود: 7 ] .

فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: « أياما معدودات » يعني جميع الشهر، وقال: « لن تمسنا النار إلا أياما معدودات » [ آل عمران: 24 ] يعني أربعين يوما. وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع، فخرج عليه، والله اعلم.

 

قوله تعالى: « قل أتخذتم » تقدم القول في « اتخذ » فلا معنى لإعادته.

 

قوله تعالى: « عند الله عهدا » أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار! أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم. قوله تعالى: « فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع.»

 

الآية: 81 ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « بلى » أي ليس الأمر كما ذكرتم. قال سيبويه: ليس « بلى » و « نعم » اسمين. وإنما هما حرفان مثل « بل » وغيره، وهي رد لقولهم: إن تمسنا النار. وقال الكوفيون: أصلها بل التي للإضراب عن الأول، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف، وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام. فـ « بل » تدل على رد الجحد، والياء تدل على الإيجاب لما بعد. قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا؟ فقلت: نعم، لكان المعنى لا، لم آخذ، لأنك حققت النفي وما بعده. فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الآخر: نعم، كان ذلك تصديقا، لأن لا شيء له عليه، ولو قال: بلى، كان ردا لقوله، وتقديره: بلى لي عليك. وفي التنزيل « ألست بربكم قالوا بلى » [ الأعراف: 172 ] ولو قالوا نعم لكفروا.

 

قوله تعالى: « سيئة » السيئة الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: « من كسب سيئة » ؟ قال: الشرك، وتلا « ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار » . وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة.

لما قال تعالى: « بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته » دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا » [ فصلت: 30 ] ، وقوله عليه السلام لسفيان بن عبدالله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) . رواه مسلم. وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لآدم وحواء: « ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » [ البقرة: 35 ] . وقرأ نافع « خطيئاته » بالجمع، الباقون بالإفراد، والمعنى الكثرة، مثل قوله تعالى: « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » .

 

الآية: 82 ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )

 

فسرت هذه الآية في موضع قبل هذا.

 

الآية: 83 ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون )

 

قوله تعالى: « وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل » تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ. واختلف في الميثاق هنا، فقال مكي: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.

 

قوله تعالى: « لا تعبدون إلا الله » وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. « لا تعبدون » قال سيبويه: « لا تعبدون » متعلق بقسم، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون، وأجازه المبرد والكسائي والفراء. وقرأ أبي وابن مسعود « لا تعبدوا » على النهي، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال: « وقوموا، وقولوا، وأقيموا، وآتوا » . وقيل: هو في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم موحدين، أو غير معاندين، قاله قطرب والمبرد أيضا. وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي « يعبدون » بالياء من أسفل. وقال الفراء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبألا يسفكوا الدماء، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما، كقوله تعالى: « أفغير الله تأمروني » . قال المبرد: هذا خطأ، لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا، تقول: وبلد قطعت، أي رب بلد.

قلت: ليس هذا بخطأ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:

ألا أيها ذا الزاجري أحْضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

بالنصب والرفع، فالنصب على إضمار أن، والرفع على حذفها.

 

قوله تعالى: « وبالوالدين إحسانا » أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: « أن اشكر لي ولوالديك » [ لقمان: 14 ] . والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما، على ما يأتي بيانه مفصلا في « الإسراء » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « وذي القربى » عطف ذي القربى على الوالدين. والقربى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة « القتال » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « واليتامى » اليتامى عطف أيضا، وهو جمع يتيم، مثل ندمى جمع نديم. واليتم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الأم. وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم، والأول المعروف. وأصله الانفراد، يقال: صبي يتيم، أي منفرد من أبيه. وبيت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر. ودرة يتيمة: ليس لها نظير. وقيل: أصله الإبطاء، فسمي به اليتيم، لأن البر يبطئ عنه. ويقال: يتم ييتم يتما، مثل عظم يعظم. ويتم ييتم يتْما ويتَما، مثل سمع يسمع، ذكر الوجهين الفراء. وقد أيتمه الله. ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله، على ما يأتي بيانه في « النساء » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة ) . وأشار مالك بالسبابة والوسطى، رواه أبو هريرة وأخرجه مسلم. وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبدالرحمن عن هِصّان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان ) . وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا: وما كريمتاه؟ قال: - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ) فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال: يا رسول الله أو اثنتين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أو اثنتين ) . فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال: هذا والله من غرائب الحديث وغرره.

 

السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة، لأنهم كانوا يسبون بها، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد. وتسمى أيضا بالسباحة، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبدالله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه. فقوله عليه السلام: ( أنا وهو كهاتين في الجنة ) ، وقوله في الحديث الآخر: ( أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا ) وأشار بأصابعه الثلاث، فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال: نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة. فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة. وهذا معنى بعيد، لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة، ومنازل مختلفة.

 

قوله تعالى: « والمساكين » « المساكين » عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم. وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء. روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال - وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر ) . قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.

 

قوله تعالى: « وقولوا للناس حسنا » « حسنا » نصب على المصدر على المعنى، لأن المعنى ليحسن قولكم. وقيل: التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي « حسنا » بفتح الحاء والسين. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البُخل والبَخل، والرشد والرشد. وحكى الأخفش: « حسنى » بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: « وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر « حسنا » بضمتين، مثل » الحلم « . قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها. ابن جريج: قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته. سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: » فقولا له قولا لينا « [ طه: 44 ] . فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: « وقولوا للناس حسنا » . فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟؟. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: ( لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء ) . وقيل: أراد بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم، كقوله: » أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله « [ النساء: 54 ] . فكأنه قال: قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا. وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله: « وقولوا للناس حسنا » منسوخ بآية السيف. وحكاه أبو نصر عبدالرحيم عن ابن عباس. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف. قال ابن عطية: وهذا يدل على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، والله اعلم. »

 

قوله تعالى: « وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » تقدم القول فيه. والخطاب لبني إسرائيل. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل، ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قلت: وهذا يحتاج إلى نقل، كما ثبت ذلك في الغنائم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.

 

قوله تعالى: « ثم توليتم » الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم، كما قال: « شنشنة أعرفها من أخزم » . « إلا قليلا منكم » كعبدالله بن سلام وأصحابه. و « قليلا » نصب على الاستثناء، والمستثنى عند سيبويه منصوب، لأنه مشبه بالمفعول. وقال محمد بن يزيد: هو مفعول على الحقيقة، المعنى استثنيت قليلا. « وأنتم معرضون » ابتداء وخبر. والإعراض والتولي بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ. وقيل: التولي فيه بالجسم، والإعراض بالقلب. قال المهدوي: « وأنتم معرضون » حال، لأن التولي فيه دلالة على الإعراض.

 

الآية: 84 ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون )

 

قوله تعالى: « وإذ أخذنا ميثاقكم » تقدم القول فيه. « لا تسفكون دماءكم » المراد بنو إسرائيل، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم. « لا تسفكون دماءكم » مثل « لا تعبدون » [ البقرة: 83 ] في الإعراب. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة، وأبو نهيك « تسفكون » بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين. والسفك: الصب.

 

فإن قيل: وهل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها. وقيل: المراد القصاص، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دمه. وكذلك لا يزني ولا يرتد، فإن ذلك يبيح الدم. ولا يفسد فينفى، فيكون قد أخرج نفسه من دياره. وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى.

وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه ولا يسترقه، ولا يدعه يسرق، إلى غير ذلك من الطاعات.

قلت: وهذا كله محرم علينا، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي التنزيل: « أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض » [ الأنعام: 65 ] وسيأتي. قال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسان نفسه، ولا يخرج من داره سفها، كما تقتل الهند أنفسها. أو يقتل الإنسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه، أو يهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلا في ديانته وسفها في حلمه، فهو عموم في جميع ذلك. وقد روي أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت، ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده، فقال لامرأته: ( ما حديث بلغني عن عثمان ) ؟ وكرهت أن تفشي سر زوجها، وأن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك، فقال: ( قولي لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتي، إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء وآوي البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه.

 

قوله تعالى: « ولا تخرجون » معطوف. قوله تعالى: « أنفسكم » النفس مأخوذة من النفاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه. قوله تعالى: « من دياركم » والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية. وقيل: سميت دارا لدورها على سكانها، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه.

 

قوله تعالى: « ثم أقررتم » من الإقرار، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم. قوله تعالى: « وأنتم تشهدون » من الشهادة، أي شهداء بقلوبكم على هذا وقيل: الشهادة بمعنى الحضور، أي تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم.

 

الآية: 85 ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون )

*4*قوله تعالى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم. .. }

 

قوله تعالى: « ثم أنتم هؤلاء » « أنتم » في موضع رفع بالابتداء، ولا يعرب، لأنه مضمر. وضمت التاء من « أنتم » لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة، فلما ثنيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة. قوله تعالى: « هؤلاء » قال القتبي: التقدير يا هؤلاء. قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه، ولا يجوز هذا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. قوله تعالى: « تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم » داخل في الصلة، أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: « هؤلاء » رفع بالابتداء، و « أنتم » خبر مقدم، و « تقتلون » حال من أولاء. وقيل: « هؤلاء » نصب بإضمار أعني. وقرأ الزهري « تقتلون » بضم التاء مشددا، وكذلك « فلم تقتلون أنبياء الله » [ البقرة: 91 ] . وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الأسلاف. نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة. والنضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضا إخوان، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فعيرهم الله بذلك فقال: « وإن يأتوكم أسارى تفادوهم » .

 

قوله تعالى: « تظاهرون » معنى « تظاهرون » تتعاونون، مشتق من الظهر، لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:

تظاهرتم أستاه بيت تجمعت على واحد لا زلتم قرن واحد

وقرأ أهل المدينة وأهل مكة « تظاهرون » بالتشديد، يدغمون التاء في الظاء لقربها منها، والأصل تتظاهرون. وقرأ الكوفيون « تظاهرون » مخففا، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها، وكذا « وإن تظاهرا عليه » [ التحريم: 4 ] . وقرأ قتادة « تظهرون عليهم » وكله راجع إلى معنى التعاون، ومنه: « وكان الكافر على ربه ظهيرا » [ الفرقان: 55 ] وقوله: « والملائكة بعد ذلك ظهير » [ التحريم: 4 ] فاعلمه. « بالإثم والعدوان » والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الإفراط في الظلم والتجاوز فيه.

 

قوله تعالى: « وإن يأتوكم أسارى » شرط وجوابه: « تفادوهم » و « أسارى » نصب على الحال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم الأسارى، وما جاء مستأسرا فهم الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، إنما هو كما تقول: سكارى وسكرى. وقراءة الجماعة « أسارى » ما عدا حمزة فإنه قرأ « أسرى » على فعلى، جمع أسير بمعنى مأسور، والباب - في تكسيره إذا كان كذلك - فعلى، كما تقول: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سكارى، وفعالى هو الأصل، وفعالى داخلة عليها. وحكي عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير وأسراء، كظريف وظرفاء. قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى، وقرئ بهما. وقيل: أسارى ( بفتح الهمزة ) وليست بالعالية.

الأسير مشتق من الإسار، وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا، لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسر قتبه، أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يؤسر، وقال الأعشى:

وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا

أي أنا في بيته، يريد ذلك بلوغه النهاية فيه. فأما الأسر في قوله عز وجل: « وشددنا أسرهم » [ الإنسان: 28 ] فهو الخلق. وأسرة الرجل رهطه، لأنه يتقوى بهم.

 

قوله تعالى: « تفادوهم » كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي. والباقون « تفدوهم » من الفداء. والفداء: طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم. قال الجوهري: « الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدى لك أبي. ومن العرب من يكسر » فداء « بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة، فيقول: فداء لك، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الأصمعي للنابغة: »

مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد

ويقال: فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه. وفداه بنفسه، وفداه يفديه إذا قال جعلت فداك. وتفادوا، أي فدى بعضهم بعضا « . والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد. وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، بمعنى فديت، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: فاديت نفسي وفاديت عقيلا. وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر، تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي، قال الشاعر: »

قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا

 

قوله تعالى: « وهو محرم عليكم إخراجهم » « هو » مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و « محرم » خبره، و « إخراجهم » بدل من « هو » وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، والجملة التي بعده خبره، أي والأمر محرم عليكم إخراجهم. فـ « إخراجهم » مبتدأ ثان. و « محرم » خبره، والجملة خبر عن « هو » ، وفي « محرم » ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج. ويجوز أن يكون « محرم » مبتدأ، و « إخراجهم » مفعول ما لم يسم فاعله يسد مسد خبر « محرم » ، والجملة خبر عن « هو » . وزعم الفراء أن « هو » عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له، لأن العماد لا يكون في أول الكلام. ويقرأ « وهو » بسكون الهاء لثقل الضمة، كما قال الشاعر:

فهْو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره

وكذلك إن جئت باللام وثم، وقد تقدم.

*4*قوله تعالى { ... أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون }

 

قوله تعالى: « أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض » قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: « أفتؤمنون ببعض الكتاب » [ البقرة: 85 ] وهو التوراة « وتكفرون ببعض » [ البقرة: 85 ] !!

قلت: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.

قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. وسيأتي.

 

قوله تعالى: « فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا » ابتداء وخبر. والخزي الهوان. قال الجوهري: وخزي - بالكسر - يخزى خزيا إذا ذل وهان. قال ابن السكيت: وقع في بلية. وأخزاه الله، وخزي أيضا يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان. وقوم خزايا وامرأة خزيا.

 

قوله تعالى: « ويوم القيامة يردون » « يردون » بالياء قراءة العامة، وقرأ الحسن « تردون » بالتاء على الخطاب. « إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون » تقدم القول فيه، وكذلك: « أولئك الذين اشتروا » الآية فلا معنى للإعادة. « يوم » منصوب بـ « يردون » .

 

الآية 86 ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون )

 

الآية: 87 ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى الكتاب » يعني التوراة. قوله تعالى: « وقفينا من بعده بالرسل » أي اتبعنا والتقفية: الإتباع والإرداف، مأخوذ من اتباع القفا وهو مؤخر العنق. تقول استقفيته إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام. والقافية: القفا، ومنه الحديث: ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ) . والقفي والقفاوة: ما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه. وقفوت الرجل: قذفته بفجور. وفلان قفوتي أي تهمتي. وقفوتي أي خيرتي. قال ابن دريد كأنه من الأضداد. قال العلماء: وهذه الآية مثل قوله تعالى: « ثم أرسلنا رسلنا تترى » [ المؤمنون: 44 ] . وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام. ويقال: رسل ورسل لغتان، الأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، وسواء كان مضافا أو غير مضاف. وكان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين، ويثقل إذا أضاف إلى حرف واحد.

 

قوله تعالى: « وآتينا عيسى ابن مريم البينات » أي الحجج والدلالات، وهي التي ذكرها الله في « آل عمران » و « المائدة » ، قاله ابن عباس. قوله تعالى: « وأيدناه » أي قويناه. وقرأ مجاهد وابن محيصن « آيدناه » بالمد، وهما لغتان. قوله تعالى: « بروح القدس » روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا: جبريل عليه السلام. وقال حسان:

وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء

قال النحاس: وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا. وروى غالب بن عبدالله عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل. وكذا قال الحسن: القدس هو الله، وروحه جبريل. وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس: « بروح القدس » قال: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير، وهو اسم الله الأعظم. وقيل: المراد الإنجيل، سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى: « وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا » [ الشورى: 52 ] . والأول أظهر، والله تعالى اعلم. والقدس: الطهارة. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم » أي بما لا يوافقها ويلائمها، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي بما لا تهواه.

 

قوله تعالى: « استكبرتم » عن إجابته احتقارا للرسل، واستبعادا للرسالة. وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع أهواء، كما جاء في التنزيل، ولا يجمع أهوية، على أنهم قد قالوا في ندى أندية، قال الشاعر:

في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا

قال الجوهري: وهو شاذ وسمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه، وهذه الآية من ذلك. وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. أخرجهما مسلم.

 

قوله تعالى: « ففريقا كذبتم » « ففريقا » منصوب بـ « كذبتم » ، وكذا « وفريقا تقتلون » فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام، على ما يأتي بيانه في « سبحان » [ الإسراء ] إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 88 ( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون )

 

قوله تعالى: « وقالوا » يعني اليهود. قوله تعالى: « قلوبنا غلف » بسكون اللام جمع أغلف، أي عليها أغطية. وهو مثل قوله: « قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه » [ فصلت: 5 ] أي في أوعية. قال مجاهد: « غلف » عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وحكى أهل اللغة غلفت السيف جعلت له غلافا، فقلب أغلف، أي مستور عن الفهم والتمييز. وقرأ ابن عباس والأعرج وابن محيصن « غلف » بضم اللام. قال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره. وقيل: هو جميع غلاف. مثل خمار وخمر، أي قلوبنا أوعية للعلو فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علما كثيرا! وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون » بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه. وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد. ويقال للذئب: لعين. وللرجل الطريد: لعين، وقال الشماخ:

ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين

ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل، فالمعنى أبعدهم الله من رحمته. وقيل: من توفيقه وهدايته. وقيل: من كل خير، وهذا عام. « فقليلا » نعت لمصدر محذوف، تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، ويكون « قليلا » منصوب بنزع حرف الصفة. و « ما » صلة، أي فقليلا يؤمنون. وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، كما تقول: ما أقل ما يفعل كذا، أي لا يفعله البتة. وقال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئا.

 

الآية: 89 ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين )

 

قوله تعالى: « ولما جاءهم » يعني اليهود. قوله تعالى: « كتاب من عند الله » يعني القرآن. قوله تعالى: « مصدق » نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، وكذلك هو في مصحف أبي بالنصب فيما روي. قوله تعالى: « لما معهم » يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيهما.

 

قوله تعالى: « وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا » أي يستنصرون. والاستفتاح الاستنصار. استفتحت: استنصرت. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم. ومنه « فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده » [ المائدة: 52 ] . والنصر: فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم فتحت الباب. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ) . وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم « . قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا، فأنزل الله تعالى: « وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا » أي بك يا محمد، إلى قوله: » فلعنة الله على الكافرين « . »

 

قوله تعالى: « فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين » « ولما جاءهم » جواب « لما » الفاء وما بعدها في قوله « فلما جاءهم ما عرفوا » في قول الفراء، وجواب « لما » الثانية « كفروا » . وقال الأخفش سعيد: جواب « لما » محذوف لعلم السامع، وقاله الزجاج. وقال المبرد: جواب « لما » في قوله: « كفروا » ، وأعيدت « لما » الثانية لطول الكلام. ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيدا له.

 

الآية: 90 ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله » بئس في كلام العرب مستوفية للذم، كما أن « نعم » مستوفية للمدح. وفي كل واحدة منها أربع لغات: بِئْس بَئْس بَئِس بِئِس. نِعْم نَعْم نَعِم نِعِم. ومذهب سيبويه أن « ما » فاعلة بئس، ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات. وكذا نِعم، فتقول نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، ونصب رجل على التمييز. وفي نعم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مرفوع على وجهين: على خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل من الممدوح؟ قلت هو زيد، والآخر على الابتداء وما قبله خبره. وأجاز أبو علي أن تليها « ما » موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحدا بعينه، والتقدير عند سيبويه: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا. فـ « أن يكفروا » في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله، كقولك: بئس الرجل زيد، و « ما » على هذا القول موصولة. وقال الأخفش: « ما » في موضع نصب على التمييز، كقولك: بئس رجلا زيد، فالتقدير بئس شيئا أن يكفروا. فـ « اشتروا به أنفسهم » على هذا القول صفة « ما » . وقال الفراء: « بئسما » بجملته شيء واحد ركب كحبذا. وفي هذا القول اعتراض، لأنه يبقى فعل بلا فاعل. وقال الكسائي: « ما » و « اشتروا » بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير. قال النحاس: وأبين هذه الأقوال قول الأخفش وسيبويه. قال الفراء والكسائي: « أن يكفروا » إن شئت كانت « أن » في موضع خفض ردا على الهاء في به. قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع، والمعنى: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالإيمان.

 

قوله تعالى: « بغيا » معناه حسدا، قال قتادة والسدي، وهو مفعول من أجله، وهو على الحقيقة مصدر. الأصمعي: وهو مأخوذ من قولهم: قد بغى الجرح إذا فسد. وقيل: أصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بغيا. قوله تعالى: « أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده » في موضع نصب، أي لأن ينزل، أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن « أن ينزل » مخففا، وكذلك سائر ما في القرآن، إلا « وما ننزله » [ الحجر: 21 ] ، وفي « الأنعام » « على أن ينزل آية » . [ الأنعام: 37 ] .

 

قوله تعالى: « فباؤوا » أي رجعوا، وأكثر ما يقال في الشر، وقد تقدم. قوله تعالى: « بغضب على غضب » تقدم معنى غضب الله عليهم، وهو عقابه، فقيل: الغضب الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس. وقال عكرمة: لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد، يعني اليهود. وروى سعيد عن قتادة: الأول لكفرهم بالإنجيل، والثاني لكفرهم بالقرآن. وقال قوم: المراد التأبيد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين. قوله تعالى: « وللكافرين عذاب مهين » مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائما بخلاف خلود العصاة من المسلمين، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير، كرجم الزاني وقطع يد السارق، على ما يأتي بيانه في سورة « النساء » من حديث أبي سعيد الخدري إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 91 ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لهم آمنوا » أي صدقوا. « بما أنزل الله » يعني القرآن. « قالوا نؤمن » أي نصدق. « بما أنزل علينا » يعني التوراة. « ويكفرون بما وراءه » أي بما سواه، عن الفراء. وقتادة: بما بعده، وهو قول أبي عبيدة، والمعنى واحد. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام. وهي من الأضداد، قال الله تعالى: « وكان وراءهم ملك » أي أمامهم، وتصغيرها وريئه ( بالهاء ) وهي شاذة. وانتصب « وراءه » على الظرف. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن، كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد:

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء

قلت: ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: ( إنما كنت خليلا من وراء وراء ) . والوراء: ولد الولد أيضا.

 

قوله تعالى: « وهو الحق » ابتداء وخبر. « مصدقا » حال مؤكدة عند سيبويه. « لما معهم » ما في موضع خفض باللام، و « معهم » صلتها، و « معهم » نصب بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.

 

قوله تعالى: « قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل » رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ، المعنى: فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك! فالخطاب لمن حضر محمدا صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم. وإنما توجه الخطاب لأبنائهم، لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال: « ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء » [ المائدة: 81 ] فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم. وقيل: لأنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم. وجاء « تقتلون » بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله: « من قبل » . وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل، والمستقبل بمعنى الماضي، قال الحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر

شهد بمعنى يشهد.

 

قوله تعالى: « إن كنتم مؤمنين » أي إن كنتم معتقدين الإيمان فلم رضيتم بقتل الأنبياء! وقيل: « إن » بمعنى ما، وأصل « لم » لما، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليه، لأنه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا، وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد.

 

الآية: 92 ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون )

 

قوله تعالى: « ولقد جاءكم موسى بالبينات » اللام لام القسم. والبينات قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات » [ الإسراء: 101 ] وهي العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر. وقيل: البينات التوراة، وما فيها من الدلالات.

 

قوله تعالى: « ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون » توبيخ، و « ثم » أبلغ من الواو في التقريع، أي بعد النظر في الآيات والإتيان بها اتخذتم. وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآية، وذلك أعظم لجرمهم.

 

الآية: 93 ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين )

 

قوله تعالى: « وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا » تقدم الكلام في هذا. ومعنى « واسمعوا » أطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعلموا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب. قال:

دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول

أي يقبل، وقال الراجز:

والسمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميم

 

قوله تعالى: « قالوا سمعنا وعصينا » اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا، كما قال:

امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني

وهذا احتجاج عليهم في قولهم: « نؤمن بما أنزل علينا » .

 

قوله تعالى: « وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم » أي حب العجل والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم. وفي الحديث: ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء... ) الحديث، خرجه مسلم. يقال أشرب قلبه حب كذا، قال زهير:

فصحوت عنها بعد حب داخل والحب تشربه فؤادك داء

وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها. وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان محبا لها:

تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنسانا يطير

وقال السدي وابن جريج: إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه. وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري.

قلت: أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى: « ثم لننسفنه في اليم نسفا » [ طه: 97 ] ، وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى: « واشربوا في قلوبهم العجل » والله تعالى اعلم.

 

قوله تعالى: « قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين » وقد تقدم ذكره. « إيمانكم » أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: نؤمن بما أنزل علينا. وقيل: إن هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن يوبخهم، أي قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم.

 

الآية: 94 ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « قل إن كانت لكم الدار الآخرة » لما ادعت اليهود دعاوى باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه، كقوله تعالى: « لن تمسنا النار إلا أياما معدودة » [ البقرة: 80 ] ، وقوله: « وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى » [ البقرة: 111 ] ، وقالوا: « نحن أبناء الله وأحباؤه » [ المائدة: 18 ] أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد: « إن كان لكم الدار الآخرة » يعني الجنة « فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » .

 

قوله تعالى: « عند الله خالصة من دون الناس » نصب على خبر كان، وإن شئت كان حالا، ويكون « عند الله » في موضع الخبر. « فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » في أقوالكم، لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا، لما يصير إليه من نعيم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، فأحجموا عن تمني ذلك فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم: « نحن أبناء الله وأحبائه » [ المائدة: 18 ] ، وحرصهم على الدنيا تحقيقا لكذبهم. وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار ) . وقيل: إن الله صرفهم عن إظهار التمني، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاثة أوجه في تركهم التمني. وحكى عكرمة عن ابن عباس في قوله: « فتمنوا الموت » أن المراد ادعوا بالموت على أكذب الفريقين منا ومنكم، فما دعوا لعلمهم بكذبهم.

 

الآية: 95 ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين )

 

فإن قيل: فالتمني يكون باللسان تارة وبالقلب أخرى، فمن أين علم أنهم لم يتمنوه بقلوبهم؟ قيل له: نطق القرآن بذلك بقول « ولن يتمنوه أبدا » ولو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردا على النبي صلى الله عليه، سلم وإبطالا لحجته، وهذا بين. « أبدا » ظرف زمان يقع على القليل والكثير، كالحين والوقت، وهو هنا من أول العمر إلى الموت. و « ما » في قوله « بما » بمعنى الذي والعائد محذوف، والتقدير قدمته، وتكون مصدرية ولا تحتاج إلى عائد. و « أيديهم » في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة، وإن كانت في موضع نصب حركتها، لأن النصب خفيف، ويجوز إسكانها في الشعر. « والله عليم بالظالمين » ابتداء وخبر.

 

الآية: 96 ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون )

 

قوله تعالى: « ولتجدنهم أحرص الناس على حياة » يعني اليهود. « ومن الذين أشركوا » قيل: المعنى وأحرص، فحذف « من الذين أشركوا » لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة، ألا ترى قول شاعرهم:

تمتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنساء الحسان

والضمير في « أحدهم » يعود في هذا القول على اليهود. وقيل: إن الكلام تم في « حياة » ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين. قيل: هم المجوس، وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه « عش ألف سنة » . وخص الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب. وذهب الحسن إلى أن « الذين أشركوا » مشركو العرب، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر. وأصل سنة سنهة. وقيل: سنوة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة.

 

قوله تعالى: « يود أحدهم لو يعمر ألف سنة » أصل « يود » يودد، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين، وقلبت حركة الدال على الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل. وحكى الكسائي: وددت، فيجوز على هذا يود بكسر الواو. ومعنى يود: يتمنى.

 

قوله تعالى: « وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر » اختلف النحاة في هو، فقيل: هو ضمير الأحد المتقدم، التقدير ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور. « أن يعمر » فاعل بمزحزح وقالت فرقة: هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، « أن يعمر » بدل من التعمير على هذا القول. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: « هو » عماد.

قلت: وفيه بعد، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين، مثل قوله: « إن كان هذا هو الحق » [ الأنفال: 32 ] ، وقوله: « ولكن كانوا هم الظالمين » [ الزخرف: 76 ] ونحو ذلك. وقيل: « ما » عاملة حجازية، و « هو » اسمها، والخبر في « بمزحزحه » . وقالت طائفة: « هو » ضمير الأمر والشأن. ابن عطية: وفيه بعد، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر. وقوله: « بمزحزحه » الزحزحة: الإبعاد والتنحية، يقال: زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد، يكون لازما ومتعديا قال الشاعر في المتعدي:

يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت وغافر الذنب زحزحني عن النار

وأنشده ذو الرمة:

يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا وغافر الذنب زحزحني عن النار

وقال آخر في اللازم:

خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتوضح

وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا ) .

 

قوله تعالى: « والله بصير بما يعملون » أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة. ومن قرأ بالتاء فالتقدير عنده. قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون. وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال، قال:

فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب

قال الخطابي: البصير العالم، والبصير المبصر. وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة، فالله بصير بعباده، أي جاعل عباده مبصرين.

 

الآية: 97 ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين )

 

قوله تعالى: « قل من كان عدوا لجبريل » سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال: ( جبريل ) قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: « للكافرين » أخرجه الترمذي.

 

قوله تعالى: « فإنه نزله على قلبك » الضمير في « إنه » يحتمل معنيين، الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك. الثاني: فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك. وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف. ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذم معاديه.

 

قوله تعالى: « بإذن الله » أي بإرادته وعلمه. « مصدقا لما بين يديه » يعني التوراة. « وهدى وبشرى للمؤمنين » تقدم معناه والحمد لله.

 

الآية: 98 ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين )

 

قوله تعالى: « من كان عدوا لله » شرط، وجوابه « فإن الله عدو للكافرين » . وهذا وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلان أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم. وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته، ومعاداة أوليائه. وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه.

فإن قيل: لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما؟

قيل له: خصهما بالذكر تشريفا لهما، كما قال: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . وقيل: خصا لأن اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص. ولعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات، فأما التي في جبريل فعشر:

الأولى: جبريل، وهي لغة أهل الحجاز، قال حسان بن ثابت:

وجبريل رسول الله فينا

الثانية: جبريل ( بفتح الجيم ) وهي قراءة الحسن وابن كثير، وروي عن ابن كثير أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك.

الثالثة: جبرئيل ( بياء بعد الهمزة، مثال جبرعيل ) ، كما قرأ أهل الكوفة، وأنشدوا:

شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها

وهي لغة تميم وقيس.

الرابعة: جبرئل ( على وزن جبرعل ) مقصور، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.

الخامسة: مثلها، وهي قراءة يحيى بن يعمر، إلا أنه شدد اللام.

السادسة: جبرائل ( بألف بعد الراء ثم همزة ) وبها قرأ عكرمة.

السابعة: مثلها، إلا أن بعد الهمزة ياء.

الثامنة: جبرييل ( بياءين بغير همزة ) وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا.

التاسعة: جبرئين ( بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون ) .

العاشرة: جبرين ( بكسر الجيم وتسكين الباء بنون من غير همزة ) وهي لغة بني أسد. قال الطبري: ولم يقرأ بها. قال النحاس - وذكر قراءة ابن كثير - : « لا يعرف في كلام العرب فَعليل، وفيه فِعليل، نحو دهليز وقطمير وبرطيل، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب، وليس ينكر أن يكثر تغيره، كما قالوا: إبراهيم وإبرهم وإبراهم وإبراهام » . قال غيره: جبريل اسم أعجمي عربته العرب، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف.

قلت: قد تقدم في أول الكتاب أن الصحيح في هذه الألفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين. قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل. وأما اللغات التي في ميكائيل فست:

الأولى: ميكاييل، قراءة نافع.

الثانية: وميكائيل ( بياء بعد الهمزة ) قراءة حمزة.

الثالثة: ميكال، لغة أهل الحجاز، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه، قال كعب بن مالك:

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد فيه مع النصر ميكال وجبريل

وقال آخر:

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكالا

الرابعة: ميكئيل، مثل ميكعيل، وهي قراءة ابن محيصن.

الخامسة: ميكاييل ( بياءين ) وهي قراءة الأعمش باختلاف عنه.

السادسة: ميكاءل، كما يقال ( إسراءل بهمزة مفتوحة ) ، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف. وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى: عبد ومملوك. وإيل: اسم الله تعالى، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إل، وفي التنزيل: « لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة » في أحد التأويلين، وسيأتي. قال الماوردي: إن جبريل وميكائيل اسمان، أحدهما عبدالله، والآخر عبيدالله، لأن إيل هو الله تعالى، وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكأن جبريل عبدالله، وميكائيل عبيدالله، هذا قول ابن عباس، وليس له في المفسرين مخالف.

قلت: وزاد بعض المفسرين: وإسرافيل عبدالرحمن. قال النحاس: ومن تأول الحديث « جبر » عبد، و « إل » الله وجب عليه أن يقول: هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبرئل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا. قال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفا، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف. وروى عبدالغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة - وهو فليت العامري وهو أبو حسان - عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم رب جبريل وميكايل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر ) .

 

الآية: 99 ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون )

 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها؟ فأنزل الله هذه الآية، ذكره الطبري.

 

الآية: 100 ( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « أوكلما عاهدوا عهدا » الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله: « أفحكم الجاهلية » [ المائدة: 50 ] ، « أفأنت تسمع الصم » [ الزخرف: 40 ] ، « أفتتخذونه وذريته » [ الكهف: 50 ] . وعلى ثم كقوله: « أثم إذا ما وقع » [ يونس: 51 ] هذا قول سيبويه. وقال الأخفش: الواو زائدة. ومذهب الكسائي أنها أو، حركت الواو منها تسهيلا. وقرأها قوم أو، ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، كما يقول القائل: لأضربنك، فيقول المجيب: أو يكفي الله. قال ابن عطية: وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه. « كلما » نصب على الظرف، والمعني في الآية مالك بن الصيف، ويقال فيه ابن الضيف، كان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق، فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، دليله قوله تعالى: « الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون » [ الأنفال: 56 ] .

 

قوله تعالى: « نبذه فريق منهم » النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، قال أبو الأسود:

وخبرني من كنت أرسلت إنما أخذت كتابي معرضا بشمالكا

نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا

آخر:

إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرما

وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى: « واتخذتموه وراءكم ظهريا » [ هود: 92 ] . وأنشد الفراء:

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها

 

قوله تعالى: « بل أكثرهم » ابتداء. « لا يؤمنون » فعل مستقبل في موضع الخبر.

 

الآية: 101 ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم » نعت لرسول، ويجوز نصبه على الحال. « نبذ فريق » جواب « لما » . « من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم » نصب بـ « نبذ » ، والمراد التوراة، لأن كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها. قال السدي: نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. وقيل: يجوز أن يعني به القرآن. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ. وقد تقدم بيانه مستوفا. « كأنهم لا يعلمون » تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.

 

الآية: 102 ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون )

*4*قوله تعالى { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. .. }

 

قوله تعالى: « واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان » هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا، وهم اليهود. وقال السدي: عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت. وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله عز وجل: « وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا » أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي: كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم بهذا فتعلموه، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان! وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال: « واتبعوا ما تتلوا الشياطين » . قال عطاء: « تتلو » تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس: « تتلو » تتبع، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا. وقال الطبري: « اتبعوا » بمعنى فضلوا.

قلت: لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره، ومعنى « تتلو » يعني تلت، فهو بمعنى المضي، قال الشاعر:

وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح

وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخادم وذبائح

أي فلقد كان. و « ما » مفعول بـ « اتبعوا » أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته. وقيل: « ما » نفي، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته، قال ابن العربي. « على ملك سليمان » أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج: قال الفراء على عهد ملك سليمان. وقيل: المعنى في ملك سليمان، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي، في مثل هذا الموضع. وقال « على » ولم يقل بعد لقوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته » [ الحج: 52 ] أي في تلاوته. وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه، فلا معنى لإعادته. والشياطين هنا قيل: هم شياطين الجن، وهو المفهوم من هذا الاسم. وقيل: المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال، كقول جرير:

أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا

 

قوله تعالى: « وما كفر سليمان » تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. « ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر » فأثبت كفرهم بتعليم السحر. و « يعلمون » في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان. وقرأ الكوفيون سوى عاصم « ولكن الشياطين » بتخفيف « لكن » ، ورفع النون من « الشياطين » ، وكذلك في الأنفال « ولكن الله رمى » [ الأنفال: 17 ] ووافقهم ابن عامر. الباقون بالتشديد والنصب. و « لكن » كلمة لها معنيان: نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات: لا، ك، إن. « لا » نفي، و « الكاف » خطاب، و « إن » إثبات وتحقيق، فذهبت الهمزة استثقالا، وهي تثقل وتخفف، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة.

السحر، قيل: السحر أصله التمويه والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل: هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وكذلك إذا عللته، والتسحير مثله، قال لبيد:

فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر

آخر:

أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

عصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئاب

وقوله تعالى: « إنما أنت من المسحرين » [ الشعراء: 153 ] يقال: المسحر الذي خلق ذا سحر، ويقال من المعللين، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب. وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله في خفية. وقيل: أصله الصرف، يقال: ما سحرك عن كذا، أي ما صرفك عنه، فالسحر مصروف عن جهته. وقيل: أصله الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك. وقيل في قوله تعالى: « بل نحن قوم مسحورون » [ الحجر: 15 ] أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا. وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وقد سحره يسحره سحرا. والساحر: العالم، وسحره أيضا بمعنى خدعه، وقد ذكرناه. وقال ابن مسعود: كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه. والعضه عند العرب: شدة البهت وتمويه الكذب، قال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثات في عضه العاضه المعضه

واختلف هل له حقيقة أم لا، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال: وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر.

قلت: وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء، على ما يأتي. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة. والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس في المجمل: الشعوذة ليست من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر، ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك.

 

سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال: ( إن من البيان لسحرا ) أخرجه مالك وغيره. وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام: ( إن من البيان لسحرا ) خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسحر. وقيل: خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان، قاله جماعة من أهل العلم. والأول أصح، والدليل عليه قوله عليه السلام: ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ) ، وقوله: ( إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون ) . الثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار. والمتفيهق نحوه. قال ابن دريد. فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع، قال: وأصله الفهق وهو الامتلاء، كأنه ملأ به فمه.

قلت: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا: أما قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن من البيان لسحرا ) فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين، والحمد لله.

 

من السحر ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، قاله أبو نصر عبدالرحيم القشيري. قال أبو عمرو: من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به.

 

ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى: « يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى » [ طه: 66 ] ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال « يخيل إليه » . وقال أيضا: « سحروا أعين الناس » [ الأعراف: 116 ] . وهذا لا حجة فيه، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون: « وجاؤوا بسحر عظيم » وسورة « الفلق » ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، الحديث. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر: « إن الله شفاني » . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقا وحقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله. وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها: الفرما، فمن كذب به فهو كافر، مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدة وعيانا.

 

قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك، ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا، ولا يكون الساحر مستقلا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم: ( يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل ) . فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر. قال علي بن المديني: روى عنه حارثة بن مضرب.

 

أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه.

 

في الفرق بين السحر والمعجزة، قال علماؤنا: السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها، كما تقدم في مقدمة الكتاب.

واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله: « وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر » وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة. وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حد الساحر ضربه بالسيف ) خرجه الترمذي وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم، رواه ابن المنذر: وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب. قال ابن المنذر: وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك. قال ابن المنذر: وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا. فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حد الساحر ضربه بالسيف ) فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا، فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) ...

قلت: وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى اعلم. وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة أن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير، والله تعالى اعلم. وروي عن الشافعي: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل، وإن قال لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر. قال ابن العربي: وهذا باطل من وجهين، أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال: « وما كفر سليمان » بقول السحر « ولكن الشياطين كفروا » به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان: « إنما نحن فتنة فلا تكفر » وهذا تأكيد للبيان.

احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته، لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا، قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى: « فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا » [ غافر: 85 ] فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب، فكذلك هذان.

وأما ساحر الذمة، فقيل يقتل. وقال مالك: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه. وقال ابن خويز منداد: فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك، فقال مرة: يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة: يقتل وإن أسلم. وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم: يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة: يقتل ولا يستتاب كالمسلم. وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر: يعاقب، إلا أن يكون قتل بسحره، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره. وقال غيره: يقتل، لأنه قد نقض العهد. ولا يرث الساحر ورثته، لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل.

 

واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة. قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.

أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشرع على ثبوته، قال الله تعالى: « ولكن الشياطين كفروا » وقال: « ومن الشياطين من يغوصون له » [ الأنبياء: 82 ] إلى غير ذلك من الآي، وسورة « الجن » تقضي بذلك، وقال عليه السلام: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) . وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس، وأحالوا روحين في جسد، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء.

 

قوله تعالى: « وما أنزل على الملكين » « ما » نفي، والواو للعطف على قوله: « وما كفر سليمان » وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: « ولكن الشياطين كفروا » . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله تعالى: « ومن شر النفاثات في العقد » [ الفلق: 4 ] . وقال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثا ت..................

إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل، فالجواب من وجوه ثلاثة: الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى: « فإن كان له إخوة فلأمه السدس » [ النساء: 11 ] ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا، على ما يأتي بيانه في « النساء » . الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما، كما قال تعالى: « عليها تسعة عشر » [ المدثر: 30 ] . الثالث: إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] وقوله: « وجبريل وميكال » . وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: « إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي » [ آل عمران: 68 ] وقوله: « وجبريل وميكال » [ البقرة: 98 ] ، وإما لطيبه كقوله: « فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] ، وإما لأكثريته، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ) ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله تعالى اعلم. وقد قيل: إن « ما » عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون « ما » بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: إنما نحن فتنة، أي محنة من الله، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت، وإن عصيتنا هلكت. وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه: أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة، فقال الله تعالى: أما إنكم لو كنتم مكانهم، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا: سبحانك! ما كان ينبغي لنا ذلك، قال: فاختاروا ملكين من خياركم، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية « بيدخت » وبالفارسية « ناهيل » وبالعربية « الزهرة » اختصمت إليهما، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها، فرآهما رجل فقتلاه، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا. وقال سالم عن أبيه عن عبدالله: فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما. وفي غير هذا الحديث: فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض. قيل: بابل العراق. وقيل: بابل نهاوند، وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما، ويقول: إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت.

قلنا: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله « لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » [ التحريم: 6 ] . « بل عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون » [ الأنبياء: 26 - 27 ] . « يسبحون الليل والنهار لا يفترون » [ الأنبياء: 20 ] . وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء، ففي الخبر: ( أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر « . وهذا معنى قول الله تعالى: » وكل في فلك يسبحون « [ الأنبياء: 33 ] . فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم، ثم إن قول الملائكة: » ما كان ينبغي لنا « عورة: لا تقدر على فتنتنا، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون. »

قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن: « الملكين » بكسر اللام. قال ابن أبزى: هما داود وسليمان. « فما » على هذا القول أيضا نافية، وضعف هذا القول ابن العربي. وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل ملكين، فـ « ما » على هذا القول مفعولة غير نافية..

 

قوله تعالى: « ببابل » بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة، وهي قطر من الأرض، قيل: العراق وما والاه. وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين. وقال قوم: هي بالمغرب. قال ابن عطية: وهذا ضعيف. وقال قوم: هو جبل نهاوند، فالله تعالى اعلم.

واختلف في تسميته ببابل، فقيل: سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ. وقيل: سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد. والبلبلة: التفريق، قال معناه الخليل. وقال أبو عمر بن عبدالبر: من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض.

روى عبدالله بن بشر المازني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت ) . قال علماؤنا: إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها، وتكتمك فتنتها، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها، والجمع لها والمنع، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، فالدنيا أسحر منهما، تأخذ بقلبك عن الله، وعن القيام بحقوقه، وعن وعده ووعيده. وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( حبك الشيء يعمي ويصم ) .

 

قوله تعالى: « هاروت وماروت » لا ينصرف « هاروت » ، لأنه أعجمي معرفة، وكذا « ماروت » ، ويجمع هواريت ومواريت، مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار، وموارتة وموار، ومثله جالوت وطالوت، فاعلم. وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما؟ خلاف. قال الزجاج: وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: أي والذي أنزل على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج: وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا، فـ « يعلمان » بمعنى يعلمان، كما قال: « ولقد كرمنا بني آدم » أي أكرمنا.

 

قوله تعالى: « وما يعلمان من أحد » « من » زائدة للتوكيد، والتقدير: وما يعلمان أحدا. والضمير في « يعلمان » لهاروت وماروت. وفي « يعلمان » قولان، أحدهما: أنه على بابه من التعليم. الثاني: أنه من الإعلام لا من التعليم، فـ « يعلمان » بمعنى يعلِمْان، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري. قال كعب بن مالك.

تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

وقال القطامي:

تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا

وقال زهير:

تعلمن ها لعمر الله ذا قسما فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك

وقال آخر:

تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور

« حتى يقولا » نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون، ولغة هذيل وثقيف « عتى » بالعين المعجمة. « إنما نحن فتنة » لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. « فلا تكفر » قالت فرقة بتعليم السحر، وقالت فرقة باستعماله. وحكى المهدوي أنه استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلال.

*4*قوله تعالى: { ... فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }

 

قوله تعالى: « فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه » قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله « كن فيكون » . وقيل: هو معطوف على موضع « ما يعلمان » ، لأن قوله: « وما يعلمان » وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم. وقال الفراء: هي مردودة على قوله: « يعلمون الناس السحر » فيتعلمون، ويكون « فيتعلمون » متصلة بقول « إنما نحن فتنة » فيأتون فيتعلمون. قال السدي: كانا يقولان لمن جاءهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت هذا الرماد فبل فيه، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء، وهو الإيمان، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه.

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة: ذلك خرج على الأغلب، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة، وقد تقدم هذا، والحمد الله.

 

قوله تعالى: « وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله » « ما هم » ، إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود، وقيل إلى الشياطين. « بضارين به » أي بالسحر. « من أحد » أي أحدا، ومن زائدة. « إلا بإذن الله » بإرادته وقضائه لا بأمره، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها. وقال الزجاج: « إلا بإذن الله » إلا بعلم الله. قال النحاس: وقول أبي إسحاق « إلا بإذن الله » إلا بعلم الله غلط، لأنه إنما يقال في العلم أذن، وقد أذنت أذنا. ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا.

 

قوله تعالى: « ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم » يريه في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا. وقيل: يضرهم في الدنيا، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه، لأنه يؤدب ويزجر، ويلحقه شؤم السحر. وباقي الآي بين لتقدم معانيها. « ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق » واللام في « ولقد علموا » لام توكيد. « لمن اشتراه » لام يمين، وهي للتوكيد أيضا. وموضع « من » رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيعمل بعدها. و « من » بمعنى الذي. وقال الفراء. هي للمجازاة. وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و « من » بمعنى الذي، كما تقول: لقد علمت، لمن جاءك ما له عقل. « من خلاق » « من » زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد في الواجب، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تكون زائدة في الواجب، واستدلوا بقوله تعالى: « يغفر لكم من ذنوبكم » [ نوح: 4 ] والخلاق: النصيب، قاله مجاهد. قال الزجاج: وكذلك هو عند أهل اللغة، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير. وسئل عن قوله تعالى: « ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق » فأخبر أنهم قد علموا.

 

قوله تعالى: « ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون » فأخبر أنهم لا يعلمون، فالجواب وهو قول قطرب والأخفش: أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون. قال الزجاج وقال علي بن سليمان: الأجود عندي أن يكون « ولقد علموا » للملكين، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال: « علموا » كما يقال: الزيدان قاموا. وقال الزجاج: الذين علموا علماء اليهود، ولكن قيل: « لو كانوا يعلمون » أي فدخلوا في محل من يقال له: لست بعالم، لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر.

 

الآية: 103 ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون )

 

قوله تعالى: « ولو أنهم آمنوا واتقوا » أي اتقوا السحر. « لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون » المثوبة الثواب، وهي جواب « ولو أنهم آمنوا » عند قوم. قال الأخفش سعيد: ليس لـ « لو » هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لأثيبوا. وموضع « أن » من قوله: « ولو أنهم » موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لأن « لو » لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد له من جواب، و « أن » يليه فعل. قال محمد بن يزيد: وإنما لم يجاز بـ « لو » لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل، فلما لم يكن هذا في « لو » لم يجز أن يجازى بها.

 

الآية: 104 ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا » ذكر شيئا آخر من جهالات اليهود والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك. وحقيقة « راعنا » في اللغة أرعنا ولنرعك، لأن المفاعلة من اثنين، فتكون من رعاك الله، أي احفظنا ولنحفظك، وارقبنا ولنرقبك. ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا. وفي المخاطبة بهذا جفاء، فأمر المؤمنين أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقها. قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا. على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه.

في هذه الآية دليلان: [ أحدهما ] على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض، وذلك يوجب الحد عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا: التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة. وسيأتي في « النور » بيان هذا، إن شاء الله تعالى. [ الدليل الثاني ] التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة. والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع. أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ، لأنه ذريعة للسب، وقوله تعالى: « ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم » [ الأنعام: 108 ] فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » [ الأعراف: 163 ] الآية، فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا، أي ظاهرة، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وكان السد ذريعة للاصطياد، فمسخهم الله قردة وخنازير، وذكر الله لنا ذلك معنى التحذير عن ذلك، وقوله تعالى لآدم وحواء: « ولا تقربا هذه الشجرة » [ البقرة: 35 ] وقد تقدم. وأما السنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير [ فذكرتا ذلك ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله ) . أخرجه البخاري ومسلم. قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ) وقال: ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) . وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) الحديث، فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سدا للذريعة. وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن من الكبائر شتم الرجل والديه ) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ( نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) . فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) . وقال أبو عبيد الهروي: العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة، وذلك لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره. وروى ابن وهب عن مالك أن أم ولد لزيد بن الأرقم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبدا بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعته منه بستمائة نقدا، فقالت عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. ومثل هذا لا يقال بالرأي، لأن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي، فثبت أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعوا الربا والريبة. ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريزة.

قلت: فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها. وليس عند الشافعية كتاب الآجال. لأن ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة، قالوا: وأصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فاعلمه.

« لا تقولوا راعنا » نهي يقتضي التحريم، على ما تقدم. وقرأ الحسن « راعنا » منونة. وقال: أي هجرا من القول، وهو مصدر ونصبه بالقول، أي لا تقولوا رعونة. وقرأ زر بن حبيش والأعمش « راعونا » ، يقال لما نتأ من الجبل: رعن، والجبل أرعن. وجيش أرعن أي متفرق. وكذا رجل أرعن، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا، عن النحاس. وقال ابن فارس: رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن، أي أهوج. والمرأة رعناء. وسميت البصرة رعناء لأنها تشبه برعن الجبل، قال ابن دريد ذلك، وأنشد للفرزدق:

لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا

قوله تعالى: « وقولوا انظرنا » أمروا أن يخاطبوه صلى الله عليه وسلم بالإجلال، والمعنى: أقبل علينا وانظر إلينا، فحذف حرف التعدية، كما قال:

ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر الأراك الظباء

أي إلى الأراك. وقال مجاهد: المعنى فهمنا وبين لنا. وقيل: المعنى انتظرنا وتأن بنا، قال:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر ينفعني لدى أم جندب

والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود. وقرأ الأعمش وغيره « انظرنا » بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك، قال الشاعر:

أبا هند فلا تعجل علينا وانظرنا نخبرك اليقينا

 

قوله تعالى: « واسمعوا وللكافرين عذاب أليم » لما نهى وأمر جل وعز، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما.

 

الآية: 105 ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )

 

قوله تعالى: « ما يود » أي ما يتمنى، وقد تقدم. « الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين » معطوف على « أهل » . ويجوز: ولا المشركون، تعطفه على الذين، قاله النحاس. « أن ينزل عليكم من خير من ربكم » « من » زائدة، « خير » اسم ما لم يسم فاعله. و « أن » في موضع نصب، أي بأن ينزل.

 

قوله تعالى: « والله يختص برحمته من يشاء » قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: « يختص برحمته » أي بنبوته، خص بها محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال قوم: الرحمة القرآن. وقيل: الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا، يقال: رحم يرحم إذا رق. والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى، قال ابن فارس. ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه لهم.

 

قوله تعالى: « والله ذو الفضل العظيم » « ذو » بمعنى صاحب.

 

الآية: 106 ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فيها خمس عشرة مسألة: )

 

الأولى: قوله تعالى: « ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها » « ننسها » عطف على « ننسخ » وحذفت الياء للجزم. ومن قرأ « ننسأها » حذف الضمة من الهمزة للجزم، وسيأتي معناه. « نأت » جواب الشرط، وهذه آية عظمى في الأحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله: « وإذا بدلنا آية مكان آية » [ النحل: 101 ] وأنزل « ما ننسخ من آية » .

 

الثانية: معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟! فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت!. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.

 

الثالثة: النسخ في كلام العرب على وجهين:

[ أحدهما ] النقل، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: « إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون » [ الجاثية: 29 ] أي نأمر بنسخه وإثباته.

الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى: « ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها » . وفي صحيح مسلم: ( لم تكن نبوة قط إلا تناسخت ) أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمة. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه، يقال: انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب. وتناسخ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون.

إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى « فينسخ الله ما يلقي الشيطان » [ الحج: 52 ] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله. وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب.

قلت: ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة « الأحزاب » كانت تعدل سورة البقرة في الطول، على ما يأتي مبينا هناك إن شاء الله تعالى. ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها، فقام الآخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقام الآخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنها مما نسخ الله البارحة ) . وفي إحدى الروايات: وسعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره.

 

الرابعة: أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له: لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه، ثم تعبد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك. وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لضرب من المصلحة، إظهارا لحكمته وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى.

وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلوا. قال النحاس: والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت: ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهو البداء.

 

الخامسة: اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة، وهو المكلف.

 

السادسة: اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبدالوهاب والقاضي أبو بكر، وزادا: لولاه لكان السابق ثابتا، فحافظا على معنى النسخ اللغوي، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة، وتحرزا من الحكم العقلي، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره، وليخرج القياس والإجماع، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما. وقيدا بالتراخي، لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك: قم لا تقم.

 

السابعة: المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مراده، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله حسن، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم.

 

الثامنة: اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه، كقوله تعالى: « ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا » [ النحل: 67 ] . وهناك يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى.

 

التاسعة: التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناول العموم قط، ولو ثبت تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا.

 

العاشرة: اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق، كقوله تعالى: « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان » [ البقرة: 186 ] . فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر، كقوله « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] . فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى.

 

الحادية عشرة: قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: جائز نسخ الأثقل إلى الأخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين. ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، على ما يأتي بيانه في آية الصيام. وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كالقبلة. وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن. والسنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي. وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد. وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: ( لا وصية لوارث ) . وهو ظاهر مسائل مالك. وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء. وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هذا بين. والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى. وفي قوله تعالى: « فلا ترجعوهن إلى الكفار » [ الممتحنة: 10 ] فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء، على ما يأتي بيانه، وأبى ذلك قوم. ولا يصح نسخ نص بقياس، إذ من شروط القياس ألا يخالف نصا. وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فيعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى، كما آية عدة السنة في القرآن تتلى، فتأمل هذا فإنه نفيس، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة، ومثله صدقة النجوى. وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم. وقد تنسخ التلاوة والحكم معا، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: كنا نقرأ « لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر » ومثله كثير.

والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة. والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في « الإسراء » و « الصافات » ، إن شاء الله تعالى.

 

الثانية عشر: لمعرفة الناسخ طرق، منها - أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله عليه السلام: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا ) ونحوه. ومنها - أن يذكر الراوي التاريخ، مثل أن يقول: سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله. أو يقول: نسخ حكم كذا بكذا. ومنها - أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخة متقدم. وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفق للهداية.

 

الثالثة عشرة: قرأ الجمهور « ما ننسخ » بفتح النون، من نسخ، وهو الظاهر المستعمل على معنى: ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها، كما تقدم. ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها، على ما ذكرناه. وقرأ ابن عامر « ننسخ » بضم النون، من أنسخت الكتاب، على معنى وجدته منسوخا. قال أبو حاتم: هو غلط: وقال الفارسي أبو علي: ليست لغة، لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته، بمعنى وجدته محمودا وبخيلا. قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ. وقيل: « ما ننسخ » ما نجعل لك نسخه، يقال: نسخت الكتاب إذا كتبته، وانتسخته غيري إذا جعلت نسخه له. قال مكي: ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدي، لأن المعنى يتغير، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد، وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها، فيصير القرآن كله منسوخا وهذا لا يمكن، لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن. فلما امتنع أن يكون أفعل وفعل بمعنى إذ لم يسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي لفساد المعنى، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودا أو بخيلا.

 

الرابعة عشرة: قوله تعالى: « أو ننسها » قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن، من التأخير، أي نؤخر نسخ لفظها، أي نتركه في آخر أم الكتاب فلا يكون. وهذا قول عطاء. وقال غير عطاء: معنى أو ننسأها: نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم، من قولهم: نسأت هذا الأمر إذا أخرته، ومن ذلك قولهم: بعته نسأ إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم. فالمعنى نؤخر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر. وقرأ الباقون « ننسها » بضم النون، من النسيان الذي بمعنى الترك، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، قاله ابن عباس والسدي، ومنه قوله تعالى: « نسوا الله فنسيهم » [ التوبة: 67 ] أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، قال أبو عبيد: سمعت أبا نعيم القارئ يقول: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بقراءة أبي عمرو فلم يغير علي إلا حرفين، قال: قرأت عليه « أرنا » [ البقرة: 128 ] فقال: أرنا، فقال أبو عبيد: وأحسب الحرف الآخر « أو ننسأها » فقال: « أو ننسها » . وحكى الأزهري « ننسها » نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء أي أمرت بتركه، ونسيته تركته، قال الشاعر:

إن علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها

أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس « أو ننسها » قال: نتركها لا نبدلها، فلا يصح. ولعل ابن عباس قال: نتركها، فلم يضبط. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى « أو ننسها » نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه. وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه، لأنه بمعنى نجعلك تتركها. وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين: وهما النبي والهاء، لكن اسم النبي محذوف.

 

الخامسة عشر: قوله تعالى: « نأت بخير منها » لفظة « بخير » هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية. وقال مالك: محكمة مكان منسوخة. وقيل ليس المراد بأخير التفضيل، لأن كلام الله لا يتفاضل، وإنما هو مثل قوله: « من جاء بالحسنة فله خير منها » [ النمل: 89 ] أي فله منها خير، أي نفع وأجر، لا الخير الذي هو بمعنى الأفضل، ويدل على القول الأول قوله: « أو مثلها » .

 

الآية: 107 ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير )

 

قوله تعالى: « ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض » « ألم تعلم » جزم بلم، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وفتحت « أن » لأنها في موضع نصب. « له ملك السماوات والأرض » أي بالإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الأمر والإرادة. وارتفع « ملك » بالابتداء، والخبر « له » والجملة خبر « أن » . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

 

قوله تعالى: « وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير » المعنى أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن لله سلطان السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي، من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنه ولي العهد، أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين. ومعنى « من دون الله » سوى الله وبعد الله، كما قال أمية بن أبي الصلت:

يا نفس ما لك دون الله من واق وما على حدثان الدهر من باق

وقراءة الجماعة « ولا نصير » بالخفض عطفا على « ولي » ويجوز « ولا نصير » بالرفع عطفا على الموضع، لأن المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير.

 

الآية: 108 ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )

 

قوله تعالى: « أم تريدون » هذه « أم » المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل تريدون، ومعنى الكلام التوبيخ.

« أن تسألوا رسولكم » في موضع نصب « تريدون » . « كما سئل موسى من قبل » الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، أي سؤال كما. و « موسى » في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. « من قبل » : سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. عن ابن عباس ومجاهد: سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وقرأ الحسن « كما سيل » ، وهذا على لغة من قال: سلت أسأل، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها. قال النحاس: بدل الهمزة بعيد.

 

قوله تعالى: « ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل » والسواء من كل شيء: الوسط. قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ومنه قوله: « في سواء الجحيم » [ الصافات: 55 ] . وحكى عيسى بن عمر قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد

وقيل: السواء القصد، عن الفراء، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته، أي طريق طاعة الله عز وجل. وعن ابن عباس أيضا أن سبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك.

 

الآية: 109 ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق » فيها مسألتان:

الأولى: « ود » تمنى، وقد تقدم. « كفارا » مفعول ثان بـ « يردونكم » . « من عند أنفسهم » قيل: هو متعلق « بود » . وقيل: بـ « حسدا » ، فالوقف على قوله: « كفارا » . و « حسدا » مفعول له، أي ودوا ذلك للحسد، أو مصدر دل على ما قبله على الفعل. ومعنى « من عند أنفسهم » أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، ولفظة الحسد تعطى هذا. فجاء « من عند أنفسهم » تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: « يقولون بأفواههم » [ آل عمران: 167 ] ، « يكتبون الكتاب بأيديهم » [ البقرة: 79 ] ، « ولا طائر يطير بجناحيه » . [ الأنعام: 38 ] . والآية في اليهود.

الثانية: الحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » [ النساء: 54 ] وإنما كان مذموما لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق. وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام: ( لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ) . وهذا الحسد معناه الغبطة. وكذلك ترجم عليه البخاري « باب الاغتباط في العلم والحكمة » . وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله تعالى: « وفي ذلك فليتنافس المتنافسون » [ المطففين: 26 ] أي « من بعد ما تبين لهم الحق » أي من بعد ما تبين الحق لهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الذي جاء به.

 

قوله تعالى: « فاعفوا واصفحوا » فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: « فاعفوا » والأصل اعفووا حذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: « أفنضرب عنكم الذكر صفحا » [ الزخرف: 5 ] .

الثانية: هذه الآية منسوخة بقوله: « قاتلوا الذين لا يؤمنون » [ التوبة: 29 ] إلى قوله: « صاغرون » [ التوبة: 29 ] عن ابن عباس. وقيل: الناسخ لها « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] . قال أبو عبيدة: كل آية فيها ترك للقتال فهي مكية منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة.

قلت: وهو الصحيح، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبدالله بن أبي ابن سلول - وذلك قبل أن يسلم عبدالله بن أبي - فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا! فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبدالله بن أبي بن سلول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا! فلا تؤذنا به في مجالسنا، [ ارجع إلى رحلك ] فمن جاءك فاقصص عليه. قال عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستتب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( [ يا سعد ] ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبدالله بن أبي - قال كذا وكذا ) فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي! اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل: « ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا » [ آل عمران: 186 ] ، وقال: « ود كثير من أهل الكتاب » فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غانمين منصورين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش، قال عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلموا.

 

قوله تعالى: « حتى يأتي الله بأمره » يعني قتل قريظة وجلاء بني النضير. « إن الله على كل شيء قدير » تقدم ذكره ولله الحمد.

 

الآية: 110 ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » تقدم. والحمد لله تعالى. « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله » جاء في الحديث ( أن العبد إذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم ) . وخرج البخاري والنسائي عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ) . قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت ) ، لفظ النسائي. ولفظ البخاري: قال عبدالله قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ) قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: ( فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر ) . وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت. فأجابه هاتف: يا ابن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه. ولقد أحسن القائل:

قدم لنفسك قبل موتك صالحا واعمل فليس إلى الخلود سبيل

وقال آخر:

قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن

وقال آخر:

ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا والقوم حولك يضحكون سرورا

فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا

وقال آخر:

سابق إلى الخير وبادر به فإنما خلفك ما تعلم

وقدم الخير فكل امرئ على الذي قدمه يقدم

وأحسن من هذا كله قول أبي العتاهية:

إسعد بمالك في حياتك إنما يبقى وراءك مصلح أو مفسد

وإذا تركت لمفسد لم يبقه وأخو الصلاح قليله يتزيد

وإن استطعت فكن لنفسك وارثا إن المورث نفسه لمسدد

« إن الله بما تعملون بصير » تقدم.

 

الآيتان: 111 - 112 ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

قوله تعالى: « وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم » المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. وأجاز الفراء أن يكون « هودا » بمعنى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون جمع هائد. وقال الأخفش سعيد: « إلا من كان » جعل « كان » واحدا على لفظ « من » ، ثم قال هودا فجمع، لأن معنى « من » جمع. ويجوز « تلك أمانيهم » وتقدم الكلام في هذا، والحمد لله.

 

قوله تعالى: « قل هاتوا برهانكم » أصل « هاتوا » هاتيوا، حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، يقال في الواحد المذكر: هات، مثل رام، وفي المؤنث: هاتي، مثل رامي. والبرهان: الدليل الذي يوقع اليقين، وجمعه براهين، مثل قربان وقرابين، وسلطان وسلاطين. قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. « إن كنتم صادقين » يعني في إيمانكم أو في قولكم تدخلون الجنة، أي بينوا ما قلتم ببرهان، ثم قال تعالى: « بلى » ردا عليهم وتكذيبا لهم، أي ليس كما تقولون. وقيل: إن « بلى » محمولة على المعنى، كأنه قيل أما يدخل الجنة أحد؟ فقيل: « بلى من أسلم وجهه لله » ومعنى « أسلم » استسلم وخضع. وقيل: أخلص عمله. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء. ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد. « وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في « وجهه » و « له » على لفظ « من » وكذلك « أجره » وعاد في « عليهم » على المعنى، وكذلك في « يحزنون » وقد تقدم.

 

الآية: 113 ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )

 

قوله تعالى: « وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء »

معناه ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شيء، وأنه أحق برحمة الله منه. « وهم يتلون الكتاب » يعني التوراة والإنجيل، والجملة في موضع الحال. « كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون » والمراد « بالذين لا يعلمون » في قول الجمهور: كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم. وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى. الربيع بن أنس: المعنى كذلك قالت اليهود قبل النصارى. ابن عباس: قدم أهل نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فأتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت كل فرقة منهم للأخرى لستم على شيء، فنزلت الآية.

 

الآية: 114 ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها » « ومن » رفع بالابتداء، و « أظلم » خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و « أن » في موضع نصب على البدل من « مساجد » ، ويجوز أن يكون التقدير: كراهية أن يذكر، ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: من أن يذكر فيها، وحرف الخفض يحذف مع « أن » لطول الكلام. وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاريبه. وقيل الكعبة، وجمعت لأنها قبلة المساجد أو للتعظيم. وقيل: المراد سائر المساجد، والواحد مسجد ( بكسر الجيم ) ، ومن العرب من يقول: مسجد، ( بفتحها ) . قال الفراء: « كل ما كان على فعل يفعل، مثل دخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دخل يدخل مدخلا، وهذا مدخله، إلا أحرفا من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمرفق ( من رفق يرفق ) والمنبت والمنسك ( من نسك ينسك ) ، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم » . والمسجد ( بالفتح ) : جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والآراب السبعة مساجد، قاله الجوهري.

 

واختلف الناس في المراد بهذه الآية وفيمن نزلت، فذكر المفسرون أنها نزلت في بخت نصر، لأنه كان أخرب بيت المقدس. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في النصارى، والمعنى كيف تدعون أيها النصارى أنكم من أهل الجنة! وقد خربتم بيت المقدس ومنعتم المصلين من الصلاة فيه. ومعنى الآية على هذا: التعجب من فعل النصارى ببيت المقدس مع تعظيمهم له، وإنما فعلوا ما فعلوا عداوة لليهود. روى سعيد عن قتادة قال: أولئك أعداء الله النصارى. حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وروي أن هذا التخريب بقي إلى زمن عمر رضي الله عنه. وقيل: نزلت في المشركين إذ منعوا المصلين والنبي صلى الله عليه وسلم، وصدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وقيل: المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف، والله تعالى اعلم.

 

خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بخت نصر والنصارى بيت المقدس على ما ذكر أنهم غزوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم - قيل: اسمه نطوس بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنوي - فقتلوا وسبوا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العذرة وخربوه.

ويكون مجازا كمنع المشركين المسلمين حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها.

 

قال علماؤنا: ولهذا قلنا لا يجوز منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أو لم يكن، ولا تمنع أيضا من الصلاة في المساجد ما لم يخف عليها الفتنة، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) ولذلك قلنا: لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة، ولا يمنع بناء المساجد إلا أن يقصدوا الشقاق والخلاف، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قربه، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الأول وخرابه واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثاني ينقض ويمنع من بنيانه، ولذلك قلنا: لا يجوز أن يكون في المصر جامعان، ولا لمسجد واحد إمامان، ولا يصلي في مسجد جماعتان. وسيأتي لهذا كله مزيد بيان في سورة « براءة » إن شاء الله تعالى، وفي « النور » حكم المساجد وبنائها بحول الله تعالى. ودلت الآية أيضا على تعظيم أمر الصلاة، وأنها لما كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا كان منعها أعظم إثما.

 

كل موضع يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له يسمى مسجدا، قال صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) ، أخرجه الأئمة. وأجمعت الأمة على أن البقعة إذا عينت للصلاة بالقول خرجت عن جملة الأملاك المختصة بربها وصارت عامة لجميع المسلمين، فلو بنى رجل في داره مسجدا وحجزه على الناس واختص به لنفسه لبقي على ملكه ولم يخرج إلى حد المسجدية، ولو أباحه للناس كلهم كان حكمه حكم سائر المساجد العامة، وخرج عن اختصاص الأملاك.

 

قوله تعالى: « أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين » « أولئك » مبتدأ وما بعده خبره. « خائفين » حال، يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها. فإن دخلوها، فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم، وتأديبهم على دخولها. وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد بحال، على ما يأتي في « براءة » إن شاء الله تعالى. ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد بناء عمر بيت المقدس في الإسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضربا بعد أن كان متعبدهم. ومن جعلها في قريش قال: كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ) . وقيل: هو خبر ومقصوده الأمر، أي جاهدوهم واستأصلوهم حتى لا يدخل أحد منهم المسجد الحرام إلا خائفا، كقوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » [ الأحزاب. 53 ] فإنه نهي ورد بلفظ الخبر.

 

قوله تعالى: « لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم » قيل القتل للحربي، والجزية للذمي، عن قتادة. السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية، وغير ذلك من مدنهم، على ما ذكرناه في كتاب التذكرة. ومن جعلها في قريش جعل الخزي عليهم في الفتح، والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا.

 

الآية: 115 ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم )

 

قوله تعالى: « ولله المشرق والمغرب » « المشرق » موضع الشروق. « والمغرب » موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع، كما تقدم. وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله، ولأن سبب الآية اقتضى ذلك، على ما يأتي.

 

قوله تعالى: « فأينما تولوا فثم وجه الله » « فأينما تولوا » شرط، ولذلك حذفت النون، و « أين » العاملة، و « ما » زائدة، والجواب « فثم وجه الله » . وقرأ الحسن « تولوا » بفتح التاء واللام، والأصل تتولوا. و « ثم » في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبعد، فإن أردت القرب قلت هنا.

 

اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه « فأينما تولوا » على خمسة أقوال: فقال عبدالله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: « فأينما تولوا فثم وجه الله » . قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق.

قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكا قال: تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال المغيرة والشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح، لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت « فأينما تولوا فثم وجه الله » . ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لأحد أن يدع القبلة عامدا بوجهة من الوجوه إلا في شدة الخوف، على ما يأتي.

واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله، فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه. قال سحنون: فإن فعل أعاد، حكاه الباجي. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة، على ما يأتي بيانه.

واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة، فقال مالك وأصحابه والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، قالوا: لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا، لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له. وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء. وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه [ بالإيماء ] . وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر. وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر، فقال: أما في السفر فقد سمعت، وما سمعت في الحضر. قال ابن القاسم: من تنفل في محمله تنفل جالسا، قيامه تربع، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه. وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية - يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله » [ آل عمران: 199 ] فكان هذا عذرا للنجاشي، وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة. وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي. قال ابن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب، وقد كنت ببغداد في مجلس الإمام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان؟ فيقول له: مات، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم يقول لنا: قوموا فلأصل لكم، فيقوم فيصلي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدة، وبينه وبين بلده ستة أشهر.

والأصل عندهم في ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه:

أحدها: أن الأرض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي، كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الأقصى. وقال المخالف: وأي فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته.

الثاني: أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة ملك على دين لا يكون له اتباع، والتأويل بالمحال محال.

الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا. قال المخالف: بركة الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت باتفاق. قال ابن العربي: والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه.

قلت: والتأويل الأول أحسن، لأنه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر، والغائب ما لا يرى. والله تعالى اعلم.

القول الرابع: قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فنزلت: « ولله المشرق والمغرب » فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

القول الخامس: أن الآية منسوخة بقوله: « وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره » [ البقرة: 144 ] ذكره ابن عباس، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك. وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: « فول وجهك شطر المسجد الحرام » [ البقرة: 144 ] أي تلقاءه، حكاه أبو عيسى الترمذي.

وقول سادس: روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة، المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت: « ادعوني استجب لكم » قالوا: إلى أين؟ فنزلت: « فأينما تولوا فثم وجه الله » . وعن ابن عمر والنخعي: أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله. وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: « ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه » [ البقرة: 114 ] الآية، فالمعنى أن بلاد لله أيها المؤمنون تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه. وقيل: نزلت حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال. ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا، لأنها محتملة لمعنى الأمر. يحتمل أن يكون معنى « فأينما تولوا فثم وجه الله » : ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض.

 

اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا. وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسعا، كما يقول القائل: رأيت علم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى: « إنما نطعمكم لوجه الله » [ الإنسان: 9 ] لأن المراد به: لله الذي له الوجه، وكذلك قوله: « إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى » [ الليل: 20 ] أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجل، كما قال: « ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام » [ الرحمن: 27 ] . وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ابن عطية: وضعف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف، وإنما المراد وجوده. وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة. وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر:

أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

وقيل: المعنى فثم رضا الله وثوابه، كما قال: « إنما نطعمكم لوجه الله » [ الإنسان: 9 ] أي لرضائه وطلب ثوابه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه لله بنى الله له مثله في الجنة ) . وقوله: ( يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرا وهو اعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي ) أي خالصا لي، خرجه الدارقطني. وقيل: المراد فثم الله، والوجه صلة، وهو كقوله: « وهو معكم » . قاله الكلبي والقتبي، ونحوه قول المعتزلة.

 

قوله تعالى: « إن الله واسع عليم » أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل: « واسع » بمعنى أنه يسع علمه كل شيء، كما قال: « وسع كل شيء علما » [ طه: 98 ] . وقال الفراء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء، دليله قوله تعالى: « ورحمتي وسعت كل شيء » [ الأعراف: 156 ] . وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب. وقيل: متفضل على العباد وغني عن أعمالهم، يقال: فلان يسع ما يسأل، أي لا يبخل، قال الله تعالى: « لينفق ذو سعة من سعته » [ الطلاق: 7 ] أي لينفق الغني مما أعطاه الله. وقد أتينا عليه في الكتاب « الأسنى » والحمد لله.

 

الآية: 116 ( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون )

 

قوله تعالى: « وقالوا اتخذ الله ولدا » هذا إخبار عن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله. وقيل عن اليهود في قولهم: عزير ابن الله. وقيل عن كفرة العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. وقد جاء مثل هذه الأخبار عن الجهلة الكفار في « مريم ] و [ الأنبياء ] .»

 

قوله تعالى: « سبحانه بل له » الآية. خرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا « . »

 

« سبحان » منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة، من قولهم: اتخذ الله ولدا، بل هو الله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، « أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء » [ الأنعام: 101 ] ولم يولد فيكون مسبوقا، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. « بل له ما في السماوات والأرض » « ما » رفع بالابتداء والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. والقائل بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة السموات والأرض. وقد تقدم أن معنى سبحان الله: براءة الله من السوء.

 

لا يكون الولد إلا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته وهو لا يشبهه شيء، وقد قال: « إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا » [ مريم: 93 ] ، كما قال هنا: « بل له ما في السموات والأرض » فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم إن البنوة تنافي الرق والعبودية. - على ما يأتي بيانه في سورة « مريم » إن شاء الله تعالى - فكيف يكون ولد عبدا هذا محال، وما أدى إلى المحال محال.

 

قوله تعالى: « كل له قانتون » ابتداء وخبر، والتقدير كلهم، ثم حذف الهاء والميم. « قانتون » أي مطيعون وخاضعون، فالمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطبع. والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. فالقنوت الطاعة، والقنوت السكوت، ومنه قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه حتى نزلت: « وقوموا لله قانتين » [ البقرة: 238 ] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. والقنوت: الصلاة، قال الشاعر:

قانتا لله يتلو كتبه وعلى عمد من الناس اعتزل

وقال السدي وغيره في قوله: « كل له قانتون » أي يوم القيامة. الحسن: كل قائم بالشهادة أنه عبده. والقنوت في اللغة أصله القيام، ومنه الحديث: ( أفضل الصلاة طول القنوت ) قاله الزجاج. فالخلق قانتون، أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم. وقيل: أصله الطاعة، ومنه قوله تعالى: « والقانتين والقانتات » [ الأحزاب: 35 ] . وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » [ البقرة: 238 ] .

 

الآية: 117 ( بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون )

 

قوله تعالى: « بديع السماوات والأرض » فعيل للمبالغة، وارتفع على خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع، كبصير من مبصر. أبدعت الشيء لا عن مثال، فالله عز وجل بديع السموات والأرض، أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري ( ونعمت البدعة هذه ) يعني قيام رمضان.

 

كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يجوز أن يكون لها أصل في الشرع أولا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسول عليه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس، عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسول فهي في حيز الذم والإنكار، قال معناه الخطابي وغيره.

قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: ( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقول: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) . وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره.

 

قوله تعالى: « وإذا قضى » أي إذا أراد إحكامه وإتقانه - كما سبق في علمه - قال له كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ مما ببن الخصمين. وقال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قال أبو ذؤيب:

وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع

وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بواثق في أكمامها لم تفتق

قال علماؤنا: « قضى » لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، قال الله تعالى: « فقضاهن سبع سماوات في يومين » [ فصلت: 12 ] أي خلقهن. ويكون بمعنى الإعلام، قال الله تعالى: « وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب » [ الإسراء: 4 ] أي أعلمنا. ويكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى: « وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه » [ الإسراء: 23 ] . ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى: « فلما قضى موسى الأجل » [ القصص: 29 ] . ويكون بمعنى الإرادة، كقوله تعالى: « فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » [ غافر: 68 ] أي إذا أراد خلق شيء. قال ابن عطية: « قضى » معناه قدر، وقد يجيء بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان على مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه. وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.

 

قوله تعالى: « أمرا » الأمر واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر. قال علماؤنا: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها:

الأول: الدين، قال الله تعالى: « حتى جاء الحق وظهر أمر الله » [ التوبة: 48 ] يعني دين الله الإسلام. الثاني: القول، ومنه قوله تعالى: « فإذا جاء أمرنا » يعني قولنا، وقوله: « فتنازعوا أمرهم بينهم » [ طه: 62 ] يعني قولهم.

الثالث: العذاب، ومنه قوله تعالى: « لما قضي الأمر » [ إبراهيم: 22 ] يعني لما وجب العذاب بأهل النار.

الرابع: عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: « إذا قضى أمرا » [ آل عمران: 47 ] يعني عيسى، وكان في علمه أن يكون من غير أب.

الخامس: القتل ببدر، قال الله تعالى: « فإذا جاء أمر الله » [ غافر: 78 ] يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: « ليقضي الله أمرا كان مفعولا » [ الأنفال: 42 ] يعني قتل كفار مكة.

السادس: فتح مكة، قال الله تعالى: « فتربصوا حتى يأتي الله بأمره » [ التوبة: 24 ] يعني فتح مكة.

السابع: قتل قريظة وجلاء بني الضير، قال الله تعالى: « فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره » [ البقرة: 109 ] .

الثامن: القيامة، قال الله تعالى: « أتى أمر الله » [ النحل: 1 ] .

التاسع: القضاء، قال الله تعالى: « يدبر الأمر » [ يونس: 3 ] يعني القضاء.

العاشر: الوحي، قال الله تعالى: « يدبر الأمر من السماء إلى الأرض » [ السجدة: 5 ] يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله: « يتنزل الأمر بينهن » [ الطلاق: 12 ] يعني الوحي.

الحادي عشر: أمر الخلق، قال الله تعالى: « ألا إلى الله تصير الأمور » [ الشورى: 53 ] يعني أمور الخلائق.

الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى: « يقولون هل لنا من الأمر من شيء » [ آل عمران: 154 ] يعنون النصر، « قل إن الأمر كله لله » [ آل عمران: 154 ] يعني النصر.

الثالث عشر: الذنب، قال الله تعالى: « فذاقت وبال أمرها » [ الطلاق: 9 ] يعني جزاء ذنبها.

الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى: « وما أمر فرعون برشيد » [ هود: 97 ] أي فعله وشأنه، وقال: « فليحذر الذين يخالفون عن أمره » [ النور: 63 ] أي فعله.

 

قوله تعالى: « فإنما يقول له كن » قيل: الكاف من كينونه، والنون من نوره، وهي المراد بقوله عليه السلام: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) . ويروى: ( بكلمة الله التامة ) على الإفراد. فالجمع لما كانت هذه الكلمة في الأمور كلها، فإذا قال لكل أمر كن، ولكل شيء كن، فهن كلمات. يدل على هذا ما روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن الله تعالى: ( عطائي كلام وعذابي كلام ) . خرجه الترمذي في حديث فيه طول. والكلمة على الإفراد بمعنى الكلمات أيضا، لكن لما تفرقت الكلمة الواحدة في الأمور في الأوقات صارت كلمات ومرجعهن إلى كلمة واحدة. وإنما قيل « تامة » لأن أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف: حرف مبتدأ، وحرف تحشى به الكلمة، وحرف يسكت عليه. وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص، كيد ودم وفم، وإنما نقص لعلة. فهي من الآدميين المنقوصات لأنها على حرفين، ولأنها كلمة ملفوظة بالأدوات. ومن ربنا تبارك وتعالى تامة، لأنها بغير الأدوات، تعالى عن شبه المخلوقين.

 

قوله تعالى: « فيكون » قرئ برفع النون على الاستئناف. قال سيبويه. فهو يكون، أو فإنه يكون. وقال غيره: هو معطوف على « يقول » ، فعلى الأول كائنا بعد الأمر، وإن كان معدوما فإنه بمنزلة الموجود إذا هو عنده معلوم، على ما يأتي بيانه. وعلى الثاني كائنا مع الأمر، واختاره الطبري وقال: أمره للشيء بـ « كن » لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، ولا موجودا إلا وهو مأمور بالوجود، على ما يأتي بيانه. قال: ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، كما قال « ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون » [ الروم: 25 ] . وضعف ابن عطية هذا القول وقال: هو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود.

وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم ولم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة « كن » : هو قديم قائم بالذات.

وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل: ففي أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة:

أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات.

الثاني: أن الله عز وجل عالم هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.

الثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، كقول أبي النجم:

قد قالت الاتساع للبطن الحق

ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقول عمرو بن حممة الدوسي:

فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع

وكما قال الآخر:

قالت جناحاه لساقيه الحقا ونجيا لحمكما أن يمزقا

 

الآية: 118 ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون )

 

قوله تعالى: « وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية » قال ابن عباس: هم اليهود. مجاهد: النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال الربيع والسدي وقتادة: مشركو العرب. و « لولا » بمعنى « هلا » تحضيض، كما قال الأشهب بن رميلة:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطري لولا الكمي المقنعا

وليست هذه « لولا » التي تعطي منع الشيء لوجود غيره، والفرق بينهما عند علماء اللسان أن « لولا » بمعنى التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، والتي للامتناع يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر. ومعنى الكلام هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنعلم أنه نبي فنؤمن به، أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوته. والآية: الدلالة والعلامة، وقد تقدم. « كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم » « الذين من قبلهم » اليهود والنصارى في قول من جعل « الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول من جعل » الذين لا يعلمون « اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل » الذين لا يعلمون « النصارى. » تشابهت قلوبهم « قيل: في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان. وقال الفراء. » تشابهت قلوبهم « في اتفاقهم على الكفر. » قد بينا الآيات لقوم يوقنون « تقدم.»

 

الآية: 119 ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم )

 

قوله تعالى: « إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا » « بشيرا » نصب على الحال، « ونذيرا » عطف عليه، قد تقدم معناهما. « ولا تسأل عن أصحاب الجحيم » قال مقاتل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا ) ، فأنزل الله تعالى: « ولا تسأل عن أصحاب الجحيم » برفع تسأل، وهي قراءة الجمهور، ويكون في موضع الحال بعطفه على « بشيرا ونذيرا » . والمعنى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسؤول. وقال سعيد الأخفش: ولا تسأل ( بفتح التاء وضم اللام ) ، ويكون في موضع الحال عطفا على « بشيرا ونذيرا » . والمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم. هذا معنى غير سائل. ومعنى غير مسؤول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار. وقال ابن عباس ومحمد بن كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ذات يوم: ( ليت شعري ما فعل أبواي ) . فنزلت هذه الآية، وهذا على قراءة من قرأ « ولا تسأل » جزما على النهي، وهي قراءة نافع وحده، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء، لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان، وعن المعصية إلى الطاعة.

والثاني: وهو الأظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب. وقرأ ابن مسعود « ولن تسأل » . وقرأ أبي « وما تسأل » ، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفى أن يكون مسؤولا عنهم. وقيل: إنما سأل أي أبويه أحدث موتا، فنزلت. وقد ذكرنا في كتاب « التذكرة » أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به، وذكرنا قول عليه السلام للرجل: ( إن أبي وأباك في النار ) وبينا ذلك، والحمد لله.

 

الآية: 120 ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير )

 

قوله تعالى: « ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم » فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: : « ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم » المعنى: ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم. يقال: رضي يرضى رِضا ورُضا ورُضوانا ورِضوانا ومَرضاة، وهو من ذوات الواو، ويقال في التثنية: رِضوان، وحكى الكسائي: رِضَيان. وحكي رضاء ممدود، وكأنه مصدر راضى يراضي مُراضاة ورِضاء. « تتبع » منصوب بأن ولكنها لا تظهر مع حتى، قاله الخليل. وذلك أن حتى خافضة للاسم، كقوله: « حتى مطلع الفجر » [ القدر: 5 ] وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل البتة، وما يخفض اسما لا ينصب شيئا. وقال النحاس: « تتبع » منصوب بحتى، و « حتى » بدل من أن. والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله. فكانت الملة والشريعة سواء، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدين ما فعله العباد عن أمره.

الثانية: تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: « ملتهم » فوحد الملة، وبقوله تعالى: « لكم دينكم ولي دين » [ الكافرون: 6 ] ، وبقوله عليه السلام: ( لا يتوارث أهل ملتين ) على أن المراد به الإسلام والكفر، بدليل قوله عليه السلام: ( لا يرث المسلم الكافر ) . وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل، فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السلام: ( لا يتوارث أهل ملتين ) ، وأما قوله تعالى: « ملتهم » فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذت عن علماء أهل المدينة - مثلا - علمهم، وسمعت عليهم حديثهم، يعني علومهم وأحاديثهم.

 

قوله تعالى: « قل إن هدى الله هو الهدى » المعنى ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء.

 

قوله تعالى: « ولئن اتبعت أهواءهم » الأهواء جمع هوى، كما تقول: جمل وأجمال، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم. وفي هذا الخطاب وجهان: أحدهما: أنه للرسول، لتوجه الخطاب إليه. والثاني: أنه للرسول والمراد به أمته، وعلى الأول يكون فيه تأديب لأمته، إذ منزلتهم دون منزلته. وسبب الآية أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدية، ويعدون النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم.

 

قوله تعالى: « بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير » مثل أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآيات من كتاب الله تعالى: « ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم » [ البقرة: 145 ] والقرآن من علم الله. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.

 

الآيات: 121 - 123 ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون، يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين، واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون )

 

قوله تعالى: « الذين آتيناهم الكتاب » قال قتادة: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب على هذا التأويل القرآن. وقال ابن زيد: هم من أسلم من بني إسرائيل. والكتاب على هذا التأويل: التوراة، والآية تعم. و « الذين » رفع بالابتداء، « آتيناهم » صلته، « يتلونه » خبر الابتداء، وإن شئت كان الخبر « أولئك يؤمنون به » .

واختلف في معنى « يتلونه حق تلاوته » فقيل: يتبعونه حق اتباعه، باتباع الأمر والنهي، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه، قاله عكرمة. قال عكرمة: أما سمعت قول الله تعالى: « والقمر إذا تلاها » [ الشمس: 2 أي اتبعها، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما. وقال الشاعر:

قد جعلت دلوي تستتليني

وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « يتلونه حق تلاوته » قال: ( يتبعونه حق اتباعه ) . في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر أحمد، إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ. وقال الحسن: هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقيل: يقرؤونه حق قراءته.

قلت: وهذا فيه بعد، إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه، ويفهمون معانيه، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق.

 

الآية: 124 ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين فيه عشرون مسألة: )

 

الأولى: لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام، وأنه الذي بنى البيت، فكان من حق اليهود - وهم من نسل إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه. والابتلاء: الامتحان والاختبار، ومعناه أمر وتعبد. وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية: أب رحيم. قال السهيلي: وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم، لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين يموتون صغارا إلى يوم القيامة.

قلت: ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس. وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة، والحمد لله.

وإبراهيم هو ابن تاريخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين. وفي التنزيل: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » [ الأنعام: 74 ] وكذلك في صحيح البخاري، ولا تناقض في ذلك، على ما يأتي في « الأنعام » بيانه إن شاء الله تعالى. وكان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، على ما ذكره السهيلي. وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب تبارك وتعالى مبتليا معلوم، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام، فاعلمه. وقراءة العامة « إبراهيم » بالنصب، « ربه » بالرفع على ما ذكرنا. وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس، وزعم أن ابن عباس أقرأه كذلك. والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل، وفيه بعد، لأجل الباء في قوله: « بكلمات » .

 

الثانية: قوله تعالى: « بكلمات » الكلمات جمع كلمة، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة، لأنه صدر عن كلمة وهي « كن » . وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز، قاله ابن العربي.

 

الثالثة: واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال: أحدها: شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما، عشرة منها في سورة براءة: « التائبون العابدون » [ التوبة: 112 ] إلى آخرها، وعشرة في الأحزاب: « إن المسلمين والمسلمات » [ الأحزاب: 35 ] إلى آخرها، وعشرة في المؤمنون: « قد أفلح المؤمنون » [ المؤمنون: 1 ] إلى قوله: « على صلواتهم يحافظون » [ المؤمنون: 9 ] وقوله في « سأل سائل » : « إلا المصلين » إلى قوله: « والذين هم على صلاتهم يحافظون » . قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال: « وإبراهيم الذي وفى » [ النجم: 37 ] . وقال بعضهم: بالأمر والنهي، وقال بعضهم: بذبح ابنه، وقال بعضهم: بأداء الرسالة، والمعنى متقارب. وقال مجاهد: هي قوله تعالى: إني مبتليك بأمر، قال: تجعلني للناس إماما؟ قال نعم. قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال نعم. قال: وأمنا؟ قال نعم. قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا؟ قال نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات؟ قال نعم. وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم. وأصح من هذا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن طاوس عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الشعر. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والاختتان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم، وهو ظاهر القرآن. وروى مطر عن أبي الجلد أنها عشر أيضا، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم، وموضع الاستنجاء الاستحداد. وقال قتادة: هي مناسك الحج خاصة. الحسن: هي الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام.

قلت: وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قلم الأظفار، وأول من قص الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقارا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله. قال غيره: وأول من ثرد الثريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل. وروى معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم ) .

قلت: وهذه أحكام يجب بيانها والوقف عليها والكلام فيها، فأول ذلك « الختان » وما جاء فيه.

 

الرابعة: أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن. واختلف في السن التي اختتن فيها، ففي الموطأ عن أبي هريرة موقوفا: ( وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ) . ومثل هذا لا يكون رأيا، وقد رواه الأوزاعي مرفوعا عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة ) . ذكره أبو عمر. وروي مسندا مرفوعا من غير رواية يحيى من وجوه: ( أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم ) . كذا في صحيح مسلم وغيره « ابن ثمانين سنة » ، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عكرمة: اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة. قال: ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون، هكذا قال عكرمة وقال المسيب بن رافع، ذكره المروزي. و « القدوم » يروي مشددا ومخففا. قال أبو الزناد: القدوم ( مشددا ) : موضع.

 

الخامسة: واختلف العلماء في الختان، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال. وقالت طائفة: ذلك فرض، لقوله تعالى: « أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا » [ النحل: 123 ] . قال قتادة: هو الاختتان، وإليه مال بعض المالكيين، وهو قول الشافعي. واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة، وقال: لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون. وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب، والطب ليس بواجب إجماعا، على ما يأتي في « النحل » بيانه إن شاء الله تعالى. وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ) . والحجاج ليس ممن يحتج به.

قلت: أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الفطرة خمس الاختتان... ) الحديث، وسيأتي. وروى أبو داود عن أم عطية أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل ) . قال أبو داود: وهذا الحديث ضعيف راويه مجهول. وفي رواية ذكرها رزين: ( ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل ) .

 

السادسة: فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان. قال الميموني قال لي أحمد: إن ههنا رجلا ولد له ولد مختون، فاغتم لذلك غما شديدا، فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا.

 

السابعة: قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين: آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ( نبي أصحاب الرس ) ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

قلت: اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أبو نعيم الحافظ في « كتاب الحلية » بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا محمد بن أبى السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس: أن عبدالمطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه « محمدا » . قال أبو عمر: هذا حديث مسند غريب. قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري. قال أبو عمر: وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا.

 

الثامنة: واختلفوا متى يختن الصبي، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام. وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود. ذكره عنه ابن وهب. وقال الليث بن سعد: يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر. ونحوه روى ابن وهب عن مالك. وقال أحمد: لم أسمع في ذلك شيئا. وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام.

واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختن، وكان عطاء يقول: لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة. وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته، قال ابن عبدالبر: وعامة أهل العلم على هذا. وحديث بريدة في حج الأغلف لا يثبت. وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد وعكرمة: أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته.

 

التاسعة: قوله: [ وأول من استحد ] فالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة. وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى ولي عانته بيده. وروى ابن عباس أن رجلا طلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ إلى عانته قال له: اخرج عني، ثم طلى عانته بيده. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه. قال ابن خويز منداد: وهذا يدل على أن الأكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادرا، ليصح الجمع بين الحديثين.

 

العاشرة: في تقليم الأظفار. وتقليم الأظفار: قصها، والقلامة ما يزال منها. وقال مالك: أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال. ذكره الحارث بن مسكين وسحنون عن ابن القاسم. وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » له

 

حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال: سمعت عبدالله بن بشر المازني يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا علي قخرا بخرا ) ثم تكلم عليه فأحسن. قال الترمذي: فأما قص الأظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر، وهو مجتمع الوسخ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا. ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار. والأظافير جمع الأظفور، والأظفار جمع الظفر. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال: ( وما لي لا أوهم ورفع أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث ) . وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا في « أحكام القرآن » له، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال: أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته، فرأى في أظفاري طولا فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال: ( يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث ) .

وأما قوله: ( ادفنوا قلاماتكم ) فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم، فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب. حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبدالرحمن بن ماعز قال: سمعت عامر بن عبدالله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: ( يا عبدالله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد ) . فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: ( يا عبدالله ما صنعت به؟ ) . قال: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس. قال: ( لعلك شربته؟ ) قال نعم. قال: ( لم شربت الدم، وويل للناس منك وويل لك من الناس ) . حدثني أبي قال: حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال: حدثنا داود بن عبدالرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والدم، والحيضة، والسن، والقلفة، والبشيمة.

وأما قوله: ( نقوا براجمكم ) فالبراجم تلك الغضون من المفاصل، وهي مجتمع الدرن ( واحدها برجمة ) وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقدة يسمى برجمة، وما بين العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها، وهي قصبة الأصبع، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة.

وأما قوله: ( نظفوا لثاتكم ) فاللثة واحدة، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان، وهي منابتها. والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان، لأنه طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] قال: عند نابيه. حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال: سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة، وجاد ما قال، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز. وقوله: « لديه » أي عنده، واللدى والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد، وكذلك قولهم « لدن » فالنون زائدة. فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب.

وأما قوله: ( تسننوا ) وهو السواك مأخوذ من السن، أي نظفوا السن.

وقوله: ( لا تدخلوا علي قخرا بخرا ) فالمحفوظ عندي ( قحلا وقلحا ) . وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال: الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها، ولا أعرف القخر. والبخر: الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته، يقال: رجل أبخر، ورجال بخر. حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحا ) .

 

الحادية عشرة: في قص الشارب. وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل نفسه، قاله مالك. وذكر ابن عبدالحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع، وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه، وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر، وإنما حلق وحلقوا في النسك. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى. قال: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء. وقال أبو بكر الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( احفوا الشوارب ) . قال أبو عمر: إنما في هذا الباب أصلان: أحدهما: أحفوا، وهو لفظ محتمل التأويل. والثاني: قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على المجمل، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. روى الترمذي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من شاربه ويقول: ( إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله ) . قال: هذا حديث حسن غريب. وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط ) . وفيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى ) . والأعاجم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة. ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد، ويأخذ هذين، يعني ما بين الشارب واللحية. وفي البخاري: وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر. وروى الترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها. قال: هذا حديث غريب.

 

الثانية عشرة: وأما الإبط فسنته النتف، كما أن سنة العانة الحلق، فلو عكس جاز لحصول النظافة، والأول أولى، لأنه المتيسر المعتاد.

 

الثالثة عشرة: وفرق الشعر: تفريقه في المفرق، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: إن انفرقت عقيصته فرق، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقال: إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة. خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. قال القاضي عياض: سدل الشعر إرساله، والمراد به ههنا عند العلماء إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، والفرق في الشعر سنة، لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر بن عبدالعزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره. وقد قيل: إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام، فالله اعلم.

 

الرابعة عشرة: وأما الشيب فنور ويكره نتفه، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة ) .

قلت: وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد، فأما تغييره بغير السواد فجائز، لقوله صلى الله عليه وسلم في حق أبي قحافة - وقد جيء به ولحيته كالثغامة بياضا - : ( غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد ) . ولقد أحسن من قال:

يسود أعلاها ويبيض أصلها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل

وقال الآخر:

يا خاضب الشيب بالحناء تستره سل المليك له سترا من النار

 

الخامسة عشرة: وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال: ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) . وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه أعظم للبركة ) .

 

السادسة عشرة: قلت: وهذا كله في معنى ما ذكره عبدالرزاق عن ابن عباس، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره. ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة « النساء » وحكم الاستنجاء في « براءة » وحكم الضيافة في « هود » إن شاء الله تعالى. وخرج مسلم عن أنس قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة، قال علماؤنا: هذا تحديد في أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان. قال العقيلي: في حديثه نظر. وقال أبو عمر فيه: ليس بحجة، لسوء حفظه وكثرة غلطه. وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل، ولكنه قد قال به قوم، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك، وبالله التوفيق.

 

السابعة عشرة: قوله تعالى: « قال إني جاعلك للناس إماما » الإمام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لأنه يؤم فيه للمسالك، أي يقصد. فالمعنى: جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه - والله اعلم - أنه كان حنيفا.

 

الثامنة عشرة: قوله تعالى: « قال ومن ذريتي » دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل. وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة. قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال: « لا ينال عهدي الظالمين » .

 

التاسعة عشرة: قوله تعالى: « ومن ذريتي » أصل ذرية، فعلية من الذر، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم. وقيل: هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. وقرأ زيد بن ثابت « ذرية » بكسر الذال و « ذرية » بفتحها. قال ابن جني أبو الفتح عثمان: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها: ذرأ، والثاني: ذرر، والثالث: ذرو، والرابع: ذري، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه، وذلك لما ورد في الخبر ( أن الخلق كان كالذر ) وأما الواو والياء، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا، وذلك قوله تعالى: « فأصبح هشيما تذروه الرياح » [ الكهف: 45 ] وهذا للطفه وخفته، وتلك حال الذر أيضا. قال الجوهري: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا أي نسفته، ومنه قولهم: ذرى الناس الحنطة، وأذريت الشيء إذا ألقيته، كإلقائك الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته، أي ألقاه. وقال الخليل: إنما سموا ذرية، لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر. وقيل: أصل ذرية، ذرورة، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء، فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية. والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة، وقد تطلق على الآباء والأبناء، ومنه قوله تعالى: « وآية لهم أنا حملنا ذريتهم » [ يس: 41 ] يعني آباءهم.

 

عشرون: قوله تعالى: « قال لا ينال عهدي الظالمين » اختلف في المراد بالعهد، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة، وقال السدي. مجاهد: الإمامة. قتادة: الإيمان. عطاء: الرحمة. الضحاك: دين الله تعالى. وقيل: عهده أمره. ويطلق العهد على الأمر، قال الله تعالى: « إن الله عهد إلينا » [ آل عمران: 183 ] أي أمرنا. وقال: « ألم أعهد إليكم يا بني آدم » [ يس: 60 ] يعني ألم أقدم إليكم الأمر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله: « لا ينال عهدي الظالمين » أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا إن شاء الله تعالى. وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: « لا ينال عهدي الظالمين » قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وعاش وأبصر. قال الزجاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظالمين، أي لا أؤمنهم من عذابي. وقال سعيد بن جبير: الظالم هنا المشرك. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف « لا ينال عهدي الظالمون » برفع الظالمون. الباقون بالنصب. وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في « عهدي » ، وفتحها الباقون.

 

استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: « لا ينال عهدي الظالمين » ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة. والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه.

 

قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم.

 

قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلص في يده مال مسروق، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين.

 

الآية: 125 ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود )

 

قوله تعالى: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا » فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: « جعلنا » بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين، وقد تقدم. « البيت » يعني الكعبة. « مثابة » أي مرجعا، يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثؤوبا وثوبانا. فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه. قال ورقة بن نوفل في الكعبة:

مثابا لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوامل

وقرأ الأعمش: « مثابات » على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك. وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرأ، قال الشاعر:

جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر

والأصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب، وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله الأخفش. وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة.

فإن قيل: ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل: ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى اعلم.

الثانية: قوله تعالى: « وأمنا » استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: « ومن دخله كان آمنا » [ آل عمران: 97 ] كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله: « وأمنا » تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه. وسيأتي بيان هذا في « المائدة » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: « واتخذوا » قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وهو معطوف على « جعلنا » أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا، فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقرأ جمهور القراء « واتخذوا » بكسر الخاء على جهة الأمر، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة على جملة. قال المهدوي: يجوز أن يكون معطوفا على « اذكروا نعمتي » كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لأن معناه اذكروا إذ جعلنا. أو على معنى قوله: « مثابة » لأن معناه ثوبوا.

الثانية: روى ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. خرجه مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث... الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت يا رسول الله: لو صليت خلف المقام؟ فنزلت هذه الآية: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » وقلت: يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله: « وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب » [ الأحزاب: 53 ] ، ونزلت هذه الآية: « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين » [ المؤمنون: 12 ] ، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: « فتبارك الله أحسن الخالقين » [ المؤمنون: 14 ] ، ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت الآية: « عسى ربه إن طلقكن » [ التحريم: 5 ] .

قلت: ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى، فتكون موافقة عمر في خمس.

الثالثة: قوله تعالى: « من مقام » المقام في اللغة: موضع القدمين. قال النحاس: « مقام » من قام يقوم، ويكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام، فأما قول زهير:

وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل

فمعناه: فيهم أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها - أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم. وهذا قول جابر بن عبدالله وابن عباس وقتادة وغيرهم. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ « قل هو الله أحد » [ الإخلاص ] و « قل يا أيها الكافرون » [ الكافرون ] . وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي. وفي البخاري: أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وعطاء: الحج كله. وعن عطاء: عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي. النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد.

قلت: والصحيح في المقام القول الأول، حسب ما ثبت في الصحيح. وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقل: اللهم اغفر لفلان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما هذا ) ؟ فقال: رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال: ( ارجع فقد غفر لصاحبك ) . قال أبو نعيم: حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبدالرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري ابن سوقه، فذكره. قال أبو نعيم: كذا رواه عبدالرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس. ومعنى « مصلى » . مدعى يدعى فيه، قال مجاهد. وقيل: موضع صلاة يصلى عنده، قال قتادة. وقيل: قبلة يقف الإمام عندها، قال الحسن.

 

قوله تعالى: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود » فيه ست مسائل:

الأول: قوله تعالى: « وعهدنا » قيل: معناه أمرنا. وقيل: أوحينا. « أن طهرا » « أن » في موضع نصب على تقدير حذف الخافض. وقال سيبويه: إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب. وقال الكوفيون: تكون بمعنى القول. و « طهرا » قيل معناه: من الأوثان، عن مجاهد والزهري. وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير: من الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقال السدي: ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجئ مثل قوله: « أسس على التقوى » [ التوبة: 108 ] . وقال يمان: بخراه وخلقاه. « بيتي » أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص: « بيتي » بفتح الياء، والآخرون بإسكانها.

الثانية: قوله تعالى: « للطائفين » ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء. وقال سعيد بن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفيه بعد. « والعاكفين » المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء. وكذلك قوله: « للطائفين » . والعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، كما قال الشاعر:

عكف النبيط يلعبون الفنزجا

وقال مجاهد: العاكفون المجاورون. ابن عباس: المصلون. وقيل: الجالسون بغير طواف والمعنى متقارب. « والركع السجود » أي المصلون عند الكعبة. وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله.

الثالثة: لما قال الله تعالى « أن طهرا بيتي » دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة. وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والأول أظهر، والله أعلم. وفي التنزيل « في بيوت أذن الله أن ترفع » [ النور: 36 ] وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا! أتدري أين أنت!؟ وقال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) .

الرابعة: استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك: لا يصلى فيه الفرض ولا السنن، ويصلى فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدا.

قلت: وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال: ( هذه القبلة ) وهذا نص.

فإن قيل: فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين. وأخرجه مسلم، وفيه قال: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلنا: هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به.

فإن قيل: فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور. وخرجه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: ( قاتل الله قوما يصورون مالا يخلقون ) . فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه: فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي. وقد روى مجاهد عن عبدالله بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين.

قلنا: هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة، وأما الفرض فلا، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى: « فولوا وجوهكم شطره » [ البقرة: 144 ] على ما يأتي بيانه، وقوله صلى الله عليه وسلم لما خرج: ( هذه القبلة ) فعينها كما عينها الله تعالى. ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال: ( هذه القبلة ) . وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث، وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله.

الخامسة: واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه. وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك: يعيد أبدا. وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه.

السادسة: واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل. وفي الخبر: ( لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا ) . وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب ( السابق واللاحق ) عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا ) . لم يذكر فيه « وشيوخ ركع » . وفي حديث أبي ذر ( الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل ) . خرجه الآجري. والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور، والله تعالى اعلم.

 

الآية: 126 ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير )

 

قوله تعالى: « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا » « بلدا آمنا » يعني مكة، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات، على ما يأتي بيانه في سورة « إبراهيم » إن شاء الله تعالى.

 

اختلف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين: أحدهما: أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى. ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب.

وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى يقال: طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا.

الثاني: أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا.

احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ( إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها ) فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: ( إلا الإذخر ) . ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره.

وفي صحيح مسلم أيضا عن عبدالله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة ) . قال ابن عطية: « ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكان القول الأول من النبي صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه » . وقال الطبري: كانت مكة حراما فلم يتعبدالله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها.

 

قوله تعالى: « وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر » تقدم معنى الرزق. والثمرات جمع ثمرة، قد تقدم. « من آمن » بدل من أهل، بدل البعض من الكل. والإيمان: التصديق، وقد تقدم.

« قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير » « قال ومن كفر » « من » في قوله « ومن كفر » في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر « فأمتعه » وهو الجواب.

واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام؟ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هو من الله تعالى، وقرؤوا « فأمتعه » بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء. « ثم أضطره » بقطع الألف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء. وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي « فنمتعه قليلا ثم نضطره » بالنون. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول من إبراهيم عليه السلام. وقرؤوا « فأمتعه » بفتح الهمزة وسكون الميم، « ثم اضطره » بوصل الألف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين، وعليه فيكون الضمير في « قال » لإبراهيم، وأعيد « قال » لطول الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين. والفاعل في « قال » على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الألف شاذة، قال: ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: « رب اجعل هذا بلدا آمنا » ثم جاء بقوله عز وجل: « وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر » ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد: « قال ومن كفر » فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد: قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب. وهذا لفظ ابن عباس: دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار. قال أبو جعفر: وقال الله عز وجل: « كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك » [ الإسراء: 20 ] وقال جل ثناؤه: « وأمم سنمتعهم » [ هود: 48 ] . قال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين، لأن الله تعالى قال: « لا ينال عهدي الظالمين » .

 

الآية: 127 ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )

 

قوله تعالى: « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل » القواعد: أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي الجدر. والمعروف أنها الأساس. وفي الحديث: ( إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام ) فقال ابن الزبير: هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها. ابن عباس: وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته. والقواعد واحدتها قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد.

واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه، فقيل: الملائكة. روي عن جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال: « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] قالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » [ البقرة: 30 ] فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضى عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت.

وذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضه من حراء. قال الخليل: والربض ههنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة: ربض. وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال: لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له: يا آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا. وقد روي في بعض الأخبار: أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت. وهذا من طريق وهب بن منبه. وفي رواية: أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعى البيت المعمور. روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب « منهاج الدين » له، وقال: يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له: ابن بقدره، وتحرى أن يكون بحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه. وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صلى الله عليه وسلم ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الأخبار. فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريج وقال ناس: أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس: إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم: ابن على موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال لابنه: يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال: ابغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال: يا أبة، من جاءك بهذا الحجر؟ فقال: من لم يكلني إليك. ابن عباس: صالح أبو قبيس: يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت: أن ارفعا على تربيعي. فهذا بناء إبراهيم عليه السلام. وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت.

روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبدالوهاب بن همام أخو عبدالرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخيل وحشاً كسائر الوحش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه: ( إني معطيكما كنزا ادخرته لكما ) ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز. فخرج إلى أجياد - وكانت وطنا - ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي الفرس عربيا لأن إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى. وروى عبدالمنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، قال: أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام. وأما بنيان قريش له فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا: ربنا، لم ترع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا خواتا من السماء - والخوات: حفيف جناح الطير الضخم - فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد. وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة. ذكره عبدالرزاق عن معمر عن عبدالله بن عثمان عن أبي الطفيل. وذكر عن معمر عن الزهري: حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه: « أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن » . وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش. خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: ( نعم ) قلت: فلم لم يدخلوه [ في البيت ] ؟ قال: ( إن قومك قصرت بهم النفقة ) . قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: ( فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض ) . وخرج عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال: حدثتني خالتي ( يعني عائشة ) رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة ) . وعن عروة عن [ أبيه عن ] عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا حداثة [ عهد ] قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا ) . وفي البخاري قال هشام بن عروة: يعني بابا. وفي البخاري أيضا: ( لجعلت لها خلقين ) يعني بابين، فهذا بناء قريش. ثم لما غزا أهل الشام عبدالله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف. وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس: اهدموا، قال: فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب. قال مجاهد: فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب. قال: وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترؤوا على ذلك، قال: فهدموا. فلما بناها جعل لها بابين: بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع. قال مسلم في حديثه: فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبدالملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. في رواية: قال عبدالملك: ما كنت أظن أبا خبيب ( يعني ابن الزبير ) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبدالله: بلى، أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع ) . في أخرى: قال عبدالملك: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير. فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الآثار.

وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وذكر الواقدي: حدثنا معمر عن همام بن نبه سمع أبا هريرة يقول،: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو تبع الآخر. قال ابن إسحاق: كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد، وأول من كساها الديباج الحجاج.

قال العلماء: ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء، فإنه مهدى إليها، ولا ينقص منها شيء. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها. وقال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه.

 

قوله تعالى: « ربنا تقبل منا » المعنى: ويقولان « ربنا » ، فحذف. وكذلك هي في قراءة أبي وعبدالله بن مسعود: « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا »

وتفسير إسماعيل: اسمع يا الله، لأن « إيل » بالسريانية هو الله، وقد تقدم. فقيل: إن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه. ذكره الماوردي.

 

قوله تعالى: « إنك أنت السميع العليم » اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب « الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى » .

 

الآية :128 ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم )

 

قوله تعالى: « ربنا واجعلنا مسلمين لك » أي صيرنا، و « مسلمين » مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام. والإسلام في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى: « إن الدين عند الله الإسلام » [ آل عمران: 19 ] ففي هذا دليل لمن قال: إن الإيمان والإسلام شيء واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى: « فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين » [ الذاريات: 35 - 36 ] . وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي « مسلمين » على الجمع.

 

قوله تعالى: « ومن ذريتنا أمة مسلمة لك » أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة. و « من » في قوله: « ومن ذريتنا » للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين. وحكى الطبري: أنه أراد بقوله « ومن ذريتنا » العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم. والأمة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى: « إن إبراهيم كان أمة قانتا لله » [ النحل: 120 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل: ( يبعث أمة وحده ) لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله اعلم. وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: « إنا وجدنا آبائنا على أمة » [ الزخرف: 22 ] أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: « إن هذه أمتكم أمة واحدة » [ الأنبياء: 92 ] . وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى « وادكر بعد أمة » [ يوسف: 45 ] أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد. والأمة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الأمة، أي حسن القامة، قال:

وإن معاوية الأكرميـ ـن حسان الوجوه طوال الأمم

وقيل: الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم.

 

قوله تعالى: « وأرنا مناسكنا » « أرنا » من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين [ كغير المعدى ] ؛ قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر:

أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

وقرأ عمر بن عبدالعزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي « أرنا » بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء، والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد. وأصله أرئنا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر:

أرنا إداوة عبدالله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمر وطلب الخفة. وعن شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين: هذا، والآخر « ما ننسخ من آية أو ننسأها » [ البقرة: 106 ] مهموزا.

 

قوله تعالى: « مناسكنا » يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا.

واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا، فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي. وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح. وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منْسَك ومنسِك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نسك ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا: منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. وعن زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال: أي رب، قد فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له: احصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم الثالث، ثم علا ثبيرا فقال: يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال: لبيك، اللهم لبيك، قال: ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها. وأول من أجابه أهل اليمن. وعن أبي مجلز قال: لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت - قال: وأحسبه قال: « والصفا والمروة - ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جمعا فقال: ههنا يجمع الناس الصلوات. ثم أتى به عرفات فقال: عرفت؟ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرَفْت، عرفتَ، عرفت؟ أي منى والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. وعن خصيف بن عبدالرحمن أن مجاهدا حدثه قال: لما قال إبراهيم عليه السلام: » وأرنا مناسكنا « أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل: كبر وارمه، فارتفع إبليس إلى الوسطى، فقال جبريل: كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك. ثم انطلق به إلى المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له: هل عرفت ما أريتك؟ قال نعم، فسميت عرفات لذلك فيما قيل، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا: لبيك، اللهم لبيك. قال: فمن أجاب يومئذ فهو حاج. وفي رواية أخرى: أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته. وقال محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين. قال: فقام جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس....، فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال: حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم. وروى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر ) . وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم. وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وقال عبدالله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاؤوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين.»

 

قوله تعالى: « وتب علينا » اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: « وتب علينا » وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب.

قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام. وتقدم القول في معنى قوله: « إنك أنت التواب الرحيم » [ البقرة: 128 ] فأغنى عن إعادته.

 

الآية : 129 ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي قراءة أبي « وابعث في آخرهم رسولا منهم » . وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: ( نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ) . و « رسولا » أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسلة، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمعه أرسال. يقال: جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع.

 

قوله تعالى: « ويعلمهم الكتاب والحكمة » « الكتاب » القرآن و « الحكمة » المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقال ابن زيد. وقال قتادة: « الحكمة » السنة وبيان الشرائع. وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب. ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. « ويزكيهم » أي يطهرهم من وضر الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة: التطهير، وقد تقدم. وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى اعلم. « والعزيز » معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب. وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شيء، دليله: « وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض » . [ فاطر: 44 ] . الكسائي: « العزيز » الغالب، ومنه قوله تعالى: « وعزني في الخطاب » [ ص: 23 ] وفي المثل: « من عز بز » أي من غلب سلب. وقيل: « العزيز » الذي لا مثل له، بيانه « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] . وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب « الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى » وقد تقدم معنى « الحكيم » والحمد الله.

 

الآية : 130 ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين )

 

قوله تعالى: « ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » « من » استفهام في موضع رفع بالابتداء، و « يرغب » صلة « من » . « إلا من سفه نفسه » في موضع الخبر. وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس. والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع. « إلا من سفه نفسه » قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى. قال الزجاج: « سفه » بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد أن « سفه » بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة. وقال الأخفش: « سفه نفسه » أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها. وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي. فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب. وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت « في » فانتصب. قال الأخفش: ومثله « عقدة النكاح » [ البقرة: 235 ] ، أي على عقدة النكاح. وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن. الفراء: هو تمييز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته.

قلت: وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا معنى قوله تعالى: « وفي أنفسكم أفلا تبصرون » [ الذاريات: 21 ] . أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى. وسيأتي له مزيد بيان في سورة « والذاريات » إن شاء الله تعالى.

وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا كقوله: « ملة أبيكم إبراهيم » [ الحج: 78 ] ، « أن اتبع ملة إبراهيم » [ النحل: 123 ] . وسيأتي بيانه.

 

قوله تعالى: « ولقد اصطفيناه في الدنيا » أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في « اصطفيناه » اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق. واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الأصفى.

 

قوله تعالى: « وإنه في الآخرة لمن الصالحين » الصالح في الآخرة هو الفائز. ثم قيل: كيف جاز تقديم « في الآخرة » وهو داخل في الصلة، قال النحاس: فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة، ثم حذف. وقيل: « في الآخرة » متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الآخرة. والقول الثالث: أن « الصالحين » ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال الرجل والغلام.

قلت: وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف. وقال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. وروى حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأسود، وهو أيضا حجاج الأحول المعروف بزق العسل - قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وارض عنا.

 

الآية : 131 ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين )

 

العامل في « إذ » قوله: « اصطفيناه » أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم. وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. قال ابن كيسان والكلبي: أي أخلص دينك لله بالتوحيد. وقيل: اخضع واخشع. وقال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السرب، على ما يأتي ذكره في « الأنعام » . والإسلام هنا على أتم وجوهه. والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله. وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الإيمان، فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله: « إن الدين عند الله الإسلام » [ آل عمران: 19 ] فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن. ودليلنا قوله تعالى: « قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا » [ الحجرات: 14 ] الآية. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له: اعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أو مسلم ) الحديث، خرجه مسلم، فدل على أن الإيمان ليس الإسلام، فإن الإيمان باطن، والإسلام ظاهر، وهذا بين. وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الإيمان، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق.

 

الآية : 132 ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون )

 

قوله تعالى: « ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب » أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي قوله: « أسلمت لرب العالمين » وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا. ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرئ بهما. وفي مصحف عبدالله « ووصى » ، وفي مصحف عثمان « وأوصى » وهي قراءة أهل المدينة والشام. الباقون « ووصى » وفيه معنى التكثير. « وإبراهيم » رفع بفعله، « ويعقوب » عطف عليه، وقيل: هو مقطوع مستأنف، والمعنى: وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه.

وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع. وقيل: كان له سنتان، وقيل: كان له أربع عشرة سنة، والأول أصح، على ما يأتي في سورة « إبراهيم » بيانه إن شاء الله تعالى: وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة. وقيل: مائة وثلاثون. وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة، وهو الذبيح في قول. وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح، على ما يأتي بيانه في سورة « والصافات » إن شاء الله. ومن ولده الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ثم لما توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ، ثم توفي عليه السلام. وكان بين وفاته وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة. وسيأتي ذكر أولاد يعقوب في سورة « يوسف » إن شاء الله تعالى. وقرأ عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبدالله المكي: « ويعقوب » بالنصب عطفا على « بنيه » ، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى. قال القشيري: وقرئ « يعقوب » بالنصب عطفا على « بنيه » وهو بعيد، لأن يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم. وسيأتي تسمية أولاد يعقوب إن شاء الله تعالى.

قال الكلبي: لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران والبقر، فجمع ولده وخاف عليهم وقال: ما تعبدون من بعدي؟

ويقال: إنما سمي يعقوب لأنه كان هو والعيص توأمين، فخرج من بطن أمه آخذا بعقب أخيه العيص. وفي ذلك نظر، لأن هذا اشتقاق عربي، ويعقوب اسم أعجمي، وإن كان قد وافق العربية في التسمية به كذكر الخجل. عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده.

 

قوله تعالى: « يا بني » معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك. قال الفراء: ألغيت أن لأن التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها. قال: وقول النحويين إنما أراد « أن » فألغيت ليس بشيء. النحاس: « يا بني » نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان، ومثله « بمصرخي » [ إبراهيم: 22 ] .

 

قوله تعالى: « إن الله » كسرت « إن » لأن أوصى وقال واحد. وقيل: على إضمار القول. « اصطفى » اختار. قال الراجز:

يا ابن ملوك ورثوا الأملاكا خلافة الله التي أعطاكا

لك اصطفاها ولها اصطفاكا

« لكم الدين » أي الإسلام، والألف واللام في « الدين » للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه. « فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون » إيجاز بليغ. والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقه حتى، تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما. « لا » نهي « تموتن » في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. « إلا وأنتم مسلمون » ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.

 

الآية : 133 ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون )

 

قوله تعالى: « أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي »

« أم كنتم شهداء » خبر كان، ولم يصرف لأن فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء. والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون. و « أم » بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب. والعامل في « إذ » الأولى معنى الشهادة، و « إذ » الثانية بدل من الأولى. و « شهداء » جمع شاهد أي حاضر. ومعنى « حضر يعقوب الموت » أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا. وعبر عن المعبود « بما » ولم يقل من، لأنه أراد أن يختبرهم، ولو قال « من » لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال « ما » . وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه. ومعنى « من بعدي » أي من بعد موتي. وحكي أن يعقوب حين خير كما تخير الأنبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا: « نعبد إلهك » الآية. فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى.

 

قوله تعالى: « قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق » « إبراهيم وإسماعيل وإسحاق » في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: وإن شئت صرفت « إسحاق » وجعلته من السحق، وصرفت « يعقوب » وجعلته من الطير. وسمى الله كل واحد من العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق. و « إلها » بدل من « إلهك » بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية. وقيل: « إلها » حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء العطاردي « وإله أبيك » وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون أفرد وأراد إبراهيم وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عم. قال النحاس: وهذا لا يجب، لأن العرب تسمي العم أبا. الثاني: على مذهب سيبويه أن يكون « أبيك » جمع سلامة، حكى سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر:

فقلنا أسلموا إن أخوكم

وقال آخر:

فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا

قوله تعالى: « ونحن له مسلمون » ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل « نعبد » .

 

الآية : 134 ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « تلك أمة قد خلت » « تلك » مبتدأ، و « أمة » خبر، « قد خلت » نعت لأمة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ، وتكون « أمة » بدلا من « تلك » . « لها ما كسبت » « ما » في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول الكوفيين. « ولكم ما كسبتم » مثله، يريد من خير وشر. وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة. فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح. وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله.

 

قوله تعالى: « ولا تسألون عما كانوا يعملون » أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، وسيأتي.

 

الآية : 135 ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )

 

قوله تعالى: « وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا » دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال: « بل ملة » أي قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة. وقيل: المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا. وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة: « بل ملة » بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و « حنيفا » مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله الزجاج. أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة. وقال علي بن سليمان: هو منصوب على أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وسمي إبراهيم حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام. والحنف: الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف:

والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله

وقال الشاعر:

إذا حول الظل العشي رأيته حنيفا وفي قرن الضحى ينتصر

أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى. وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته. وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم.

 

الآية : 136 ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )

 

قوله تعالى: « قولوا آمنا بالله » خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل ) الآية. وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك أنت مؤمن؟ فقل: « آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق » الآية. وكره أكثر السلف أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، وسيأتي بيانه في « الأنفال » إن شاء الله تعالى. وسئل بعض المتقدمين عن رجل قيل له: أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا، فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الأنبياء، فكيف يصنع؟ فقال: ينبغي أن يقول: إن كان نبيا فقد آمنت به. والخطاب في هذه الآية لهذه الأمة، علمهم الإيمان. قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء، فنزلت الآية. فلما جاء ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به.

 

قوله تعالى: « وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم » جمع إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقال الكوفيون، وحكوا براهمة وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط، لأن الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع. وأجاز أحمد بن يحيى براه، كما يقال في التصغير بريه. وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق، وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبة ويعاقب. قال النحاس: فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل. والباب في هذا كله أن يجمع مسلما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه.

والأسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السبط ( بالتحريك ) وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة. قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا أبو نجيد الدقاق قال حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم. ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. وشعر سبط وسبط: غير جعد. « لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون » قال الفراء: أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.

 

الآية : 137 ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )

 

قوله تعالى: « فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا » الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري: « فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا » وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، « فمثل » زائدة كما هي في قوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] أي ليس كهو شيء. وقال الشاعر:

فصيروا مثل كعصف مأكول

وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به. تابعه علي بن نصر الجهضمي عن شعبة، ذكره البيهقي. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق « فسيكفيكهم الله » . وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله: « ليس كمثله شيء » زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نفي التشبيه عن الله عز وجل. وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول. وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا على مثل إيمانكم. وقيل: « مثل » على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله: « وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب » [ الشورى: 15 ] ، وقوله: « وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم » [ العنكبوت: 46 ] .

 

قوله تعالى: « وإن تولوا » أي عن الإيمان « فإنما هم في شقاق » قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة. وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه. قال الشاعر:

إلى كم تقتل العلماء قسرا وتفجر بالشقاق وبالنفاق

وقال آخر:

وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق

وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.

 

قوله تعالى: « فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم » أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير. والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك إياهم. وهذا الحرف « فسيكفيكهم الله » هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك. و « السميع » لقول كل قائل « العليم » بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها « فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم » ، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال: بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في أسته، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.

 

الآية : 138 ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون )

 

قوله تعالى: « صبغة الله » قال الأخفش وغيره: دين الله، وهو بدل من « ملة » وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي الزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله. وروى شيبان عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام. قال الزجاج: ويدلك على هذا أن « صبغة » بدل من « ملة » . وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لأن الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام. وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة الدين. وأصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم. وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لأن الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: « صبغة الله » أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. وقال بعض شعراء ملوك همدان.

وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ

وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي.

قلت: وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا،

 

معنى « صبغة الله » غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم. وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي صلى الله عليه وسلم يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حسن إسلام صاحبكم ) . وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبدالحق. وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل. وقال الجوهري: « صبغة الله » دينه. وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء. « ونحن له عابدون » ابتداء وخبر.

 

الآية : 139 ( قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون )

 

قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه. وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولأنا لم نعبد الأوثان. فمعنى الآية: قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم: « أتحاجوننا » أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين. ومعنى « في الله » أي في دينه والقرب منه والحظوة له. وقراءة الجماعة: « أتحاجوننا » . وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لأن الثاني كالمنفصل. وقرأ ابن محيصن « أتحاجونا » بالإدغام لاجتماع المثلين. قال النحاس: وهذا جائز إلا أنه مخالف للسواد. ويجوز « أتحاجون » بحذف النون الثانية، كما قرأ نافع « فبم تبشرون » [ الحجر: 54 ] .

 

قوله تعالى: « ونحن له مخلصون » أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم، والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء ) . رواه الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره، خرجه الدارقطني. وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ولا حظا من الملكين. وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله. وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي ) .

 

الآية : 140 ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون )

 

قوله تعالى: « أم تقولون » بمعنى قالوا. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص « تقولون » بالتاء وهي قراءة حسنة، لأن الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون كلامين وتكون « أم » بمعنى بل. « هودا » خبر كان، وخبر « إن » في الجملة. ويجوز في غير القرآن رفع « هودا » على خبر « إن » وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس.

 

قوله تعالى: « قل أأنتم أعلم أم الله » تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى.

 

قوله تعالى: « ومن أظلم » لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم. « ممن كتم شهادة » يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام. وقيل: ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، والأول أشبه بسياق الآية. « وما الله بغافل عما تعملون » وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة. وناقة غفل: لا سمة بها. ورجل غفل: لم يجرب الأمور. وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر. غفلت عن الشيء غفلة وغفولا، وأغفلت الشيء: تركته على ذكر منك.

 

الآية : 141 ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون )

 

كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.

 

الآية : 142 ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « سيقول السفهاء من الناس » أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما ولاهم. و « سيقول » بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله: « من الناس » لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من « السفهاء » جميع من قال: « ما ولاهم » . والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم. والنساء سفائه. وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي: المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير. وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم، واستهزؤوا بالمسلمين. و « ولاهم » يعني عدلهم وصرفهم.

 

روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا؟؟ كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » [ البقرة: 143 ] ، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح. وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة. وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة - أو قال: البيت الحرام - فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال. وقيل: إن الآية نزلت في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله اعلم. وروي أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: « قد نرى تقلب وجهك في السماء » [ البقرة:144 ] حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لأبي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث: « كنت أصلي » في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم.

 

واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا. قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: « قد نرى تقلب وجهك في السماء » الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين. وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان.

 

واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقال عكرمة وأبو العالية. الثاني: أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري، وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة. الثالث: وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه » [ البقرة: 143 ] الآية.

 

واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال غيره: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس. وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين.

 

في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الأمة إلا من شذ، كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل.

ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: « كنت عليها » بمعنى أنت عليها.

 

وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون.

وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبدالشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه.

 

وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال: إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبني مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني.

قلت: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي - رحمهما الله - وغيرهما. وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وسيأتي.

 

وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للأفاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي.

 

وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: « اليوم أكملت لكم دينكم » [ المائدة:3 ] .

 

قوله تعالى: « قل لله المشرق والمغرب » أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « يهدي من يشاء » إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى اعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم.

 

الآية : 143 ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم )

 

قوله تعالى: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » قال: ( عدلا ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل: « قال أوسطهم » [ القلم: 28 ] أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

آخر:

أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر

وقال آخر:

لا تذهبن في الأمور فرطا لا تسألن إن سألت شططا

وكن من الناس جميعا وسطا

ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلأ وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا، أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم. وفي الحديث: ( خير الأمور أوسطها ) . وفيه عن علي رضي الله عنه: « عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل » . وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء. والوسط ( بسكون السين ) الظرف، تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار ( بالتحريك ) لأنه اسم. قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه « بين » فهو وسط، وإن لم يصلح فيه « بين » فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه.

 

قوله تعالى: « لتكونوا » نصب بلام كي، أي لأن تكونوا. « شهداء » خبر كان. « على الناس » أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... ) . وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: ( فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا - والوسط العدل - لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) . قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثني عليها خير فقال: ( وجبت وجبت وجبت ) . ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال: ( وجبت وجبت وجبت ) . فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: ( وجبت وجبت وجبت ) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: ( وجبت وجبت وجبت ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض ) . أخرجه البخاري بمعناه. وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: « لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا » . وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني استجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) . خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في « نوادر الأصول » .

 

قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام: ( نحن الآخرون الأولون ) . وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى.

 

وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الأمة شهداء فقد وجب قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الأمة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه.

 

قوله تعالى: « ويكون الرسول عليكم شهيدا » قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة. وقيل: « عليكم » بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالإيمان. وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.

 

قوله تعالى: « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها » قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى، لقوله « كنت عليها » . وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت الآن عليها، كما تقدم، وكما قال: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي.

 

قوله تعالى: « إلا لنعلم من يتبع الرسول » قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى « لنعلم » لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: « ألم تر كيف فعل ربك » [ الفيل: 1 ] بمعنى ألم تعلم. وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها. وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي واتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله اتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد. وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ) الحديث. والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: « وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » [ آل عمران: 140 ] ، « ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين » [ محمد: 31 ] وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم: « ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها » [ البقرة: 142 ] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقرأ الزهري « إلا ليعلم » « فمن » في موضع رفع على هذه القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. « يتبع الرسول » يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة. « ممن ينقلب على عقبيه » يعني ممن يرتد عن دينه، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم، ولهذا قال: « وإن كانت لكبيرة » أي تحويلها، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة.

 

قوله تعالى: « وإن كانت لكبيرة » ذهب الفراء إلى أن « إن » واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت. وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة. « إلا على الذين هدى الله » أي خالق الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، كما قال تعالى: « أولئك كتب في قلوبهم الإيمان » [ المجادلة: 22 ] .

 

قوله تعالى: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم. وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان. وقال محمد بن إسحاق: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين. وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم وأشهب عن مالك « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال: صلاتكم.

 

قوله تعالى: « إن الله بالناس لرؤوف رحيم » الرأفة أشد من الرحمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب « الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى » فلينظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو « لرؤف » على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة:

وشر الطالبين فلا تكنه يقاتل عمه الرؤف الرحيم

وحكى الكسائي أن لغة بني أسد « لرأف » ، على فعل. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع « لروف » مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة.

 

الآية : 144 ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون )

 

قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: « سيقول السفهاء من الناس » [ البقرة: 142 ] . ومعنى « تقلب وجهك » : تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي. ومعنى « ترضاها » تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: « قد نرى تقلب وجهك في السماء » . وروى أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: « قد نرى تقلب وجهك في السماء » . وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد لله.

 

قوله تعالى: « فول » أمر « وجهك شطر » أي ناحية « المسجد الحرام » يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس. وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قال ابن عطية. والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس.

قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ) .

 

قوله تعالى: « شطر المسجد الحرام » الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول [ به ] ، وأيضا فإن الفعل واقع فيه. وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود « فول وجهك تلقاء المسجد الحرام » . وقال الشاعر:

أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم.

وقال آخر:

وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم يغشاكم قطعا

وقال آخر:

ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو

وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: ( الطهور شطر الإيمان ) . ويكون من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر ( بالضم ) شطارة فيهما وسئل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه.

 

لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد.

 

واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: « فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم » يعني من الأرض من شرق أو غرب « فولوا وجوهكم شطره » . الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت.

 

في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي. يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده. وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه.

 

قوله تعالى: « وإن الذين أوتوا الكتاب » يريد اليهود والنصارى « ليعلمون أنه الحق من ربهم » يعني تحويل القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به. الثاني: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.

 

قوله تعالى: « وما الله بغافل عما يعملون » تقدم معناه. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي « تعملون » بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.

 

الآية : 145 ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين )

 

قوله تعالى: « ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك » لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، وليس تنفعهم الآيات، أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير: قبل. وفي التسليم: قبلات. ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت « لئن » بجواب « لو » وهي ضدها في أن « لو » تطلب في جوابها المضي والوقوع، و « لئن » تطلب الاستقبال، فقال الفراء والأخفش: أجيبت بجواب « لو » لأن المعنى: ولو أتيت. وكذلك تجاب « لو » بجواب « لئن » ، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: « ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا » [ الروم: 51 ] أي ولو أرسلنا ريحا. وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى « لئن » مخالف لمعنى « لو » فلا يدخل واحد منهما على الآخر، فالمعنى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى « ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا » ليظلن.

 

قوله تعالى: « وما أنت بتابع قبلتهم » لفظ خبر ويتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم. وقال قوم: المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم. والأول أظهر، والله تعالى اعلم.

 

قوله تعالى: « ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر ولأنه المنزل عليه. والأهواء: جمع هوى، وقد تقدم، وكذا « من العلم » [ البقرة: 120 ] تقدم أيضا، فلا معنى للإعادة.

 

الآية : 146 ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون )

 

قوله تعالى: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » « الذين » في موضع رفع بالابتداء والخبر « يعرفونه » . ويصح أن يكون في موضع خفض على الصفة « للظالمين » ، و « يعرفون » في موضع الحال، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وقيل: « يعرفون » تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة أنه حق، قال ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة أيضا. وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس وإن كانت ألصق لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبدالله بن سلام: أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه.

 

قوله تعالى: « وإن فريقا منهم ليكتمون الحق » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وخصيف. وقيل: استقبال الكعبة، على ما ذكرنا آنفا.

« وهم يعلمون » ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله: « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم » [ النمل:14 ] وقوله « فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به » [ البقرة:89 ] .

 

الآية : 147 ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين )

 

قوله تعالى: « الحق من ربك » يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرك به اليهود من قبلتهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ « الحق » منصوبا بـ « يعلمون » أي يعلمون الحق. ويصح نصبه على تقدير الزم الحق. والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ والتقدير هو الحق، أو على إضمار فعل، أي جاءك الحق. قال النحاس: فأما الذي في « الأنبياء » « الحق فهم معرضون » [ الأنبياء: 24 ] فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في سورة « البقرة » مبتدأ آية، والذي في الأنبياء ليس كذلك.

 

قوله تعالى: « فلا تكونن من الممترين » أي من الشاكين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. يقال: امترى فلان [ في ] كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالأخرى، ومنه المراء لأن كل واحد منهما يشك في قول صاحبه. والامتراء في الشيء الشك فيه، وكذا التماري. وأنشد الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الأعشى:

تدر على أسؤق الممتريـ ـن ركضا إذا ما السراب أرجحن

قال ابن عطية: ووهم في هذا، لأن أبا عبيدة وغيره قال: الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، وليس في البيت معنى الشك كما قال الطبري.

قلت: معنى الشك فيه موجود، لأنه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه هل هو على ما عهد من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شيء، أو يكون هذا عند أول شرائه فيجريه ليعلم مقدار جربه. قال الجوهري: ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره. والاسم المرية ( بالكسر ) وقد تضم. ومريت الناقة مريا: إذا مسحت ضرعها لتدر. وأمرت هي إذا در لبنها، والاسم المرية ( بالكسر ) ، والضم غلط. والمرية: الشك، وقد تضم، وقرئ بهما.

 

الآية : 148 ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « ولكل وجهة » الوجهة وزنها فعلة من المواجهة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة إما بحق وإما بهوى.

 

قوله تعالى: « هو موليها » « هو » عائد على لفظ كل لا على معناه، لأنه لو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم، فالهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي هو موليها وجهه ونفسه. والمعنى: ولكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، على لفظ كل وهو قول الربيع وعطاء وابن عباس. وقال علي بن سليمان: « موليها » أي متوليها. وقرأ ابن عباس وابن عامر « مولاها » على ما لم يسم فاعله. والضمير على هذه القراءة لواحد، أي ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها أي مصروف إليها، قاله الزجاج. ويحتمل أن يكون على قراءة الجماعة « هو » ضمير اسم الله عز وجل وإن لم يجر له ذكر، إذ معلوم أن الله عز وجل فاعل ذلك والمعنى: لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى الطبري: أن قوما قرؤوا « ولكل وجهة » بإضافة كل إلى وجهة. قال ابن عطية: وخطأها الطبري، وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قول « ولكل وجهة » على الأمر في قوله: « فاستبقوا الخيرات » للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسلمت الواو في « وجهة » للفرق بين عدة وزنة، لأن جهة ظرف، وتلك مصادر. وقال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم. وذهب قوم إلى أنه اسم وليس بمصدر. وقال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة، وقد يقال الجهة في الظرف.

 

قوله تعالى: « فاستبقوا الخيرات » أي إلى الخيرات، فحذف الحرف، أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآي. والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها، والله تعالى اعلم. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي البدنة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البقرة ثم الذي على أثره كالذي يهدي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يهدي الدجاجة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البيضة ) . وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله ) . وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد قوله. وروى الدارقطني أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الأعمال الصلاة في أول وقتها ) . وفي حديث ابن مسعود « أول وقتها » بإسقاط « في » . وروي أيضا عن إبراهيم بن عبدالملك عن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله ) . زاد ابن العربي: فقال أبو بكر: رضوان الله أحب إلينا من عفوه، فإن رضوانه عن المحسنين وعفوه عن المقصرين، وهذا اختيار الشافعي. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أفضل، لأنه وقت الوجوب. وأما مالك ففصل القول، فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل، أما الصبح فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ) - في رواية - ( متلففات ) . وأما المغرب فلحديث سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، أخرجهما مسلم. وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه. روى ابن عمر قال: مكثنا [ ذات ] ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: ( إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ) . وفي البخاري عن أنس قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى...، وذكر الحديث. وقال أبو برزة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب تأخيرها. وأما الظهر فإنها تأتي الناس [ على ] غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا. قال أبو الفرج قال مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا للظهر في شدة الحر. وقال ابن أبي أويس: وكان مالك يكره أن يصلي الظهر عند الزوال ولكن بعد ذلك، ويقول: تلك صلاة الخوارج. وفي صحيح البخاري وصحيح الترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبرد ) ثم أراد أن يؤذن فقال له: ( أبرد ) حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ) . وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس. والذي يجمع ببن الحديثين ما رواه أنس أنه إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل. قال أبو عيسى الترمذي: « وقد اختار قوم [ من أهل العلم ] تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال الشافعي: إنما الإبراد بصلاة الظهر إذا كان [ مسجدا ] ينتاب أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه فالذي أحب له ألا يؤخر الصلاة في شدة الحر. قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال الشافعي. قال أبو ذر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( [ يا بلال ] أبرد ثم أبرد ) . فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى، لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد » . وأما العصر فتقديمها أفضل. ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها، فإن فضل الجماعة معلوم، وفضل أول الوقت مجهول وتحصيل المعلوم أولى قاله ابن العربي.

 

قوله تعالى: « أين ما تكونوا » شرط، وجوابه: « يأت بكم الله جميعا » يعني يوم القيامة. « إن الله على كل شيء قدير » ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإعادة بعد الموت والبلى.

 

الآيتان : 149 - 150 ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون، ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون )

 

قوله تعالى: « ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام » قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا، فأكد الأمر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه. وقيل: أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها. ثم قال:: وحيث ما كنتم « معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها » فولوا وجوهكم شطره « ثم قال » ومن حيث خرجت « يعني وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض.»

قلت: هذا القول أحسن من الأول، لأن فيه حمل كل آية على فائدة. وقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به. أخرجه أبو داود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال، لحديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته.. قال: وفيه نزل « فأينما تولوا فثم وجه الله » [ البقرة: 115 ] وقد تقدم.

قلت: ولا تعارض بين الحديثين، لأن هذا من باب المطلق والمقيد، فقول الشافعي أولى، وحديث أنس في ذلك حديث صحيح. ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض، فكررت لتكون عند من حفظ البعض.

 

قوله تعالى: « لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » قال مجاهد: هم مشركو العرب. وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقد أجيبوا عن هذا بقوله: « قل لله المشرق والمغرب » [ البقرة: 142 ] . وقيل: معنى « لئلا يكون للناس عليكم حجة » لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، فلما قال عز وجل: « وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره » زال هذا. وقال أبو عبيدة: إن « إلا » ههنا بمعنى الواو، أي والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:

ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا

كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وكذا قيل في قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون » [ التين: 6 ] أي الذين آمنوا. وأبطل الزجاج هذا القول وقال: هذا خطأ عند الحذاق من النحويين، وفيه بطلان المعاني، وتكون « إلا » وما بعدها مستغنى عن ذكرهما. والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون. قال أبو إسحاق الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله: « ولكل وجهة هو موليها » « لئلا يكون للناس عليكم حجة » إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك علي حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني، أي مالك حجة البتة ولكنك تظلمني، فسمى ظلمه حجة لأن المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف والميم في « عليكم » . وقالت فرقة: « إلا الذين » استثناء متصل، روي معناه عن ابن عباس وغيره، واختاره الطبري وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة. والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة. حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق. والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة. وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة. وقال ابن عطية: وقيل إن الاستثناء منقطع، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب، كأنه قال: لكن الذين ظلموا يحاجونكم، وقوله « منهم » يرد هذا التأويل. والمعنى لكن الذين ظلموا، يعني كفار قريش في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد « ألا الذين ظلموا » بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام، فيكون « الذين ظلموا » ابتداء، أو على معنى الإغراء، فيكون « الذين » منصوبا بفعل مقدر.

 

قوله تعالى: « فلا تخشوهم » يريد الناس « واخشوني » الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي. والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا. ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والأمر بإطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ولأتم نعمتي عليكم » معطوف على « لئلا يكون » أي ولأن أتم، قاله الأخفش. وقيل: مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله الزجاج. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة. قال سعيد بن جبير: ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة. و « لعلكم تهتدون » تقدم.

 

الآية: 151 ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )

 

قوله تعالى: « كما أرسلنا » الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، المعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفراء. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، أي ولأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام مثل ما أرسلنا. وقيل: المعنى ولعلكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا. وقيل: هي في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال. والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وأن الذكر المأمور به في عظمه كعظم النعمة. وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي فاذكروني كما أرسلنا روي عن علي رضي الله عنه واختاره الزجاج. أي كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به. والوقف على « تهتدون » على هذا القول جائز.

قلت: وهذا اختيار الترمذي الحكيم في كتابه، أي كما فعلت بكم هذا من المنن التي عددتها عليكم فاذكروني بالشكر أذكركم بالمزيد، لأن في ذكركم ذلك شكرا لي، وقد وعدتكم بالمزيد على الشكر، وهو قوله: « لئن شكرتم لأزيدنكم » [ إبراهيم: 7 ] ، فالكاف في قوله « كما » هنا، وفي الأنفال « كما أخرجك ربك » [ الأنفال: 5 ] وفي آخر الحجر « كما أنزلنا على المقتسمين » [ الحجر: 90 ] متعلقة بما بعده، على ما يأتي بيانه.

 

الآية: 152 ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون )

 

قوله تعالى: « فاذكروني أذكركم » أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم. وأصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم.

ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله سعيد بن جبير. وقال أيضا: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير ) ، ذكره أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في « أحكام القرآن » له. وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: ومن أين تعلمها؟ قال يقول الله عز وجل: « فاذكروني أذكركم » . وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب. وسئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته. وقال ذو النون المصري رحمه الله: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. والأحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الأئمة. روى ابن ماجة عن عبدالله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل ) . وخرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه ) . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان عند قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا » [ الأحزاب:41 ] وأن المراد ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات.

 

قوله تعالى: « واشكروا لي » قال الفراء يقال: شكرتك وشكرت لك، ونصحتك ونصحت لك، والفصيح الأول. والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور، وقد تقدم. فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات.

 

قوله تعالى: « ولا تكفرون » نهي، ولذلك حذفت منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم. وحذفت الياء لأنها رأس آية، وإثباتها أحسن في غير القرآن، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي. فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب. وقد مضى القول في الكفر لغة.

 

الآية: 153 ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )

 

قد تقدم شرح هذه الآية.

 

الآية: 154 ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون )

 

هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون » [ آل عمران: 169 ] ، وهناك يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم، إن شاء الله تعالى.

وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم - على ما يأتي - فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، ويكون فيه دليل على عذاب القبر. والشهداء أحياء كما قال الله تعالى، وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا. ويدل على هذا قوله تعالى: « ولكن لا تشعرون » والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون. وارتفع « أموات » على إضمار مبتدأ، وكذلك « بل أحياء » أي هم أموات وهم أحياء، ولا يصح إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب، كما يصح في قولك: قلت كلاما وحجة.

 

الآية: 155 ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )

 

قوله تعالى: « ولنبلونكم » هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين. وقال غيره: لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر. والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة، وقد تقدم. والمعنى لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، كما تقدم. وقيل: إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق. وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم، فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العز وتوطين النفس.

 

قوله تعالى: « بشيء » لفظ مفرد ومعناه الجمع. وقرأ الضحاك « بأشياء » على الجمع. وقرأ الجمهور بالتوحيد، أي بشيء من هذا وشيء من هذا، فاكتفى بالأول إيجازا « من الخوف » أي خوف العدو والفزع في القتال، قاله ابن عباس. وقال الشافعي: هو خوف الله عز وجل. « والجوع » يعني المجاعة بالجدب والقحط، في قول ابن عباس. وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان. « ونقص من الأموال بسبب الاشتغال بقتال الكفار. وقيل: بالجوائح المتلفة. وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة. » والأنفس « قال ابن عباس: بالقتل والموت في الجهاد. وقال الشافعي: يعني بالأمراض. » والثمرات « قال الشافعي: المراد موت الأولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، على ما يأتي. وقال ابن عباس: المراد قلة النبات وانقطاع البركات.»

 

قوله تعالى: « وبشر الصابرين » أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر، وقد تقدم. لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) . وأخرجه مسلم أتم منه، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث. وقال سهل بن عبدالله التستري: لما قال تعالى: « وبشر الصابرين » صار الصبر عيشا. والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فهذا مجاهد، وصبر على طاعة الله، فهذا عابد. فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه، وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى. وقال الأستاذ أبو علي: الصبر حدة ألا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: « إنا وجدناه صابرا نعم العبد » [ ص: 44 ] مع أخبر عنه أنه قال: « مسني الضر » [ الأنبياء: 83 ] .

 

الآيتان: 156 - 157 ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )

 

قوله تعالى: « مصيبة » المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة ( بضم الصاد ) مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل. والمصاب الإصابة، قال الشاعر:

أسليم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم

وصاب السهم القرطاس يصيب صيبا، لغة في أصابه. والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة فقال: « إنا لله وإنا إليه راجعون » فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: ( نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة ) .

قلت: هذا ثابت معناه في الصحيح، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته ) .

 

خرج ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام ابن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب ) .

 

من أعظم المصائب المصيبة في الدين، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب ) . أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده، أخبرنا أبو نعيم قال: أنبأنا فطر...، فذكر مثله سواء. وأسند مثله عن مكحول مرسلا. قال أبو عمر: وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة. وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه. قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول:

اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد

أو ما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصد

من لم يصب ممن ترى بمصيبة؟ هذا سبيل لست فيه بأوحد

فإذا ذكرت محمدا ومصابه فاذكر مصابك بالنبي محمد

 

قوله تعالى: « قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون » جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين: لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: « إنا لله » توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: « وإنا إليه راجعون » إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفي على يوسف.

 

قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) . وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها ) . فهذا تنبيه على قوله تعالى: « وبشر الصابرين » [ البقرة: 155 ] إما بالخلف كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون بهما.

 

قوله تعالى: « أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة » هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى، كما قال: « من البينات والهدى » [ البقرة: 159 ] ، وقوله « أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم » [ الزخرف: 80 ] . وقال الشاعر:

صلى على يحيى وأشياعه رب كريم وشفيع مطاع

وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة: « الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون » . أراد بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.

 

الآية: 158 ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم )

 

روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: « إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما » وخرج الترمذي عن عروة قال: ( قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: « فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما » ولو كانت كما تقول لكانت: « فلا جناح عليه ألا يطوف بهما » ) قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف [ بالبيت ] ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: « إن الصفا والمروة من شعائر الله » قال أبو بكر بن عبدالرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء. قال: « هذا حديث حسن صحيح » . أخرجه البخاري بمعناه، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى « إن الصفا والمروة من شعائر الله » : « قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما » ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبدالرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل: « إن الصفا والمروة من شعائر الله » الآية. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت « . وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال: ( سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كانا من شعائر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: « إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما » قال: هما تطوع » ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم « ) قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه البخاري أيضا. وعن ابن عباس قال: كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك، فنزلت. وقال الشعبي: كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى » إسافا « وعلى المروة صنم يسمى » نائلة « فكانوا يمسحونهما إذا طافوا، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك، فنزلت الآية. »

 

أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر الصفا لأن آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، والله اعلم. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى [ إسافا ] وعلى المروة صنم يدعى [ نائلة ] فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، والله تعالى أعلم. والصفا ( مقصور ) : جمع صفاة، وهي الحجارة الملس. وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صفي ( بضم الصاد ) وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز:

كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي

وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب والطين. والمروة ( واحدة المرو ) وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر:

وتولى الأرض خفا ذابلا فإذا ما صادف المرو رضخ

وقال أبو ذؤيب:

حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع

وقد قيل: إنها الحجارة السود. وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار.

 

قوله تعالى: « من شعائر الله » أي من معالمه ومواضع عباداته، وهي جمع شعيرة. والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس، من الموقف والسعي والنحر. والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت:

نقلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب

 

قوله تعالى: « فمن حج البيت » أي قصد. وأصل الحج القصد، قال الشاعر:

فأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا

السب: لفظ مشترك. قال أبو عبيدة: السب ( بالكسر ) الكثير السباب. وسبك أيضا الذي يسابك، قال الشاعر:

لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم

والسب أيضا الخمار، وكذلك العمامة، قال المخبل السعدي:

يحجون سب الزبرقان المزعفرا

والسب أيضا الحبل في لغة هذيل، قال أبو ذؤيب:

تدلى عليها بين سب وخيطة بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

والسبوب: الحبال. والسب: شقة كتان رقيقة، والسبيبة مثله، والجمع السبوب والسبائب، قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر:

يحج مأمومة في قعرها لجف

اللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة.

 

قوله تعالى: « أو اعتمر » أي زار والعمرة: الزيارة، قال الشاعر:

لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر

 

قوله تعالى: « فلا جناح عليه » أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية. قال ابن العربي: « وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله تعالى: » فلا جناح عليه أن يطوف بهما « قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله: » فلا جناح عليه أن يطوف بهما « دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان » فلا جناح عليه ألا يطوف بهما « فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا » .

فإن قيل: فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ « فلا جناح عليه ألا يطوف بهما » وهي قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبي كذلك، ويروى عن أنس مثل هذا. والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون « لا » زائدة للتوكيد، كما قال:

وما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا

 

روى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » [ البقرة: 125 ] وصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال: ( نبدأ بما بدأ الله به ) فبدأ بالصفا وقال: « إن الصقا والمروة من شعائر الله » قال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا.

 

واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك، لقوله عليه السلام: ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) . خرجه الدارقطني. وكتب بمعنى أوجب، لقوله تعالى: « كتب عليكم الصيام » [ البقرة: 183 ] ، وقوله عليه السلام: ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد ) . وخرج ابن ماجة عن أم ولد لشيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: ( لا يقطع الأبطح إلا شدا ) فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى، لأن السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي: عليه هدي، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع، لقوله تعالى: « ومن تطوع خيرا » . وقرأ حمزة والكسائي « يطوع » مضارع مجزوم، وكذلك « فمن تطوع خيرا فهو خير له » الباقون « تطوع » ماض، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره. وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا، وقوله عليه السلام: ( خذوا عني مناسككم ) فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع. وقال طليب: رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل.

قلت: وهذا ثابت في صحيح البخاري، على ما يأتي بيانه في سورة « إبراهيم » .

 

ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال: ( خذوا عني مناسككم ) . وإنما جوزنا ذلك من العذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة وقد قالت له: إني اشتكي، فقال: ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) . وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا، وإنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويز منداد: وهذه تفرقة اختيار، وأما الإجزاء فيجزئ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.

 

الآية: 159 ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون )

 

قوله تعالى: « إن الذين يكتمون ما أنزلنا » أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون. واختلفوا من المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ) . رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص، أخرجه ابن ماجة. ويعارضه قول عبدالله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام: ( حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ) . وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته، والله تعالى اعلم.

 

هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام، وقد مضى القول في هذا.

وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها ) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ) ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سحنون: إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي: والصحيح خلافه، لأن في الحديث ( من سئل عن علم ) ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله، والله اعلم.

 

قوله تعالى: « من البينات والهدى » يعم المنصوص عليه والمستنبط، لشمول اسم الهدى للجميع. وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال: « إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا » [ البقرة: 160 ] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.

فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم، والله تعالى اعلم.

 

لما قال: « من البينات والهدى » دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبدالله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى اعلم.

 

قوله تعالى: « من بعد ما بيناه » الكناية في « بيناه » ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة.

 

قوله تعالى: « أولئك يلعنهم الله » أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للّعين: « وإن عليك لعنتي » [ ص: 78 ] . وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ويلعنهم اللاعنون » قال قتادة والربيع: المراد « باللاعنون » الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال: « اللاعنون » الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا.

قلت: قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون » قال: ( دواب الأرض ) . أخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء، إسناد حسن.

فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟ قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: « رأيتهم لي ساجدين » [ يوسف: 4 ] ولم يقل ساجدات، وقد قال: « لم شهدتم علينا » [ فصلت: 21 ] ، وقال: « وتراهم ينظرون إليك » [ الأعراف: 198 ] ، ومثله كثير، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وابن عباس: « اللاعنون » كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والإنس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع ) . وقال ابن مسعود والسدي: ( هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى، فهو قوله: « ويلعنهم اللاعنون » فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود ) .

 

الآية: 160 ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم )

 

قوله تعالى: « إلا الذين تابوا » استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في « النساء » إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء في قوله: « وبينوا » أي بكسر الخمر وإراقتها. وقيل: « بينوا » يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه. والعموم أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه، والله تعالى اعلم. « فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم » تقدم ولله الحمد والمنة.

 

الآية: 161 ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )

 

قوله تعالى: « وهم كفار » الواو واو الحال. قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه، لأن حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم. قال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني ) . فلعنه، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله. وانتصف بقوله: ( عدد ما هجاني ) ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف. وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه.

 

ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتا أو مجنونا. وقال قوم من السلف: إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به.

والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى: « ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا » [ العنكبوت: 25 ] ، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم، لا على الأمر. وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا، لما روي عن النبي أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ) فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة، وهذا حديث صحيح.

قلت: خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال عليه السلام: ( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ) في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه. وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب ) . فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة، والله تعالى اعلم.

قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ) .

 

قوله تعالى: « أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » أي إبعادهم من رحمته وأصل اللعن: الطرد والإبعاد، وقد تقدم. فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب. وقرأ الحسن البصري « والملائكة والناس أجمعون » بالرفع. وتأويلها: أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون، كما تقول: كرهت قيام زيد وعمرو وخالد، لأن المعنى: كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف.

فإن قيل: ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، قيل عن هذا ثلاثة أجوبة، أحدها: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل. الثاني: قال السدي: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه. الثالث: قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس، كما قال تعالى: « ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا » [ العنكبوت: 25 ]

 

الآية: 162 ( خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون )

 

قوله تعالى: « خالدين فيها » يعني في اللعنة، أي في جزائها. وقيل: خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم « ولا هم ينظرون » أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات. و « خالدين » نصب على الحال من الهاء والميم في « عليهم » ، والعامل فيه الظرف من قوله: « عليهم » لأن فيها معنى استقرار اللعنة.

 

الآية: 163 ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم )

 

قوله تعالى: « وإلهكم إله واحد » لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت كفار قريش: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى سورة « الإخلاص » وهذه الآية. وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما، فبين الله أنه واحد.

 

قوله تعالى: « لا إله إلا هو » نفي وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله. وحكي عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول: الله، ولا يقول: لا إله، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار.

قلت: وهذا من علومهم الدقيقة، التي ليست لها حقيقة، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) خرجه مسلم. والمقصود القلب لا اللسان، فلو قال: لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة. وقد أتينا على معنى اسمه الواحد، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) . والحمد لله.

 

الآية: 164 ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )

 

قال عطاء: لما نزلت « وإلهكم إله واحد » قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد، فنزلت « إن في خلق السماوات والأرض » . ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت « وإلهكم إله واحد » قالوا هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله تعالى « إن في خلق السموات والأرض » فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع. وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى. ووحد الأرض لأنها كلها تراب، والله تعالى اعلم.

فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية.

وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.

 

قوله تعالى: « واختلاف الليل والنهار » قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم. وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل. ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى، وهو مما شذ عن قياس الجموع، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة. وقد استعملوا ذلك في الشعر قال:

في كل يوم وكل ليلاة

وقال آخر:

في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ رآه

يا ويحه من جمل ما أشقاه

قال ابن فارس في المجمل: ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نَهَر جمع نُهُر وهو جمع الجمع للنهار، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير. والأول أكثر، قال الشاعر:

لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر

قال ابن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار. ويقال: إن النهار يجمع على النهر. والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورجل نهر: صاحب نهار. ويقال إن النهار فرخ الحبارى. قال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال ثعلب: أوله عند العرب طلوع الشمس، استشهد بقول أمية بن أبي الصلت.

والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد

وأنشد قول عدي بن زيد:

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

وأنشد الكسائي:

إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي

قال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس. وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار.

قلت: والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما رواه ابن فارس في المجمل، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت « حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » [ البقرة: 187 ] قال له عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف بهما الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار ) . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو مقتضى الفقه في الأيمان، وبه ترتبط الأحكام. فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث، وعلى الأول لا يحنث. وقول النبي هو الفيصل في ذلك والحكم. وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار، كما قال:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها

وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول، خرجه النسائي. وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « والفلك التي تجري في البحر » الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر، قال تعالى: « في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] فجاء به مذكرا، وقال: « والفلك التي تجري في البحر » فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا، وقال: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة » [ يونس: 22 ] فجمع، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده فلك، مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها، ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور.

ووجه الآية في الفلك: تسخير اللّه إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: اصنعها على جؤجؤ الطائر، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله ابن العربي.

هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد. ومن السنة حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام، أخرجهما الأئمة: مالك وغيره. روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس. هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي اللّه عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسنة يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع. وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا. ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن اللّه تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها، فسهل اللّه سبيله بالفلك، قاله ابن العربي. قال أبو عمر: وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال: إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا، فلذلك كره مالك ذلك. وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال: والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالا، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن، ولم يخص بحرا من بر.

قلت: فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، فهي الحجة وفيها الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد المفرط الميد، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض، فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه ويمنع منه.

ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون.

 

قوله تعالى: « بما ينفع الناس » أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا. وقد قال بعض من طعن في الدين: إن اللّه تعالى يقول في كتابكم: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » [ الأنعام: 38 ] فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله: « بما ينفع الناس » .

 

قوله تعالى: « وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها » يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى: « فأسكناه في الأرض » [ المؤمنون: 18 ] .

 

قوله تعالى: « وبث فيها من كل دابة » أي فرق ونشر، ومنه « كالفراش المبثوث » [ القارعة: 4 ] ودابة تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود، قال اللّه تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته، قال الأعشى:

دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبدة:

صواعقها لطيرهن دبيب

 

قوله تعالى: « وتصريف الرياح » تصريفها: إرسالها عقيما وملقحة، وصرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة. وقيل: تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا، ودبورا وصبا، ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل: تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضر بهما، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا. روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( الريح من روح اللّه تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها ) . وأخرجه أيضا ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا اللّه من خيرها وتعوذوا باللّه من شرها ) . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن ) . المعنى: أن اللّه تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح، والإضافة من طريق الفعل. والمعنى: أن اللّه تعالى جعلها كذلك. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن اللّه سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب، فقال تعالى: « فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها » [ الأحزاب: 9 ] . ويقال: نفس اللّه عن فلان كربة من كرب الدنيا، أي فرج عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه: ( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة ) . أي فرج عنه. وقال الشاعر:

كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت على كبد مهموم تجلت هموهما

قال ابن الأعرابي: النسيم أول هبوب الريح. وأصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح، ولا يقال: أرياح، لأنها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة « وتصريف الأرواح » .

 

قوله تعالى: « وتصريف الرياح » قرأ حمزة والكسائي « الريح » على الإفراد، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية، لا خلاف بينهما في ذلك 0 ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى. وأفرد حمزة « الرياح لواقح » [ الحجر: 22 ] . وأفرد ابن كثير « وهو الذي أرسل الرياح » [ الفرقان: 48 ] في الفرقان وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع. والذي ذكرناه في الروم هو الثاني « الله الذي يرسل الرياح » [ الروم: 48 ] . ولا خلاف بينهم في « الرياح مبشرات » [ الروم: 46 ] . وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن، سوى « تهوي به الريح » [ الحج: 31 ] و « الريح العقيم » [ الذاريات: 41 ] فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد. فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن، نحو: « الرياح مبشرات » والريح العقيم « فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: » وجرين بهم بريح طيبة « [ يونس: 22 ] . وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح: ( اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ) . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح. فأفردت مع الفلك في » يونس « ، لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب. »

 

قال العلماء: الريح تحرك الهواء، وقد يشتد ويضعف. فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح: « الصبا » . وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح: « الدبور » . وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها: « ريح الجنوب » . وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها: « ريح الشمال » . ولكل واحدة من هذه الرياح طبع، فتكون منفعتها بحسب طبعها، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن اللّه تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة، لأن الهواء في الصيف حار يابس، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة، لأن الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار. فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة، ومباين له في الأخرى وهو اليبس، لأن الهواء في الشتاء بارد رطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح، فلا تتحرك إلا أن يعيد اللّه تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن اللّه سبحانه وتعالى. وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه، إلا أن الأصول هذه الأربع. فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى « النكباء » .

 

قوله تعالى: « والسحاب المسخر بين السماء والأرض » سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء 0 وسحبت ذيلي سحبا. وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والسحب: شدة الأكل والشرب. والمسخر: المذلل، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر. وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، والأول أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب، روى مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبدالله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبدالله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه ) . وفي رواية « وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل ) . وفي التنزيل: » والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت « [ فاطر: 9 ] ، وقال: » حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت « [ الأعراف: 57 ] وهو في التنزيل كثير. وخرج ابن ماجة عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول: ( اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به ) فإن أمطر قال: ( اللهم سيبا نافعا ) مرتين أو ثلاثا، وإن كشفه اللّه ولم يمطر حمد اللّه على ذلك. أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة: فسألته فقال: ( إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ) . ويقول إذا رأى المطر: ( رحمة ) . في رواية فقال: ( لعله يا عائشة كما قال قوم عاد » فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا « ) [ الأحقاف: 24 ] . فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها، واللّه تعالى أعلم. فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح، لقوله » بين « وهي مع ذلك مسخرة محمولة، وذلك اعظم في القدرة، كالطير في الهواء، قال اللّه تعالى: » ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله « [ النحل: 79 ] وقال: » أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن « [ الملك: 19 ] . »

 

قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، رواه عنه ابن عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبدالله بن خبيب الجهني قال: رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس: هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال: نعم، قال: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قال: سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا، وتنبت عاما قابلا غيره؟ قال نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء. قال ابن عباس: وقد سمعت ذلك من كعب.

 

قوله تعالى: « لآيات » أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: « وإلهكم إله واحد » ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ) أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها.

فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها. قيل له: هذا محال، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال. ثم أن اللّه تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: « قل انظروا ماذا في السموات والأرض » [ يونس: 101 ] والخطاب للكفار، لقوله تعالى: « وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون » ، وقال: « أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض » [ الأعراف: 185 ] يعني بالملكوت الآيات. وقال: « وفي أنفسكم أفلا تبصرون » [ الذاريات: 21 ] . يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين » [ المؤمنون: 12 ] يعني آدم عليه السلام، « ثم جعلناه » أي جعلنا نسله وذريته « نطفة في قرار مكين » [ المؤمنون: 13 ] إلى قوله « تبعثون » . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة. كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر. وقال بعض الحكماء: إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، الذي هو بدن الإنسان، ولذلك قال تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] وقال: « وفي أنفسكم أفلا تبصرون » [ الذاريات: 21 ] . فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء. وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار، لأن العروق تستمد من الكبد. ومثانته بمنزلة البحر، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد، لا إله إلا هو.

 

الآية: 165 ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب )

 

لما أخبر اللّه سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا، وواحدها ند، وقد تقدم. والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة اللّه مع عجزها، قاله مجاهد.

 

قوله تعالى: « يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله » أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد، وقال معناه الزجاج. أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. وقال ابن عباس والسدي: المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي اللّه. وجاء الضمير في « يحبونهم » على هذا على الأصل، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل. وقال ابن كيسان والزجاج أيضا: معنى « يحبونهم كحب اللّه » أي يسوون بين الأصنام وبين اللّه تعالى في المحبة. قال أبو إسحاق: وهذا القول الصحيح، والدليل على صحته: « والذين آمنوا أشد حبا لله » وقرأ أبو رجاء « يحبونهم » بفتح الياء. وكذلك ما كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب. قال الفراء: أنشدني أبو تراب:

أحب لحبها السودان حتى حببت لحبها سود الكلاب

 

و « من » في قوله « من يتخذ » في موضع رفع بالابتداء، و « يتخذ » على اللفظ، ويجوز في غير القرآن « يتخذون » على المعنى، و « يحبونهم » على المعنى، و « يحبهم » على اللفظ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في « يتخذ » أي محبين، وإن شئت كان نعتا للأنداد، أي محبوبة. والكاف من « كحب » نعت لمصدر محذوف، أي يحبونهم حبا كحب اللّه. « والذين آمنوا أشد حبا لله » أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم. وقيل: إنما قال « والذين آمنوا أشد حبا لله » لأن اللّه تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه. ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال اللّه تعالى: « يحبهم ويحبونه » [ المائدة: 54 ] . وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة « آل عمران » إن شاء اللّه تعالى.

 

قوله تعالى: « ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب » قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء، وهو اختيار أبي عبيد. وفي الآية إشكال وحذف، فقال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا. و « يرى » على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب « معاني القرآن » له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب « إعراب القرآن » له: وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه اللّه تعالى، ولكن التقدير وهو قول الأخفش: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله. و « يرى » بمعنى يعلم، أي لو يعلمون حقيقة قوة اللّه عز وجل وشدة عذابه، فـ « يرى » واقعة على أن القوة لله، وسدت مسد المفعولين. و « الذين » فاعل « يرى » ، وجواب « لو » محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال عز وجل. « ولو ترى إذ وقفوا على ربهم » [ الأنعام: 30 ] ، « ولو ترى إذ وقفوا على النار » [ الأنعام: 27 ] ولم يأت لـ « لو » جواب. قال الزهري وقتادة: الإضمار أشد للوعيد، ومثله قول القائل: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ومن قرأ بالتاء فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في « أن » . وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا. وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد للظالم هذا. وقيل: « أن » في موضع نصب مفعول من أجله، أي لأن القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه.

وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت « إذ » وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه. وقرأ ابن عامر وحده « يرون » بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر « إن القوة، وإن اللّه » بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله. وثبت بنص هذه الآية القوة لله، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، تعالى اللّه عن قولهم.

 

الآية: 166 ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب )

 

قوله تعالى: « إذ تبرأ الذين اتبعوا » يعني السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر. عن قتادة وعطاء والربيع. وقال قتادة أيضا والسدي: هم الشياطين المضلون تبرؤوا من الإنس. وقل: هو عام في كل متبوع. « ورأوا العذاب » يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا. وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة.

قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال.

 

قوله تعالى: « وتقطعت بهم الأسباب » أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره. الواحد سبب ووصلة. وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا. وقال السدي وابن زيد: إن الأسباب أعمالهم. والسبب الناحية، ومنه قول زهير:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

 

الآية: 167 ( وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار )

 

قوله تعالى: « وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة » « أن » في موضع رفع، أي لو ثبت أن لنا رجعة « فنتبرأ منهم » جواب التمني. والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، أي قال الأتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم « كما تبرؤوا منا » أي تبرأ كما، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نصبا على الحال، تقديرها متبرئين، والتبرؤ الانفصال.

 

قوله تعالى: « كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » الكاف في موضع رفع، أي الأمر كذلك. أي كما أراهم اللّه العذاب كذلك يريهم اللّه أعمالهم. و « يريهم اللّه » قيل: هي، من رؤية البصر، فيكون متعديا لمفعولين: الأول الهاء والميم في « يريهم » ، والثاني « أعمالهم » ، وتكون « حسرات » حال. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون « حسرات » المفعول الثالث. « أعمالهم » قال الربيع: أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدي: الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون. وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. والحسرة واحدة الحسرات، كتمرة وتمرات، وجفنة وجفنات، وشهوة وشهوات. هذا إذا كان اسما، فإن نعته سكنت، كقولك: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات. والحسرة أعلى درجات الندامة على شيء فائت. والتحسر: التلهف، يقال: حسرت عليه ( بالكسر ) أحسر حسرا وحسرة. وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته، كالبعير إذا عيي. وقيل: هي مشتقة من حسر إذا كشف، ومنه الحاسر في الحرب: الذي لا درع معه. والانحسار. الانكشاف.

 

قوله تعالى: « وما هم بخارجين من النار » دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية ولقوله تعالى: « ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط » [ الأعراف: 40 ] . وسيأتي.

 

الآية: 168 ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس » قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في « الأنعام » و « الأعراف » إن شاء اللّه تعالى.

 

قوله تعالى: « حلالا طيبا » « حلالا » حال، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبدالله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو عبدالله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة اللّه عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة.

 

قوله تعالى: « ولا تتبعوا » نهي « خطوات الشيطان » « خطوات » جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة ( بالضم ) : ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة ( بالفتح ) : المرة الواحدة، والجمع خطوات ( بالتحريك ) وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس:

لها وثبات كوثب الظباء فواد خطاء وواد مطر

وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير « خطوات » بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش « خطؤات » بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس: « خطوات الشيطان » أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في المعاصي.

قلت: والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في « الشيطان » مستوفى.

 

قوله تعالى: « إنه لكم عدو مبين » أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر اللّه تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: « ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين » ، « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » [ البقرة: 169 ] وقال: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » [ البقرة: 268 ] وقال: « ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا » [ النساء: 60 ] وقال: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] وقال: « إنه عدو مضل مبين » [ القصص:15 ] وقال: « إن الشيطان لكم عدو فاتخذه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير » [ فاطر: 6 ] . وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبدالله بن عمر: إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: ( وآمركم أن تذكروا اللّه فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه ) الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.

 

الآية: 169 ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء » سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال اللّه تعالى: « سيئت وجوه الذين كفروا » [ الملك: 27 ] . وقال الشاعر:

إن يك هذا الدهر قد ساءني فطالما قد سرني الدهر

الأمر عندي فيهما واحد لذاك شكر ولذاك صبر

والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » [ البقرة: 268 ] فإنه منع الزكاة.

قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، واللّه تعالى أعلم.

 

قوله تعالى: « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا. « وأن تقولوا » في موضع خفض عطفا على قوله تعالى: « بالسوء والفحشاء » .

 

الآية: 170 ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لهم » يعني كفار العرب. ابن عباس: نزلت في اليهود. الطبري: الضمير في « لهم » عائد على الناس من قوله تعالى: « يا أيها الناس كلوا » . وقيل: هو عائد على « من » في قوله تعالى: « ومن الناس من يتخذ من دون الله » [ البقرة: 165 ] الآية. وقوله: « اتبعوا ما أنزل الله » أي بالقبول والعمل. « قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا » ألفينا: وجدنا. وقال الشاعر:

فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا

 

قوله تعالى: « أولو كان آباؤهم » الألف للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم.

مسألة: قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، ونظيرها: « وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا » [ المائدة: 104 ] الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن اللّه سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل اللّه على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في « لهم » عائد عليهم في الآيتين جميعا.

 

تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم اللّه تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح.

التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا. وقيل: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم:

وقلدوا أمركم لله دركم ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا

التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول.

 

فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » [ النحل: 43 ] ، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين.

 

قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب « الانتصار » له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [ الزخرف: 23 ] . فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل، كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم في دينه، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة، كما بيناه في آية التوحيد، واللّه يهدي من يريد.

قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي اللّه عنهم، فكانوا داخلين فيمن ذمهم اللّه بقوله: « ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا » [ الأحزاب: 67 ] إلى قوله: « كبيرا » وقوله: « إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » [ الزخرف: 23 ] . ثم قال لنبيه: « قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون » [ الزخرف: 24 ] ثم قال لنبيه عليه السلام « فانتقمنا منهم » الآية. فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الأمة، من قولهم: إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل، لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن اللّه سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال: « إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس » [ يوسف:38 ] . فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه آباءه من صفات المدح. ولم يجئ فيما جاؤوا به ذكر الأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها.

قال ابن الحصار: وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه، واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الإغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة. فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الأمر على السلطان، حتى قال الأمير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك.

فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبدالله بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم وكان من درج من المسلمين من هذه الأمة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف.

قلت: ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، واللّه أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن، وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

 

الآية: 171 ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون )

 

شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية الإيجاز. قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به. والمعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي. قال الطبري: المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه. ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به. والنعيق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا، أي صاح بها وزجرها. قال الأخطل:

انعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا

قال القتبي: لم يكن جرير راعي ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن، وجرير منهم، فهو في جهلهم. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون: « أجهل من راعي ضأن » . قال القتبي: ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد. وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر. ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمي. وقد تقدم في أول السورة.

 

الآية: 172 ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون )

 

هذا تأكيد للأمر الأول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل: هو الأكل المعتاد. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أيها الناس إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم » [ المؤمنون: 51 ] وقال: « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام [ ومشربه حرام ] وملبسه حرام [ وغذي بالحرام ] فأنى يستجاب لذلك ) . « واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون » تقدم معنى الشكر فلا معنى للإعادة.

 

الآية: 173 ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « إنما حرم عليكم » « إنما » كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة « إنما » الحاصرة، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة: « قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه » [ الأنعام: 145 ] إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قاله ابن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى.

 

قوله تعالى: « الميتة » نصب بـ « حرّم » ، و « ما » كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع « الميتة والدم ولحم الخنزير » على خبر « إن » وهي قراءة ابن أبي عبلة. وفي « حرم » ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى: « إنما صنعوا كيد ساحر » [ طه: 69 ] . وقرأ أبو جعفر « حرم » بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا « الميتة » بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت وميت لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه « ميت » بالتخفيف، دليله قوله تعالى: « إنك ميت وإنهم ميتون » [ الزمر: 30 ] . وقال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير « وما هو بميت » والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر:

إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد

فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، والأول أشهر.

 

الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى.

هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: ( أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال ) . أخرجه الدار قطني، وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه البخاري ومسلم مع قوله تعالى: « أحل لكم صيد البحر » [ المائدة: 96 ] ، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء اللّه تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك. وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما.

 

وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب اللّه تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي. وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبدالحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه، لأنه من صيد البر، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل. وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في « الأعراف » عند ذكره، إن شاء اللّه تعالى.

 

واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، واختلف عن مالك في ذلك أيضا، فقال مرة: يجوز الانتفاع بها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال: ( هلا أخذتم إهابها ) الحديث. وقال مرة: جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة والدم » [ المائدة: 3 ] ولم يخص وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مجمل، لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة » ، وأيضا فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) . وفي حديث عبدالله بن عكيم؟؟ ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في « النحل » إن شاء اللّه تعالى.

 

فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال: ( إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه ) . خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « المائدة » إن شاء اللّه تعالى.

 

واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أو لا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر، لقوله عليه السلام ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) . ووجه قوله: لا يطهر، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم. وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء، لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة « الفرقان » . والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية، واللّه تعالى أعلم.

 

وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر، لما روي عن أم سلمة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل ) . ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة، لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة « النحل » إن شاء اللّه تعالى.

 

وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت، فقال عليه السلام: ( إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه ) . واختلف العلماء فيه إذا غسل، فقيل: لا يطهر بالغسل، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات. وقال ابن القاسم: يطهر بالغسل، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه.

فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال: ( لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وأن اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر.

 

واختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره فمات فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في المرق من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد.

 

فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي: ذلك نجس لعموم قوله تعالى « حرمت عليكم الميتة » [ المائدة: 3 ] . وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل. وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء.

قال ابن خويز منداد فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بأنفحة ميته أو ذكي. قيل له: قدر ما يقع من الأنفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم، فمن أين لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفخة ذبائحهم.

وقال أبو عمر: ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من أنفحة الميتة. وفي سنن ابن ماجة « الجبن والسمن » حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء. فقال: ( الحلال ما أحل اللّه في كتابه والحرام ما حرم اللّه في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) .

 

قوله تعالى: « والدم » اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لأن اللّه تعالى قال: « حرمت عليكم الميتة والدم » [ المائدة: 3 ] ، وقال في موضع آخر « قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا » [ الأنعام: 145 ] . فحرم المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي اللّه عنها قالت: ( كنا نطبخ البرمة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره ) لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك.

قلت: ذكر اللّه سبحانه وتعالى الدم ههنا مطلقا، وقيده في الأنعام بقوله « مسفوحا » [ الأنعام: 145 ] وحمل العلماء ههنا المطلق على المقيد إجماعا. فالدم هنا يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرم. وهو اختيار ابن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته.

قلت: وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول: الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس أبيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية.

 

قوله تعالى: « ولحم الخنزير » خص اللّه تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها.

أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير. وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم. وقد حرم اللّه تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لأنه دخل تحت اسم اللحم. وحرم اللّه تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله: « حرمنا عليهم شحومهما » [ الأنعام: 146 ] فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث واللّه تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم.

 

لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. وقد روي أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: ( لا بأس بذلك ) ذكره ابن خويز منداد، قال: ولأن الخرازة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده. وما أجازه الرسول صلى اللّه عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه.

لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف. وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال: أنتم تقولون خنزيرا وقد تقدم، وسيأتي بيانه في « المائدة » إن شاء اللّه تعالى.

 

ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية. وفي الصحاح: وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر. والخزر: ضيق العين وصغرها. رجل أخزر بين الخزر. ويقال: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها. وجمع الخنزير خنازير. والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة.

 

قوله تعالى: « وما أهل به لغير الله » أي ذكر عليه غير اسم اللّه تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل. فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى في سورة « المائدة » . والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بكذا، أي رفع صوته. قال ابن أحمر يصف فلاة:

يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر

وقال النابغة:

أو درة صدفية غواصها بهيج متى يرها يهل ويسجد

ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في سورة « المائدة » إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير اللّه به، فتركها الناس. قال ابن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم.

قلت: ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي اللّه عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدوم عليها. قالت: ( كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت امرأة عند ذلك من الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم ) .

 

قوله تعالى: « فمن اضطر » قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة. وقرأ ابن محيصن « فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء. وأبو السمال « فمن اضطر » بكسر الطاء. وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء.

الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية اللّه تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه.

وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجعنا إليه فقال: ( إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد اللّه أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا ) قالوا لا، فقال: ( إن هذه كذلك ) . قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: ( كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل ) . خرجه ابن ماجة رحمه اللّه، وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ابن المنذر قال: قلنا يا رسول اللّه، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: ( يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل ) . قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم اللّه الأموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه ما له من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة.

 

خرج ابن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة ( ح ) وحدثنا محمد ابن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال: سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: ( ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا ) فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.

قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا، وليس له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه اللّه، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل ) . وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيداللّه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة ) . قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: ( من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ) . قال فيه: حديث حسن. وفي حديث عمر رضي اللّه عنه: ( إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا ) . قال أبو عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبان، يقال: قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه: قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع ( ولا يتخذ خبنة ) . يقال منه: خبنت أخبن خبنا. قال أبو عبيد: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته.

قلت: لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام، أو كما هو الآن في بعض البلدان، فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم واللّه أعلم.

وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها. قال معناه مالك في موطئه، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا. ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وحديث العنبر نص في ذلك، فإن أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي سبيل اللّه، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، الحديث. فأكلوا وشبعوا - رضوان اللّه عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرهم صلى اللّه عليه وسلم أنه حلال وقال: ( هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ) فأرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه فأكله. وقالت طائفة. يأكل بقدر سد الرمق. وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود: فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها.

 

فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا. وهو قول الشافعي، فإن اللّه تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن اللّه تعالى قال في الخنزير « فإنه رجس » ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها « رجس » فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة.

 

روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي.

 

فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل. لا، مخافة أن يدعي ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة. ابن العربي: « أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين اللّه تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند اللّه تعالى باطنا. ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولخم ابن آدم أكل الميتة، لأنها حلال في حال. والخنزير وابن آدم لا يحل بحال. والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتج أحمد بقوله عليه السلام: ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) . وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير. فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه ابن شريح بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، واللّه أعلم. »

 

سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إليّ من أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة.

 

روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبىّ فنفقت. فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: ( هل عندك غنى يغنيك ) قال لا، قال: ( فكلوها ) قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها فقال: استحييت منك. قال ابن خويز منداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه. والثاني: يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع. قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: ( ما طعامكم ) قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية قال: ( ذاك وأبي الجوع ) . قال: فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار. وقال الخطابي: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن خويز منداد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر: لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني. قالوا: لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروى نحوه عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلع منها بشيء. وقال مقاتل بن حيان: لا يزداد على ثلاث لقم. والصحيح خلاف هذا، كما تقدم.

وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة. وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات. وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة. ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري. وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للأمرين جميعا. ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة، لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام: ( إن اللّه لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ) ، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما أصنعها للدواء، فقال: ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) . رواه مسلم في الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه، واللّه أعلم.

 

قوله تعالى: « غير باغ » « غير » نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت « غير » يصلح في موضعه « في » فهي حال، وإذا صلح موضعها « إلا » فهي استثناء، فقس عليه. و « باغ » أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة « غير باغ » في أكله فوق حاجته، « ولا عاد » بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. وقال السدي: « غير باغ » في أكلها شهوة وتلذذا، « ولا عاد » باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى « غير باغ » على المسلمين « ولا عاد » عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله. وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال اللّه تعالى: « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء » [ النور: 33 ] . وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر:

لا يمنعك من بغا ء الخير تعقاد الرتائم

إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم

 

قوله تعالى: « ولا عاد » أصل « عاد » عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث. والأصل شائك وهائر ولائث، من لثت العمامة. فأباح اللّه في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم.

 

واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته، لأن اللّه سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. قال ابن العربي: وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا.

قلت: الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو اللّه عنه. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا.

قلت: واختلفت الروايات عن مالك في ذلك، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ابن خويز منداد: فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لأن التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ارتكبت معصية فارتكب أخرى أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن، وللزاني: اكفر أو يقال لهما: ضيعا الصلاة؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي: « وروى زياد بن عبدالرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان. فسوى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها، فكذلك ما ذكرناه. وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه. قال ابن حبيب: وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى: » فمن اضطر غير باغ ولا عاد « فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا. والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الإباحة، واللّه أعلم » .

قلت: هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الأصوليين، ومنظوما الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد ولا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والأصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل.

 

قوله تعالى: « إن الله غفور رحيم » أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.

 

الآية: 174 ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب » يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة رسالته. ومعنى « أنزل » : أظهر، كما قال تعالى: « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » [ الأنعام: 93 ] أي سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله. « ويشترون به » أي بالمكتوم « ثمنا قليلا » يعني أخذ الرشاء. وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا.

قلت: وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم هذا المعنى.

 

قوله تعالى: « في بطونهم » ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له. ومعنى « إلا النار » أي إنه حرام يعذبهم اللّه عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة. فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا » [ النساء: 10 ] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم:

لدوا للموت وابنوا للخراب

قال:

فللموت ما تلد الوالدة

آخر:

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وهو في القرآن والشعر كثير.

 

قوله تعالى: « ولا يكلمهم الله » عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه. وقال الطبري: المعنى « ولا يكلمهم » بما يحبونه. وفي التنزيل « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] . وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. « ولا يزكيهم » أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء. « أليم » بمعنى مؤلم، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) . وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى « لا ينظر إليهم » لا يرحمهم ولا يعطف عليهم. وسيأتي في « آل عمران » إن شاء اللّه تعالى.

 

الآية: 175 ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة » تقدم القول فيه. ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي طرحوه دخلا في تجوز الشراء.

 

قوله تعالى: « فما أصبرهم على النار » مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن « ما » معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل: « قتل الإنسان ما أكفره » [ عبس: 17 ] و « أسمع بهم وأبصر » [ مريم: 38 ] . وبهذا المعنى صدر أبو علي. قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم واللّه عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار وهي لغة يمنية معروفة. قال الفراء أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على اللّه؟ أي ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه. وقيل: المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار. وقيل: « ما » استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي أكثر شيء صبرهم على عمل أهل النار؟ وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.

 

الآية: 176 ( ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )

 

قوله تعالى: « ذلك » في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال: ذلك الحكم بالنار. وقال الزجاج: تقديره الأمر ذلك، أو ذلك الأمر، أو ذلك العذاب لهم. قال الأخفش: وخبر « ذلك » مضمر، معناه ذلك معلوم لهم. وقيل: محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم. « بأن الله نزل الكتاب » يعني القرآن في هذا الموضع « بالحق » أي بالصدق. وقيل بالحجة. « وإن الذين اختلفوا في الكتاب » يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته. وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها. وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم واختلفوا فيها. وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك وقد تقدم القول في معنى الشقاق، والحمد لله.

 

الآية: 177 ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )

 

قوله تعالى: « ليس البر » اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر، فأنزل اللّه هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل اللّه هذه الآية، وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن باللّه.

 

قرأ حمزة وحفص « البر » بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد « ليس » : « البر » نصبه، وجعل « أن تولوا » الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون « البر » بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره « أن تولوا » ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: « ما كان حجتهم إلا أن قالوا » [ الجاثية: 25 ] ، « ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا » [ الروم: 10 ] « فكان عاقبتهما أنهما في النار » [ الحشر: 17 ] وما كان مثله. ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » [ البقرة: 189 ] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي بالباء « ليس البر بأن تولوا » وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان.

 

قوله تعالى: « ولكن البر من آمن بالله » البر ههنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ، « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ البقرة: 93 ] قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر:

فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة:

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

أي كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: « هم درجات عند الله » [ آل عمران: 163 ] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل اللّه هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن باللّه، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون « البر » بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل: « إن أصبح ماؤكم غورا » [ الملك: 30 ] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت « ولكن البر » بفتح الباء.

 

قوله تعالى: « وآتى المال على حبه » استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن في المال حقا سوى الزكاة ) ثم تلا هذه الآية « ليس البر أن تولوا وجوهكم » إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه وقال: « هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح » .

قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: « وأقام الصلاة وآتى الزكاة » فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: « وآتى المال على حبه » ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، واللّه أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه اللّه: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله.

 

قوله تعالى: « على حبه » الضمير في « حبه » اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطي للمال، وحذف المفعول وهو المال. ويجوز نصب « ذوي القربى » بالحب، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى 0 وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. قال ابن عطية: ويجيء قوله « على حبه » اعتراضا بليغا أثناء القول.

قلت: ونظيره قوله الحق: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا » [ الإنسان: 8 ] فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق: « ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك » [ النساء: 124 ] وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله « على حبه » وقوله: « وهو مؤمن » [ النساء: 124 ] ، ومنه قول زهير:

من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا

وقال امرؤ القيس:

على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان

فقوله: « على علاته » و « قبل سؤاله » تتميم حسن، ومنه قول عنترة:

أثني علي بما علمت فإنني سهل مخالفتي إذا لم أظلم

فقوله: « إذا لم أظلم » تتميم حسن. وقال طرفة:

فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي

وقال الربيع بن ضبع الفزاري:

فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فان

فقوله: « غير مفسدها » ، و « إلا أحاديثه » تتميم واحتراس. وقال أبو هفان:

فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب

فقوله: « غير ظالم » و « غير عائب » تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير. وقيل: يعود على الإيتاء، لأن الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: « ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم » [ آل عمران: 180 ] أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل: يعود على اسم اللّه تعالى في قوله « من آمن باللّه » . والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء.

واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا.

 

قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا » أي فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس. « والصابرين في البأساء والضراء » البأساء: الشدة والفقر. والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: ( يقول اللّه تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب ) قيل: يا رسول اللّه، ما لحم خير من لحمه؟ قال: ( لحم لم يذنب ) قيل: فما دم خير من دمه؟ قال: ( دم لم يذنب ) . والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت. « وحين البأس » أي وقت الحرب.

 

قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين » فقيل: يكون « الموفون » عطفا على « من » لأن من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش. « والصابرين » نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه. فأما المدح فقوله: « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] . وأنشد الكسائي:

وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد أبو عبيدة:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

وقال آخر:

نحن بني ضبة أصحاب الجمل

فنصب على المدح. وأما الذم فقوله تعالى: « ملعونين أينما ثقفوا » [ الأحزاب: 61 ] الآية. وقال عروة بن الورد:

سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور

وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب كما بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام، قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] ، وفي سورة المائدة « والصابئون » [ المائدة: 69 ] . والجواب ما ذكرناه. وقيل: « الموفون » رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي: « والصابرين » عطف على « ذوي القربى » كأنه قال: وآتى الصابرين. قال النحاس: « وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت « والصابرين » ونسقته على « ذوي القربى » دخل في صلة » من « وإذا رفعت » والموفون « على أنه نسق على » من « فقد نسقت على » من « من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف » . وقال الكسائي: وفي قراءة عبدالله « والموفين، والصابرين » . وقال النحاس: « يكونان منسوقين على « ذوي القربى » أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبدالله في النساء » والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة « [ النساء: 162 ] . وقرأ يعقوب والأعمش » والموفون والصابرون « بالرفع فيهما. وقرأ الجحدري » بعهودهم « . وقد قيل: إن » والموفون « عطف على الضمير الذي في » آمن « . وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن باللّه هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله » من آمن « تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم.»

 

قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في « الكتاب الأسنى » - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به، وقيل: الضيف - والسؤال وفك الرقاب. وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها بما فيها في موضعها إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون » وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء. والصدق: خلاف الكذب ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا ) .

 

الآية: 178 ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم )

 

روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: « كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال اللّه لهذه الأمة: » كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء « فالعفو أن يقبل الدية في العمد » فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان « يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان » ذلك تخفيف من ربكم ورحمة « مما كتب على من كان قبلكم » فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم « قتل بعد قبول الدية » . هذا لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول: وقال الشعبي في قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال: أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقبل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة.

 

قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص » « كتب » معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

وقد قيل: إن « كتب » هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه « فارتدا على آثارهما قصصا » [ الكهف: 64 ] . وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه.

 

صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: ( إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية ) . قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: [ القتل أوقى للقتل ] بالواو والقاف، ويروي [ أبقى ] بالباء والقاف، ويروى [ أنفى ] بالنون والفاء، فنهاهم اللّه عن البغي فقال: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » الآية، وقال « ولكم في القصاص حياة » [ البقرة: 179 ] . وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم.

 

لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فإن قوله تعالى « كتب عليكم » معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى، وشبههن.

 

قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » الآية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية « المائدة » وهو قول أهل العراق.

 

قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى » فعم، وقوله: « وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة.

قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا: « ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض » فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في « النساء » إن شاء اللّه تعالى.

 

والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( لا يقتل مسلم بكافر ) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا. قال الدارقطني: « لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله » .

قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى » الآية، وعموم قوله: « النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] .

 

روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبدالله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير.

ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا.

 

وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى، على ما تقدم.

قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل عبده قتلناه ) وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى: « ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل » [ الإسراء: 33 ] والولي ههنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه « . وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ( ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ) . »

فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين.

قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه: ( ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ) . وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، واللّه أعلم. واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الأول أصح.

 

روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى: « هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد » . وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم: يقتل به. وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » ، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن.

قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الأجنبي بمثل هذا. ابن العربي: « سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه، لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك. وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يقاد الوالد بولده ) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله » . قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل به.

 

وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » [ المائدة: 45 ] . والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية عبداللّه بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: ( اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه ) خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار ) . وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم. وقال ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبدالملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه.

 

روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ) ، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ) . وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.

 

اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] . وقوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » أي ترك له دمه في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية « فاتباع بالمعروف » أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه. وقال آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال: ( القصاص كتاب اللّه، القصاص كتاب اللّه ) ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح: ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود ) . فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول: تأخذ به نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.

 

قوله تعالى: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » اختلف العلماء في تأويل « من » و « عفي » على تأويلات خمس:

أحدها أن « من » يراد بها القاتل، و « عفي » تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و « شيء » هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.

الثاني: وهو قول مالك أن « من » يراد به الولي « وعفي » يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و « شيء » هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن معنى « عفي » بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال اللّه تعالى: « خذ العفو » [ الأعراف: 199 ] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي:

خذي العفو مني تستديمي مودتي

وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني شهد اللّه على عباده. فكأنه قال: من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة « المائدة » « فمن تصدق به فهو كفارة له » [ المائدة: 45 ] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.

وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون « عفي » بمعنى فضل.

روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال عليه السلام: ( القتل سواء ) فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الآخر، فهو قوله: « كتب » إلى قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ.

وتأويل خامس: وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و « عفي » في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل.

 

هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب « فاتباع » وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن « فاتباعا » و « أداء » بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة « فاتباعا » بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: « فإمساك بمعروف » [ البقرة: 229 ] . وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله: « فضرب الرقاب » [ محمد: 4 ] .

 

قوله تعالى: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا.

 

قوله تعالى: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ الدم ] قاتل وليه. « فله عذاب أليم » قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية.

واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية ) . وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبدالعزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ) .

 

الآية: 179 ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )

 

قوله تعالى: « ولكم في القصاص حياة » هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة.

اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.

وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام اللّه عز وجل، لقوله جل ذكره: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( تعال فاستقد ) . قال: بل عفوت يا رسول اللّه. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقص من نفسه. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه.

 

قوله تعالى: « لعلكم تتقون » تقدم معناه. والمراد هنا « تتقون » القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن اللّه يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبدالله الربعي « ولكم في القصص حياة » . قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب اللّه الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة.

 

الآية: 180 ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين )

 

قوله تعالى: « كتب عليكم » هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي « النساء » : « من بعد وصية » [ النساء: 12 ] وفي « المائدة » : « حين الوصية » . [ المائدة: 106 ] والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال: « لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى » [ الليل: 15 - 16 ] أي والذي، فحذف. وقيل: لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و « كتب » معناه فرض وأثبت، كما تقدم. وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم:

يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت

وقال عنترة:

وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان

وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:

أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاء

إن قيل: لم قال « كتب » ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه: قام امرأة. ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل.

 

قوله تعالى: « إن ترك خيرا » « إن » شرط، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان، قال الأخفش: التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر:

من يفعل الحسنات اللّه يشكرها والشر بالشر عند اللّه مثلان

والجواب الأخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل « الوصية » في « إذا » لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة. ويجوز أن يكون العامل في « إذا » : « كتب » والمعنى: توجه إيجاب اللّه إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في « إذا » الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الإيصاء إذا.

 

قوله تعالى: « خيرا » الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي: ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية ( بالكسر والفتح ) . وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: ( استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ) . ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به.

 

اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. واكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهري وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن، لأن اللّه فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وفي رواية ( يبيت ثلاث ليال ) وفيها قال عبدالله بن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه.

فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: « كتب عليكم » وكتب فرض، فدل على وجوب الوصية قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل، والمعنى: إذا أردتم الوصية، واللّه أعلم. وقال النخعي: مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه.

 

لم يبين اللّه تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: « إن ترك خيرا » والخير المال، كقوله: « وما تنفقوا من خير » [ البقرة: 272 ] ، « وإنه لحب الخير » [ العاديات: 8 ] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي اللّه عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: ( لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أوصي بالثلث ) واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان اللّه عليهم أجمعين. روى بن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة. قالت: ( إن اللّه تعالى يقول: « إن ترك خيرا » وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك )

 

ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بمال كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) الحديث، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان:

أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي. عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبدالله: ( إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبدالله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم. )

وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر، فقال مالك رحمه اللّه: الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) . قال أبو الفرج المالكي: المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر، لأنه أجل آت لا محالة. وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: هو وصية، لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل، وقد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم باع مدبرا، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة: يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة. وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي، وهو قول سفيان الثوري.

 

واختلفوا في الرجل يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، وأراد الوصية، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبر بعد موتي، لم يكن له الرجوع فيه. وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية، لأنه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو وصية، إلا أن الشافعي قال: لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة. وليس قوله: - قد رجعت - رجوعا، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حتى يموت فإنه يعتق بموته. وقال في القديم: يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية. واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور: إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير، فإن مات لم يعتق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية. وقال أشهب: هو مدبر وإن لم يرد الوصية.

 

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة، فقيل: هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاوس والحسن، واختاره الطبري. وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض. وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله عليه السلام: ( إن اللّه قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) . رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث، على الصحيح من أقوال العلماء. ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع. والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم اللّه تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وقد تقدم هذا المعنى. ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث. فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين. واللّه أعلم.

وقال ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة « النساء » وثبتت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم. وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.

وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية منسوخة، وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه اللّه، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. وقال الربيع بن خثيم: لا وصية. قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرأ « وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله » [ الأنفال: 75 ] . ونحو هذا صنع ابن عمر رضي اللّه عنه.

 

قوله تعالى: « والأقربين » الأقربون جمع أقرب. قال قوم: الوصية للأقربين أولى من الأجانب، لنص اللّه تعالى عليهم، حتى قال الضحاك: إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية. وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت. وروي عن سالم بن عبدالله بمثل ذلك. وقال الحسن: إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم. وقال الشعبي: لم يكن له ذلك ولا كرامة. وقال طاوس: إذا أوص لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله، وقاله جابر بن زيد، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا، وبه قال إسحاق بن راهوية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة، وهو وقول ابن عمر وابن عباس.

قلت: القول الأول أحسن، وأما أبو العالية رضي اللّه عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى. وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا، فحسبها ثواب عتقها، واللّه أعلم.

 

ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله، وشذ أهل الظاهر فقالوا: لا يحجر عليه وهو كالصحيح، والحديث والمعنى يرد عليهم. قال سعد: عادني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول اللّه، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ( لا ) ، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ( لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) الحديث.

ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة، وهو الصحيح، لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم. وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ) . وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة ) .

 

واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته، فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا. هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق. احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم، فكذلك ههنا. واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شيء. واحتج مالك بأن قال: إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات.

فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ، قال الأبهري. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهوية أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسنة من غيره. قال ابن المنذر: واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم.

 

واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل اللّه، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم. وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبدالرزاق يمضي في سبيل اللّه.

 

لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره، فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز وصية الصبي. وقال المزني: وهو قياس قول الشافعي، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه. واختلف أصحابه على قولين: أحدهما كقول مالك، والثاني كقول أبي حنيفة. وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته. قال أبو عمر: قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة. ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل، فوجب أن تجوز وصيته مع الأمر الذي جاء فيه عن عمر رضي اللّه عنه. وقال مالك: إنه الأمر المجمع عليه عندهم بالمدينة، وباللّه التوفيق. وقال محمد بن شريح: من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فاللّه قضاه على لسانه ليس للحق مدفع.

 

قوله تعالى: « بالمعروف » يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى اللّه سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه عليه السلام، فقال عليه السلام: ( الثلث والثلث كثير ) ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( إن اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة ) . أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » [ المائدة: 49 ] وحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل اللّه. فمن تجاوز ما حده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عالما. وقال الشافعي: وقوله ( الثلث كثير ) يريد أنه غير قليل.

 

قوله تعالى: « حقا على المتقين » يعني ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله: « على المتقين » وهذا يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص اللّه من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد تقدم هذا المعنى. وانتصب « حقا » على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن « حق » بمعنى ذلك حق.

 

قال العلماء: المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية. وإنما هي من حديث ابن عمر. وفائدتها: المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه.

 

روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم ( هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور. وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى اللّه حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا اللّه ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن اللّه أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .

 

الآية: 181 ( فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم )

 

قوله تعالى: « فمن بدله » شرط، وجوابه « فإنما إثمه على الذين يبدلونه » و « ما » كافة « لإن » عن العمل. و « إثمه » رفع بالابتداء، « على الذين يبدلونه » موضع الخبر. والضمير في « بدله » يرجع إلى الإيصاء، لأن الوصية في معنى الإيصاء، وكذلك الضمير في « سمعه » ، وهو كقوله: « فمن جاءه موعظة من ربه » [ البقرة:275 ] أي وعظ، وقوله: « إذا حضر القسمة » [ النساء: 8 ] أي المال، بدليل قوله « منه » . ومثله قول الشاعر:

ما هذه الصوت

أي الصيحة. وقال امرؤ القيس:

برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر

والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة. و « سمعه » يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان. والضمير في « إثمه » عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي. وقيل: إن هذا الموصي إذا غير الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم.

 

في هذه الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: « وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه » .

ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر.

 

قوله تعالى: « إن الله سميع عليم » صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين.

 

الآية: 182 ( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « فمن خاف » « من » شرط، و « خاف » بمعنى خشي. وقيل: علم. والأصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون « خاف » ليدلوا على الكسرة من فعلت. « من موص » بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لأن أكثر النحويين يقولون « موص » للتكثير. وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم. « جنفا » من جنف يجنف إذا جار، والاسم منه جنف وجانف، عن النحاس. وقيل: الجنف الميل. قال الأعشى:

تجانف عن حجر اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا

وفي الصحاح: « الجنف » الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، ومنه قوله تعالى: « فمن خاف من موص جنفا » . قال الشاعر:

هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور

قال أبو عبيدة: المولى ههنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى: « ثم يخرجكم طفلا » . وقال لبيد:

إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي

قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ ( بالهمز ) وهو المائل أيضا. ويقال: أجنف الرجل، أي جاء بالجنف. كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه. وأخس، أي أتى بخسيس. وتجانف لإثم، أي مال. ورجل أجنف، أي منحني الظهر. وجنفى ( على فعلى بضم الفاء وفتح العين « : اسم موضع، عن ابن السكيت. » ) وروي عن علي أنه قرأ حيفا « بالحاء والياء، أي ظلما. وقال مجاهد: » فمن خاف « أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه. » فلا إثم عليه « أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، ولكنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. » إن الله غفور « عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية. وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق.»

 

الخطاب بقوله: « فمن خاف » لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح. والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.

 

في هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.

 

قوله تعالى: « فأصلح بينهم » عطف على « خاف » ، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وجواب الشرط « فلا إثم عليه » .

 

لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت، لقوله عليه السلام وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح ) الحديث، أخرجه أهل الصحيح. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة ) . وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع ) .

 

من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته. روى الدارقطني عن معاوية ابن قرة عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب اللّه كانت كفارة لما ترك من زكاته ) . فإن ضر في الوصية وهي: فقد روى الدار قطني أيضا عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( الإضرار في الوصية من الكبائر ) . وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ) . وترجم النسائي « الصلاة على من جنف في وصيته » أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي اللّه عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فغضب من ذلك وقال: ( لقد هممت ألا أصلي عليه ) [ ثم دعا مملوكيه ] فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة. وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولا شديدا، بدل قوله: ( لقد هممت ألا أصلي عليه ) .

 

الآية: 183 ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام » لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج ) رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال اللّه تعالى مخبرا عن مريم: « إني نذرت للرحمن صوما » [ مريم: 26 ] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على آريها: قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة:

خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال:

كأن الثريا علقت في مصامها

أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله:

والبكرات شرهن الصائما

يعني التي لا تدور. وقال امرؤ القيس:

فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا

أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة. وقال آخر:

حتى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعاب فنزل

وقال آخر:

نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما

أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير.

والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .

 

فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أن خصه اللّه بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال مخبرا عن ربه: ( يقول اللّه تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا.

 

قوله تعالى: « كما كتب » الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم. وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته « بكما » إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. و « ما » في موضع خفض، وصلتها: « كتب على الذين من قبلكم » . والضمير في « كتب » يعود على « ما » . واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي:

قال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن اللّه تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه اللّه أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية. وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه اللّه لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه اللّه لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين ) . وقال مجاهد: كتب اللّه عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة. وقيل: أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي.

قلت: ولهذا - واللّه أعلم - كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: « كما كتب على الذين من قبلكم » . وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه اللّه تعالى بقوله: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » [ البقرة: 187 ] على ما يأتي بيانه، قاله السدي وأبو العالية والربيع. وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى: « كتب عليكم الصيام » أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، « كما كتب على الذين من قبلكم » وهم اليهود - في قول ابن عباس - ثلاثة أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان. وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك « بأيام معدودات » ثم نسخت الأيام برمضان.

 

قوله تعالى: « لعلكم تتقون » « لعل » ترج في حقهم، كما تقدم. و « تتقون » قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن. وقيل: لتتقوا المعاصي. وقيل: هو على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: ( الصيام جنة ووجاء ) وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.

 

الآية: 184 ( أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « أياما معدودات » « أياما » مفعول ثان « بكتب » ، قاله الفراء. وقيل: نصب على الظرف « لكتب » ، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والأيام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، واللّه أعلم.

 

قوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا » للمريض حالتان: إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. قال طريف بن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرع قال: إنه وجعت أصبعي هذه. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي. وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه اللّه تعالى.

قلت: قول ابن سيربن أعدل شيء في هذا الباب إن شاء اللّه تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهوية نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبدالله؟ فقلت نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال اللّه تعالى: « فمن كان منكم مريضا » قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر.

 

قوله تعالى: « أو على سفر » اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا وقال مرة ستة وثلاثون ميلا وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي. وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية.

قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.

 

اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه، وحكى ذلك عن أصبغ وابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر. وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم، لأنه متأول في فطره. وقال أشهب: ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، وهو بمنزلة المرأة تقول: غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبدالملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة، لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء، والمرأة لا تحدث الحيضة.

قلت: قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن، لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمة بريئة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: « أو على سفر » . وقال أبو عمر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده كذلك، إن شاء اللّه تعالى. وقد روى الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال: أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب. فقلت له: سنة؟ قال نعم. وروي عن أنس أيضا قال قال لي أبو موسى: ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت، صائما، فإذا خرجت فأخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل مفطرا. وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج. وقال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت. وقال إسحاق: لا، بل حين يضع رجله في الرحل. قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل: إنه يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال يقضي ولا يكفر. قال مالك: لأن السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه. وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وحكاه الباجي عن الشافعي، واختاره ابن العربي وقال به، قال: لأن السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض، لأن المرض يبيح له الفطر، والحيض يحرم عليها الصوم، والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته. قال أبو عمر: وليس هذا بشيء، لأن اللّه سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة. وأما قولهم لا يفطر فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة اللّه كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه اللّه ولا رسوله صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: ( يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا ) وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق.

قلت: وقد ترجم البخاري رحمه اللّه على هذه المسألة [ باب من أفطر في السفر ليراه الناس ] وساق الحديث عن ابن عباس قال: ( خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان. وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه: ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة ) . وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه، وباللّه التوفيق. وفيه أيضا حجة على من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر. روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر: ( من صام في السفر قضى في الحضر ) وعن عبدالرحمن بن عوف: ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ) وقال به قوم من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » على ما يأتي بيانه، وبما روى كعب بن عاصم قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( ليس من البر الصيام في السفر ) . وفيه أيضا حجة على من يقول: إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، وإليه ذهب مطرف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث. وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبدالملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كفر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره. وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، قاله أبو عمر.

 

واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفصل، وكذلك ابن علية، لحديث أنس قال: ( سافرنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) خرجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهما قالا: ( الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه ) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل، لقول اللّه تعالى: « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » [ البقرة:185 ]

 

قوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » في الكلام حذف، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض. والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما. وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » ولم يقل فشهر من أيام أخر. وقوله: « فعدة » يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده.

 

قوله تعالى: « فعدة » ارتفع « عدة » على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة. وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة من أيام. وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة. والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. ومنه عدة المرأة. « من أيام أخر » لم ينصرف « أخر » عند سيبوبه لأنها معدولة عن الألف واللام، لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، نحو الكبر والفضل. وقال الكسائي: هي معدولة عن آخر، كما تقول: حمراء وحمر، فلذلك لم تنصرف. وقيل: منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة لأيام، ولم يجيء أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة. وقيل: إن « أخر » جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل: أيام أخر. وقيل: إن نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بأخر.

 

اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدار قطني في « سننه » ، فروي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: نزلت « فعدة من أيام أخر متتابعات » فسقطت « متتابعات » قال هذا إسناد صحيح. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه ) في إسناده عبدالرحمن بن إبراهيم ضعيف الحديث. وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان « صمه كيف شئت » . وقال ابن عمر: « صمه كما أفطرته » . وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص. وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: ( ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فاللّه أحق أن يعفو ويغفر ) . إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا. وفي موطأ مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر. قال الباجي في المنتقى: يحتمل أن يريد الإخبار عن الوجوب، ويحتمل أن يريد الإخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء. وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله: « فعدة من أيام أخر » ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه « . ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق. لما قال تعالى: « فعدة من أيام أخر » دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول اللّه، أو برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. في رواية: وذلك لمكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وهذا نص وزيادة بيان للآية. وذلك يرد على داود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال. ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها. ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله. وقال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم. والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض. »

 

من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه، لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير. هذا قول البغداديين من المالكيين، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة.

فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: نعم. وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود: لا.

قلت: وإلى هذا ذهب البخاري لقوله، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم، ولم يذكر اللّه الإطعام، إنما قال: « فعدة من أيام أخر » .

قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: ( يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا ) خرجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح. وروي عنه مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: ( يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا ) . في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان.

فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر، فروى الدارقطني عن ابن عمر ( أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء ) وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال: ( إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني ولا قضاء عليه، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي، فإذا أفطر قضاه ) إسناد صحيح. قال علماؤنا: وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها. وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين؟ فقال له ابن عباس: ( استمر بك مرضك، أو صححت بينهما؟ ) فقال: بل صححت، قال: ( صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا ) وهذا بدل من قوله: إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي.

واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون: يطعم عن كل يوم مدا. وقال الثوري: يطعم نصف صاع عن كل يوم.

 

واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه، فقال مالك: من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شيء غير قضائه، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى، لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم ههنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لإفطاره عامدا. وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب في ذلك، وهو قول جمهور العلماء. قال مالك: ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم. وقال قتادة: على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمدا في قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين، كمن أفسد حجه بإصابة أهله، وحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان. قال أبو عمر: قد خالفه في الحج ابن وهب وعبدالملك، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه. والصواب عندي - واللّه أعلم - أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد، لأنه يوم واحد أفسده مرتين.

قلت: وهو مقتضى قوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » فمتى أتى بيوم تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك، واللّه أعلم.

 

والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه. وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح: يطعم عنه.

واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه، فقال مالك والشافعي والثوري: لا يصوم أحد عن أحد. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر: يصام عنه، إلا أنهم خصصوه بالنذر، وروي مثله عن الشافعي. وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان: يطعم عنه. احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) . إلا أن هذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر - وفي رواية صوم شهر - أفأصوم عنها؟ قال: ( أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها ) قالت: نعم، قال: ( فصومي عن أمك ) . احتج مالك ومن وافقه بقول سبحانه: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] وقوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 39 ] وقوله: « ولا تكسب كل نفس إلا عليها » [ الأنعام: 164 ] وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان يوم مدا من حنطة ) .

قلت: وهذا الحديث عام، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: ( لا يصوم أحد عن أحد ) صوم رمضان. فأما صوم النذر فيجوز، بدليل حديث ابن عباس وغيره، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس، وفي بعض طرقه: صوم شهرين أفأصوم عنها؟ قال: ( صومي عنها ) قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: ( حجي عنها ) . فقولها: شهرين، يبعد أن يكون رمضان، واللّه أعلم. وأقوى ما يحتج به لمالك أنه عمل أهل المدينة، ويعضده القياس الجليّ، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة. ولا ينقض هذا بالحج لأن للمال فيه مدخلا.

 

استدل بهذه الآية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا، فإن اللّه تعالى يقول: « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار وبقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس من البر الصيام في السفر ) .

قال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر ] . والجمهور يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم. وهو الصحيح، لحديث أنس قال: ( سافرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: ( غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) .

 

قوله تعالى: « وعلى الذين يطيقونه » قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال. ومشهور قراءة ابن عباس « يطوقونه » بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقد روى مجاهد « يطيقونه » بالياء بعد الطاء على لفظ « يكيلونه » وهي باطلة ومحال، لأن الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال. قال أبو بكر الأنباري: وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لأبي ذؤيب:

فقيل تحمل فوق طوقك إنها مطبعة من يأتها لا يضيرها

فأظهر الواو في الطوق، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس « يطيقونه » بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى. وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار « يطوقونه » بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير. وقرأ أهل المدينة والشام « فدية طعام » مضافا « مساكين » جمعا. وقرأ ابن عباس « طعام مسكين » بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن عطاء عنه. وهي قراءة حسنة، لأنها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد. وجمع المساكين لا يدري كم منهم في اليوم إلا من غير الآية. وتخرج قراءة الجمع في « مساكين » لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى: « والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة » [ النور: 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو عليّ. واختار قراءة الجمع النحاس قال: وما اختاره أبو عبيد مردود، لأن هذا إنما يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى « وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين » أن لكل يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع. قال النحاس: واختار أبو عبيد أن يقرأ « فدية طعام » قال: لأن الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ « فدية طعام » بالإضافة، لأن « فدية » مبهمة تقع للطعام وغيره، قصار مثل قولك: هذا ثوب خز.

 

واختلف العلماء في المراد بالآية، فقيل: هي منسوخة. روى البخاري: « وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها » وأن تصوموا خير لكم « . وعلى هذا قراءة الجمهور » يطيقونه « أي يقدرون عليه، لأن فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا. وقال ابن عباس: نزلت هده الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله » فمن شهد منكم الشهر فليصمه « [ البقرة: 185 ] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في » يطيقونه « يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله: » ،وأن تصوموا « . ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة » يطوقونه « على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس - إن كان الإسناد عنه صحيحا - » يطيقونه « بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس » وعلى الذين يطيقونه « قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا » وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين « قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال: » وعلى الذين يطيقونه فدية طعام « ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح. وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع - من غير شك - فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح. »

قلت: فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، واللّه أعلم. وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور. وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام. وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا. واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شيء عليهم، غير أن مالكا قال: لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إليّ. وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة رضي اللّه عن جميعهم، وقوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » ثم قال: « وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين » وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية. والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض. وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر.

 

واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صلى اللّه عليه وسلم عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر. وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال: من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح. وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم.

 

قوله تعالى: « فمن تطوع خيرا فهو خير له » قال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد. ابن عباس: « فمن تطوع خيرا » قال: مسكينا آخر فهو خير له. ذكره الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و « خير » الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و « خير » الأول. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي « يطوع خيرا » مشددا وجزم العين على معنى يتطوع. الباقون « تطوع » بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي.

 

قوله تعالى: « وأن تصوموا خير لكم » أي والصيام خير لكم. وكذا قرأ أبيّ، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ. وقيل: « وأن تصوموا » في السفر والمرض غير الشاق واللّه أعلم. وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا.

 

الآية: 185 ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )

 

قوله تعالى: « شهر رمضان » قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة. وقد تقدم قول مجاهد: كتب اللّه رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم، واللّه أعلم. والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته. ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش. والرمضاء ممدودة: شدة الحر، ومنه الحديث: ( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال ) . خرجه مسلم. ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها. فرمضان - فيما ذكروا - وافق شدة الحر، فهو مأخوذ من الرمضاء. قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض وهو الإحراق، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت. وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني، ومنه قيل: أرمضني الأمر. وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. والرمضاء: الحجارة المحماة. وقيل: هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق. ومنه نصل رميض ومرموض - عن ابن السكيت - ، وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم. وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية « ناتق » وأنشد للمفضل:

وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغي وولت على الأدبار فرسان خثعما

و « شهر » بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبر « الذي أنزل فيه القرآن » . أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون « شهر » مبتدأ، و « الذي أنزل فيه القرآن » صفة، والخبر « فمن شهد منكم الشهر » . وأعيد ذكر الشهر تعظيما، كقوله تعالى: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 - 2 ] . وجاز أن يدخله معنى الجزاء، لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل، قاله أبو علي. وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب « شهر » ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا. و « الذي أنزل فيه القرآن » نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا، لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو « خير لكم » . الرماني: يجوز نصبه على البدل من قول « أياما معدودات » [ البقرة: 184 ] .

 

واختلف هل يقال « رمضان » دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد وقال: يقال كما قال اللّه تعالى. وفي الخبر: ( لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه اللّه في القرآن فقال شهر رمضان ) . وكان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء اللّه. وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى. ويحتج بما روي: رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف. والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ) . وفي صحيح البستي عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ) . وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول...، فذكره. قال البستي: أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس، واسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن. وروى النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أتاكم رمضان شهر مبارك فرض اللّه عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ) . وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال: فقوله ( مردة الشياطين ) تقييد لقوله: ( صفدت الشياطين وسلسلت ) . وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ( إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة ) . وروى النسائي أيضا عن عبدالرحمن بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن اللّه تعالى فرض صيام رمضان [ عليكم ] وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) . والآثار في هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر. وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان. قال الشاعر:

جارية في درعها الفضفاض أبيض من أخت بني إباض

جارية في رمضان الماضي تقطع الحديث بالإيماض

وفضل رمضان عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب، وما كتبناه من الأحاديث.

 

فرض اللّه صيام شهر رمضان أي مدة هلاله، وبه سمي الشهر، كما جاء في الحديث: ( فإن غمي عليكم الشهر ) أي الهلال، وسيأتي، وقال الشاعر:

أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفر

حتى تكامل في استدارته في أربع زادت على عشر

وفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين، فقال في كتابه « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] . وروى الأئمة الإثبات عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاكملوا العدد ) في رواية ( فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين ) . وقد ذهب مطرف بن عبدالله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا: يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لرؤي، لقوله عليه السلام: ( فإن أغمي عليكم فاقدروا له ) أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى ( فاقدروا له ) فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة ( فأكملوا العدة ) . وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله « فاقدروا له » : أي قدروا المنازل. وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم. وقد روى ابن نافع عن مالك في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به ولا يتبع. قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يعول على الحساب، وهي عثرة لا لعاً لها.

 

واختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان. بشهادة واحد أو شاهدين، فقال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد لأنها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين، أصله الشهادة على هلال شوال وذي الحجة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يقبل الواحد، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وأخرجه الدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة. روى الدارقطني « أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام، أحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان. قال الشافعي: فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط. وقال الشافعي بعد: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان. قال الشافعي وقال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلا شاهدين، وهو القياس على كل مغيب » .

 

واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال، فروى الربيع عن الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، وليخف ذلك. وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم، لأنه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال. قال ابن المنذر: وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل. وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم ولا يفطر. قال ابن المنذر: يصوم ويفطر.

 

واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ابن عباس، وبه قال إسحاق، وإليه أشار البخاري حيث بوب: [ لأهل كل بلد رؤيتهم ] وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي. قال ابن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي.

قلت: ذكر الكيا الطبري في كتاب أحكام القرآن له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: « ولتكملوا العدة » وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) الحديث، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبدالله بن عباس رضي اللّه عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال علماؤنا: قول ابن عباس ( هكذا أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك، فإن حمل فلا تجوز مخالفته. وقال الكيا الطبري: قوله ( هكذا أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) يحتمل أن يكون تأول فيه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) . وقال ابن العربي: واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل: رده لأنه خبر واحد، وقيل: رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع، وهو الصحيح، لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بأشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لأن سهيلا يكشف من أغمات ولا يكشف من أشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع.

قلت: وأما مذهب مالك رحمه اللّه في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء. وروي القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك.

 

قرأ جمهور الناس « شهر » بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أي ذلكم شهر، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان، أو الصوم أو الأيام. وقيل: ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله بـ « كتب » أي كتب عليكم شهر رمضان. و « رمضان » لا ينصرف لأن النون فيه زائدة. ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره « الذي أنزل في القرآن » . وقيل: خبره « فمن شهد » ، و « الذي أنزل » نعت له. وقيل: ارتفع على البدل من الصيام. فمن قال: إن الصيام في قوله « كتب عليكم الصيام » هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء. ومن قال: إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كتب عليكم شهر رمضان. وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب « شهر » بالنصب. قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان. وقال الفراء: أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال النحاس: « لا يجوز أن ينتصب » شهر رمضان « بتصوموا، لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول، وكذلك إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء، أي الزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيعرى به » .

قلت: قوله « كتب عليكم الصيام » يدل على الشهر فجاز الإغراء، وهو اختيار أبي عبيد. وقال الأخفش: انتصب على الظرف. وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم، وهو قول الكوفيين.

 

قوله تعالى: « الذي أنزل فيه القرآن » نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله عز وجل: « حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة » [ الدخان: 1 - 3 ] يعني ليلة القدر، ولقوله: « إنا أنزلناه في ليلة القدر » [ القدر: 1 ] . وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر - على ما بيناه - جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى اللّه عليه وسلم ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم أنزل به جبريل عليه السلام نجوما - يعني الآية والآيتين - في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل في قوله تعالى: « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة.

قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع « أن القرآن أنزل جملة واحدة » واللّه أعلم. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ) .

قلت: وفي هذا الحديث دلالة على ما يقول الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان هذا.

 

قوله تعالى: « القرآن » ( القرآن ) : اسم لكلام اللّه تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يسمى شرابا، والمكتوب يسمى كتابا، وعلى هذا قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى. قال الشاعر:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

أي قراءة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر ( أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا ) أي قراءة. وفي التنزيل: « وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا » [ الإسراء: 78 ] أي قراءة الفجر. ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا للمشروب شربا، كما ذكرنا، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما لكلام اللّه، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك. وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام اللّه قرآنا توسعا، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ) أراد به المصحف. وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته. وقيل: هو اسم علم لكتاب اللّه، غير مشتق كالتوراة والإنجيل، وهذا يحكى عن الشافعي. والصحيح الاشتقاق في الجميع، وسيأتي.

 

قوله تعالى: « هدى للناس » ( هدى ) في موضع نصب على الحال من القرآن، أي هاديا لهم. « وبينات » عطف عليه. و « الهدى » الإرشاد والبيان، كما تقدم أي بيانا لهم وإرشادا. والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام. « وبينات » جمع بينة، من بان الشيء يبين إذا وضح. « والفرقان » ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » قراءة العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الأمر وحقها الكسر إذا أفردت، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان: الجزم والكسر. وإنما توصل بثلاثة أحرف: بالفاء كقوله « فليصمه » « فليعبدوا » [ قريش: 3 ] . والواو كقوله: « وليوفوا » [ الحج: 29 ] . وثم كقوله: « ثم ليقضوا » [ الحج: 29 ] و « شهد » بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه، وهو يقال عام فيخصص بقوله: « فمن كان منكم مريضا أو على سفر » الآية. وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة - أربعة من الصحابة - وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: ( من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر ) والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرا فليصمه. وقال جمهور الأمة: من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار الثابتة. وقد ترجم البخاري رحمه اللّه ردا على القول الأول « باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر » حدثنا عبدالله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب عن عبيداللّه بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس. قال أبو عبدالله: والكديد ما بين عسفان وقديد.

قلت: قد يحتمل أن يحمل قول علي رضي اللّه عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الإخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية. وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك، أو دفع عدو، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك، بل الفطر فيه أفضل للتقوى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه، لحديث ابن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء اللّه واللّه أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه، لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه. ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح بـ « شهد » .

 

قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان الفجر استحب لهما الإمساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم. وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أولا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الإمام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحب إليّ أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. وقال عطاء والحسن: يصوم ما بقي ويقضي ما مضى. وقال عبدالملك بن الماجشون: يكف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه. وقال أحمد وإسحاق مثله. وقال ابن المنذر: ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم. وقال الباجي: من قال من أصحابنا أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام - وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه - أوجب عليه الإمساك في بقية يومه. ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك، وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال: لا يلزمه الإمساك في بقية يومه، وهو مقتضى قول أشهب وعبدالملك بن الماجشون، وقاله ابن القاسم.

قلت: وهو الصحيح لقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » فخاطب المؤمنين دون غيرهم، وهذا واضح، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى. وتقدم الكلام في معنى قوله: « ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » [ البقرة:184 ] والحمد لله.

 

قوله تعالى: « يريد الله بكم اليسر » قراءة جماعة « اليسر » بضم السين لغتان، وكذلك « العسر » . قال مجاهد والضحاك: « اليسر » الفطر في السفر، و « العسر » الصيام في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال تعالى: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] ، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ( دين اللّه يسر ) ، وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( يسروا ولا تعسروا ) . واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى، قولان. وقوله: « ولا يريد بكم العسر » هو بمعنى قوله « يريد اللّه بكم اليسر » فكرر تأكيدا.

 

دلت الآية على أن اللّه سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات. هذا مذهب أهل السنة، كما أنه عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام. وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات. وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها، تعالى اللّه عن قول الزائغين وإبطال المبطلين. والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه، فالعقل السليم يقضي بأن ذانك؟؟ كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الأمر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حال ثانيا، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به، ولا يخفي ما فيه من المحال، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي برده وإبطاله. وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى: « فعال لما يريد » [ هود: 107 ] وقال سبحانه: « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » [ البقرة: 185 ] وقال: « يريد الله أن يخفف عنكم » [ النساء: 28 ] ، إذا أراد أمراً فإنما يقول كن فيكون. ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والإحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شيء، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. قالوا: وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا، إذ الحياة شرط هذه الصفات، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا.

 

قوله تعالى: « ولتكملوا العدة » فيه تأويلان: أحدهما: إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. الثاني: عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين. قال جابر ابن عبدالله قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( إن الشهر يكون تسعا وعشرين ) . وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صلى اللّه عليه وسلم: ( شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة ) أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما، أخرجه أبو داود. وتأوله جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين.

 

ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح. وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن شقيق قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه: ( إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس ) وذكره أبو عمر من حديث عبدالرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كتب إلينا عمر...، فذكره. قال أبو عمر: وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبدالرزاق أيضا، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والليث والأوزاعي، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال سفيان الثوري وأبو يوسف: إن رئي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي، وإن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية. وروي مثل ذلك عن عمر، ذكره عبدالرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: كتب عمر إلى عتبة بن فرقد « إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا » ، وروي عن علي مثله. ولا يصح في هذه المسألة شيء من جهة الإسناد على علي. وروي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوري، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب، وبه كان يفتي بقرطبة. واختلف عن عمر بن عبدالعزيز في هذه المسألة، قال أبو عمر: والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع، والمصير إلى المتصل أولى. وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال: حديث الأعمش مجمل لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده، وحديث إبراهيم مفسر، فهو أولى أن يقال به.

قلت: قد روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت: أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صائما صبح ثلاثين يوما، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى. أخرجه الدارقطني من حديث الواقدي وقال: قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال: سألت الزهري عن هلال شوال إذا رئي باكرا، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رئي هلال شوال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجيء، قال أبو عبدالله: وهذا مجمع عليه.

 

روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم: قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم لأهلا الهلال أمس عشية، ( فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم ) قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ثابت. قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحكي عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فمرة قال بقول مالك، واختاره المزني وقال: إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى ألا تصلى فيه. وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى. وقال البويطي: لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث. قال أبو عمر: لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها. وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: يخرجون من الغد، وقاله أبو يوسف في الإملاء. وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى. قال أبو يوسف: وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث. قال أبو عمر: لأن الأضحى أيام عيد وهي صلاة عيد، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد، فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره، لأنها ليست بفريضة فتقضى. وقال الليث بن سعد: يخرجون في الفطر والأضحى من الغد.

قلت: والقول بالخروج إن شاء اللّه أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس ) . صححه أبو محمد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك. وروي عن عمر أنه فعله.

قلت: وقد قال علماؤنا: من ضاق عليه الوقت وصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر. قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز.

قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الأصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من السنة. روى النسائي قال: أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. في رواية: ويخرجوا لمصلاهم من الغد.

 

قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو - في بعض ما روي عنه - والحسن وقتادة والأعرج « ولتكملوا العدة » بالتشديد. والباقون بالتخفيف. واختار الكسائي التخفيف، كقوله عز وجل: « اليوم أكملت لكم دينكم » [ المائدة: 3 ] . قال النحاس: وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال عز وجل: « فمهل الكافرين أمهلهم رويدا » [ الطارق: 17 ] . ولا يجوز « ولتكلموا » بإسكان اللام، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير: ويريد لأن تكملوا، ولا يجوز حذف أن والكسرة، هذا قول البصريين، ونحوه قول كثير أبو صخر:

أريد لأنسى ذكرها

أي لأن أنسى، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. وقيل: هي متعلقة بفعل مضمر بعد، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة. وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء. قال النحاس: وهذا قول حسن، ومثله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » [ الأنعام: 75 ] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك. وقيل: الواو مقحمة. وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري: هو محمول على المعنى، والتقدير: فعل اللّه ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة، قال: ومثله ما أنشده سيبويه.

بادت وغير آيهن مع البلى إلا رواكد جمرهن هباء

ومشجج أما سواء قذاله فبدا وغيب ساره المعزاء

شاده يشيده شيدا جصصه، لأن معناه بادت إلا رواكد بها رواكد، فكأنه قال: وبها مشجج أو ثم مشجج.

 

قوله تعالى: « ولتكبروا الله » عطف عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. واختلف الناس في حده، فقال الشافعي: روي عن سعيد ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره. وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة. وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. زيد بن أسلم: يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد. وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام. وروى ابن القاسم وعلي بن زياد: أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام. والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر، والليل عليه قوله تعالى: « ولتكبروا اللّه » ولأن هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن الكبير في الخروج إليه كالأضحى. وروى الدارقطني عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى. وروي عن ابن عمر: ( أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ) وروي عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي ثم يكبر حتى يأتي الإمام. وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال: وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس. وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال: أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الإمام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج. وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى ] و « الكوثر » [ الكوثر ] إن شاء اللّه تعالى.

 

ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر، ثلاثا، وروي عن جابر بن عبدالله. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير. ومنهم من يقول: اللّه أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه، واللّه أكبر ولله الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر: وكان مالك لا يحد فيه حدا. وقال أحمد: هو واسع. قال ابن العربي: « واختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل » .

 

قوله تعالى: « على ما هداكم » قيل: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب. وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام.

وتقدم معنى « ولعلكم تشكرون »

 

الآية: 186 ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )

 

قوله تعالى: « وإذا سألك » المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي اللّه عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: « إذا سألك عبادي عني فإني قريب » . وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت.

قوله تعالى: « فإني قريب » أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام.

 

قوله تعالى: « أجيب دعوة الداعي إذا دعان » أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم ) فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: « إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » [ غافر: 60 ] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان اللّه إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم وكان اللّه إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان اللّه إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) . وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الأمة في « ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: « وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات » [ البقرة: 25 ] فههنا شرط، وقوله: « وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق » [ يونس: 2 ] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: « فادعوا الله مخلصين له الدين » [ غافر: 14 ] فههنا شرط، وقوله: « ادعوني أستجب لكم » ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك.

فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين « أجيب » « أستجب » لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: « ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين » [ الأعراف: 55 ] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، يأتي بيانههنا وفي « الأعراف » إن شاء اللّه تعالى. وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة، على ما يأتي بيانه في « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى. وقيل: إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء « ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له » [ الأحقاف: 5 ] الآية. وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة ) . وأوحى اللّه تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن اللّه يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها ) . قالوا: إذن نكثر؟ قال: ( لله أكثر ) . خرجه أبو عمر بن عبدالبر، وصححه أبو محمد عبدالحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول اللّه تعالى « ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] فهذا كله من الإجابة. وقال ابن عباس: كل عبد دعا استجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له.

قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) وزاد مسلم: ( ما لم يستعجل ) . رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل: يا رسول اللّه، ما الاستعجال؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ) . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عيه وسلم قال: ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي ) . قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم: يحتمل قوله ( يستجاب لأحدكم ) الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة، والإخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب لي، لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط.

قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك ) وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا اللّه، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبدالله التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: شرائطه أربع: أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن بن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:

ينادي ربه باللحن ليث كذاك إذا دعاه لا يجيب

وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم اللّه فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال علي رضي اللّه عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن اللّه أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لأحد منهم، ما دام لأحد من خلقي مظلمة. يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: « إن شئت » نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له ) . وفي الموطأ: ( اللهم اغفر لي أن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ) . قال علماؤنا: قوله ( فليعزم المسألة ) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة اللّه، لأنه يدعو كريما. قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن اللّه قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل اللّه. كل هذا جاءت به الآثار، ويأتي بيانها في مواضعها. وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت نعم. قالت: فادع اللّه فإن الدعاء مستجاب عند ذلك. وقال جابر بن عبدالله: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة.

 

قوله تعالى: « فليستجيبوا لي » قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى اللّه. وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إليّ فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي الطاعة والعمل ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه والسين زائدة واللام لام الأمر. وكذا « وليؤمنوا » وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل.

 

قوله تعالى: « وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون » اللام لام الأمر وجزمت لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير، فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل. والرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد بالكسر يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده اللّه. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو الأقصد. وتقول: هو لرشدة. خلاف قولك: لزنية وأم راشد كنية للفأرة وبنو رشدان: بطن من العرب، عن الجوهري. وقال الهروي: الرُّشد والرَّشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: « لعلهم يرشدون » .

 

الآية: 187 ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون )

 

قوله تعالى: « أحل لكم » لفظ « أحل » يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسحن؟؟ لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية، وفيها: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » . وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » . وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللّه تعالى: « علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم » يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى اللّه فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي اللّه تعالى عنه رجع من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أعتذر إلى اللّه وإليك، فإن نفسي زينت؟؟ لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: ( لم تكن حقيقا يا عمر ) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت: « علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن » الآية.

 

قوله تعالى: « ليلة الصيام الرفث » ( ليلة ) نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت.

 

قوله تعالى: « الرفث إلى نسائكم » والرفث: كناية عن الجماع لأن اللّه عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي. وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقال الأزهري أيضا. وقال ابن عرفة: الرفث ههنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والإعراب به. قال الشاعر:

ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار

وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر:

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وتعدى « الرفث » بإلى في قوله تعالى جده: « الرفث إلى نسائكم » . وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله: « وقد أفضى بعضكم إلى بعض » [ النساء: 21 ] . ومن هذا المعنى: « وإذا خلوا إلى شياطينهم » [ البقرة: 14 ] كما تقدم. وقوله: « يوم يحمى عليها » [ التوبة: 35 ] أي يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، وسيأتي، ومنه قوله: « فليحذر الذين يخالفون عن أمره، » [ النور: 63 ] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول: خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى: « وكان بالمؤمنين رحيما » [ الأحزاب: 43 ] حمل على معنى رؤوف في نحو « بالمؤمنين رؤوف رحيم » [ التوبة: 128 ] ، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:

حملت به في ليلة مزؤودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل

عدى « حملت » بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: « حملته أمه كرها ووضعته كرها » [ الأحقاف: 15 ] ، ولكنه قال: حملت به، لأنه في معنى حبلت به.

 

قوله تعالى: « هن لباس لكم » ابتداء وخبر، وشددت النون من « هن » لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. « وأنتم لباس لهن » أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب. وقال النابغة الجعدي:

إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا

وقال أيضا:

لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا

وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل: لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب:

ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري

قال أبو عبيد: أي نسائي. وقيل نفسي. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض.

 

قوله تعالى: « علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم » يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: « تقتلون أنفسكم » [ البقرة: 85 ] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، كما تقدم. وقوله: « فتاب عليكم » يحتمل معنيين: أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر - التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: « علم أن لن تحصوه فتاب عليكم » [ المزمل: 20 ] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ: « فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله » [ النساء: 92 ] يعني تخفيفا، لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى: « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة » [ التوبة: 117 ] وإن لم يكن من النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يوجب التوبة منه. وقوله: « وعفا عنكم » يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني تسهيله وتوسعته. فمعنى « علم اللّه » أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة « فتاب عليكم » بعد ما وقع، أي خفف عنكم « وعفا » أي سهل. و « تختانون » من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي: « وقال علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي اللّه عنه فجعلها اللّه تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الأمة فرضي اللّه عنه وأرضاه » .

 

قوله تعالى: « فالآن باشروهن » كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي: وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي اللّه عنه لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالآن كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله.

 

قوله تعالى: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله: « فالآن باشروهن » . وقال ابن عباس: ما كتب اللّه لنا هو القرآن. الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر. وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية: وهو قول حسن. وقيل: « ابتغوا ما كتب اللّه لكم » من الإماء والزوجات. وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة « واتبعوا » من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح « ابتغوا » من الابتغاء.

 

قوله تعالى: « وكلوا واشربوا » هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم.

قوله تعالى: « حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » « حتى » غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ) . وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضا. وفي حديث ابن مسعود: ( إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ) . وروى الدارقطني عن عبدالرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام ) هذا مرسل وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال. وقال مسروق: لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت. وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي اللّه قال: ( كلوا وأشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر ) . قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي. وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين. وتفسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله: ( إنما هو سواد الليل وبياض النهار ) الفيصل في ذلك، وقوله « أياما معدودات » [ البقرة: 184 ] . وروى الدارقطني عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له ) . تفرد به عبدالله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد، وكلهم ثقات. وروي عن حفصة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) . رفعه عبدالله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: نزلت « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود » ولم ينزل « من الفجر » وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل اللّه بعد « من الفجر » فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول اللّه، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال: ( إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار ) . أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال الشاعر:

الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسود جنح الليل مكتوم

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الإيادي:

فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر:

قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره

وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب:

ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال:

إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين

ويقولون في الأمر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر:

فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر

 

قوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » جعل اللّه جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا، فإن كان الأول فقال مالك: من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ( أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ) الحديث. وبهذا قال الشعبي. وقال الشافعي وغيره: إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول اللّه قال: ( وما أهلكك ) قال: وقعت على امرأتي في رمضان... ) الحديث. وفيه ذكر الكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا: هي واحدة، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان، لأن مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر.

 

واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي: عليها مثل ما على الزوج. وقال الشافعي: ليس عليها إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي. وقال مالك: عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه.

واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شيء، لا قضاء ولا كفارة. وقال مالك والليث والأوزاعي: عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال: مثل هذا لا ينسى. وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبدالملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر: لا شيء عليه.

قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطّره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقيل في المذهب: عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر: وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك: ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه.

قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه اللّه تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن اللّه أطعمه وسقاه ) . أخرجه الدارقطني. وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبدالله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان، قال: ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبدالله مالك: وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك. وقال ابن المنذر: لا شيء عليه، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا: ( يتم صومه ) وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل.

قلت: وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - واللّه أعلم - كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا: المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم: ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه ) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا قضاء عليه ) .

قلت: هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ) أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال، والحمد لله ذي الجلال والكمال.

 

لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر، لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي اللّه عنهما كان ينهي عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا - واللّه أعلم - خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبدالله بن مسعود وعروة بن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال: ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر: ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم. وقال أحمد: من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء. وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد: واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى: الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب: أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الأمر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي: واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة: مرة ينزل، ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك.

قلت: ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى « فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فأنزل فقد قال الشيخ أبو الحسن: عليه القضاء والكفارة. قال الباجي: وهو الصحيح عندي، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، واللّه أعلم » . وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى: فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباجي: وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة.

 

والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: « وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح » .

قلت: أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور، وذلك قول أبي هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له، أخرجه الموطأ وغيره. وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع: واللّه ما أنا قلته، محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه قاله. وقد اختلف في رجوعه عنها، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له، حكاه ابن المنذر، وروي عن الحسن بن صالح. وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير. وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض.

قلت: فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا، والصحيح منها مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي اللّه عنها وأم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، أخرجهما البخاري ومسلم. وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى: « فالآن باشروهن » الآية، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر. وقد قال الشافعي: ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه. وقال المزني: عليه القضاء لأنه من تمام الجماع، والأول اصح لما ذكرنا، وهو قول علمائنا.

 

واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال عبدالملك: إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبدالملك. وقال الأوزاعي: تقضي لأنها فرطت في الاغتسال. وذكر ابن الجلاب عن عبدالملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر، وقاله مالك، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض. وقال محمد بن مسلمة في هذه: تصوم وتقضي، مثل قول الأوزاعي. وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء.

وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها.

 

روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: « أفطر الحاجم والمحجوم » . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج، وبه قال أحمد وإسحاق، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج. وقال مالك والشافعي والثوري: لا قضاء عليه، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير. وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال لا، إلا من أجل الضعف. وقال أبو عمر: حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( احتجم صائما محرما ) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى اللّه عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) . واحتجم هو صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم، فإذا كانت حجته صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة، لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان، لأنه توفي في ربيع الأول، صلى اللّه عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف. و « إلى » غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها داخل في حكمه، كقولك: اشتريت الفدان إلى حاشيته، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك: اشتريت الفدان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه. فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار.

 

ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء. وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه، قال: ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقيل: عليه القضاء والكفارة. وقال سحنون: إنما يكفر من بيت الفطر، فأما من نواه في نهاره فلا يضره، وإنما يقضي استحسانا. قلت: هذا حسن.

 

قوله تعالى: « إلى الليل » إذا تبين الليل سن الفطر شرعا، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي: وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه، واحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا جاء الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) . وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال: لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى، لأنه مقتضى الكتاب والسنة.

فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء. وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت: أفطرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء، قال: لا بد من قضاء؟. قال عمر في الموطأ في هذا: الخطب يسير، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال: لا قضاء عليه، وبه قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول اللّه تعالى: « إلى الليل » يرد هذا القول، واللّه أعلم.

 

فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء، قال مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر، وبه قال ابن المنذر. وقال الكيا الطبري: وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه.

 

قوله تعالى: « إلى الليل » فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه، فمن واصل عبدالله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال: وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ) . خرجه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس: ( لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) . خرجه مسلم أيضا. وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( إياكم والوصال إياكم والوصال ) تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) . خرجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ) قالوا: فإنك تواصل يا رسول اللّه؟ قال: ( لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم وساق يسقيني ) . قالوا: وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال: إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال: ( لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) . فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء اللّه وألزموا أنفسهم أعلى المقامات واللّه أعلم.

قلت: ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا: إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة: أنه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله: ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) . وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أمر به، فكان تركه أولى. وباللّه التوفيق.

 

ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود عن أنس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: إسناد صحيح. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أفطر قال: ( لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ) . وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا أفطر: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه ) . خرجه أبو داود أيضا. وقال الدارقطني: تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن. وروى ابن ماجة عن عبدالله بن الزبير قال: أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال: ( أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ) . وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ) . وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد ) . قال ابن أبي مليكة: سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه ) .

 

ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر ) هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( جعل اللّه الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة ) . رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الأيام، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان. وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف.

 

قوله تعالى: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري: عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه، قال المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم.

 

قوله تعالى: « وأنتم عاكفون » جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز:

عكف النبيط يلعبون الفنزجا

وقال الشاعر:

وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.

 

أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول اللّه تعالى: « في المساجد » واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي، وهو أحد قولي مالك. وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما. وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر. وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح ) . قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة.

 

وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة. وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه، كما قال سحنون. قال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما. قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل في اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر: لا يصح إلا بصوم. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام، لقول اللّه تعالى في كتابه: « وكلوا واشربوا » إلى قوله: « في المساجد » وقالا: فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. واحتجوا بما رواه عبدالله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: ( اعتكف وصم ) . أخرجه أبو داود. وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لا اعتكاف إلا بصيام ) . قال الدارقطني: تفرد به سويد بن عبدالعزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقالوا: ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها.

 

وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه، لما روى الأئمة عن عائشة قالت: ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي: يعود المريض ويشهد الجنائز، وروي عن علي وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب: لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع: يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة. وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة وقال مرة: أرجو ألا يكون به بأس. وقال الأوزاعي كما قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر: لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له.

 

واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة: يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع. وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه. وقال عبدالملك: يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه.

قلت: وهو صحيح لقوله تعالى: « وأنتم عاكفون في المساجد » فعم. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان.

المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك.

 

روى مسلم عن عائشة قالت: ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه... ) الحديث. واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين. وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر. وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبدالملك، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم. وقال الشافعي: إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله في الشهر. وقال الليث في أحد قوليه وزفر: يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء. وروي مثل ذلك عن أبي يوسف، وبه قال القاضي عبدالوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل.

قلت: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته.

 

استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. وقال سحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه. وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات، فيها لممن اقتصر عليها كفاية، واللّه الموفق للهداية.

 

قوله تعالى: « تلك حدود الله » أي هذه الأحكام حدود اللّه فلا تخالفوها، « فتلك » إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي. والحدود: الحواجز. والحد: المنع، ومنه سمي الحديد حديدا، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسجان حدادا، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود اللّه لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة، لأنها تمتنع من الزينة.

 

قوله تعالى: « كذلك يبين الله آياته للناس » أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها. والآيات: العلامات الهادية إلى الحق. و « لعلهم » ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره اللّه للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن أن اللّه يضل من يشاء.

 

الآية: 188 ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم » قيل: إنه نزل في عبدان بن أشوع الحضرمي، ادعى مالا على امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت هذه الآية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه.

 

الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة « النساء » . وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: « تقتلون أنفسكم » [ البقرة: 85 ] . وقال قوم: المراد بالآية « لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » [ النساء: 29 ] أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.

 

من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها ) . وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج، إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء، لأن قضاء القاضي قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: ( فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه... ) الحديث.

 

وهذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: « لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » [ النساء: 29 ] . فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل.

 

قوله تعالى: « بالباطل » الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل. والأباطيل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللّهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى: « لا يأتيه الباطل » [ فصلت: 42 ] قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقص. وقوله: « ويمح الله الباطل » [ الشورى: 24 ] يعني الشرك. والبطلة: السحرة.

 

قوله تعالى: « وتدلوا بها إلى الحكام » الآية. قيل: يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له الظاهر حجة. وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلي. والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: « ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق » [ البقرة: 42 ] . وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة.

قلت: ويقوي هذا قوله: « وتدلوا بها » تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفي مصحف أبي « ولا تدلوا » بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد جزم « تدلوا » في قراءة الجماعة. وقيل: « تدلوا » في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه « أن » مضمرة. والهاء في قوله « بها » ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر، فقوي القول الثاني لذكر الأموال، واللّه أعلم. في الصحاح. « والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رُشى ورِشى، وقد رشاه يرشوه. وارتشى: أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه » .

قلت: فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.

 

قوله تعالى: « لتأكلوا » نصب بلام كي. « فريقا » أي قطعة وجزءا، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: لتأكلوا أموال فريق من الناس. « بالإثم » معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله. « وأنتم تعلمون » أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.

 

اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجبائي حيث قال: إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال: يفسق بأخذ خمسة دراهم. وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال: يفسق بأخذ درهم فما فوق، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الأمة، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) الحديث، متفق على صحته.

 

الآية: 189 ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون )

 

قوله تعالى: « يسألونك عن الأهلة » هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال معاذ: يا رسول اللّه، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.

قوله تعالى: « عن الأهلة » الأهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه، كما قال:

أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفر

وقيل: سمي شهرا لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله. وقيل: لثلاث من أوله. وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير:

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري: « وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه » : قال أبو نصر عبدالرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا.

 

قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي.

 

قوله تعالى: « قل هي مواقيت للناس والحج » تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: « وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب » [ الإسراء: 12 ] على ما يأتي. وقوله: « هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب » [ يونس: 5 ] . وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.

 

وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير توقيت. وهذا لا دليل فيه، لأنه عليه السلام قال لليهود: ( أقركم فيها ما أقركم اللّه ) . وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الأمة.

 

قوله تعالى: « مواقيت » المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت. وقيل: الميقات منتهى الوقت. و « مواقيت » لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت « قوارير » في قوله: « قواريرا » [ الإنسان:16 ] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم.

 

قوله تعالى: « والحج » بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: « حج البيت » [ آل عمران: 97 ] في « آل عمران » . سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.

أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل اللّه قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء اللّه تعالى.

 

استدل مالك رحمه اللّه وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية، لأن اللّه تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي، لقوله تعالى: « الحج أشهر معلومات » [ البقرة: 197 ] على ما يأتي. وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله « هي مواقيت للناس والحج » يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج، ولو أراد التبعيض لقال: بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول: إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل، وليس كذلك في مسألتنا، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو، فبطل ما قالوه.

 

لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز، لأن اللّه تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح.

 

إذا رئي الهلال كبيرا فقال علماؤنا: لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إن اللّه مده للرؤية ) فهو لليلة رأيتموه.

 

قوله تعالى: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعا. وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس. وروى الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لم دخلت وأنت قد أحرمت ) . فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( إني أحمس « أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية، وقال ابن عباس وعطاء وقتادة، وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري.»)

والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج:

وكم قطعنا من قفاف حمس

أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها، فقيل ما ذكرنا، وهو الصحيح. وقيل: إنه النسيء وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وسيأتي بيان النسيء في سورة [ براءة ] إن شاء الله تعالى. وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر. وسمي النساء بيوتا للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام. وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه.

قلت: القول الأول أصح هذه الأقوال، لما رواه البراء قال: كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » وهذا نص في البيوت حقيقة. خرجه البخاري ومسلم. وأما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية، فتأمله. وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه.

قلت: فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل، فلا معنى للإعادة.

 

في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.

 

الآية: 190 ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )

 

قوله تعالى: « وقاتلوا » هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: « ادفع بالتي هي أحسن » [ فصلت: 34 ] وقوله: « فاعف عنهم واصفح » [ المائدة: 13 ] وقوله: « واهجرهم هجرا جميلا » [ المزمل: 10 ] وقوله: « لست عليهم بمسيطر » [ الغاشية: 22 ] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا » [ الحج: 39 ] . والأول أكثر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع: نسخها « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] فأمر بالقتال لجميع الكفار. وقال ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد: هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة. وأما النظر فإن « فاعل » لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست:

الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » ، « واقتلوهم حيث ثقفتموهم » [ البقرة: 191 ] . وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.

الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل.

الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: « وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له » فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: « والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: » فذرهم وما حبسوا أنفسهم له « . »

الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.

الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية.

السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع ( الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ) . وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبدالعزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر.

 

روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة « براءة » بقوله: « قاتلوا الذين يلونكم من الكفار » [ التوبة: 123 ] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) . وقيل: غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة.

 

قوله تعالى: « ولا تعتدوا » قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: « لا تعتدوا » أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم.

 

الآية: 191 ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين )

 

قوله تعالى: « ثقفتموهم » يقال: ثقِف يثقِف ثقْفا وثقَفا، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. وفي هذا دليل على قتل الأسير، وسيأتي بيان هذا في « الأنفال » إن شاء الله تعالى. « وأخرجوهم من حيث أخرجوكم » أي مكة. قال الطبري: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش.

 

قوله تعالى: « والفتنة أشد من القتل » أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة. وقال غيره: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به. وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبدالله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبدالله بن جحش، على ما يأتي بيانه، قاله الطبري وغيره.

 

قوله تعالى: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » الآية. للعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة، والثاني: أنها محكمة. قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه قال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وفي الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ) . وقال قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: « فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: « واقتلوهم حيث ثقفتموهم » ثم نسخ هذا قوله: « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » . فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم. ومما احتجوا به أن « براءة » نزلت بعد سورة « البقرة » بسنتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر، فقيل: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: ( اقتلوه ) .

وقال ابن خويز منداد: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام » منسوخة، لأن الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال: لأقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء. وإنما قيل فيها: هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: ( احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا ) حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم. ألا ترى أنه قال في تعظيمها: ( ولا يلتقط لقطتها إلا منشد ) واللقطة بها وبغيرها سواء. ويجوز أن تكون منسوخة بقوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » [ البقرة: 193 ] . قال ابن العربي: حضرت في بيت المقدس - طهره الله - بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل سلبه الشطار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل، فقال قوله تعالى: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » قرئ « ولا تقتلوهم، ولا تقاتلوهم » فإن قرئ « ولا تقتلوهم » فالمسألة نص، وإن قرئ « ولا تقاتلوهم » فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص. فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام. قال ابن العربي: فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه. وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن.

قلت: وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل له فيها القتال. فثبت وصح أن القول الأول أصح، والله أعلم.

 

قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع. ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح. على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في « الحجرات » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 192 ( فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « فإن انتهوا » أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى: « قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » [ الأنفال: 38 ] . وسيأتي.

 

الآية: 193 ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )

 

قوله تعالى: « وقاتلوهم » أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: « فإن قاتلوكم » والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله تعالى: « ويكون الدين لله » ، وقال عليه السلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) . فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: « حتى لا تكون فتنة » أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين. وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها. وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فإن انتهوا » أي عن الكفر، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في « براءة » وإلا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم. وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله: « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.

 

الآية: 194 ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين )

 

قوله تعالى: « الشهر الحرام » قد تقدم اشتقاق الشهر. وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا: نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية، ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية ) في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه، فنزلت هذه الآية. وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام؟ قال: ( نعم ) . فأرادوا قتاله، فنزلت الآية. المعنى: إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم، فأباح الله بالآية مدافعتهم، والقول الأول أشهر وعليه الأكثر.

 

قوله تعالى: « والحرمات قصاص » الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة. وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام. والحرمة: ما منعت من انتهاكه. والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع. فـ « الحرمات قصاص » على هذا متصل بما قبله ومتعلق. به. وقيل: هو مقطوع منه، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفي له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام. والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » [ النساء: 58 ] . وهو قول عطاء الخراساني. قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا.

قلت: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) وأخذ الحق من الظالم نصر له. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف ) . فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح، قوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » قاطع في موضع الخلاف.

 

واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم. وللشافعي قولان، أصحهما الأخذ، قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله. والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس. ومنهم من قال: يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك. وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم.

وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقال الشافعي: لا، بل يأخذ ما له عليه. وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس، وهو القياس، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح، لأن قول القائل:

فقالت له العينان سمعا وطاعة

وكذلك:

امتلأ الحوض وقال قطني

وكذلك:

شكا إلي جملي طول السرى

ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق. وحد الكذب: إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به. ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال الآخر:

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

ومن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج

يريد: أكافئ الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج.

 

واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء: عليه في ذلك المثل، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » وقوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] .

قالوا: وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال: ( إناء بإناء وطعام بطعام ) خرجه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة. قال ابن المثنى: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: ( غارت أمكم ) . زاد ابن المثنى ( كلوا ) فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها. ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال: ( كلوا ) وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته. حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري - قال أبو داود: وهو أفلت بن خليفة - عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضى الله عنها: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به، فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ قال: ( إناء مثل إناء وطعام مثل طعام ) . قال مالك وأصحابه: عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل، بدليل تضمين النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه، ولم يضمنه مثل نصف عبده. ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات، لقوله عليه السلام: ( طعام بطعام ) .

 

لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يعذب بالنار، إلا الله ) . والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك، لعموم الآية.

 

وأما القَوَد بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف، رواه عنه ابن وهب، وقاله ابن القاسم. وفي الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي. وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب، وقاله عبدالملك. قال ابن العربي: « والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف » . واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه بقصد التعذيب فعل به ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة الرعاء. وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف. وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة والثعبي والنخعي. واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا قود إلا بحديدة ) ، وبالنهي عن المُثْلة، وقوله: ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك! أفلان، أفلان؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بالحجارة. وفي رواية: فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] . وقوله: « فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » . وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى عن طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل على ذلك حديث أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة. وقوله: ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) صحيح إذا لم يحرق، فإن حرق حرق، يدل عليه عموم القرآن. قال الشافعي: إن طرحه في النار عمدا طرحه في النار حتى يموت، وذكره الوقار في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن عبدالحكم. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات، أو ألقاه من جبل أو سطح فمات، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفا بذلك - قد خنق غير واحد - فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله.

قلت: وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة: إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إلا إذا قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان على عاقلته الدية. وهذا منه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس، فليس عنه مناص.

 

واختلفوا فيمن حبس رجلا وقتله آخر، فقال عطاء: يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت. وقال مالك: إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعا، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس. واختاره ابن المنذر.

قلت: قول عطاء صحيح، وهو مقتضى التنزيل. وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه ) . رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلا.

 

قوله تعالى: « فمن اعتدى » الاعتداء هو التجاوز، قال الله تعالى: « ومن يتعد حدود الله » [ البقرة: 229 ] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور. ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . أما عرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه. وقال ابن عباس: نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به، أو يصبر أو يعفو، ثم نسخ ذلك بقوله: « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] . وقيل: نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان. ولا يحل لأحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان.

 

الآية: 195 ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )

 

روى البخاري عن حذيفة: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: « وأنفقوا في سبيل الله » الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.

قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: « كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد عليه ما قلنا: » وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة « . فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح » . وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي، ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم. قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شيء. وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: « وأنفقوا في سبيل الله » يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل. ومعنى ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا. وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقاله عبيدة السلماني. وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. « سبيل الله » هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في « بأيديكم » زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. ونظيره: « ألم يعلم بأن الله يرى » [ العلق: 14 ] . وقال المبرد: « بأيديكم » أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: « فبما كسبت أيديكم » ، [ الشورى: 30 ] ، « بما قدمت يداك » [ الحج: 10 ] . وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبدالمطلب: [ والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز ] وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: « لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » [ البقرة: 267 ] وقال الطبري: قوله « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.

 

اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » [ البقرة: 207 ] . وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة؟؟ وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.

قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: ( فلك الجنة ) . فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: ( من يردهم عنا وله الجنة ) أو ( هو رفيقي في الجنة ) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: ( من يردهم عنا وله الجنة ) أو ( هو رفيقي في الجنة ) . فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أنصفنا أصحابنا ) . هكذا الرواية ( أنصفنا ) بسكون الفاء ( أصحابنا ) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم. وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » [ التوبة: 111 ] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: « وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور » [ لقمان: 17 ] . وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله ) . وسيأتي القول في هذا في « آل عمران » إن شاء تعالى.

 

قوله تعالى: « وأحسنوا إن الله يحب المحسنين » أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقيل: « أحسنوا » في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.

 

الآية: 196 ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب )

*4*قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }

 

اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: « فأتمهن » [ البقرة: 124 ] وقوله: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » [ البقرة: 187 ] أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي. ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله « لله » . وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر.

قلت: أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبدالله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الأسود وعلقمة وعبدالرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) في رواية ( غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) . وخرجه أبو داود وقال: « يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة » . ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات. وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة. وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات. وقال أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت وعينها، فصارت بيانا لمجمل الحج، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته، وما فعله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل إن شاء الله. وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم. واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته، وعرفوا مغزاه ومراده، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته.

 

روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق. وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق، وهذا هو الصحيح. ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته افتتحت، فغفلة منه، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لأهل الشام الجحفة. والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير. قال أبو عمر: كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته، والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع.

 

أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص.

 

في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي بن معبد: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي، وإني أهللت بهما جميعا. فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: « وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي » . وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس. وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع. قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا. قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا. وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبدالله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة. وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت ) . وكان مالك يقوله: العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها. وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قاله ابن مسعود وجابر بن عبدالله. روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو؟ قال: ( نعم ) فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: ( لا وأن تعتمر خير لك ) . رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال « وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » [ المزمل: 20 ] . وابتدأ بإيجاب الحج فقال: « ولله على الناس حج البيت » [ آل عمران: 97 ] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.

 

قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في « العمرة » ، وهي تدل على عدم الوجوب. وقرأ الجماعة « العمرة » بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب. وفي مصحف ابن مسعود « وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله » وروي عنه « وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » . وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي.

 

لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة ـ والقلم جار له وعليه ـ أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى: { وأتموا } ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته: ( لبيك بحجة وعمرة معا ) على ما يأتي. وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال: ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) . قال: ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية، لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت، بخلاف الصلاة.

 

واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك: لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة: جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام. واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة. وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد. قال: ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام، ولم يكن عليهما دم، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي، وليس ذلك بالبين عندي. واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج: ( بم أهللت ) قال قلت: لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإني أهللت بالحج وسقت الهدي ) . قال الشافعي: ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران. وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد يعتق، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات. وقال أبو حنيفة: يلزم العبد الدم. وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما. فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي، ولا شيء عليهما في ترك الميقات.

*4*قوله تعالى: { فإن أحصرتم }

 

قال ابن العربي: هذه آية مشكلة، عُضْلة من العُضل.

قلت: لا إشكال فيها، ونحن نبينها غاية البيان فنقول: الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة، فـ « جملة » أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان. واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين: الأول: قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدو. وقيل: العدو خاصة، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي. قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا. ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن « أحصر » عرض للمرض، و « حصر » نزل به العدو.

قلت: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى. وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، على ما يأتي. وقال أبو عبيدة والكسائي: « أحصر » بالمرض، و « حصر » بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس، فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة: يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر.

قلت: وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه « أحصر » فيهما، فتأمله. وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو. قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما.

قلت: ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه. قال الخليل: حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه، هكذا قال، جعل الأول ثلاثيا من حصرت، والثاني في المرض رباعيا. وعلى هذا خرج قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به، وحاصروه محاصرة وحصارا. قال الأخفش: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته. قال: وأحصرني بولي، وأحصرني مرضي، أي جعلني أحصر نفسي. قال أبو عمرو الشيباني: حصرني الشيء وأحصرني، أي حبسني.

قلت: فالأكثر من أهل اللغة على أن « حصر » في العدو، و « أحصر » في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » [ البقرة: 273 ] . وقال ابن ميادة:

وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول

وقال الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر، يقال: حصر حصرا، وفي الأول أحصر إحصارا، فدل على ما ذكرناه. وأصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير: الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره.

 

ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك. واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا، قالوا: وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض، قال صلى الله عليه وسلم: ( الزكام أمان من الجذام ) ، وقال: ( من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص ) . الشوص: وجع السن. واللوص: وجع الأذن. والعلوص: وجع البطن. أخرجه ابن ماجة في سننه. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه، لا بدلالة الظاهر. وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو، لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة. قال ابن عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه. ودل على هذا قوله تعالى: « فإذا أمنتم » . ولم يقل: برأتم، والله أعلم.

 

جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه. وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة: دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله، وخالفه صاحباه فقالا: يتوقف على يوم النحر، وإن نحر قبله لم يجزه. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان.

 

الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي، وهو قول الشافعي، وبه قال أشهب. وكان ابن القاسم يقول: ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه، وهو قول مالك. ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر، لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي. واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به، وهو مقتضى قوله: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » . وقد قيل: يحل ويهدي إذا قدر عليه، والقولان للشافعي، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه، قولان.

 

قال عطاء وغيره: المحصر بمرض كالمحصر بعدو. وقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق. وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال. قال مالك: وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق. قال: وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه، فإذا برىء من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجته أو عمرته. وهذا كله قول الشافعي، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد: إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق. وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه. ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم: فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل، فإذا كان قابل حج وأهدى. وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها: لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا. واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالله بن بكير المالكي فقال: قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب، لقول الله عز وجل: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » . قال: والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه، فإذا نحر فقد حل من إحرامه. كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق، لقوله تعالى: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » الآية.

 

قال مالك وأصحابه: لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم. والاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني من الأرض. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور: لا بأس أن يشترط وله شرطه، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أردت الحج، أأشترط؟ قال: ( نعم ) . قالت: فكيف أقول؟ قال: ( قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني ) . أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. قال الشافعي: لو ثبت حديث ضباعة لم أعده، وكان محله حيث حبسه الله.

قلت: قد صححه غير واحد، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر، قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير: ( حجي واشترطي ) . وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال: جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أن أهل؟ قال: ( أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني ) . قال: فأدركت. وهذا إسناد صحيح.

 

واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر، فقال مالك والشافعي: من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا. وقال أبو حنيفة: المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة، وهو قول الطبري. قال أصحاب الرأي: إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة، لأن إحرامه بالحج صار عمرة. وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين. وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة. وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو، على ما تقدم. واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. واستدلوا بقوله عليه السلام: ( من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى ) . رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى ) . قالوا: فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، قالوا: ولذلك قيل لها عمرة القضاء. واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه. قالوا: وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل، فسميت بذلك عمرة القضية.

 

لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه. وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر، ولكن اختلفوا فيما به يحل، فقال مالك وغيره: يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره. ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية وفعل ما يتحلل به، على ما تقدم من مذهبه.

 

لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة. وقال ابن سيرين: لا إحصار في العمرة، لأنها غير مؤقتة. وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر، وفي ذلك نزلت الآية. وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية.

 

الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموضعه، لقوله تعالى: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام » كما تقدم. ولو سأل الكافر جعلا لم يجز، لأن ذلك وهن في الإسلام. فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإن الدين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما، ولأن الحج مما ينفق فيه المال، فيعد هذا من النفقة.

 

والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته. وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب: لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وجه قول ابن القاسم: أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب، فجاز له أن يحل فيه، أصل ذلك يوم عرفة. ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به فكان ذلك عليه.

 

قوله تعالى: « فما استيسر من الهدي » « ما » في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا. و « ما استيسر » عند جمهور أهل العلم شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: « ما استيسر » جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما. وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء، لقوله: « فما استيسر من الهدي » ولم يذكر قضاء. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « من الهدي » الهَدْي والهَدِيّ لغتان. وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها. والعرب تقول: كم هدي بني فلان، أي كم إبلهم. وقال أبو بكر: سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله، فسميت بما يلحق بعضها، كما قال تعالى: « فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب » [ النساء: 25 ] . أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار، لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن. والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج، يجب عليها الرجم إذا زنت، والرجم لا يتبعض، فيكون على الأمة نصفه، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج. وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدي، قال: وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون: هدي. قال الشاعر:

حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلدات

قال: وواحد الهدي هدية. ويقال في جمع الهدي: أهداء.

*4*قوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }

 

قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى. ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي. والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه. فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي: موضع الحصر، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، قال الله تعالى: « والهدي معكوفا أن يبلغ محله » [ الفتح: 25 ] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار: الحرم، لقوله تعالى: « ثم محلها إلى البيت العتيق » [ الحج: 33 ] . وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت. فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى: « ثم محلها إلى البيت العتيق » بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم. واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم. قال: ( فكيف تصنع به ) قال: أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم. وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر حيث حل، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولأن الهدي تابع للمهدي، والمهدي حل بموضعه، فالمهدى أيضا يحل معه.

 

واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشيء من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي، فقال مالك: السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه، قال الله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » . وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم، ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه. وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء. وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه. قالوا: وأقل ما يهديه شاة، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين، وليس هذا عندهم موضع صيام. قال أبو عمر: قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض، لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم. وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه، وحملوه على الإحلال بالظنون. والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم: لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه. وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له. وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي: فيه قولان: لا يحل أبدا إلا بهدي. والقول الآخر: أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه، فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه. قال الشافعي: ومن قال هذا قال: يحل مكانه ويذبح إذا قدر، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر. قال ويقال لا يجزيه إلا هدي. ويقال: إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام أو الصيام. وإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر. وقال في العبد: لا يجزيه إلا الصوم، تقوم له الشاة دراهم ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما.

 

واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا، فقالت طائفة: ليس عليه أن يحلق رأسه، لأنه قد ذهب عنه النسك. واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر. وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال أبو يوسف: يحلق المقصر، فإن لم يحلق فلا شيء عليه. وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق، والتقصير لا بد له منه. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين: أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك، وهو قول مالك. والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة. والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه. وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه، وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » ، وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة. وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة،، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه. والحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه، وعلى من فاته الحج، والمحصر بعدو والمحصر بمرض.

 

روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ( اللهم ارحم المحلقين ) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ( اللهم ارحم المحلقين ) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ( والمقصرين ) . قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم » الآية، ولم يقل تقصروا. وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال، إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان.

 

لم تدخل النساء في الحلق، وأن سنتهن التقصير، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير ) . خرجه أبو داود عن ابن عباس. وأجمع أهل العلم على القول به. ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: تقصر من كل قرن مثل الأنملة. وقال عطاء: قدر ثلاث أصابع مقبوضة. وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع. وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل. وقال مالك: تأخذ من جميع قرون رأسها، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا. قال ابن المنذر: يجزي ما وقع عليه اسم تقصير، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة.

 

لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق. والأصل في ذلك قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه سلم، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا، فإن كان الأول فلا شيء عليه، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم، وهو المشهور من مذهب مالك. وقال ابن الماجشون: عليه الهدي، وبه قال أبو حنيفة. وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر، وبه قال الشافعي. والظاهر من المذهب المنع، والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: ( لا حرج ) رواه مسلم. وخرج ابن ماجة عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يحلق، أو حلق قبل أن يذبح فقال: ( لا حرج ) .

 

لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز، خلافا لمن قال: إنه مثلة، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة، وقد حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه. قال ابن عبدالبر: وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق. وكفى بهذا حجة، وبالله التوفيق.

*4*قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }

 

قوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا » استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض، وهذا لا يلزم، فإن معنى قوله: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه » فحلق « ففدية » أي فعليه فدية، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها، لاتساق الكلام بعضه على بعض، وانتظام بعضه ببعض، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه. ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية، روى الأئمة واللفظ للدارقطني: عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال: ( أيؤذيك هوامك ) قال نعم. ( فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام ) . خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا. فقوله: ولم يبين لهم أنهم يحلون بها، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض، والله أعلم.

قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه: إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق.

قلت: فعلى هذا يكون المعنى « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » إن أراد أن يحلق، ومن قدر فحلق ففدية، فلا يفتدي حتى يحلق، والله أعلم.

 

قال ابن عبدالبر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة. وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث. وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبدالرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له، فقال له: ( كأنك يؤذيك هوام رأسك ) . فقال أجل. قال: ( احلق واهد هديا ) . فقال: ما أجد هديا. قال: ( فأطعم ستة مساكين ) . فقال: ما أجد. قال: ( صم ثلاثة أيام ) . قال أبو عمر: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وبالله التوفيق.

 

اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي ثور وداود. وروي عن الثوري أنه قال في الفدية: من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع. وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر. قال ابن المنذر: وهذا غلط، لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين ) . وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي، ومرة قال: إن أطعم برا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع.

ولا يجزئ أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.

 

أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن. وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة، واختلفوا فيما على من فعل ذلك، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا، فقال مالك: بئس ما فعل وعليه الفدية، وهو مخير فيها، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ، لضرورة وغير ضرورة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور: ليس بمخير إلا في الضرورة، لأن الله تعالى قال: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه » فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير.

 

واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا، فقال مالك رحمه الله: العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا فدية عليه، وهو قول داود وإسحاق. والثاني: عليه الفدية. وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المحيط وتغطية الرأس أو بعضه، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى، أو حلق مواضع المحاجم. والمرأة كالرجل في ذلك، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب. وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه. وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.

 

واختلف العلماء في موضع الفدية المذكورة، فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي. وعن الحسن أن الدم بمكة. وقال طاوس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم، وقد قال الله سبحانه « هديا بالغ الكعبة » [ المائدة: 95 ] رفقا لمساكين جيران بيته، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام، والله أعلم. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد. والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة. ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه، وفيه: فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا. قال مالك قال يحيى بن سعيد: وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة. ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم، لأن البغية في إطعام مساكين المسلمين. قال مالك: ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم، ثم إن قوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا » الآية، أوضح الدلالة على ما قلناه، فإنه تعالى لما قال: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » لم يقل في موضع دون موضع، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه. وقال: « أو نسك » فسقى ما يذبح نسكا، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد.

 

قوله تعالى: « أو نسك » النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: « وأرنا مناسكنا » [ البقرة: 128 ] أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.

*4*قوله تعالى: { فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي }

 

قوله تعالى: « فإذا أمنتم » قيل: معناه برأتم من المرض. وقيل: من خوفكم من العدو المحصر، قاله ابن عباس وقتادة. وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه، كما تقدم، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » اختلف العلماء من المخاطب بهذا؟ فقال عبدالله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم. وصورة المتمتع عند ابن الزبير: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء. وصورة المتمتع المحصر عند غيره: أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه. وقال ابن عباس وجماعة: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله.

 

لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، صلى الله عليه وسلم. وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك، فقال قائلون منهم مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا، والإفراد أفضل من القران. قال: والقران أفضل من التمتع. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) قالت عائشة: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقال بعضهم فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأما أنا فأهل بالحج ) وهذا نص في موضع الخلاف، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله. وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. واستجب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج، قالوا: وذلك أفضل. وهو مذهب عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعي. قال الدارقطني قال الشافعي: اخترت الإفراد، والتمتع حسن لا نكرهه. احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء. وروى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه، هذا حديث صحيح.

وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: ( حسن جميل. قال: فإن أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم !؟ قم عني. ) أخرجه الدارقطني، وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم. وروي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية ) حديث حسن. قال أبو عمر: حديث ليث هذا حديث منكر، وهو ليث بن أبي سليم ضعيف. والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها فسخ الحج في العمرة. فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. وزعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام حتى تكثر عمارته بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس تحقيقا لدعوة إبراهيم: « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم » [ إبراهيم: 37 ] . وقال آخرون: إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشي أن يضيع الإفراد والقران وهما سنتان للنبي صلى الله عليه وسلم. واحتج أحمد في اختياره التمتع بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) . أخرجه الأئمة. وقال آخرون: القران أفضل، منهم أبو حنيفة والثوري، وبه قال المزني قال: لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا، وهو قول علي بن أبي طالب. واحتج من استحب القران وفضله بما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ) . وروى الترمذي عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لبيك بعمرة وحجة ) . وقال: حديث حسن صحيح. قال أبو عمر: والإفراد إن شاء الله أفضل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفردا، فلذلك قلنا إنه أفضل، لأن الآثار أصح عنه في إفراده صلى الله عليه وسلم، ولأن الإفراد أكثر عملا ثم العمرة عمل آخر. وذلك كله طاعة والأكثر منها أفضل. وقال أبو جعفر النحاس: المفرد أكثر تعبا من المتمتع، لإقامته على الإحرام وذلك أعظم لثوابه. والوجه في اتفاق الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالتمتع والقران جاز أن يقال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرن، كما قال جل وعز: « ونادى فرعون في قومه » [ الزخرف: 51 ] . وقال عمر بن الخطاب: رجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بالرجم.

قلت: الأظهر في حجته عليه السلام القران، وأنه كان قارنا، لحديث عمر وأنس المذكورين. وفي صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة معا ) . قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبيانا! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لبيك عمرة وحجا ) . وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم. قال بعض أهل العلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا، وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر، واتفقت الأحاديث. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة، فقال من رآه: تمتع ثم أهل بحجة. فقال من رآه: أفرد ثم قال: ( لبيك بحجة وعمرة ) . فقال من سمعه: قرن. فاتفقت الأحاديث. والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفردت الحج ولا تمتعت. وصح عنه أنه قال: ( قرنت ) كما رواه النسائي عن علي أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ( كيف صنعت ) قلت: أهللت بإهلالك. قال ( فإني سقت الهدي وقرنت ) . قال وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدي وقرنت ) . وثبت عن حفصة قالت قلت: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت؟ قال: ( إني لبدت رأسي وسقت هدي فلا أحل حتى أنحر ) . وهذا يبين أنه كان قارنا، لأنه لو كان متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدي.

قلت: ما ذكره النحاس أنه لم يرو أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفردت الحج ) فقد تقدم من رواية عائشة أنه قال: ( وأما أنا فأهل بالحج ) . وهذا معناه: فأنا أفرد الحج، إلا أنه يحتمل أن يكون قد أحرم بالعمرة، ثم قال: فأنا أهل بالحج. ومما يبين هذا ما رواه مسلم عن ابن عمر، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فلم يبق في قوله: ( فأنا أهل بالحج ) دليل على الإفراد. وبقي قوله عليه السلام: ( فإني قرنت ) . وقول أنس خادمه أنه سمعه يقول: ( لبيك بحجة وعمرة معا ) نص صريح في القران لا يحتمل التأويل. وروى الدارقطني عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها.

 

وإذا مضى القول في الإفراد والتمتع والقران وأن كل ذلك جائز بإجماع فالتمتع بالعمرة إلى الحج عند العلماء على أربعة أوجه، منها وجه واحد مجتمع عليه، والثلاثة مختلف فيها. فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جل وعز: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج - على ما يأتي بيانها - وأن يكون من أهل الآفاق، وقدم مكة ففرغ منها ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع، وذلك ما استيسر من الهدي، يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى بلده - على ما يأتي - وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين. واختلف في صيام أيام التشريق على ما يأتي.

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة، ورابطها ثمانية شروط: الأول: أن يجمع بين الحج والعمرة. الثاني: في سفر واحد. الثالث: في عام واحد. الرابع: في أشهر الحج. الخامس: تقديم العمرة. السادس: ألا يمزجها، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة. السابع: أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد. الثامن: أن يكون من غير أهل مكة. وتأمل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها.

والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج: القران، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بحجة وعمرة معا، فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا، عند من رأى ذلك، وهم مالك والشافعي وأصحابهما وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب عبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وعطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة... ) الحديث. وفيه: ( وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ) أخرجه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة يوم النفر ولم تكن طافت بالبيت وحاضت: ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) في رواية: ( يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ) . أخرجه مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين، عند من رأى ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، وروي عن علي وابن مسعود، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد. واحتجوا بأحاديث عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. أخرجهما الدارقطني في سننه وضعفها كلها، وإنما جعل القران من باب التمتع، لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى، ويتمتع بجمعهما، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل تحت قول الله عز وجل: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » . وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه. وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها. ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر: إنما جعل القران لأهل الآفاق، وتلا قول الله جل وعز: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. قال مالك: وما سمعت أن مكيا قرن، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك. وقال عبدالملك بن الماجشون: إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع.

والوجه الثالث من التمتع: هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال: ( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج ) وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم جرا، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية. فهذا هو الوجه الذي تواردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة ) وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها، لأنها عندهم خصوص خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته تلك. قال أبو ذر: ( كانت المتعة لنا في الحج خاصة ) أخرجه مسلم. وفي رواية عنه أنه قال: ( لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج ) والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: ( الحل كله ) ) . أخرجه مسلم. وفي المسند الصحيح لأبي حاتم عن ابن عباس قال: ( والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة، فما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم ) ففي هذا دليل علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها. وكان ذلك له ولمن معه خاصة، لأن الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيها أمرا مطلقا، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة. واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: ( بل لنا خاصة ) . وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام، إلا شيء يروى عن ابن عباس والحسن والسدي، وبه قال أحمد بن حنبل. قال أحمد: لا أرد تلك الآثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر. قال: ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر، ولو أجمعوا كان حجة، قال: وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا. واحتج أحمد بالحديث الصحيح، حديث جابر الطويل في الحج، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: ( دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد ) لفظ مسلم. وإلى هذا والله أعلم مال البخاري حيث ترجم [ باب من لبى بالحج وسماه ] وساق حديث جابر بن عبدالله: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة. وقال قوم: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال كان على وجه آخر. وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به، وكذلك أهل علي باليمن. وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله عليه السلام: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلتها عمرة ) فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر؟؟ أصحابه بذلك، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: ( أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة ) .

والوجه الرابع من المتعة: متعة المحصر ومن صد عن البيت، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبدالله بن الزبير وهو يخطب يقول: أيها الناس، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي.

وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا، والحمد لله.

فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة. والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » بعد قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل، وأمرهم بالإحلال.

واختلف العلماء أيضا لم سمي المتمتع متمتعا، فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج. وقال غيره: سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر، وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، والوجه الأول أعم، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله، وسقط عنه السفر بحجه من بلده، وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج. وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود، وقالا أو قال أحدهما: يأتي أحدكم مني وذكره يقطر منيا، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا. وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين: مرة في الحج، ومرة في العمرة. ورأى الإفراد أفضل، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابا، ولذلك قال: ( افصلوا بين حجكم وعمرتكم، فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج )

 

اختلف العلماء فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه، فقال الجمهور من العلماء: ليس بمتمتع، ولا هدي عليه ولا صيام. وقال الحسن البصري: هو متمتع وإن رجع إلى أهله، حج أو لم يحج. قال لأنه كان يقال: عمرة في أشهر الحج متعة، رواه هشيم عن يونس عن الحسن. وقد روي عن يونس عن الحسن: ليس عليه هدي. والصحيح القول الأول، هكذا ذكر أبو عمر حج أو لم يحج ولم يذكره ابن المنذر. قال ابن المنذر: وحجته ظاهر الكتاب قوله عز وجل: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » ولم يستثن: راجعا إلى أهله وغير راجع، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل قول الحسن. قال أبو عمر: وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم. وذلك أنه قال: من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة. وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن، أحدهما: أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج، ثم حج من عامه أنه متمتع. هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار. وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة، لأن العمرة جائزة في السنة كلها، والحج إنما موضعه شهور معلومة، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها، رحمة منه، وجمل فيه ما استيسر من الهدي. والوجه الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي، وهذا لم يعرج عليه، لظاهر قوله تعالى: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها، وبالله توفيقنا.

 

أجمع العلماء على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع، عليه ما على المتمتع. وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة، ثم ينشئ الحج من مكة وأهله بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها. وأجمعوا على أنه إن انتقل من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع.

 

واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وعليه بعد أيضا طواف آخر بحجة وسعي بين الصفا والمروة. وروي عن عطاء وطاوس أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، والأول المشهور، وهو الذي عليه الجمهور، وأما طواف القارن فقد تقدم.

 

واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه. وقال الشافعي: إذا طاف بالبيت في الأشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت، وإنما ينظر إلى كمالها، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة وسفيان الثوري. وقال قتادة وأحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبدالله. وقال طاوس: عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال أصحاب الرأي: إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع. وإن طاف في رمضان أربعة أشواط، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا. وقال أبو ثور: إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا. وهو معنى قول أحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه.

 

أجمع أهل العلم على أن لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، ويكون قارنا بذلك، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا. واختلقوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم يتم طوافه، وروي مثله عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف، وقد قيل: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف. وكل ذلك قول مالك وأصحابه. فإذا طاف المعتمر شوطا واحد لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران. وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه. وقال بعضهم: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة. قال أبو عمر: وهذا كله شذوذ عند أهل العلم. وقال أشهب: إذا طاف لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الإحرام به ولم يكن قارنا، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج، وهذا قول الشافعي وعطاء، وبه قال أبو ثور.

 

واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق: لا تدخل العمرة على الحج، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء، قاله مالك، وهو أحد قولي الشافعي، وهو المشهور عنه بمصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في القديم: يصير قارنا، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا، فإن طاف لم يلزمه، لأنه قد عمل في الحج. قال ابن المنذر: وبقول مالك أقول في هذه المسألة.

 

قال مالك: من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجز ذلك، وعليه هدي آخر لمتعته، لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته، وحينئذ يجب على الهدي. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق: لا ينحر هديه إلا يوم النحر. وقال أحمد: إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر، وقاله عطاء. وقال الشافعي: يحل من عمرته إذا طاف وسعى، ساق هديا أو لم يسقه.

 

واختلف مالك والشافعي في المتمتع يموت، فقال الشافعي: إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك، حكاه الزعفراني عنه. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها، أترى عليه هديا؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي. قيل له: من رأس المال أو من الثلث؟ قال: بل من رأس المال.

*4*قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }

 

قوله تعالى: « فمن لم يجد » يعني الهدي، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاوس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة. وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لأن الله تعالى قال: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئه، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة، وسيأتي. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم. وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة.

وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلي يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: « الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى » . وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقول أصحاب الشافعي، وإما لأن في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به. والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: « أيام في الحج » يحتمل أن يريد موضع الحج ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لأن آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا. وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدي يوم النحر. فإن قيل: فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام منى، قيل له: إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريف أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق، وقال الحسن وعطاء. قال ابن المنذر: وكذلك نقول. وقالت طائفة: إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه، فتأمله.

 

أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه، فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي، فإن لم يفعل أجزاه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور، وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.

 

قوله تعالى: « وسبعة » قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد بن علي « وسبعة » بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة. « إذا رجعتم » يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقاله مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان. وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل. وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم وقال ابن العربي: إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب.

قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس: ( ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: « فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم... ) [ البقرة: 196 ] الحديث وسيأتي. قال النحاس: وكان هذا إجماعا.»

 

قوله تعالى: « تلك عشرة كاملة » يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر. كمل يكمل، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله: « تلك عشرة » وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله « تلك عشرة » ثم قال: « كاملة » . وقال الحسن: « كاملة » في الثواب كمن أهدى. وقيل: « كاملة » في البدل عن الهدي، يعني العشرة كلها بدل عن الهدي. وقيل: « كاملة » في الثواب كمن لم يتمتع. وقيل: لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر، أي أكملوها فذلك فرضها. وقال المبرد: « عشرة » دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة. وقيل: هو توكيد، كما تقوله: كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر:

ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى شمامي

فقول « خمس » تأكيد. ومثله قول الآخر:

ثلاث بالغداة فذاك حسي وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريي وشرب المرء فوق الري داء

وقوله: « كاملة » تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر.

 

قوله تعالى: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري « عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ) طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: ( من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ) ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: » فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم « إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء.»

 

اللام في قوله « لمن » بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: ( اشترطي لهم الولاء ) . وقوله تعالى: « وإن أسأتم فلها » [ الإسراء: 7 ] أي فعليها. وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم. ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع. وقال الشافعي: لهم دم تمتع وقران. والإشارة ترجع إلى الهدي والصيام، فلا هدي ولا صيام عليهم. وفرق عبدالملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه.

 

واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه. وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم. قال ابن عطية: وليس كما قال - فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة. وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت. وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله » أي فيما فرضه عليكم. وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه.

 

الآية: 197 ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب )

 

قوله تعالى: « الحج أشهر معلومات » لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » [ البقرة: 196 ] بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر. و « الحج أشهر معلومات » ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر. وقيل التقدير: الحج في أشهر. ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف. قال الفراء: الأشهر رفع، لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات. قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر. أراد وقت الصيف، ووقت لباس الطيلسان، فحذف.

 

واختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو العقدة وذو الحجة كله. وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن ابن مسعود، وقاله ابن الزبير، والقولان مرويان عن مالك، حكى الأخير ابن حبيب، والأول ابن المنذر. وفائدة الفرق تعلق الدم، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر، لأنها في أشهر الحج. وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته.

لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه، لأنها كانت معلومة عندهم. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها، فالوقت يذكر بعضه بكله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيام منى ثلاثة ) . وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: رأيتك اليوم، وجئتك العام. وقيل: لما كان الاثنان وما فوقهما جمع قال أشهر، والله أعلم.

 

اختلف في الإهلال بالحج في غير أشهر الحج، فروي عن ابن عباس: من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج. وقال عطاء ومجاهد وطاوس والأوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجة ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال الأوزاعي: يحل بعمرة. وقال أحمد بن حنبل: هذا مكروه، وروي عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها، وهو قول أبي حنيفة. وقال النخعي: لا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج » [ البقرة: 189 ] وقد تقدم القول فيها. وما ذهب إليه الشافعي أصح، لأن تلك عامة، وهذه الآية خاصة. ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الأشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فمن فرض فيهن الحج » أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي. قال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم. وأصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل. ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقدح. وقيل: « فرض » أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره. و « من » رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله: « فرض » ، لأن « من » ليست بموصولة، فكأنه قال: رجل فرض. وقال: « فيهن » ولم يقل فيها، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال. وقال المازني أبو عثمان: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: « إن عدة الشهور » [ التوبة: 36 ] ثم قال: « منها » .

 

قوله تعالى: « فلا رفث » قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لأنه يفسده. وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدي. وقال عبدالله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، لقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم:

وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا

فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم فقال: إن الرفث ما قيل عند النساء. وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا. وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله. وقال أبو عبيدة: الرفث اللغا من الكلام، وأنشد:

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

يقال: رفث يرفث، بضم الفاء وكسرها. وقرأ ابن مسعود « فلا رفوث » على الجمع. قال ابن العربي: المراد بقوله « فلا رفث » نفيه مشروعا لا موجدا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] معناه: شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي. وهذا كقوله تعالى: « لا يمسه إلا المطهرون » [ الواقعة: 79 ] إذا قلنا: إنه وارد في الآدميين - وهو الصحيح - أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا.

 

قوله تعالى: « ولا فسوق » يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن. وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر، وشبه ذلك. وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى: « أو فسقا أهل لغير الله به » [ الأنعام: 145 ] . وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قوله: « بئس الاسم الفسوق » [ الحجرات: 11 ] . وقال ابن عمر أيضا: الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) . والقول الأول أصح، لأنه يتناول جميع الأقوال. قال صلى الله عليه وسلم: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ، ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) خرجه مسلم وغيره. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ) . وقال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه. وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله.

قلت: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده. قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. وقيل غير هذا، وسيأتي.

 

قوله تعالى: « ولا جدال في الحج » قرئ « فلا رفث ولا فسوق » بالرفع والتنوين فيهما. وقرئا بالنصب بغير تنوين. وأجمعوا على الفتح في « ولا جدال » ، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولأن المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء. والأسماء الثلاثة في موضع رفع، كل واحد مع « لا » . وقوله « في الحج » خبر عن جميعها. ووجه قراءة الرفع أن « لا » بمعنى « ليس » فارتفع الاسم بعدها، لأنه اسمها، والخبر محذوف تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه « في الحج » الثاني الظاهر وهو خبر « لا جدال » . وقال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال.

قلت: فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله: « وإن كان ذو عسرة » فلا تحتاج إلى خبر. ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا. ويجوز أن يرفع « رفث وفسوق » بالابتداء، « ولا » للنفي، والخبر محذوف أيضا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة. ورويت عن عاصم في بعض الطرق وعليه يكون « في الحج » خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون « في الحج » خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لأن خبر ليس منصوب وخبر « ولا جدال » مرفوع، لأن « ولا جدال » مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد. ويجوز « فلا رفث ولا فسوق » تعطفه على الموضع. وأنشد النحويون:

لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع

ويجوز في الكلام « فلا رفث ولا فسوقا ولا جدالا في الحج » عطفا على اللفظ على ما كان يجب في « لا » قال الفراء: ومثله:

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا

وقال أبو رجاء العطاردي: « فلا رفث ولا فسوق » بالنصب فيهما، « ولا جدال » بالرفع والتنوين. وأنشد الأخفش:

هذا وجدكم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

وقيل: إن معنى « فلا رفث ولا فسوق » النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. ومعنى « ولا جدال » النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ. قال القشيري: وفيه نظر، إذ قيل: « ولا جدال » نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما.

 

قوله تعالى: « ولا جدال » الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل، ومنه زمام مجدول. وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة. قال الشاعر:

قد أركب الآلة بعد الآله وأترك العاجز بالجداله

منعفرا ليست له محالة

واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة: الجدال السباب. وقال ابن زيد ومالك بن أنس: الجدال هنا أن يختلف الناس: أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل: لا جدال في مواضعه. وقالت طائفة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم، وتقول طائفة: الحج غدا. وقال مجاهد وطائفة معه: الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسيء، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك.

قلت: فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله « ولا جدال » ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض... ) الحديث، وسيأتي في « براءة » . يعني رجع أمر الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته. وقال صلى الله عليه وسلم لما حج: ( خذوا عني مناسككم ) فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه. وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم. ويقول الآخر مثل ذلك. وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وما تفعلوا من خير يعلمه الله » شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء. وقيل: هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال. وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه.

 

قوله تعالى: « وتزودوا » أمر باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمر بالزاد. وقال عبدالله بن الزبير: كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: ( يا عمر زود القوم ) . وقال بعض الناس: « تزودوا » الرفيق الصالح. وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة.

قلت: القول الأول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين: قال الشعبي: الزاد التمر والسويق. ابن جبير: الكعك والسويق. قال ابن العربي: « أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون. والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عز وجل أعلم » . قال أبو الفرج الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ. قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة. فقال لا، إلا معهم. قال: فعلى جرب الناس توكلت؟!

 

قوله تعالى: « فإن خير الزاد التقوى » أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى. وجاء قول « فإن خير الزاد التقوى » محمولا على المعنى، لأن معنى « وتزودوا » اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد: وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف. وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار. قال أهل الإشارات: ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الآخرة. قال الأعشى:

إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال آخر:

الموت بحر طامح موجه تذهب فيه حيلة السابح

يا نفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصح

لا يصحب الإنسان في قبره غير التقى والعمل الصالح

 

قوله تعالى: « واتقون يا أولي الألباب » خص أولي الألباب بالخطاب - وإن كان الأمر يعم الكل - لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. والألباب جمع لب، ولب كل شيء: خالصه، ولذلك قيل للعقل: لب. قال النحاس: سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب: أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل؟ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس: لببت تلب، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.

 

الآية: 198 ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين )

 

قوله تعالى: « جناح » أي إثم، وهو اسم ليس. « أن تبتغوا » في موضع نصب خبر ليس، أي في أن تبتغوا. وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض. ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال ورخص في التجارة، المعنى: لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله. وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى: « فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله » [ الجمعة: 10 ] . والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: ( كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » في مواسم الحج .)

 

إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء. أما إن الحج دون تجارة أفضل، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها. روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إني رجل أكرى في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: إنه لا حج لك. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لك حجا ) .

 

قوله تعالى: « فإذا أفضتم » أي اندفعتم. ويقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه. ورجل فياض، أي مندفق بالعطاء. قال زهير:

وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب فواضله

وحديث مستفيض، أي شائع.

 

قوله تعالى: « من عرفات » قراءة الجماعة « عرفات » بالتنوين، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات، لأن التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، يقوله: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفات يا هذا، بكسر التاء وبغير تنوين، قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة. وأنشدوا:

تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال

والقول الأول أحسن، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون. وعرفات: اسم علم، سمي بجمع كأذرعات. وقيل: سمي بما حوله، كأرض سباسب. وقيل: سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها. وقيل: لأن آدم لما هبط وقع بالهند، وحواء بجدة، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، قاله الضحاك. وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قوله تعالى: « وأرنا مناسكنا » [ البقرة: 128 ] . قال ابن عطية: والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع. وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر:

تزودت من نعمان عوذ أراكة لهند ولكن لم يبلغه هندا

وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله تعالى: « عرفها لهم » [ محمد: 6 ] أي طيبها، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء، فلذلك سميت عرفات. ويوم الوقوف، يوم عرفة. وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف. إذا كان صابرا خاشعا ويقال في المثل: النفس عروف وما حملتها تتحمل. قال:

فصبرت عارفة لذلك حرة

أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة:

عروف لما خطت عليه المقادر

أي صبور على قضاء الله، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد، لإقامة هذه العبادة.

 

أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل، إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا. وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى: « فإذا أفضتم من عرفات » ولم يخص ليلا من نهار، وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جمع، فقلت يا رسول الله، جئتك من جبلي طيء أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه وتم حجه ) . أخرجه غير واحد من الأئمة، منهم أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو عمر: حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبدالله بن أبي السفر ومطرف، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام. وحجة مالك من السنة الثابتة: حديث جابر الطويل، خرجه مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأفعاله على الوجوب، لا سيما في الحج وقد قال: ( خذوا عني مناسككم ) .

 

واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم: عليه دم. وقال الحسن البصري: عليه هدي. وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال مالك: عليه حج قابل، والهدي ينحره في حج قابل، وهو كمن فاته الحج. فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي: لا شيء عليه، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، وبه قال الطبري. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس، وبذلك قال أبو ثور.

 

ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس، وأردف أسامة بن زيد، وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي، وفي حديث ابن عباس أيضا. قال جابر: ( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه... ) الحديث. فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج « ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب » [ الحج: 32 ] . قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك: الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما، قال: ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح.

 

ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام ( كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ ) قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم، لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف، قال صلى الله عليه وسلم: ( ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ) رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن مُحَسّر ) . قال ابن عبدالبر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبدالله، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الإثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. قال أبو عمر: واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه: يهريق دما وحجه تام. وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك. وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة. وروي عن ابن عباس قال: من أفاض من عرنة فلا حج له. وهو قول ابن القاسم وسالم، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي، قال وبه أقول: لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به. قال ابن عبدالبر: الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجىء مجيئا تلزم حجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع. وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف. وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها، وهو بغربي مسجد عرفة، حتى ( لقد قال بعض العلماء: إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة. وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل، وعرنة في الحرم. قال أبو عمر: وأما بطن محسر فذكر وكيع: حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أوضع في بطن مُحَسّر ) )

 

ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة، تشبيها بأهل عرفة. روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة. يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة. وقال موسى بن أبي عائشة: رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، قد فعله غير واحد: الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.

 

في فضل يوم عرفة، يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: ( صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية ) . أخرجه الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) . وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء ) . وفي الموطأ عن عبيدالله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر ) . قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: ( أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة ) . قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: حدثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبدالملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبدالقاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال: يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه: إني قد غفرت لهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر ) . وذكر أبو عبدالغني الحسن بن علي حدثنا عبدالرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له ) . قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبدالغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام.

 

استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة. روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب. قال: حديث حسن صحيح. وقد روي عن ابن عمر قال: ( حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه ) والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة. وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول، وزاد في آخره: ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، حديث حسن. وذكره ابن المنذر. وقال عطاء في صوم يوم عرفة: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة. وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة. قال ابن المنذر: الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصوم بغير عرفة أحب إلي، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ( يكفر السنة الماضية والباقية ) . وقد روينا عن عطاء أنه قال: من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم.

 

قوله تعالى: « فاذكروا الله عند المشعر الحرام » أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام. ويسمى جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها، أي دنا منها، وبه سميت المزدلفة. ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها، لأنهم يزدلفون إلى الله، أي يتقربون بالوقوف فيها. وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج. ووصف بالحرام لحرمته.

 

ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء. واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي جمعا، فقال مالك: من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها، واستدل على ذلك بقوله لأسامة بن زيد: ( الصلاة أمامك ) . قال ابن حبيب: من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال، لقوله عليه السلام: ( الصلاة أمامك ) . وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: لا إعادة عليه، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها، وبه قال الشافعي، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما، فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما، وإنما كان على معنى الاستحباب، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة. واختار ابن المنذر هذا القول، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب. وحكي عن الشافعي أنه قال: لا يصلي حتى يأتي المزدلفة، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما.

 

ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب: لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق، لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق، لقوله عليه السلام: ( الصلاة أمامك ) ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق، فلا يجوز أن يؤتى بها قبله، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه.

 

وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ابن المواز: من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها. وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام: إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما. وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة، وإلا صلى كل صلاة لوقتها. فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره، وراعى مالك الوقت دون المكان، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان، وكان مراعاة وقتها المختار أولى.

 

اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين: أحدهما: الأذان والإقامة. والآخر: هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك، فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين. أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وكذلك الظهر والعصر بعرفة، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع. قال أبو عمر: لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب، وزاد ابن المنذر ابن مسعود. ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى، لأن ليس واحدة منهما تقضى، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة، وهذا بين، والله أعلم. وقال آخرون: أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة. قالوا: وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم. قالوا: وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم، وإذا أذن أقام. قالوا: فهذا معنى ما روي عن عمر، وذكروا حديث عبدالرحمن بن يزيد قال: كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة، ذكره عبدالرزاق. وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري. وذكر عبدالرزاق وعبدالملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة ) وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة. وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة، لم يجعل بينهما شيئا. وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت، وليس بالقوي. وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط. وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر، وهو القول الأول وعليه المعول. وقال آخرون: تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما. وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول سالم بن عبدالله والقاسم بن محمد، واحتجوا بما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا ) قال أبو عمر: والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب، ولكنها محتملة للتأويل، وحديث جابر لم يختلف فيه، فهو أولى، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر، وإنما فيها الاتباع.

 

وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلاها، ولم يصل بينهما شيئا ) في رواية: ( ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا ) وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع. وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة: أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته؟ فقال: أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته. وقال أشهب في كتبه: له حط رحله قبل الصلاة، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك، لما بدابته من الثقل، أو لغير ذلك من العذر. وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين وفي حديث أسامة: ولم يصل بينهما شيئا.

 

وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور. واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع، فقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه، لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا فرض، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبت. وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة. وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري: الوقوف بالمزدلفة فرض، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. وروي ذلك عن ابن الزبير هو قول الأوزاعي. وروي عن الثوري مثل ذلك، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة. وقال حماد بن. أبي سليمان. من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا. واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقول الله تعالى: « فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام » وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له ) . ذكره ابن المنذر. وروى الدارقطني عن عروة بن مضرس: قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له: يا رسول الله، هل لي من حج؟ فقال: ( من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ) . قال الشعبي: من لم يقف بجمع جعلها عمرة. وأجاب من احتج للجمهور بأن قال: أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت، إذ ليس ذلك مذكورا فيها، وإنما فيها مجرد الذكر. وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك. قال أبو عمر: وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع، وإن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ممن يقول إن ذلك فرض، ومن يقول إن ذلك سنة. وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة، ومثله حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه ) رواه النسائي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت...، فذكره. ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) . وقوله في حديث عروة: ( من صلى صلاتنا هذه ) . فذكر الصلاة بالمزدلفة، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام. فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك. قالوا: فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة.

 

قوله تعالى: « واذكروه كما هداكم » كرر الأمر تأكيدا، كما تقول: ارم. ارم. وقيل: الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام. والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص وقيل: المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال: « وإن كنتم من قبله لمن الضالين » والكاف في « كما » نعت لمصدر محذوف، و « ما » مصدرية أو كافة والمعنى: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه. و « إن » مخففة من الثقيلة، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر، قال سيبويه. الفراء: نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، كما قال:

ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمن

أو بمعنى قد أي قد كنتم ثلاثة أقوال والضمير في « قبله » عائد إلى الهدي. وقيل إلى القرآن، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين. وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور، والأول أظهر والله أعلم.

 

الآية: 199 ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و « ثم » ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة. وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بـ « الناس » إبراهيم عليه السلام، كما قال: « الذين قال لهم الناس » [ آل عمران: 173 ] وهو يريد واحدا. ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجيء « ثم » على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري. والمعنى: أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع.

قلت: ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للأمر بالإفاضة منها، والله أعلم والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول. روى الترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: « أفيضوا من حيث أفاض الناس » رجعوا إلى عرفات. وهذا نص صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معول على غيره من الأقوال. والله المستعان. وقرأ سعيد بن جبير « الناسي » وتأويله آدم عليه السلام، لقوله تعالى: « فنسي ولم نجد له عزما » [ طه: 115 ] . ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس، كالقاض والهاد. ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه. وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظان القبول ومساقط الرحمة. وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة.

 

روى أبو داود عن علي قال: فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال: ( هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ) . فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الإمام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام. وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الإمام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع، على مخالفة العرب، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة. وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس. وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا، أخر الدفع من عرفة، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدي المشركين.

 

فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العنق، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا. والعنق: مشي للدواب معروف لا يجهل. والنص: فوق العنق، كالخبب أو فوق ذلك. وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق، وقد تقدم. ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر، فإن لم يفعل فلا حرج، وهو من منى. وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم: ( أوضعوا في وادي محسر ) وقال لهم: ( خذوا عني مناسككم ) . فإذا أتوا منى وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حصيات، كل حصاة منها مثل حصى الخذف - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه. وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية، لما جاء في ذلك. ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يحل له كل شيء إلا النساء، وروي عن ابن عباس.

ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك. والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطئه عن علي، وقال: هو الأمر عندنا.

قلت: والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: ( عليكم بالسكينة ) وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى قال: ( عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ) ، وقال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة. في رواية: والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان. وفي البخاري عن عبدالله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم وروى الدار قطني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب ) . وفي البخاري عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها. وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام وسيأتي ذكره في سورة « الحج » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « إن الله غفور رحيم » أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.

 

الآية: 200 ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق )

 

قوله تعالى: « فإذا قضيتم مناسككم » قال مجاهد: المناسك الذبائح وهراقة الدماء وقيل: هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام: ( خذوا عني مناسككم ) . المعنى: فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم. وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف وكذلك « ما سلككم » لأنهما مثلان و « قضيتم » هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى: « فإذا قضيت الصلاة » [ الجمعة:10 ] أي أديتم الجمعة. وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها.

 

قوله تعالى: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم » كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية هذا قول جمهور المفسرين. وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم: أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم. وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم. وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما والكاف من قول « كذكركم » في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم. « أو أشد » قال الزجاج : « أو أشد » في موضع خفض عطفا على ذكركم، المعنى : أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لأنه « أفعل » صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد. و « ذكرا » نصب على البيان.

 

قوله تعالى: « فمن الناس من يقول ربنا » « من » في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة يقول « ربنا آتنا في الدنيا » صلة « من » والمراد المشركون. قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا فـ « ما له في الآخرة من خلاق » أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب. و « من » زائدة وقد تقدم.

 

الآية: 201 ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )

 

قوله تعالى: « ومنهم » أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة. واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الآخرة الحور العين. « وقنا عذاب النار » : المرأة السوء.

قلت: وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لأن النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز. وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال. وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة. وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة. وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن « حسنة » نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل. وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع. وقيل: لم يرد حسنة واحدة، بل أراد: أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم.

 

قوله تعالى: « وقنا عذاب النار » أصل « قنا » أو قنا حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي، لأنها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن العرب تقول. ورم يرم، فيحذفون الواو. والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة. ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أنا إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حولها ندندن ) خرجه أبو داود في سننه وابن ماجة أيضا.

 

هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة. قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون قد سألت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) . قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ما له هجيرى غيرها، ذكره أبو عبيد. وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية: « ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » . وقال ابن عباس: إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين، فقولوا: « ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين... ) الحديث. خرجه ابن ماجة في السنن، وسيأتي بكماله مسندا في « الحج ] إن شاء الله. »

 

الآية: 202 ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب )

 

قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع « أولئك » إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: « ولكل درجات مما عملوا » [ الأنعام: 132 ] .

 

قوله تعالى: « والله سريع الحساب » من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - سرعا وسرعة، فهو سريع. « الحساب » : مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد، يقال: حسب يحسب حسابا وحسابة وحُسبانا وحِسبانا وحسبا، أي عد وأنشد ابن الأعرابي:

يا جمل أسقاك بلا حسابه سقيا مليك حسن الربابه

قتلتني بالدل والخلابه

والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: الحسب المال والكرم التقوى ) رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابة ( بالضم ) ، مثل خطب خطابة. والمعنى في الآية: إن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقول الحق: « وكفى بنا حاسبين » [ الأنبياء: 47 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب ) الحديث. فالله جل وعز عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذ قد علم ما للمحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] . قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر ( إن الله يحاسب في قدر حلب شاة ) . وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: « يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه » [ المجادلة: 6 ] . وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.

قلت: والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا.

 

قال ابن عباس في قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي ) . قال نعم. قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) . قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت. قال أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.

 

قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع « أولئك » إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: « ولكل درجات مما عملوا » [ الأنعام: 132 ] .

 

قوله تعالى: « والله سريع الحساب » من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - سرعا وسرعة، فهو سريع. « الحساب » : مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد، يقال: حسب يحسب حسابا وحسابة وحُسبانا وحِسبانا وحسبا، أي عد وأنشد ابن الأعرابي:

يا جمل أسقاك بلا حسابه سقيا مليك حسن الربابه

قتلتني بالدل والخلابه

والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: الحسب المال والكرم التقوى ) رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابة ( بالضم ) ، مثل خطب خطابة. والمعنى في الآية: إن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقول الحق: « وكفى بنا حاسبين » [ الأنبياء: 47 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب ) الحديث. فالله جل وعز عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذ قد علم ما للمحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] . قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر ( إن الله يحاسب في قدر حلب شاة ) . وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: « يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه » [ المجادلة: 6 ] . وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.

قلت: والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا.

 

قال ابن عباس في قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي ) . قال نعم. قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) . قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت. قال أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.

 

 

الآية: 203 ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون )

 

قوله تعالى: « واذكروا الله في أيام معدودات » : قال الكوفيون: الألف والتاء في « معدودات » لأقل العدد. وقال البصريون: هما للقليل والكثير، بدليل قوله تعالى: « وهم في الغرفات آمنون » [ سبأ: 37 ] والغرفات كثيرة. ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهي أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمي الجمار، وهي واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر، فقف على ذلك. وقال الثعلبي وقال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر، وكذا حكى مكي والمهدوي أن الأيام المعدودات هي أيام العشر. ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع، على ما نقله أبو عمر بن عبدالبر وغيره. قال ابن عطية: وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد النحر، وفي ذلك بعد.

 

أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات. خرج الدارقطني والترمذي وغيرهما عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديا فنادى: ( الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) ، أي من تعجل من الحاج في يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر، ويصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، ويسقط عنه رمي يوم الثالث. ومن لم ينفر منها إلا في آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام من أجل يوم النحر، واستوفى العدد في الرمي، على ما يأتي بيانه. ومن الدليل على أن أيام منى ثلاثة - مع ما ذكرناه - قول العرجي:

ما نلتقي إلا ثلاث منى حتى يفرق بيننا النفر

فأيام الرمي معدودات، وأيام النحر معلومات. وروى نافع عن ابن عمر أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهذا مذهب مالك وغيره. وإنما كان كذلك لأن الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله سبحانه تعالى: « واذكروا الله في أيام معدودات » ولا من التي عين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أيام منى ثلاثة ) فكان معلوما، لأن الله تعالى قال: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » [ الحج:28 ] ولا خلاف أن المراد به النحر، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا، فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى: « معلومات » لأنه لا ينحر فيه وكان مما يرمى فيه، فصار معدودا لأجل الرمي، غير معلوم لعدم النحر فيه. قال ابن العربي: والحقيقة فيه أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى: « واذكروا الله في أيام معدودات » . وقال أبو حنيفة والشافعي: ( الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر ) ، لم يختلف قولهما في ذلك، ورويا ذلك عن ابن عباس. وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال أبو يوسف: روي ذلك عن عمر وعلي، وإليه أذهب، لأنه تعالى قال: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » . وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى ويومان بعده. قال الكيا الطبري: فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف، ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، لأن الله تعالى يقول: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث. وقد روي عن ابن عباس ( أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق ) ، وهو قول الجمهور.

قلت: وقال ابن زيد: الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق، وفيه بعد، لما ذكرناه، وظاهر الآية يدفعه. وجعل الله الذكر في الأيام المعدودات والمعلومات يدل على خلاف قوله، فلا معنى للاشتغال به.

 

ولا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمار، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية، وهل يدخل غير الحاج في هذا أم لا؟ فالذي عليه فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد - وخصوصا في أوقات الصلوات - فكبر عند انقضاء كل صلاة - كان المصلي وحده أو في جماعة - تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم. وفي المختصر: ولا يكبر النساء دبر الصلوات، والأول أشهر، لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل، قاله في المدونة.

 

ومن نسي التكبير بإثر صلاة كبر إن كان قريبا، وإن تباعد فلا شيء عليه، قاله ابن الجلاب. وقال مالك في المختصر: يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام من مجلسه فلا شيء عليه وفي المدونة من قول مالك: إن نسي الإمام التكبير فإن كان قريبا قعد فكبر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبر والقوم جلوس فليكبروا.

 

واختلف العلماء في طرفي مدة التكبير، فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس: ( يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ) . وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر. وخالفه صاحباه فقالا بالقول الأول، قول عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء. وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا. وقال زيد بن ثابت: ( يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ) . قال ابن العربي: فأما من قال: يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر، لأن الله تعالى قال: « في أيام معدودات » وأيامها ثلاثة، وقد قال هؤلاء: يكبر في يومين، فتركوا الظاهر لغير دليل. وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق، فقال: إنه قال: « فإذا أفضتم من عرفات » [ البقرة: 198 ] ، فذكر « عرفات » داخل في ذكر الأيام، هذا كان يصح لو كان قال: يكبر من المغرب يوم عرفة، لأن وقت الإفاضة حينئذ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى.

 

واختلفوا في لفظ التكبير، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، رواه زياد بن زياد عن مالك. وفي المذهب رواية: يقال بعد التكبيرات الثلاث: لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وفي المختصر عن مالك: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

قوله تعالى: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون » : قوله تعالى: « فمن تعجل » التعجيل أبدا لا يكون هنا إلا في آخر النهار، وكذلك اليوم الثالث، لأن الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال. وأجمعوا على أن يوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال، وكذلك أجمعوا أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: جائز رميها بعد الفجر قبل طلوع الشمس. وقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل أن يطلع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز رميها، وبه قال أحمد وإسحاق. ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر، روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت ترمي بالليل وتقول: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود. وروي هذا القول عن عطاء وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد، وبه قال الشافعي إذا كان الرمي بعد نصف الليل. وقالت طائفة: لا يرمي حتى تطلع الشمس، قاله مجاهد والنخعي والثوري. وقال أبو ثور: إن رماها قبل طلوع الشمس فإن اختلفوا فيه لم يجزه، وإن أجمعوا، أو كانت فيه سنة أجزأه. قال أبو عمر: أما قول الثوري ومن تابعه فحجته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بعد طلوع الشمس وقال: ( خذوا عني مناسككم ) . وقال ابن المنذر: السنة ألا ترمي إلا بعد طلوع الشمس، ولا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر، فإن رمى أعاد، إذ فاعله مخالف لما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته. ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه.

 

روى معمر قال أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها. قال أبو عمر: اختلف على هشام في هذا الحديث، فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا كما رواه معمر، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة بذلك مسندا، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا، وكلهم ثقات. وهو يدل على أنها رمت الجمرة بمنى قبل الفجر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، والله أعلم. ورواه أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها. وإذا ثبت فالرمي بالليل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشمس إلى زوالها. قال أبو عمر: أجمعوا على أن وقت الاختيار في رمي جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى زوالها، وأجمعوا أنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر فقد أجزأ عنه ولا شيء عليه، إلا مالكا فإنه قال: أستحب له إن ترك جمرة العقبة حتى أمسى أن يهريق دما يجيء به من الحل. واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لرمي الجمرة وقتا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رماها بعد خروج وقتها، ومن فعل شيئا في الحج بعد وقته فعليه دم. وقال الشافعي: لا دم عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وبه قال أبو ثور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له السائل: يا رسول الله، رميت بعد ما أمسيت فقال: ( لا حرج ) ، قال مالك: من نسي رمي الجمار حتى يمسي فليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي أية ساعة ذكر، ولا يرمي إلا ما فاته خاصة، وإن كانت جمرة واحدة رماها، ثم يرمي ما رمى بعدها من الجمار، فإن الترتيب في الجمار واجب، فلا يجوز أن يشرع في رمي جمرة حتى يكمل رمي الجمرة الأولى كركعات الصلاة، هذا هو المشهور من المذهب. وقيل: ليس الترتيب بواجب في صحة الرمي، بل إذا كان الرمي كله في وقت الأداء أجزأه.

 

فإذا مضت أيام الرمي فلا رمي فإن ذكر بعد ما يصدر وهو بمكة أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي، وسواء ترك الجمار كلها، أو جمرة منها، أو حصاة من جمرة حتى خرجت أيام منى فعليه دم. وقال أبو حنيفة: إن ترك الجمار كلها فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء، إلا جمرة العقبة فعليه دم. وقال الأوزاعي: يتصدق إن ترك حصاة. وقال الثوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعة فصاعدا فعليه دم. وقال الليث: في الحصاة الواحدة دم، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الآخر وهو المشهور: إن في الحصاة الواحدة مدا من طعام، وفي حصاتين مدين، وفي ثلاث حصيات دم.

 

ولا سبيل عند الجميع إلى رمي ما فاته من الجمار في أيام التشريق حتى غابت الشمس من آخرها، وذلك اليوم الرابع من يوم النحر، وهو الثالث من أيام التشريق، ولكن يجزئه الدم أو الإطعام على حسب ما ذكرنا.

 

ولا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى ليالي التشريق، فإن ذلك غير جائز عند الجميع إلا للرعاء، ولمن ولي السقاية من آل العباس. قال مالك: من ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء وأهل السقاية فعليه دم. روى البخاري عن ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. قال ابن عبدالبر: كان العباس ينظر في السقاية ويقوم بأمرها، ويسقي الحاج شرابها أيام الموسم، فلذلك أرخص له في المبيت عن منى، كما أرخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم لرعي الإبل وضرورتهم إلى الخروج بها نحو المراعي التي تبعد عن منى.

وسميت منى « منى » لما يمنى فيها من الدماء، أي يراق. وقال ابن عباس: ( إنما سميت، منى لأن جبريل قال لآدم عليه السلام: تمن. قال: أتمنى الجنة، فسميت منى. قال: وإنما سميت جمعا لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام ) ، والجمع أيضا هو المزدلفة، وهو المشعر الحرام، كما تقدم.

 

وأجمع الفقهاء على أن المبيت للحاج غير الذين رخص لهم ليالي منى بمنى من شعائر الحج ونسكه، والنظر يوجب على كل مسقط لنسكه دما، قياسا على سائر الحج ونسكه. وفي الموطأ: مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر: لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. والعقبة التي منع عمر أن يبيت أحد وراءها هي العقبة التي عند الجمرة التي يرميها الناس يوم النحر مما يلي مكة. رواه ابن نافع عن مالك في المبسوط، قال: وقال مالك: ومن بات وراءها ليالي منى فعليه الفدية، وذلك أنه بات بغير منى ليالي منى، وهو مبيت مشروع في الحج، فلزم الدم بتركه كالمبيت بالمزدلفة، ومعنى الفدية هنا عند مالك الهدي. قال مالك: هو هدي يساق من الحل إلى الحرم.

 

روى مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر.

قال أبو عمر: لم يقل مالك بمقتضى هذا الحديث، وكان يقول: يرمون يوم النحر - يعني جمرة العقبة - ثم لا يرمون من الغد، فإذا كان بعد الغد وهو الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الذي يتعجل فيه النفر من يريد التعجيل أو من يجوز له التعجيل رموا اليومين لذلك اليوم ولليوم الذي قبله، لأنهم يقضون ما كان عليهم، ولا يقضي أحد عنده شيئا إلا بعد أن يجب عليه، هذا معنى ما فسر به مالك هذا الحديث في موطئه. وغيره يقول: لا بأس بذلك كله على ما في حديث مالك، لأنها أيام رمي كلها، وإنما لم يجز عند مالك للرعاء تقديم الرمي لأن غير الرعاء لا يجوز لهم أن يرموا في أيام التشريق شيئا من الجمار قبل الزوال، فإن رمى قبل الزوال أعادها، ليس لهم التقديم. وإنما رخص لهم في اليوم الثاني إلى الثالث. قال ابن عبدالبر: الذي قاله مالك في هذه المسألة موجود في رواية ابن جريج قال: أخبرني محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاء أن يتعاقبوا، فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرمون الغد. قال علماؤنا: ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل. قال ابن أبي زمنين يرميها يوم النفر الأول حين يريد التعجيل. قال ابن المواز: يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، لأنه قد رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع. قال ابن المنذر: ويسقط رمي اليوم الثالث.

 

روى مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل، يقول في الزمن الأول. قال الباجي: « قوله في الزمن الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أول زمن هذه الشريعة، فعلى هذا هو مرسل. ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء، فيكون موقوفا مسندا » . والله أعلم.

قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الدارقطني وغيره، وقد ذكرناه في « المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس » ، وإنما أبيح لهم الرمي بالليل لأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل، لأن الليل وقت لا ترعى فيه ولا تنتشر، فيرمون في ذلك الوقت. وقد اختلفوا فيمن فاته الرمي حتى غربت الشمس، فقال عطاء: لا رمي بالليل إلا لرعاء الإبل، فأما التجار فلا. وروي عن ابن عمر أنه قال: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تطلع الشمس من الغد، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك: إذا تركه نهارا رماه ليلا، وعليه دم في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في الموطأ أن عليه دما. وقال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد: إذا نسي الرمي حتى أمسى يرمي ولا دم عليه. وكان الحسن البصري يرخص في رمي الجمار ليلا. وقال أبو حنيفة: يرمي ولا شيء عليه، وإن لم يذكرها من الليل حتى يأتي الغد فعليه أن يرميها وعليه دم. وقال الثوري: إذا أخر الرمي إلى الليل ناسيا أو متعمدا أهرق دما.

قلت: أما من رمى من رعاء الإبل أو أهل السقاية بالليل فلا دم يجب، للحديث، وإن كان من غيرهم فالنظر يوجب الدم لكن مع العمد، والله أعلم.

 

ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته. واستحب مالك وغيره أن يكون الذي يرميها راكبا. وقد كان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمونها وهم مشاة، ويرمي في كل يوم من الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة، يكبر مع كل حصاة ويكون وجهه في حال رميه إلى الكعبة، ويرتب الجمرات ويجمعهن ولا يفرقهن ولا ينكسهن، يبدأ بالجمرة الأولى فيرميها بسبع حصيات رميا ولا يضعها وضعا، كذلك قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، فإن طرحها طرحا جاز عند أصحاب الرأي. وقال ابن القاسم: لا تجزئ في الوجهين جميعا، وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرميها، ولا يرمي عندهم بحصاتين أو أكثر في مرة، فإن فعل عدها حصاة واحدة، فإذا فرغ منها تقدم أمامها فوقف طويلا للرعاء بما تيسر. ثم يرمي الثانية وهي الوسطى وينصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل، ويطيل الوقوف عندها للدعاء. ثم يرمي الثالثة بموضع جمرة العقبة بسبع حصيات أيضا، يرميها من أسفلها ولا يقف عندها، ولو رماها من فوقها أجزأه، ويكبر في ذلك كله مع كل حصاة يرميها. وسنة الذكر في رمي الجمار التكبير دون غيره من الذكر، ويرميها ماشيا بخلاف جمرة يوم النحر، وهذا كله توقيف رفعه النسائي والدارقطني عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد - مسجد منى - يرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف. ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه ثم يدعو. ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها. قال الزهري: سمعت سالم بن عبدالله يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان ابن عمر يفعله، لفظ الدارقطني.

 

وحكم الجمار أن تكون طاهرة غير نجسة، ولا مما رمي به، فإن رمى بما قد رمي به لم يجزه عند مالك، وقد قال عنه ابن القاسم: إن كان ذلك في حصاة واحدة أجزأه، ونزلت بابن القاسم فأفتاه بهذا.

 

واستحب أهل العلم أخذها من المزدلفة لا من حصى المسجد، فإن أخذ زيادة على ما يحتاج وبقي ذلك بيده بعد الرمي دفنه ولم يطرحه، قال أحمد بن حنبل وغيره.

 

ولا تغسل عند الجمهور خلافا لطاوس، وقد روي أنه لو لم يغسل الجمار النجسة أو رمى بما قد رمي به أنه أساء وأجزأ عنه. قال ابن المنذر: يكره أن يرمي بما قد رمي به، ويجزئ إن رمى به، إذ لا أعلم أحدا أوجب على من فعل ذلك الإعادة، ولا نعلم في شيء من الأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل الحصى ولا أمر بغسله، وقد روينا عن طاوس، أنه كان يغسله.

 

ولا يجزئ في الجمار المدر ولا شيء غير الحجر، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي: يجوز بالطين اليابس، وكذلك كل شيء رماها من الأرض فهو يجزئ. وقال الثوري: من رمى بالخزف والمدر لم يعد الرمي. قال ابن المنذر: لا يجزئ الرمي إلا بالحصى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « عليكم بحصى الخذف » . وبالحصى رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

واختلف في قدر الحصى، فقال الشافعي: يكون أصغر من الأنملة طولا وعرضا. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: بمثل حصى الخذف، وروينا عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بمثل بعر الغنم، ولا معنى لقول مالك: أكبر من ذلك أحب إلي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الرمي بمثل حصى الخذف، ويجوز أن يرمى بما وقع عليه اسم حصاة، واتباع السنة أفضل، قاله ابن المنذر.

قلت: وهو الصحيح الذي لا يجوز خلافه لمن اهتدى واقتدى. روى النسائي عن ابن عباس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: ( هات القط لي - فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال - : بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) . فدل قوله: ( وإياكم والغلو في الدين ) على كراهة الرمي بالجمار الكبار، وأن ذلك من الغلو، والله أعلم. ومن بقي في يده حصاة لا يدري من أي الجمار هي جعلها من الأولى، ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال استأنف جميعا.

 

قال مالك والشافعي وعبدالملك وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن قدم جمرة على جمرة: لا يجزئه إلا أن يرمي على الولاء. وقال الحسن، وعطاء وبعض الناس: يجزئه. واحتج بعض الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج وقال: - لا يكون هذا بأكثر من رجل اجتمعت عليه صلوات أو صيام فقضى بعضا قبل بعض ) . والأول أحوط، والله أعلم.

 

واختلفوا في رمي المريض والرمي عنه، فقال مالك: يرمى عن المريض والصبي اللذين لا يطيقان الرمي، ويتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات لكل جمرة وعليه الهدي، وإذا صح المريض في أيام الرمي رمى عن نفسه، وعليه مع ذلك دم عند مالك. وقال الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: يرمى عن المريض، ولم يذكروا هديا. ولا خلاف في الصبي الذي لا يقدر على الرمي أنه يرمى عنه، وكان ابن عمر يفعل ذلك.

 

روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قلنا: يا رسول الله، هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص، فقال: ( إنه ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال ) .

قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن لمن أراد الخروج من الحاج من منى شاخصا إلى بلده خارجا عن الحرم غير مقيم بمكة في النفر الأول أن ينفر بعد زوال الشمس إذا رمى في اليوم الذي يلي يوم النحر قبل أن يمسي، لأن الله جل ذكره قال: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، فلينفر من أراد النفر ما دام في شيء من النهار. وقد روينا عن النخعي والحسن أنهما قالا: من أدركه العصر وهو بمنى من اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغد. قال ابن المنذر: وقد يحتمل أن يكونا قالا ذلك استحبابا، والقول الأول به نقول، لظاهر الكتاب والسنة.

 

واختلفوا في أهل مكة هل ينفرون النفر الأول، فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من شاء من الناس كلهم أن ينفروا في النفر الأول، إلا آل خزيمة فلا ينفرون إلا في النفر الآخر. وكان أحمد بن حنبل يقول: لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة، وقال: أهل مكة أخف، وجعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر بن الخطاب: ( إلا آل خزيمة ) أي أنهم أهل حرم. وكان مالك يقول في أهل مكة: من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين، فإن أراد التخفيف عن نفسه مما هو فيه من أمر الحج فلا، فرأى التعجيل لمن بعد قطره. وقالت طائفة: الآية على العموم، والرخصة لجميع الناس، أهل مكة وغيرهم، أراد الخارج عن منى المقام بمكة أو الشخوص إلى بلده. وقال عطاء: هي للناس عامة. قال ابن المنذر: وهو يشبه مذهب، الشافعي، وبه نقول. وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي: ( من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج ) ، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا، إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي أيضا: ( معنى من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له ) ، واحتجوا بقوله عليه السلام: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه ) . فقوله: « فلا إثم عليه » نفي عام وتبرئة مطلقة. وقال مجاهد أيضا: معنى الآية، من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام المقبل. وأسند في هذا القول أثر. وقال أبو العالية في الآية: لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره، والحاج مغفور له البتة، أي ذهب إثمه كله إن اتقى الله فيما بقي من عمره. وقال أبو صالح وغيره: معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد، وما يجب عليه تجنبه في الحج. وقال أيضا: لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا.

 

« من » في قوله: « فمن تعجل » رفع بالابتداء، والخبر « فلا إثم عليه » . ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم، لأن معنى « من » جماعة، كما قال جل وعز: « ومنهم من يستمعون إليك » [ يونس: 42 ] وكذا « ومن تأخر فلا إثم عليه » . واللام من قوله: « لمن اتقى » متعلقة بالغفران، التقدير المغفرة لمن اتقى، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلي. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي. وقال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى. وقال بعضهم: لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم. وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى، روي هذا عن ابن عمر. وقيل: السلامة لمن اتقى. وقيل: هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى: « واذكروا » أي الذكر لمن اتقى. وقرأ سالم بن عبدالله « فلا إثم عليه » بوصل الألف تخفيفا، والعرب قد تستعمله. قال الشاعر:

إن لم أقاتل فالبسوني برقعا

ثم أمر الله تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف.

 

الآية: 204 ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام )

 

قوله تعالى: « ومن الناس من يعجبك قوله » لما ذكر الذين قصرت همتهم على الدنيا - في قوله: « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا » [ البقرة: 200 ] - والمؤمنين الذين سألوا خير الدارين ذكر المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان وأسروا الكفر. قال السدي وغيره من المفسرين: نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبي، والأخنس لقب لُقب به، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي في « آل عمران » بيانه. وكان رجلا حلو القول والمنظر، فجاء بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام وقال: الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بزرع لقوم من المسلمين وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر. قال المهدوي: وفيه نزلت « ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم » [ ن: 10 - 11 ] و « ويل لكل همزة لمزة » [ الهمزة: 1 ] . قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم. وقال ابن عباس: ( نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع: عاصم بن ثابت، وخبيب، وغيرهم، وقالوا: ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ) ، فنزلت هذه الآية في صفات المنافقين، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » [ البقرة: 207 ] . وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون، وعلي يجترئون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران. ومعنى « ويٌشهد الله » أي يقول: الله يعلم أني أقول حقا. وقرأ ابن محيصن « ويشهد الله على ما في قلبه » بفتح الياء والهاء في « يشهد » « الله » بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال. دليل قوله: « والله يشهد إن المنافقين لكاذبون » [ المنافقون: 1 ] . وقراءة ابن عباس: « والله يشهد على ما في قلبه » . وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه. وقرأ أبي وابن مسعود: « ويستشهد الله على ما في قلبه » وهي حجة لقراءة الجماعة.

 

قال علماؤنا: وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله تعالى بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا. فإن قيل: هذا يعارضه قوله عليه السلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الحديث، وقوله: ( فأقضي له على نحو ما أسمع ) فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأما وقد عم الفساد فلا، قاله ابن العربي.

قلت: والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة.

 

قوله تعالى: « وهو ألد الخصام » الألد: الشديد الخصومة، وهو رجل ألد، وامرأة لداء، وهم أهل لدد. وقد لددت - بكسر الدال - تلد - بالفتح - لددا، أي صرت ألد. ولددته - بفتح الدال - ألده - بضمها - إذا جادلته فغلبته. والألد مشتق من اللديدين، وهما صفحتا العنق، أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب. قال الشاعر :

وألد ذي حنق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل

وقال آخر:

إن تحت التراب عزما وحزما وخصيما ألد ذا مغلاق

و « الخصام » في الآية مصدر خاصم، قاله الخليل. وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج، ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام. والمعنى أشد المخاصمين خصومة، أي هو ذو جدال، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل. وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) .

 

الآية: 205 ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )

 

قوله تعالى: « وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها » قيل: « تولى وسعى » من فعل القلب، فيجيء « تولى » بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه. و « سعى » أي سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله، عن ابن جريج وغيره. وقيل: هما فعل الشخص، فيجيء « تولى » بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد. و « سعى » أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، عن ابن عباس وغيره. وكلا السعيين فساد. يقال: سعى الرجل يسعى سعيا، أي عدا، وكذلك إذا عمل وكسب. وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم.

 

قوله تعالى: « ويُهلك » عطف على ليفسد. وفي قراءة أبي « وليهلك » . وقرأ الحسن، وقتادة « ويهلك » بالرفع، وفي رفعه أقوال: يكون معطوفا على « يعجبك » . وقال أبو حاتم: هو معطوف على « سعى » لأن معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق: وهو يهلك. وروي عن ابن كثير « ويهلك » بفتح الياء وضم الكاف، « الحرث والنسل » مرفوعان بيهلك، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي حيوة وابن محيصن، ورواه عبدالوارث عن أبي عمرو. وقرأ قوم « ويهلك » بفتح الياء واللام، ورفع الحرث، لغة هَلَكَ يَهلك، مثل ركن يركن، وأبى يأبى، وسلى يسلى، وقلى يقلى، وشبهه. والمعني في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر، قاله الطبري. قال غيره: ولكنها صارت عامة لجميع الناس، فمن عمل مثل علمه استوجب تلك اللعنة والعقوبة. قال بعض العلماء: إن من يقتل حمارا أو يحرق كدسا استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة. وقال مجاهد: المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وقيل: الحرث النساء، والنسل الأولاد، وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، قال معناه الزجاج. والسعي في الأرض المشي بسرعة، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس، والله أعلم.

وفي الحديث: ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) . وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « الحرث والنسل » الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض. والحرث: كسب المال وجمعه، وفي الحديث: ( احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ) . والحرث الزرع. والحراث الزراع. وقد حرث واحترث، مثل زرع وازدرع ويقال: احرث القرآن، أي ادرسه. وحرثت الناقة وأحرثتها، أي سرت عليها حتى هزلت وحرثت النار حركتها. والمحراث: ما يحرك به نار التنور، عن الجوهري. والنسل: ما خرج من كل أنثى من ولد. وأصله الخروج والسقوط، ومنه نسل الشعر، وريش الطائر، والمستقبل ينسل، ومنه « إلى ربهم ينسلون » [ يس: 51 ] ، « من كل حدب ينسلون » [ الأنبياء: 96 ] وقال امرؤ القيس:

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

قلت: ودلت الآية على الحرث وزراعة الأرض، وغرسها بالأشجار حملا على الزرع، وطلب النسل، وهو. نماء الحيوان، وبذلك يتم قوام الإنسان. وهو يرد على من قال بترك الأسباب، وسيأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « والله لا يحب الفساد » قال العباس بن الفضل: الفساد هو الخراب. وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض. وقال عطاء: إن رجلا يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها. قال قتادة: قلت لعطاء: إنا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد.

قلت: والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قيل: معنى لا يحب الفساد أي لا يحبه من أهل الصلاح، أولا يحبه دينا.

ويحتمل أن يكون المعنى لا يأمر به، والله أعلم.

 

الآية: 206 ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد )

 

هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا. وقال عبدالله: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، مثلك يوصيني! والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه. ومنه: « وعزني في الخطاب » [ ص : 23 ] وقيل: العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر:

أخذته عزة من جهله فتولى مغضبا فعل الضجر

وقيل: العزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتحى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إياه. وقال قتادة: المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية، والمعنى حملته العزة على الإثم. وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي ارتكب الكفر للعزة وحمية الجاهلية. ونظيره: « بل الذين كفروا في عزة وشقاق » [ ص: 2 ] وقيل: الباء في « بالإثم » بمعنى اللام، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، ومنه قول عنترة يصف عرق الناقة:

وكأن ربا أو كحيلا معقدا حش الوقود به جوانب قمقم

أي حش الوقود له وقيل: الباء بمعنى مع، أي أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلات. وذكر أن يهوديا كانت له حاجة عند هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم يقض حاجته، فوقف يوما على الباب، فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا، فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت، فلما رجع قيل له: يا أمير المؤمنين، نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال: لا، ولكن تذكرت قول الله تعالى: « وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد » . حسبه أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك! وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل. والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي.

وسمي جهنم مهادا لأنها مستقر الكفار. وقيل: لأنها بدل لهم من المهاد، كقوله: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] ونظيره من الكلام قولهم:

تحية بينِهم ضرب وجيع

 

الآية: 207 ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد )

 

« ابتغاء » نصب على المفعول من أجله. ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين. قيل: نزلت في صهيب فإنه أقبل مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، وأخذ قوسه، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وايْم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » الآية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ربح البيع أبا يحيى ) ، وتلا عليه الآية، أخرجه رزين، وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما. وقال المفسرون: أخذ المشركون صهيبا فعذبوه، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير، لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان شرط عليه راحلة ونفقة، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى. فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر، فما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية. وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية، نزلت في المسلم لقي الكافر فقال له: قل لا إله إلا الله، فإذا قلتها عصمت مالك ونفسك، فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرين نفسي لله، فتقدم فقاتل حتى قتل. وقيل: نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وعلى ذلك تأولها عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، قال علي وابن عباس: ( اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله وقاتله فاقتتلا ) . وقال أبو الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية، فقال عمر: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ) . وقيل: إن عمر سمع ابن عباس يقول: ( اقتتل الرجلان عند قراءة القارئ هذه الآية ) ، فسأله عما قال ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر، ( لله تلادك يا ابن عباس ) ! وقيل: نزلت فيمن يقتحم القتال. حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » ، ومثله عن أبي أيوب. وقيل: نزلت في شهداء غزوة الرجيع. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار. وقيل: نزلت في علي رضي الله عنه حين تركه النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه ليلة خرج إلى الغار، على ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء الله تعالى. وقيل: الآية عامة، تتناول كل مجاهد في سبيل الله، أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر. وقد تقدم حكم من حمل على الصف، ويأتي ذكر المغير للمنكر وشروطه وأحكامه في « آل عمران » إن شاء الله تعالى.

و « يشري » معناه يبيع، ومنه « وشروه بثمن بخس » [ يوسف: 20 ] أي باعوه، وأصله الاستبدال، ومنه قوله تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة » [ التوبة: 111 ] . ومنه قول الشاعر:

وإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى شروا هذه الدنيا بجناته الخلد

وقال آخر:

وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه

البرد هنا اسم غلام. وقال آخر:

يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا فاشر

وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله. « ابتغاء » مفعول من أجله. ووقف الكسائي على « مرضات » بالتاء، والباقون بالهاء. قال أبو علي: وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول: طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر:

بل جوزتيهاء كظهر الحجفت

وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد. والمرضاة الرضا، يقال: رضي يرضى رضا ومرضاة. وحكى قوم أنه يقال: شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال: إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله. فيستقيم اللفظ على معنى باع.

 

الآية: 208 ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )

 

لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مجاهد، ورواه أبو مالك عن ابن عباس. ومنه قول الشاعر الكندي:

دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا

أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي، ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، قاله الطبري. وقيل: أمر من آمن بأفواههم أن يدخلوا فيه بقلوبهم. وقال طاوس ومجاهد: ادخلوا في أمر الدين. سفيان الثوري: في أنواع البر كلها. وقرئ « السلم » بكسر السين.

قال الكسائي: السِّلم والسَّلم بمعنى واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة. وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما، فقرأههنا: « ادخلوا في السلم » وقال هو الإسلام. وقرأ التي في « الأنفال » والتي في سورة « محمد » صلى الله عليه وسلم « السلم » بفتح السين، وقال: هي بالفتح المسالمة. وأنكر المبرد هذه التفرقة. وقال عاصم الجحدري: السلم الإسلام، والسلم الصلح، والسلم الاستسلام. وأنكر محمد بن يزيد هذه التفريقات وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس، ويحتاج من فرق إلى دليل. وقد حكى البصريون: بنو فلان سلم وسلم وسلم، بمعنى واحد. قال الجوهري: والسلم الصلح، يفتح ويكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد، ولذلك قيل للصلح: سلم. قال زهير:

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم

ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام بما تقدم. وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية: الإسلام ثمانية أسهم، الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام. وقال ابن عباس: ( نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم كافة ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن، بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . و ( كافة ) معناه جميعا، فهو نصب على الحال من السلم أو من ضمير المؤمنين، وهو مشتق من قولهم: كففت أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام. والكف المنع، ومنه كفة القميص - بالضم - لأنها تمنع الثوب من الانتشار، ومنه كفة الميزان - بالكسر - التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر، ومنه كف الإنسان الذي يجمع منافعه ومضاره، وكل مستدير كفة، وكل مستطيل كفة. ورجل مكفوف البصر، أي منع عن النظر، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق. « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » ( ولا تتبعوا ) نهي. ( خطوات الشيطان ) مفعول، وقد تقدم. وقال مقاتل: استأذن عبدالله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فنزلت. « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » فإن اتباع السنة أولى بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من خطوات الشيطان. وقيل: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان. « إنه لكم عدو مبين » ظاهر العداوة، وقد تقدم.

 

الآية: 209 ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم )

 

« فإن زللتم » أي تنحيتم عن طريق الاستقامة. وأصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه. وقرأ أبو السمال العدوي « زللتم » بكسر اللام، وهما لغتان. وأصل الحرف، من الزلق، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق. « من بعد ما جاءتكم البينات » أي المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين فالبينات ما ورد في شرعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به. وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع. وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه « فاعلموا أن الله غفور رحيم » فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقال الرجل: « فاعلموا أن الله عزيز حكيم » فقال كعب: هكذا ينبغي. و « عزيز » لا يمتنع عليه ما يريده. « حكيم » فيما يفعله.

 

الآية: 210 ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور )

 

« هل ينظرون » يعني التاركين الدخول في السلم، و « هل » يراد به هنا الجحد، أي ما ينتظرون: « إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة » . نظرته وانتظرته بمعنى. والنظر الانتظار. وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع والضحاك « في ظلال من الغمام » . وقرأ أبو جعفر « والملائكة » بالخفض عطفا على الغمام، وتقديره مع الملائكة، تقول العرب: أقبل الأمير في العسكر، أي مع العسكر. « ظلل » جمع ظلة في التكسير، كظلمة وظلم وفي التسليم ظللات، وأنشد سيبوبه:

إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها سواقط من حر وقد كان أظهرا

وظلات وظلال، جمع ظل في الكثير، والقليل أظلال. ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلة، مثل قوله: قلة وقلال، كما قال الشاعر:

ممزوجة بماء القلال

 

قال الأخفش سعيد: و « الملائكة » بالخفض بمعنى وفي الملائكة. قال: والرفع أجود، كما قال: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » [ الأنعام: 158 ] ، « وجاء ربك والملك صفا صفا » [ الفجر: 22 ] . قال الفراء: وفي قراءة عبدالله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام » . قال قتادة: الملائكة يعني تأتيهم لقبض أرواحهم، ويقال يوم القيامة، وهو أظهر. قال أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتيهم الله فيما شاء. وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة. وقيل: ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه. وقيل: أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل: « فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا » [ الحشر: 2 ] أي بخذلانه إياهم، هذا قول الزجاج، والأول قول الأخفش سعيد. وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال: « فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم » [ النحل: 26 ] . وقال في قصة النضير: « فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب » ، وقال: « وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها » [ الأنبياء: 47 ] . وإنما احتمل الإتيان هذه المعاني لأن أصل الإتيان عند أهل اللغة هو القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض، وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه! وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا. وقيل: الفاء بمعنى الباء، أي يأتيهم بظلل، ومنه الحديث: ( يأتيهم الله في صورة ) أي بصورة امتحانا لهم ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال، لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا. والغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لأنه يغم، أي يستر، كما تقدم. وقرأ معاذ بن جبل: « وقضاء الأمر » . وقرأ يحيى بن يعمر « وقضي الأمور » بالجمع. والجمهور « وقضي الأمر » فالمعنى وقع الجزاء وعذب أهل العصيان. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي « ترجع الأمور » على بناء الفعل للفاعل، وهو الأصل، دليله « ألا إلى الله تصير الأمور » [ الشورى: 53 ] ، « إلى الله مرجعكم » [ المائدة: 48 - 105 ] . وقرأ الباقون « ترجع » على بنائه للمفعول، وهي أيضا قراءة حسنة، دليله « ثم تردون » [ التوبة: 94 ] « ثم ردوا إلى الله » [ الأنعام: 62 ] ، « ولئن رددت إلى ربي » [ الكهف: 36 ] . والقراءتان حسنتان بمعنى، والأصل الأولى، وبناؤه للمفعول توسع وفرع، والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد. وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.

 

 

 

الآية: 211 ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب )

 

قوله تعالى: « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة » « سل » من السؤال: بتخفيف الهمزة، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في، « سل » وثبوتها في « واسأل » وجهين:

أحدهما - حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما، فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها.

والوجه الثاني - أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: « سل بني إسرائيل » ، وقوله: « سلهم أيهم بذلك زعيم » [ ن : 40 ] . وثبت في العطف، مثل قوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ، « واسألوا الله من فضله » [ النساء: 32 ] قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه « اسأل » على الأصل. وقرأ قوم « اسل » على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال: الاحمر. و « كم » في موضع نصب، لأنها مفعول ثان لآتيناهم. وقيل: بفعل مضمر، تقديره كم آتينا آتيناهم. ولا يجوز أن يتقدمها الفعل لأن لها صدر الكلام. « من آية » في موضع نصب على التمييز على التقدير الأول، وعلى الثاني مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في آتيناهم، ويصير فيه عائد على كم، تقديره: كم آتيناهموه، ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيه معنى الاستفهام، وإذا فرقت بين كم وبين الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن كما في هذه الآية، فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال الشاعر:

كم بجود مقرف نال العلا وكريم بخله قد وضعه

والمراد بالآية كم جاءهم في أمر محمد عليه السلام من آية معرفة به دالة عليه. قال مجاهد والحسن وغيرهما: يعني الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك. وأمر الله تعالى نبيه بسؤالهم على جهة التقريع لهم والتوبيخ.

 

قوله تعالى: « ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته » لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى. وقال الطبري: النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول. ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش، فإن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا.

 

قوله تعالى: « فإن الله شديد العقاب » خبر يتضمن الوعيد. والعقاب مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر. فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب، وقد عاقبه بذنبه.

 

الآية: 212 ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب )

 

قوله تعالى: « زين للذين كفروا الحياة الدنيا » على ما لم يسم فاعله. والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس: وهي قراءة شاذة، لأنه لم يتقدم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة: « زينت » بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي، والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها. وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا.

 

قوله تعالى: « ويسخرون من الذين آمنوا » إشارة إلى كفار قريش، فإنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: في طلبهم الآخرة. وقيل: لفقرهم وإقلالهم، كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، رضي الله عنهم، فنبه سبحانه على خفض منزلتهم لقبيح فعلهم بقوله: « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » . وروى علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره وقلة ذات يده شهره الله يوم القيامة ثم فضحه ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى على تل من نار يوم القيامة حتى يخرج مما قال فيه وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرب وليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده ) . ثم قيل: معنى « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » أي في الدرجة، لأنهم في الجنة والكفار في النار. ويحتمل أن يراد بالفوق المكان، من حيث إن الجنة في السماء، والنار في أسفل السافلين. ويحتمل أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاص بن وائل، قال خباب: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال فقلت له: إني لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، الحديث. وسيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى. ويقال: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه، كل ذلك يقال، حكاه الأخفش. والاسم السخرية والسخري والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: « ليتخذ بعضهم بعضا سخريا » [ الزخرف: 32 ] وقوله: « فاتخذتموهم سخريا » [ المؤمنون: 110 ] . ورجل سخرة. يسخر منه، وسخرة - بفتح الخاء - يسخر من الناس. وفلان سخرة يتسخر في العمل، يقال: خادمه سخرة، وسخره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة.

 

قوله تعالى: « والله يرزق من يشاء بغير حساب » قال الضحاك: يعني من غير تبعة في الآخرة. وقيل: هو إشارة إلى هؤلاء المستضعفين، أي يرزقهم علو المنزلة، فالآية تنبيه على عظيم النعمة عليهم. وجعل رزقهم بغير حساب من حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينعد. وقيل: إن قوله: « بغير حساب » صفة لرزق الله تعالى كيف يصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، والذي بحساب ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: « جزاء من ربك عطاء حسابا » [ النبأ: 36 ] . والله أعلم. ويحتمل أن يكون المعنى بغير احتساب من المرزوقين، كما قال: « ويرزقه من حيث لا يحتسب » [ الطلاق: 3 ] .

 

الآية: 213 ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « كان الناس أمة واحدة » أي على دين واحد. قال أبي بن كعب، وابن زيد: المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية. وقال مجاهد: الناس آدم وحده، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل. وقيل: آدم وحواء. وقال ابن عباس وقتادة: ( المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحا فمن بعده ) . وقال ابن أبي خيثمة: منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة. وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة. وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة، متمسكين بالدين، تصافحهم الملائكة، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا. وهذا فيه نظر، لأن إدريس بعد نوح على الصحيح. وقال قوم منهم الكلبي الواقدي: المراد نوح ومن في السفينة، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا. وقال ابن عباس أيضا: ( كانوا أمة واحدة على الكفر، يريد في مدة نوح حين بعثه الله ) . وعنه أيضا: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة، كلهم كفار، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين. فـ « كان » على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضي. وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا فبعث، ودل على هذا الحذف: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه » أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى. وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم. ويحتمل أن تكون « كان » للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص « كان » على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: « وكان الله غفورا رحيما » [ النساء: 96، 100، 152 ] . و « أمة » مأخوذة من قولهم: أممت كذا، أي قصدته، فمعنى « أمة » مقصدهم واحد، ويقال للواحد: أمة، أي مقصده غير مقصد الناس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة: ( يحشر يوم القيامة أمة وحده ) . وكذلك قال في زيد بن عمرو بن نفيل. والأمة القامة، كأنها مقصد سائر البدن. والأمة ( بالكسر ) : النعمة، لأن الناس يقصدون قصدها. وقيل: إمام، لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل، عن النحاس. وقرأ أبي بن كعب: « كان البشر أمة واحدة » وقرأ ابن مسعود « كان الناس أمة واحدة فاختلفوا » .

 

قوله تعالى: « فبعث الله النبيين » وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر، وأول الرسل آدم، على ما جاء في حديث أبي ذر، أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي. وقيل: نوح، لحديث الشفاعة، فإن الناس يقولون له: أنت أول الرسل. وقيل: إدريس، وسيأتي بيان هذا في « الأعراف » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « مبشرين ومنذرين » نصب على الحال. « وأنزل معهم الكتاب » اسم جنس بمعنى الكتب. وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة. و « ليحكم » مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو نصب بإضمار أن، أي لأن يحكم وهو مجاز مثل « هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق » [ الجاثية: 29 ] . وقيل: أي ليحكم كل نبي بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب. وقراءة عاصم الجحدري « ليحكم بين الناس » على ما لم يسم فاعله، وهي قراءة شاذة، لأنه قد تقدم ذكر الكتاب. وقيل: المعنى ليحكم الله، والضمير في « فيه » عائد على « ما » من قوله: « فيما » والضمير في « فيه » الثانية يحتمل أن يعود على الكتاب، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه. موضع « الذين » رفع بفعلهم. و « أتوه » بمعنى أعطوه. وقيل: يعود على المنزل عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج. أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه. « بغيا بينهم » نصب على المفعول له، أي لم يختلفوا إلا للبغي، وقد تقدم معناه. وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي واقعوه. و « هدى » معناه أرشد، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم. وقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها. وقالت طائفة: إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين، من قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا. وقال ابن زيد وزيد بن أسلم: من قبلتهم، فإن اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد ) ومن صيامهم، ومن جميع ما اختلفوا فيه.

وقال ابن زيد: واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبدا لله. وقال الفراء: هو من المقلوب - واختاره الطبري - قال: وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه. قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه، لأن قوله: « فهدى » يقتضي أنهم أصابوا الحق وتم المعنى في قوله: « فيه » وتبين بقوله: « من الحق » جنس ما وقع الخلاف فيه، قال المهدوي: وقدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف. قال ابن عطية: وليس هذا عندي بقوي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود « لما اختلفوا عنه من الحق » أي عن الإسلام. و « بإذنه » قال الزجاج: معناه بعلمه. قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه. وفي قوله: « والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » رد على المعتزلة في قولهم: إن العبد يستبد بهداية نفسه.

 

الآية: 214 ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب )

 

قوله تعالى: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة » « حسبتم » معناه ظننتم. قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى: « وبلغت القلوب الحناجر » [ الأحزاب: 10 ] . وقيل: نزلت في حرب أحد، نظيرها - في آل عمران - « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم » [ آل عمران: 142 ] . وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم « أم حسبتم » . و « أم » هنا منقطعة، بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها، و « حسبتم » تطلب مفعولين، فقال النحاة: « أن تدخلوا » تسد مسد المفعولين. وقيل: المفعول الثاني محذوف: أحسبتم دخولكم الجنة واقعا. و « لما » بمعنى لم. و « مثل » معناه شبه، أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا. وحكى النضر بن شميل أن « مثل » يكون بمعنى صفة، ويجوز أن يكون المعنى: ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم، أي من البلاء. قال وهب: وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيا موتى، كان سبب موتهم الجوع والقمل، ونظير هذه الآية « الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم » [ العنكبوت: 1 - 2 - 3 ] على ما يأتي، فاستدعاهم تعالى إلى الصبر، ووعدهم على ذلك بالنصر فقال: « ألا إن نصر الله قريب » . والزلزلة: شدة التحريك، تكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا - بالكسر - فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، فمعنى « زلزلوا » خوفوا وحركوا. والزلزال - بالفتح - الاسم. والزلازل: الشدائد. وقال الزجاج: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه. ومذهب سيبويه أن زلزل رباعي كدحرج. وقرأ نافع « حتى يقول » بالرفع، والباقون بالنصب. ومذهب سيبويه في « حتى » أن النصب فيما بعدها من جهتين والرفع من جهتين، تقول: سرت حتى أدخل المدينة - بالنصب - على أن السير والدخول جميعا قد مضيا، أي سرت إلى أن أدخلها، وهذه غاية، وعليه قراءة من قرأ بالنصب. والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها، أي كي أدخلها. والوجهان في الرفع سرت حتى أدخلها، أي سرت فأدخلها، وقد مضيا جميعا، أي كنت سرت فدخلت. ولا تعمل حتى ههنا بإضمار أن، لأن بعدها جملة، كما قال الفرزدق:

فيا عجبا حتى كليب تسبني

قال النحاس: فعلى هذا القراءة بالرفع أبين وأصح معنى، أي وزلزلوا حتى الرسول يقول، أي حتى هذه حاله، لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها، والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى. والرسول هنا شعيا في قول مقاتل، وهو اليسع. وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال: متى نصر الله؟. وروي عن الضحاك قال: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وعليه يدل نزول الآية، والله أعلم. والوجه الآخر في غير الآية سرت حتى أدخلها، على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن. وحكى سيبويه: مرض حتى لا يرجونه، أي هو الآن لا يرجى، ومثله سرت حتى أدخلها لا أمنع. وبالرفع قرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن وشيبة. وبالنصب قرأ الحسن وأبو جعفر وابن أبي إسحاق وشبل وغيرهم. قال مكي: وهو الاختيار، لأن جماعة القراء عليه. وقرأ الأعمش: « وزلزلوا ويقول الرسول » بالواو بدل حتى. وفي مصحف ابن مسعود: « وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول » . وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، أي بلغ الجهد بهم حتى استبطؤوا النصر، فقال الله تعالى: « ألا إن نصر الله قريب » . ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب. والرسول اسم جنس. وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان. قال ابن عطية: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. ويحتمل أن يكون « ألا إن نصر الله قريب » إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.

 

قوله تعالى: « متى نصر الله » رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبي العباس رفع بفعل، أي متى يقع نصر الله. و « قريب » خبر « إن » . قال النحاس: ويجوز في غير القرآن « قريبا » أي مكانا قريبا. و « قريب » لا تثنيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى، قال الله عز وجل: « إن رحمة الله قريب من المحسنين » [ الأعراف: 56 ] . وقال الشاعر:

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا بسباسة بنة يشكرا

فإن قلت: فلان قريب لي ثنيت وجمعت، فقلت: قريبون وأقرباء وقرباء.

 

الآية: 215 ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم )

 

قوله تعالى: « يسألونك » إن خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحها وحذفت الهمزة فقلت: يسلونك. ونزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا فقال: يا رسول الله، إن مالي كثير، فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت « يسألونك ماذا ينفقون » .

 

قوله تعالى: « ماذا ينفقون » « ما » في موضع رفع بالابتداء، و « ذا » الخبر، وهو بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي ما الذي ينفقونه، وإن شئت كانت « ما » في موضع نصب بـ « ينفقون » و « ذا » مع « ما » بمنزلة شيء واحد ولا يحتاج إلى ضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء في قول الشاعر:

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

فإن « عسى » لا تعمل فيه، فـ « ماذا » في موضع رفع وهو مركب، إذ لا صلة لـ « ذا » .

 

قيل: إن السائلين هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، وأين يضعون ما لزم إنفاقه. قال السدي: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة. قال ابن عطية: ووهم المهدوي على السدي في هذا، فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان. وقال ابن جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهي مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك. قال مالك، ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام.

 

قوله تعالى: « قل ما أنفقتم » « ما » في موضع نصب بـ « أنفقتم » وكذا « وما تنفقوا » وهو شرط والجواب « فللوالدين » ، وكذا « وما تفعلوا من خير » شرط، وجوابه « فإن الله به عليم » وقد مضى القول في اليتيم والمسكين وابن السبيل. ونظير هذه الآية قوله تعالى « فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل » [ الروم: 38 ] . وقرأ علي بن أبي طالب « يفعلوا » بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة.

 

 

 

الآية: 216 ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « كتب » معناه فرض، وقد تقدم مثله. وقرأ قوم « كتب عليكم القتل » ، وقال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

هذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة. والمراد بالقتال قتال الأعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا » [ الحج: 39 ] ثم أذن له في قتال المشركين عامة. واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنما كتب على أولئك. وقال الجمهور من الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته. وقال سعيد بن المسيب: إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي. قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين، وسيأتي هذا مبينا في سورة « براءة » إن شاء الله تعالى. وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع. قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع.

 

قوله تعالى: « وهو كره لكم » ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع. قال ابن عرفة: الكره، المشقة والكره - بالفتح - ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها. وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات.

قلت: ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس، وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.

 

قوله تعالى: « وعسى أن تكرهوا شيئا » قيل: « عسى » : بمعنى قد، قاله الأصم. وقيل: هي واجبة. و « عسى » من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: « عسى ربه إن طلقكن أن يبدله » [ التحريم: 5 ] . وقال أبو عبيدة: « عسى » من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم.

قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:

رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

 

الآية: 217 ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « يسألونك » تقدم القول فيه. وروى جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن: « يسألونك عن المحيض » ، « يسألونك عن الشهر الحرام » ، « يسألونك عن اليتامى » ، ما كانوا يسألونك إلا عما ينفعهم ) . قال ابن عبدالبر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. وروى أبو اليسار عن جندب بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عبدالله بن جحش، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: ولا تكرهن أصحابك على المسير، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله، قال: فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: « يسألونك عن الشهر الحرام » الآية. وروى أن سبب نزولها أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت الآية. والقول بأن نزولها في قصة عبدالله بن جحش أكثر وأشهر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع تسعة رهط ، وقيل ثمانية، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين، وقيل في رجب. قال أبو عمر - في كتاب الدرر له - : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر - وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى - أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب، وبعث في رجب عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبدالله التميمي، وخالد بن بكير الليثي. وكتب لعبدالله بن جحش كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبدالله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه: ( إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم ) . فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع. فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهضوا معه، فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبدالله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي عبدالله بن عباد من الصدف، والصدف بطن من حضرموت - وعثمان بن عبدالله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام: وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبدالله، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقال لهم عبدالله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا، فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » [ الأنفال: 41 ] فأقر الله ورسوله فعل عبدالله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل. وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » إلى قوله: « هم فيها خالدون » . وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبدالله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين.

وقيل: إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبدالله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم، فقال عبدالله بن جحش: إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث. وتفاءلت اليهود وقالوا: واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال: لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فاداهما فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ) فهذا سبب نزول قوله تعالى: « يسألونك عن الشهر الحرام » . وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب، على ما تقدم. وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى. قال ابن عطية: وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبدالله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين.

 

واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح. واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] . وقيل نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام. وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل عز وجل: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » الآية، قال: فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل: « براءة من الله ورسوله » [ التوبة: 1 ] . وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى.

 

قوله تعالى: « قتال فيه » « قتال » بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القتبي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه:

فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

وقرأ عكرمة: « يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل » بغير ألف فيهما. وقيل: المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه، وهكذا قرأ ابن مسعود، فيكون مخفوضا بعن على التكرير، قاله الكسائي. وقال الفراء: هو مخفوض على نية عن. وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان: جحرا ضب خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها. قال ابن عطية: وقال أبو عبيدة: هو خفض على الجوار، وقوله هذا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل. وقرأ الأعرج: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » بالرفع. قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه؟ فقوله: « يسألونك » يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس:

أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل

والمعنى: أترى برقا، فحذف ألف الاستفهام، لأن الألف التي في « أصاح » تدل عليها وإن كانت حرف نداء، كما قال الشاعر:

تروح من الحي أم تبتكر

والمعنى: أتروح، فحذف الألف لأن « أم » تدل عليها.

 

قوله تعالى: « قل قتال فيه كبير » ابتداء وخبر، أي مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين. والشهر في الآية اسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد. وسيأتي لهذا مزيد بيان في « المائدة » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « وصد عن سبيل الله » ابتداء « وكفر به » عطف على « صد » « والمسجد الحرام » عطف على « سبيل الله » « وإخراج أهله منه » عطف على « صد » ، وخبر الابتداء « أكبر عند الله » أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، قاله المبرد وغيره. وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. « وكفر به » أي بالله، وقيل: « وكفر به » أي بالحج والمسجد الحرام. « وإخراج أهله منه أكبر » أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقال الفراء: « صد » عطف على « كبير » . « والمسجد » عطف على الهاء في « به » ، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: « وكفر به » أي بالله عطف أيضا على « كبير » ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله. وقال عبدالله بن جحش رضي الله عنه:

تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن غيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبدالله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند

وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: « قل قتال فيه كبير » منسوخ بقوله: « وقاتلوا المشركين كافة » وبقوله: « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] . وقال عطاء: لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « والفتنة أكبر من القتل » قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك. وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام.

 

قوله تعالى: « ولا يزالون » ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة. قال مجاهد: يعني كفار قريش. و « يردوكم » نصب بحتى، لأنها غاية مجردة.

 

قوله تعالى: « ومن يرتدد » أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر « فأولئك حبطت » أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.

 

واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر؟ وهل يورث أم لا؟ قالت طائفة: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم: ساعة واحدة. وقال آخرون: يستتاب شهرا. وقال آخرون: يستتاب ثلاثا، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم. وقال الحسن: يستتاب مائة مرة، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير. وذكر سحنون أن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس. قال: نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل، خرجه مسلم وغيره. وذكر أبو يوسف عن أبى حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب. والزنديق عندهم والمرتد سواء. وقال مالك: وتقتل الزنادقة ولا يستتابون. وقد مضى هذا أول « البقرة » . واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه. وحكى ابن عبدالحكم عن الشافعي أنه يقتل، لقوله عليه السلام: ( من بدل دينه فاقتلوه ) ولم يخص مسلما من كافر. وقال مالك: معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة من الفقهاء. والمشهور عن الشافعي ما ذكره المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد. واختلفوا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: ( من بدل دينه فاقتلوه ) . و « من » يصلح للذكر والأنثى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول ابن شبرمة، وإليه ذهب ابن علية، وهو قول عطاء والحسن. واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من بدل دينه فاقتلوه ) ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن علي مثله. ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. واحتج الأولون بقوله عليه السلام: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان... ) فعم كل من كفر بعد إيمانه، وهو أصح.

 

قال الشافعي: إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه، لأن عمله باق. واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: « لئن أشركت ليحبطن عملك » [ الزمر: 65 ] . قالوا: وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا. وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال: « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » [ الأحزاب: 30 ] وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يتصور إتيان منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم، ابن العربي. وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطا ههنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل هتك حرمة عقاب، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات. والله أعلم.

 

اختلاف العلماء في ميراث المرتد: فقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين. وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال. وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين، ومطلق قوله عليه السلام: ( لا وراثة بين أهل ملتين ) يدل على بطلان قولهم. وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه قال: يرثونه.

 

الآية: 218 ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا والذين هاجروا » الآية. قال جندب بن عبدالله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبدالله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبدالله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله: « إن الذين آمنوا » ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل. وقيل: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: « إن الذين آمنوا والذين هاجروا » إلى آخر الآية.

والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني. والهجر ضد الوصل. وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية. والتهاجر التقاطع. ومن قال: المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله. « وجاهد » مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود. والجهاد ( بالفتح ) : الأرض الصلبة. « ويرجون » معناه يطمعون ويستقربون. وإنما قال « يرجون » وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين: أحدهما لا يدري بما يختم له. والثاني - لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء. والرجاء من الأمل ممدود، يقال: رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة، يقال: ما أتيتك إلا رجاوة الخير. وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته، قال بشر يخاطب بنته:

فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا

وما لي في فلان رجية، أي ما أرجو. وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى: « ما لكم لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] أي لا تخافون عظمة الله، قال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل

أي لم يخف ولم يبال. والرجا - مقصور - : ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا. والعوام من الناس يخطئون في قولهم: يا عظيم الرجا، فيقصرون ولا يمدون.

 

الآية: 219 ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون )

*4*قوله تعالى: « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما » فيه تسع مسائل:

 

قوله تعالى: « يسألونك » السائلون هم المؤمنون، كما تقدم. والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه « خمروا آنيتكم » فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر ( بفتح الميم لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر:

ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره. وقال العجاج يصف جيشا يمشي برايات وجيوش غير مستخف:

في لامع العقبان لا يمشي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر

ومنه قولهم: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه. وخمر الرأي، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر.

والخمر: ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام. وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.

 

والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في « المائدة والنحل » إن شاء الله تعالى.

 

قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر. وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: « لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » [ النساء: 43 ] ثم قوله: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] ثم قوله: « إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه » [ المائدة: 90 ] على ما يأتي بيانه في « المائدة » .

 

قوله تعالى: « والميسر » الميسر: قمار العرب بالأزلام. قال ابن عباس: ( كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله ) فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاوس وعلي بن أبى طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: ( كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق ) ، على ما يأتي. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه. قال علي بن أبي طالب: الشطرنج ميسر العجم. وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء. وسيأتي في « يونس » زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى.

والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا. والياسر: اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر:

فأعنهم وايسر بما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

وقال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك. وفي الصحاح: ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعي:

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. ويقال: يسر القوم إذا قامروا. ورجل يسر وياسر بمعنى. والجمع أيسار، قال النابغة:

أنى أتمم أيساري وأمنحهم مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

وقال طرفة:

وهم أيسار لقمان إذا أغلت الشتوة أبداء الجزر

وكان من تطوع بنحرها ممدوحا عندهم، قال الشاعر:

وناجية نحرت لقوم صدق وما ناديت أيسار الجزر

 

روى مالك في الموطأ عن داود بن حصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين، وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد، حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا، فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظباء والوعول وسائر الوحوش، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه، لأنه عنده من باب المزابنة، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشيرج بالسمسم، ونحو ذلك. والطير عنده كله جنس واحد، وكذلك الحيتان من سمك وغيره. وروي عنه أن الجراد وحده صنف. وقال الشافعي وأصحابه والليث بن سعد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين، على عموم الحديث. وروي عن ابن عباس ( أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا ) . قال الشافعي: ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة. قال أبو عمر: قد روي عن ابن عباس ( أنه أجاز بيع الشاة باللحم، وليس بالقوي ) . وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كره أن يباع حي بميت، يعني الشاة المذبوحة بالقائمة. قال سفيان: ونحن لا نرى به بأسا. قال المزني: إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز، وإن صح بطل القياس واتبع الأثر. قال أبو عمر: وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والاعتبار، إلا أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو عمر: ولا أعلمه يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب على ما ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب الشافعي، وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلا أنه زعم أنه افتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحا. فكره بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه، لأنه لم يأت أثر يخصه ولا إجماع. ولا يجوز عنده أن يخص النص بالقياس. والحيوان عنده اسم لكل ما يعيش في البر والماء وإن اختلفت أجناسه، كالطعام الذي هو اسم لكل مأكول أو مشروب، فاعلم.

 

قوله تعالى: « قل فيهما » يعني الخمر والميسر « إثم كبير » إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله، إلى غير ذلك. روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه، وذكره أبو عمر في الاستيعاب. وروي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهى عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول:

رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي ولا أدعو لها أبدا نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم بها الأمر العظيما

قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لأبي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وجلده عمر الحد عليها مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه، وكان أحد الشجعان البهم، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال لا نجلدك على الخمر أبدا. قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فلم يشربها بعد ذلك. وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، وأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا. وذكر الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن بأذربيجان، أو قال: في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهي معروشة على قبره، ومكتوب على القبر « هذا قبر أبي محجن » قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله.

وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل.

 

قوله تعالى: « ومنافع للناس » أما في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماسكة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي. هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها: إنها تهضم الطعام، وتقوي الضعف، وتعين على الباه، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، وتصفي اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها. وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

إلى غير ذلك من أفراحها. وقال آخر:

فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير

ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخر كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شيء. وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين.

وسهام الميسر أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهي: « الفذ » وفيه علامة واحدة له نصيب وعليه نصيب إن خاب. الثاني: « التوأم » وفيه علامتان وله وعليه نصيبان. الثالث: « الرقيب » وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا. الرابع: « حلس » وله أربع. الخامس: « النافز » والنافس أيضا وله خمس. السادس: « المسبل » وله ست. السابع: « المعلى » وله سبع. فذلك ثمانية وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي. وبقي من السهام أربعة، وهي الأغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهي: « المصدر » و « المضعف » و « المنيح » و « السفيح » . وقيل: الباقية الأغفال الثلاثة: « السفيح » و « المنيح » و « الوغد » تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا. ويسمى المجيل المفيض والضارب والضريب والجمع الضرباء. وقيل: يجعل خلفه رقيب لئلا يحابي أحدا، ثم يجثو الضريب على ركبتيه، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل يده في الربابة فيخرج. وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السهام في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، يشترى الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ويرضي صاحبها من حقه، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمونه « البرم » قال متمم بن نويرة:

ولا برما تهدي النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام. قال ابن عطية: وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسما، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء. والربابة ( بكسر الراء ) : شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر، وربما سموا جميع السهام ربابة، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:

وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

والربابة أيضا: العهد والميثاق، قال الشاعر:

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوب

وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه، كما تقدم. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى:

المطعمو الضيف إذا ما شتوا والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر:

بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العفاة منيحها

و « المنيح » في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد امَّلس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح. وأما المنيح الذي هو أحد الأغفال فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد الأخطل بقوله:

ولقد عطفن على فزارة عطفة كر المنيح وجلن ثم مجالا

وفي الصحاح: « والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئا » . ومن الميسر قول لبيد:

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم فواحش ينعى ذكرها بالمصايف

فهذا كله نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل.

 

قوله تعالى: « وإثمهما أكبر من نفعهما » أعلم الله جل وعز أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم. وقرأ حمزة والكسائي « كثير » بالثاء المثلثة، وحجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها. وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام. و « كثير » بالثاء المثلثة يعطي ذلك. وقرأ باقي القراء وجمهور الناس « كبير » بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق. وأيضا فاتفاقهم على « أكبر » حجة لـ « كبير » بالباء بواحدة. وأجمعوا على رفض « أكثر » بالثاء المثلثة، إلا في مصحف عبدالله بن مسعود فإن فيه « قل فيهما إثم كثير » « وإثمهما أكثر » بالثاء مثلثة في الحرفين.

 

قال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية، لأن الله تعالى قد قال: « قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم » [ الأعراف: 33 ] فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام. قال ابن عطية: ليس هذا النظر بجيد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر.

قلت: وقال بعضهم: في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل: « قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم » وقال بعضهم: الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول

قلت: وهذا أيضا ليس بجيد، لأن الله تعالى لم يسم الخمر إثما في هذه الآية، وإنما قال: « قل فيهما إثم كبير » ولم يقل: قل هما إثم كبير. وأما آية « الأعراف » وبيت الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبينا، إن شاء الله تعالى. وقد قال قتادة: إنما في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهي آية « المائدة » وعلى هذا أكثر المفسرين.

 

قوله تعالى: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون » « قل العفو » قراءة الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير. وبالرفع قراءة الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق. قال النحاس وغيره: إن جعلت « ذا » بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى: الذي ينفقون هو العفو، وجاز النصب. وإن جعلت « ما » و « ذا » شيئا واحدا كان الاختيار النصب، على معنى: قل ينفقون العفو، وجاز الرفع. وحكى النحويون: ماذا تعلمت: أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان، إلا أن التفسير في الآية على النصب.

 

قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: « ويسألونك ماذا ينفقون » سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وفق السؤال، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح - كما تقدم - فإنه لما نزل « قل ما أنفقتم من خير فللوالدين » [ البقرة: 215 ] قال: كم أنفق؟ فنزل: « قل العفو » والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر:

خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا: ( العفو ما فضل عن العيال ) ، ونحوه عن ابن عباس وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى وكذا قال عليه السلام: ( خير الصدقة ما أنفقت عن غنى ) وفي حديث آخر: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) . وقال قيس بن سعد: هذه الزكاة المفروضة. وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع. وقيل: هي منسوخة. وقال الكلبي: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آيه الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها. وقال قوم: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة. والظاهر يدل على القول الأول.

 

قوله تعالى: « كذلك يبين الله لكم الآيات » قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة. « لعلكم تتفكرون » فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.

 

 

الآية: 220 ( في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم )

 

روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: ( لما أنزل الله تعالى: « ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن » [ الأنعام: 152 ] و « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [ النساء: 10 ] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير » الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه ) ، لفظ أبي داود. والآية متصلة بما قبل، لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى. وقيل: إن السائل عبدالله بن رواحة. وقيل: كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية.

 

لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم، تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية. فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه، لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة. لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.

 

تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا. واختلف في عمله هو قراضا، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها. وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم. قال محمد بن عبدالحكم: وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا. قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله. قال: وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز. ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح. وسيأتي لهذا مزيد بيان في « النساء » إن شاء الله تعالى.

 

ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان: حالة يمكنه الإشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة. وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة. قال ابن خويز منداد: ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته، لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال: أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.

 

واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمه، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته؟ فقال مالك: ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة: إنهم ينكحونهم إنكاحهم، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في « النساء » بيانه، إن شاء الله تعالى. وأما الشراء منه فقال مالك: يشتري في مشهور الأقوال، وكذلك قال أبو حنيفة: له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع، لأنه لم يذكر في الآية التصرف، بل قال: « إصلاح لهم خير » من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر. وأبو حنيفة يقول: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه. والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ. وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح. والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية. وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن. وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه. ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: « ويسألونك عن اليتامى » أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف.

فإن قيل: يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه، فالجواب أن ذلك لا يلزم، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها، وأما ههنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله: « والله يعلم المفسد من المصلح » وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه: إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب، وإن جاز أن يكذبن. وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ: « والله يعلم المفسد من المصلح » . وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له، ذكره البخاري. وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه، كما ذكرنا. والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس. وقال محمد بن عبدالحكم: لا يشتري من التركة، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله.

 

قوله تعالى: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر. وقال أبو عبيد: مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس.

 

قوله تعالى: « فإخوانكم » خبر لمبتدأ محذوف، أي فهم إخوانكم، والفاء جواب الشرط. وقوله تعالى: « والله يعلم المفسد من المصلح » تحذير، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده.

 

قوله تعالى: « ولو شاء الله لأعنتكم » روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس: « ولو شاء الله لأعنتكم » قال: ( لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ) . وقيل: « لأعنتكم » لأهلككم، عن الزجاج وأبي عبيدة. وقال القتبي: لضيق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقيل: أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم. والعنت: المشقة، وقد عنت وأعنته غيره. ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه: قد أعنته، فهو عنت ومعنت. وعنتت الدابة تعنت عنتا: إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري. وأكمة عنوت: شاقة المصعد. وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه، ثم نقلت إلى معنى الهلاك. والأصل ما وصفنا.

 

قوله تعالى: « إن الله عزيز » أي لا يمتنع عليه شيء « حكيم » يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا.

 

الآية: 221 ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون )

 

قوله تعالى: « ولا تنكحوا » قراءة الجمهور بفتح التاء. وقرئت في الشاذ بالضم، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه. ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها « عناق » فجاءته، فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنه كان مسلما وهي مشركة. وسيأتي في « النور » بيانه إن شاء الله تعالى.

 

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: حرم الله نكاح المشركات في سورة « البقرة » ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة « المائدة » . وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي. وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية « المائدة » ولم يتناول العموم قط الكتابيات. وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية « المائدة » بعض العموم. وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في « البقرة » هي الناسخة، والتي في « المائدة » هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية. قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان، قال: حدثنا محمد بن رمح، قال: حدثنا الليث عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة « البقرة » ناسخة للآية التي في سورة « المائدة » لأن « البقرة » من أول ما نزل بالمدينة، و « المائدة » من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه: ( إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام ) ، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في « المائدة » وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ: ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيدالله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة. قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: « ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم » [ البقرة: 105 ] ، وقال: « لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين » [ البينة: 1 ] ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب » [ المائدة: 5 ] بعد قوله « والمحصنات من المؤمنات » نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل. فإن قيل: أراد بقوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، كقوله « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله » [ آل عمران: 199 ] الآية. وقوله: « من أهل الكتاب أمة قائمة » [ آل عمران: 113 ] الآية. قيل له: هذا خلاف نص الآية في قوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » وخلاف ما قاله الجمهور، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: « أولئك يدعون إلى النار » فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار. والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى: « ولأمة مؤمنة خير من مشركة » لأن المشرك يدعو إلى النار، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار، فالمسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين.

وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » [ التوبة: 29 ] إلى قوله « صاغرون » . قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه. وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير.

 

قوله تعالى: « ولأمة مؤمنة خير من مشركة » إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال. « ولو أعجبتكم » في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره. ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها. وقال السدي: نزلت في عبداللهله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ( ما هي يا عبدالله ) قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذه مؤمنة ) . فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية. والله أعلم.

 

واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال أشهب في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب. قال ابن العربي: درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال: احتج أصحاب أبي حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابية بقوله تعالى: « ولأمة مؤمنة خير من مشركة » . ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة، فلولا أن نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما، لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادين. والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا: لأن الله سبحانه قال: « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا » [ الفرقان: 24 ] . وقال عمر في رسالته لأبي موسى: « الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل » . جواب آخر: قوله تعالى: « ولأمة » لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيدالله وإماؤه، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني.

 

واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك. وقال ابن حنبل: لا يعجبني. وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له: طلقها. وقال ابن القصار: قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم. وروى ابن وهب عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وكذلك الوثنيات وغيرهن من الكافرات، وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات، فقالا: لا بأس بذلك. وتأولا قول الله عز وجل: « ولا تنكحوا المشركات » . فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأمة المشتراة، واحتجا بسبي أوطاس، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهن بملك اليمين. قال النحاس: وهذا قول شاذ، أما سبي أوطاس فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن فجاز نكاحهن وأما الاحتجاج بقوله تعالى: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » فغلط، لأنهم حملوا النكاح على العقد، والنكاح في اللغة يقع على العقد وعلى الوطء، فلما قال: « ولا تنكحوا المشركات » حرم كل نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وقال الأوزاعي: سألت الزهري عن الرجل يشتري المجوسية أيطؤها؟ فقال: إذا شهدت أن لا إله إلا الله وطئها. وعن يونس عن ابن شهاب قال: لا يحل له أن يطأها حتى تسلم. قال أبو عمر: قول ابن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تسلم هذا - وهو أعلم الناس بالمغازي والسير - دليل على فساد قول من زعم أن سبي أوطاس وطئن ولم يسلمن. روي ذلك عن طائفة منهم عطاء وعمرو بن دينار قالا: لا بأس بوطء المجوسية، وهذا لم يلتفت إليه أحد من الفقهاء بالأمصار. وقد جاء عن الحسن البصري - وهو ممن لم يكن غزوه ولا غزو أهل ناحيته إلا الفرس وما وراءهم من خراسان، وليس منهم أحد أهل كتاب - ما يبين لك كيف كانت السيرة في نسائهم إذا سبين، قال: أخبرنا عبدالله بن محمد بن أسد، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا هشام عن يونس عن الحسن، قال: قال رجل له: يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهن؟ قال: كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم نأمرها أن تغتسل، وإذا أراد صاحبها أن يصيبها لم يصبها حتى يستبرئها. وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله تعالى: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » . أنهن الوثنيات والمجوسيات، لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » يعني العفائف، لا من شهر زناها من المسلمات. ومنهم من كره نكاحها ووطأها بملك اليمين ما لم يكن منهن توبة، لما في ذلك من إفساد النسب.

 

قوله تعالى: « ولا تنكحوا » أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك. وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. والقراء على ضم التاء من « تنكحوا » .

 

في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن علي بن الحسين: « النكاح بولي في كتاب الله » ، ثم قرأ « ولا تنكحوا المشركين » . قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي ) وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولي، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بولي، روي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز وجابر بن زيد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك والشافعي وعبيدالله بن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد.

قلت: وهو قول مالك رضي الله عنهم أجمعين وأبي ثور والطبري. قال أبو عمر: حجة من قال: ( لا نكاح إلا بولي ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال: ( لا نكاح إلا بولي ) . روى هذا الحديث شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله، وأما من لا يقبل المراسيل فيلزمه أيضا، لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة. وممن وصله إسرائيل وأبو عوانة كلاهما عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإسرائيل ومن تابعه حفاظ، والحافظ تقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضدها أصول، قال الله عز وجل: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » [ البقرة: 232 ] . وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري. ولولا أن له حقا في الإنكاح ما نهي عن العضل.

قلت: ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله: « فانكحوهن بإذن أهلهن » [ النساء: 25 ] وقوله: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن. وسيأتي بيان هذا في « النور » وقال تعالى حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السلام: « إني أريد أن أنكحك » على ما يأتي بيانه في سورة « القصص » . وقال تعالى: « الرجال قوامون على النساء » [ النساء: 34 ] ، فقد تعاضد الكتاب والسنة على أن لا نكاح إلا بولي. قال الطبري: في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هي إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليها. وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ) . قال: حديث صحيح. وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) وهذا الحديث صحيح. ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنه قال: سألت عنه الزهري فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة، لأنه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى وهو ثقة إمام وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك، لأن النسيان لا يعصم منه ابن آدم، قال صلى الله عليه وسلم: ( نسي آدم فنسيت ذريته ) . وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ فهو حجة على من نسي، فإذا روى الخبر ثقة فلا يضره نسيان من نسيه، هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج، فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرجوا عليها.

قلت: وقد أخرج هذا الحديث أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي في المسند الصحيح له - على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقلها - عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) . قال أبو حاتم: لم يقل أحد في خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري هذا: ( وشاهدي عدل ) إلا ثلاثة أنفس: سويد بن يحيى الأموي عن حفص بن غياث وعبدالله بن عبدالوهاب الجمحي عن خالد بن الحارث وعبدالرحمن بن يونس الرقي عن عيسى بن يونس، ولا يصح في الشاهدين غير هذا الخبر، وإذا ثبت هذا الخبر فقد صرح الكتاب والسنة بأن لا نكاح إلا بولي، فلا معنى لما خالفهما. وقد كان الزهري والشعبي يقولان: « إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز » . وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زفر. وإن زوجت نفسها غير كفء فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما. قال ابن المنذر: وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم. وبالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول. وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلا بولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفء أجازه القاضي. وإنما يتم النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول: يأمر القاضي الولي بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدا. ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح بنفسها جاز. وقال الأوزاعي: « إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى » ، وهذا نحو مذهب مالك على ما يأتي. وحمل القائلون بمذهب الزهري وأبي حنيفة والشعبي قوله عليه السلام: ( لا نكاح إلا بولي ) على الكمال لا على الوجوب، كما قال عليه السلام: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) و ( لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ) . واستدلوا على هذا بقوله تعالى: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » [ البقرة: 232 ] ، وقوله تعالى: « فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » [ البقرة: 234 ] ، وبما روى الدارقطني عن سماك بن حرب قال: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني؟ فقال علي: ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوجت كفؤا أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك. وفي الموطأ أن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها عبدالرحمن وهو غائب، الحديث. وقد رواه ابن جريج عن عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها أنكحت رجلا هو المنذر بن الزبير امرأة من بني أخيها فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح، ثم قالت: ليس على النساء إنكاح. فالوجه في حديث مالك أن عائشة قررت المهر وأحوال النكاح، وتولى العقد أحد عصبتها، ونسب العقد إلى عائشة لما كان تقريره إليها.

 

ذكر ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في الأولياء، من هم؟ فقال مرة: كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها، سواء كان من العصبة أو من ذوي الأرحام أو الأجانب أو الإمام أو الوصي. وقال مرة: الأولياء من العصبة، فمن وضعها منهم في منصب حسن فهو ولي. وقال أبو عمر: قال مالك فيما ذكر ابن القاسم عنه: إن المرأة إذا زوجها غير وليها بإذنها فإن كانت شريفة لها في الناس حال كان وليها بالخيار في فسخ النكاح وإقراره، وإن كانت دنيئة كالمعتقة والسوداء والسعاية والمسلمانية، ومن لا حال لها جاز نكاحها، ولا خيار لوليها لأن كل واحد كفء لها، وقد روي عن مالك أن الشريفة والدنيئة لا يزوجها إلا وليها أو السلطان، وهذا القول اختاره ابن المنذر، قال: وأما تفريق مالك بين المسكينة والتي لها قدر فغير جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سوى بين أحكامهم في الدماء فقال: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) . وإذا كانوا في الدماء سواء فهم في غير ذلك شيء واحد. وقال إسماعيل بن إسحاق: لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض فقال تعالى: « والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض » [ التوبة: 71 ] والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضا، فلو أن رجلا مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولاية أقرب من ولاية، وقرابة أقرب من قرابة. وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولي لها فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال، لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لأنها ممن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها، فأما إذا صيرت أمرها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الأمر من غير وجهه، وفعلت ما ينكره الحاكم عليها والمسلمون، فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يعلم أن حقيقته حرام، لما وصفنا من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولما في ذلك من الاختلاف، ولكن يفسخ لتناول الأمر من غير وجهه، ولأنه أحوط للفروج ولتحصينها، فإذا وقع الدخول وتطاول الأمر وولدت الأولاد وكان صوابا لم يجز الفسخ، لأن الأمور إذا تفاوتت لم يرد منها إلا الحرام الذي لا يشك فيه، ويشبه ما فات من ذلك بحكم الحاكم إذا حكم بحكم لم يفسخ إلا أن يكون خطأ لا شك فيه. وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولي مفسوخ أبدا قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما. والولي عندهم من فرائض النكاح، لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] كما قال: « فانكحوهن بإذن أهلهن » [ النساء: 25 ] ، وقال مخاطبا للأولياء: « فلا تعضلوهن » [ البقرة: 232 ] . وقال عليه السلام: ( لا نكاح إلا بولي ) . ولم يفرقوا بين دنية الحال وبين الشريفة، لإجماع العلماء على أن لا فرق بينهما في الدماء، لقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) . وسائر الأحكام كذلك. وليس في شيء من ذلك فرق بين الرفيع والوضيع في كتاب ولا سنة.

 

واختلفوا في النكاح يقع على غير ولي ثم يجيزه الولي قبل الدخول، فقال مالك وأصحابه إلا عبدالملك: ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك بالقرب، وسواء دخل أو لم يدخل. هذا إذا عقد النكاح غير ولي ولم تعقده المرأة بنفسها، فإن زوجت المرأة نفسها وعقدت عقدة النكاح من غير ولي قريب ولا بعيد من المسلمين فإن هذا النكاح لا يقر أبدا على حال وإن تطاول وولدت الأولاد، ولكنه يلحق الولد إن دخل، ويسقط الحد، ولا بد من فسخ ذلك النكاح على كل حال. وقال ابن نافع عن مالك: الفسخ فيه بغير طلاق.

 

واختلف العلماء في منازل الأولياء وترتيبهم، فكان مالك يقول: أولهم البنون وإن سفلوا، ثم الآباء، ثم الإخوة للأب والأم، ثم للأب، ثم بنو الإخوة للأب والأم، ثم بنو الإخوة للأب، ثم الأجداد للأب وإن علوا، ثم العمومة على ترتيب الإخوة، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة وإن سفلوا، ثم المولى ثم السلطان أو قاضيه. والوصي مقدم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله لو كان الأب حيا. وقال الشافعي: لا ولاية لأحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أب أب الجد، لأنهم كلهم آباء. والولاية بعد الجد للإخوة، ثم الأقرب. وقال المزني: قال في الجديد: من انفرد بأم كان أولى بالنكاح، كالميراث. وقال في القديم: هما سواء.

قلت: وروى المدنيون عن مالك مثل قول الشافعي، وأن الأب أولى من الابن، وهو أحد قولي أبي حنيفة، حكاه الباجي. وروي عن المغيرة أنه قال: « الجد أولى من الإخوة » ، والمشهور من المذهب ما قدمناه. وقال أحمد: أحقهم بالمرأة أن يزوجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم. وقال إسحاق: الابن أولى من الأب، كما قاله مالك، واختاره ابن المنذر، لأن عمر ابن أم سلمة زوجها بإذنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: أخرجه النسائي عن أم سلمة وترجم له ( إنكاح الابن أمه ) .

قلت: وكثيرا ما يستدل بهذا علماؤنا وليس بشيء، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحاح أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال: ( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) . وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب: عمر بن أبي سلمة يكنى أبا حفص، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة. وقيل: إنه كان يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين.

قلت: ومن كان سنه هذا لا يصلح أن يكون وليا، ولكن ذكر أبو عمر أن لأبي سلمة من أم سلمة ابنا آخر اسمه سلمة، وهو الذي عقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمه أم سلمة، وكان سلمة أسن من أخيه عمر بن أبي سلمة، ولا أحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عنه عمر أخوه.

 

واختلفوا في الرجل يزوج المرأة الأبعد من الأولياء - كذا وقع، والأقرب عبارة أن يقال: اختلف في المرأة يزوجها من أوليائها الأبعد والأقعد حاضر، فقال الشافعي: النكاح باطل. وقال مالك: النكاح جائز. قال ابن عبدالبر: إن لم ينكر الأقعد شيئا من ذلك ولا رده نفذ، وإن أنكره وهي ثيب أو بكر بالغ يتيمة ولا وصي لها فقد اختلف قول مالك وأصحابه وجماعة من أهل المدينة في ذلك، فقال منهم قائلون: لا يرد ذلك وينفذ، لأنه نكاح انعقد بإذن ولي من الفخذ والعشيرة. ومن قال هذا منهم لا ينفذ قال: إنما جاءت الرتبة في الأولياء على الأفضل والأولى، وذلك مستحب وليس بواجب. وهذا تحصيل مذهب مالك عند أكثر أصحابه، وإياه اختار إسماعيل بن إسحاق وأتباعه. وقيل: ينظر السلطان في ذلك ويسأل الولي الأقرب على ما ينكره، ثم إن رأى إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يرده رده. وقيل: بل للأقعد رده على كل حال، لأنه حق له. وقيل: له رده وإجازته ما لم يطل مكثها وتلد الأولاد، وهذه كلها أقاويل أهل المدينة.

 

فلو كان الولي الأقرب محبوسا أو سفيها زوجها من يليه من أوليائها، وعد كالميت منهم، وكذلك إذا غاب الأقرب من أوليائها غيبة بعيدة أو غيبة لا يرجى لها أوبة سريعة زوجها من يليه من الأولياء. وقد قيل: إذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوجها الحاكم، والأول قول مالك.

 

وإذا كان الوليان قد استويا في القعدد وغاب أحدهما وفوضت المرأة عقد نكاحها إلى الحاضر لم يكن للغائب إن قدم نكرته. وإن كانا حاضرين ففوضت أمرها إلى أحدهما لم يزوجها إلا بإذن صاحبه، فإن اختلفا نظر الحاكم في ذلك، وأجاز عليها رأي أحسنهما نظرا لها، رواه ابن وهب عن مالك.

 

وأما الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالك وأصحابه، ويكفي من ذلك شهرته والإعلان به، وخرج عن أن يكون نكاح سر. قال ابن القاسم عن مالك: لو زوج ببينة، وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح، لأنه نكاح سر. وإن تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز، وأشهدا فيما يستقبلان. وروى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما قال: يفرق بينهما بتطليقة ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن كان أصابها، ولا يعاقب الشاهدان. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: إذا تزوجها بشاهدين وقال لهما: اكتما جاز النكاح. قال أبو عمر: وهذا قول يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحبنا، قال: كل نكاح شهد عليه رجلان فقد خرج من حد السر، وأظنه حكاه عن الليث بن سعد. والسر عند الشافعي والكوفيين ومن تابعهم: كل نكاح لم يشهد عليه رجلان فصاعدا، ويفسخ على كل حال.

قلت: قول الشافعي أصح للحديث الذي ذكرناه. وروى عن ابن عباس أنه قال: ( لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد ) ، ولا مخالف له من الصحابة فيما علمته. واحتج مالك لمذهبه أن البيوع التي ذكرها الله تعالى فيها الإشهاد عند العقد، وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع. والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الأشهاد أحرى بألا يكون الإشهاد فيه من شروطه وفرائضه، وإنما الغرض الإعلان والظهور لحفظ الأنساب. والإشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أعلنوا النكاح ) . وقول مالك هذا قول ابن شهاب وأكثر أهل المدينة.

 

قوله تعالى: « ولعبد مؤمن » أي مملوك « خير من مشرك » أي حسيب. « ولو أعجبكم » أي حسبه وماله، حسب ما تقدم. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأمة مؤمنة، أي ولامرأة مؤمنة، كما بيناه. قال صلى الله عليه وسلم: ( كل رجالكم عبيدالله وكل نسائكم إماء الله ) وقال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) وقال تعالى: « نعم العبد إنه أواب » [ ص: 30، 44 ] . وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف، والله الموفق.

 

قوله تعالى: « أولئك » إشارة للمشركين والمشركات. « يدعون إلى النار » أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل. « والله يدعو إلى الجنة والمغفرة » أي إلى عمل أهل الجنة. « بإذنه » أي بأمره، قاله الزجاج.

 

الآية: 222 ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )

 

قوله تعالى: « ويسألونك عن المحيض » ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح - وقيل: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين. وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره: أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وفي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض » إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لَبَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين.

 

قوله تعالى: « عن المحيض » المحيض: الحيض وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد:

كحائضة يزنى بها غير طاهر

ونساء حيض وحوائض. والحيضة: المرة الواحدة. والحيضة ( بالكسر ) الاسم، والجمع الحيض. والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: ليتني كنت حيضة ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحائض. وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض. وقال الطبري: المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش:

إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي

وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد. قال ابن عرفة: المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة. فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت: استحيضت، فهي مستحاضة. ابن العربي: ولها ثمانية ابن العربي. ولها ثمانية أسماء: الأول: حائض. الثاني: عارك. الثالث: فارك. الرابع: طامس. الخامس: دارس. السادس: كابر. السابع: ضاحك. الثامن: طامث. قال مجاهد في قوله تعالى: « فضحكت » يعني حاضت. وقيل في قوله تعالى: « فلما رأينه أكبرنه » [ يوسف: 31 ] يعني حضن. وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

 

أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك. وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء. والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: ( يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار - فقلن وبم يا رسول الله؟ قال - تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن - قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى يا رسول الله، قال: فذلك من نقصان دينها )

وأجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، خرجه مسلم. فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل، على ما يأتي.

 

واختلف العلماء في مقدار الحيض، فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، هذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء. وقال محمد بن سلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض. فإذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا كثر الحيض قل الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة. وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما. وقد روي عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة. قال ابن عبدالبر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره، لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة. وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة، وهو قول الأوزاعي والطبري. وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل. قال الأوزاعي: وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب - من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، وفي الاستظهار، والحجة في ذلك - في « المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس » فإن كانت بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما. وقال مالك: لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها. علي بن زياد عنه: تجلس قدر لداتها، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما. ابن حنبل: تجلس يوما وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولا يأتيها زوجها. أبو حنيفة وأبو يوسف: تدع الصلاة عشرا، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا، فيكون هذا حالها حيت ينقطع الدم عنها. أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام، عن مالك: ما لم تجاوز خمسة عشر يوما. الشافعي: تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار.

والثاني من الدماء: دم النفاس عند الولادة، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه، فقيل: شهران، وهو قول مالك. وقيل: أربعون يوما، وهو قول الشافعي. وقيل غير ذلك. وطهرها عند انقطاعه. والغسل منه كالغسل من الجنابة. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا: وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه - وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة - والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق، والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن روايتان.

والثالث من الدماء: دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، وإنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض. روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ) . وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة، وهو أصح ما روي في هذا الباب، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة. وفيه أن الحائض لا تصلي، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة. وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة. ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح. ولقول من قال: تغتسل من طهر إلى طهر. ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك. وفيه رد لقول من قال بالاستظهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها.

 

قوله تعالى: « قل هو أذى » أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. والأذى كناية عن القذر على الجملة. ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] أي بما تسمعه من المكروه. ومنه قوله تعالى: « ودع أذاهم » [ الأحزاب: 48 ] أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم، وفي الحديث: ( وأميطوا عنه الأذى ) يعني بـ « الأذى » الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، يحلق عنه يوم أسبوعه، وهي العقيقة. وفي حديث الإيمان: ( وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) أي تنحيته، يعني الشوك والحجر، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار. وقوله تعالى: « ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر » [ النساء: 102 ] وسيأتي.

 

استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا: كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس. وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري. واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة: لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبدالرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي. وقال جمهور العلماء: المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها. قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا، وإن كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب. وكان أحمد يقول: أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها. وعن ابن عباس في المستحاضة: ( لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها ) . وقال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ) . فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي! قال ابن عبدالبر: لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء.

 

قوله تعالى: « فاعتزلوا النساء في المحيض » أي في زمن الحيض، إن حملت المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم. ومقصود هذا النهي ترك المجامعة. وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني ( أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ) . وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء. وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له: أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء: له منها ما فوق الإزار، لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال - : ( لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها ) وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: ( شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك ) . وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم، لقوله عليه السلام: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) . وقد تقدم. وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي. وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقالت: كل شيء إلا الفرج. قال العلماء: مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق.

 

واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال داود. وروي عن محمد بن الحسن: يتصدق بنصف دينار. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتصدق بدينار أو نصف دينار ) . أخرجه أبو داود وقال: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار، واستحبه الطبري. فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهو قول الشافعي ببغداد. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار. وقال الأوزاعي: من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار، والطرق لهذا كله في « سنن أبي داود والدارقطني » وغيرهما. وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار ) . قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة.

 

قوله تعالى: « ولا تقربوهن حتى يطهرن » قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه: لا تلبس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه « يطهرن » بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل « يطهرن » بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفي مصحف أبي وعبدالله « يتطهرن » . وفي مصحف أنس بن مالك « ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن » . ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر. قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو، فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي.

 

قوله تعالى: « فإذا تطهرن » يعني بالماء، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم. وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت - حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها. ولكن بأن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وهذا تحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها: عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل، مع موافقة أهل المدينة. ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين: أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: « حتى يطهرن » . والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: « فإذا تطهرن » أي يفعلن الغسل بالماء، وهذا مثل قوله تعالى: « وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح » [ النساء: 6 ] الآية، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما: بلوغ المكلف النكاح. والثاني: إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء. احتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: « حتى يطهرن » مخففا هو بمعنى قوله: « يطهرن » مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى: « فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين » [ التوبة: 108 ] . قال الكميت:

وما كانت الأنصار فيها أذلة ولا غيبا فيها إذا الناس غيب

وأيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما. ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل، لأنه لا يؤمن عوده: ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل. قال ابن العربي: وهذا أقوى ما لهم، فالجواب عن الأول: أن ذلك ليس من كلام الفصحاء، ولا ألسن البلغاء، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني: أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه، فهي إذا حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا. وأيضا فإن ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، والتحريم أولى. والله أعلم.

 

واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا، فقال مالك في رواية ابن القاسم: نعم، ليحل للزوج وطؤها، قال الله تعالى: « ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن » يقول بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها. وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض، لأنها غير معتقدة لذلك، لقوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله. في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر » [ البقرة: 228 ] وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات، وقال: « لا إكراه في الدين » [ البقرة: 256 ] وبهذا كان يقول محمود بن عبدالحكم.

 

وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: ( لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) وفي رواية: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: ( لا ) زاد أبو داود: ( واغمزي قرونك عند كل حفنة ) .

 

قوله تعالى: « فأتوهن من حيث أمركم الله » أي فجامعوهن. وهو أمر إباحة، وكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء، لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل. والله أعلم. و « من » بمعنى في، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل، ونظيره قوله تعالى: « أروني ماذا خلقوا من الأرض » [ فاطر: 40 ] أي في الأرض،: وقوله: « إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة » [ الجمعة: 9 ] أي في يوم الجمعة. وقيل: المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم. وقال ابن عباس وأبو رزين: ( من قبل الطهر لا من قبل الحيض ) ، وقاله الضحاك. وقال محمد بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى.

 

قوله تعالى: « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » اختلف فيه، فقيل: التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قاله عطاء وغيره. وقال مجاهد: من الذنوب، وعنه أيضا: من إتيان النساء في أدبارهن. ابن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: « أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون » [ الأعراف: 82 ] . وقيل: المتطهرون الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، قيل: قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى: « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات » [ الملائكة: 32 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 223 ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين )

 

قوله تعالى: « نساؤكم حرث لكم » روى الأئمة واللفظ للمسلم عن جابر بن عبدالله قال: ( كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول ) ، فنزلت الآية « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » زاد في رواية عن الزهري: إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير إن ذلك في صمام واحد. ويروى: في سمام واحد بالسين، قاله الترمذي. وروى البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما، فقرأ سورة « البقرة » حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت؟ قلت: لا، قال: نزلت في كذا وكذا، ثم مضى. وعن عبدالصمد قال: حدثني أبي قال حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » قال: يأتيها في. قال الحميدي: يعني الفرج. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: ( إن ابن عمر والله يغفر له وهِم، إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب: وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف! فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شري أمرهما ) ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: ( جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: ( وما أهلكك؟ ) قال: حولت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، قال: فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ) قال: هذا حديث حسن صحيح. وروى النسائي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: قد أكثر عليك القول. إنك تقول عن ابن عمر: ( أنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن ) . قال نافع: لقد كذبوا علي! ولكن سأخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض علي المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ: « نسائكم حرث لكم » ، قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله سبحانه: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .

 

هذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، أي كيف شئتم من خلف ومن قدام وباركة ومستلقية ومضطجعة، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا، ولا يباح! وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم. و « حرث » تشبيه، لأنهن مزدرع الذرية، فلفظ « الحرث » يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع. وأنشد ثعلب:

إنما الأرحام أر ضون لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات

ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث بمعنى المحترث. ووحد الحرث لأنه مصدر، كما يقال: رجل صوم، وقوم صوم.

 

قوله تعالى: « أنى شئتم » معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا آنفا. و « أنى » تجيء سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من « كيف » ومن « أين » ومن « متى » ، هذا هو الاستعمال العربي في « أنى » . وقد فسر الناس « أنى » في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبوبه بـ « كيف » ومن « أين » باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسرها بـ « أين » إلى أن الوطء في الدبر مباح، وممن نسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبدالملك بن الماجشون، وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى « كتاب السر » . وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له « كتاب سر » . ووقع هذا القول في العتبية. وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب « جماع النسوان وأحكام القرآن » . وقال الكيا الطبري: وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: « أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم » [ الشعراء: 166 ] . وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال الكيا: وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتك، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفي قوله تعالى: « فإذا تطهرن فأتوا من حيث أمركم الله » مع قوله: « فأتوا حرثكم » ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد.

قلت: هذا هو الحق في المسألة. وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر أن العلماء لم اختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبدالعزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. وفي إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيناه. وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك، لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى: « فأتوا حرثكم » ، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق. وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم، ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع. وأما صمام البول فغير صمام الرحم. وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدا بها. وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: « نساؤكم حرث لكم » وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: « أنى شئتم » شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه « تحريم المحل المكروه » . ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه ( إظهار إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار ) .

قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه. وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن ) . ومثله عن علي بن طلق. وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ) وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تلك اللوطية الصغرى ) يعني إتيان المرأة في دبرها. وروي عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن. قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغني به عما سواه.

 

قوله تعالى: « وقدموا لأنفسكم » أي قدموا ما ينفعكم غدا، فحذف المفعول، وقد صرح به في قوله تعالى: « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله » [ البقرة: 11 ] . فالمعنى قدموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالح. وقيل ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنة. وقيل: هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا. وقيل: هو تقدم الإفراط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم ) الحديث. وسيأتي في « مريم » إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس وعطاء: أي قدموا ذكر الله عند الجماع، كما قال عليه السلام: ( لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا ) . أخرجه مسلم.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله » تحذير « واعلموا أنكم ملاقوه » خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: ( إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا ) - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « واتقوا الله وأعلموا أنكم ملاقوه » . أخرجه مسلم بمعناه. « وبشر المؤمنين » تأنيس لفاعل البر ومبتغي سنن الهدى.

 

الآية: 224 ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم )

 

قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير: ( هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت ) . وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير « لا » بعد « أن » . وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى: « واحفظوا أيمانكم » [ المائدة: 89 ] . وذم من كثر اليمين فقال تعالى: « ولا تطع كل حلاف مهين » [ القلم: 10 ] . والعرب تمتدح بقلة الأيمان، حتى قال قائلهم:

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن صدرت منه الألية برت

وعلى هذا « أن تبروا » معناه: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فان الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى، وهذا تأويل حسن. مالك بن أنس: بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء. وقيل: المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: علي يمين، وهو لم يحلف القتبي: المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين.

قلت: وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل على سبب النزول، على ما نبينه في المسألة بعد هذا.

قيل: نزلت بسبب الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها، كما في حديث الإفك، وسيأتي بيانه في « النور » ، عن ابن جريج. وقيل: نزلت في الصديق أيضا حين حلف ألا يأكل مع الأضياف. وقيل نزلت في عبدالله بن رواحة حين حلف ألا يكلم بشير بن النعمان وكان ختنه على أخته، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « عرضة لأيمانكم » أي نصبا، عن الجوهري. وفلان عرضة ذاك، أي عرضة لذلك، أي مقرن له قوي عليه. والعرضة: الهمة. قال:

هم الأنصار عرضتها اللقاء

وفلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه. وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له، وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح، إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة على السفر والحرب، قال كعب بن زهير:

من كان نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول

وقال عبدالله بن الزبير:

فهذي لأيام الحروب وهذه للهوي وهذي عرضة لارتحالنا

أي عدة. وقال آخر:

فلا تجعلني عرضة للوائم

وقال أوس بن حجر:

وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف

والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر.

 

قوله تعالى: « أن تبروا وتتقوا » مبتدأ وخبره محذوف، أي البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل، مثل « طاعة وقول معروف » [ محمد: 21 ] عن الزجاج والنحاس. وقيل: محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح، عن الزجاج أيضا. وقيل: مفعول من أجله. وقيل: معناه ألا تبروا، فحذف « لا » ، كقوله تعالى: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا، قاله الطبري والنحاس. ووجه رابع من وجوه النصب: كراهة أن تبروا، ثم حذفت، ذكره النحاس والمهدوي. وقيل: هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي، التقدير: في أن تبروا، فأضمرت « في » وخفضت بها. و « سميع » أي لأقوال العباد. « عليم » بنياتهم.

 

 

الآية: 225 ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم )

 

قوله تعالى: « باللغو » اللغو: مصدر لغا يلغو ويلغى، ولغي يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغى إثمه، وفي الحديث: ( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ) . ولغة أبي هريرة « فقد لغيت » وقال الشاعر:

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وقال آخر:

ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم

 

واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس: ( هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين ) . قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( أيمان اللغو ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب ) . وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: ( « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » في قول الرجل: لا والله، وبلى والله ) . وقيل: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف. قال أبو هريرة: ( إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة ) ، ونحوه عن ابن عباس. وروي: أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلاف ذلك، فقال الرجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيمان الرماة لغو لا حنث فيها ولا كفارة ) . وفي الموطأ قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أن فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. وروى عن ابن عباس - إن صح عنه - قال: ( لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) ، وقاله طاوس. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمين في غضب ) أخرجه مسلم. وقال سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال علي حرام، وقاله مكحول الدمشقي، ومالك أيضا، إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقيل: هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن وعروة وعبدالله ابنا الزبير، كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها ) أخرجه ابن ماجة في سننه، وسيأتي في « المائدة » أيضا. وقال زيد بن أسلم لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا. النخعي: هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: ( إن لغو اليمين هي المكفرة، أي إذا كفرت اليمين سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير ) . وحكى ابن عبدالبر قولا: أن اللغو أيمان المكره. قال ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها. لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض.

قلت: ويمين المكره بمثابتها. وسيأتي حكم من حلف مكرها في « النحل » إن شاء الله تعالى. قال ابن العربي: وأما من قال إنه يمين المعصية فباطل، لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له: لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه. وأما من قال: إنه دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا، فهو قول لغو، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه، وربما يؤاخذ به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا إلا أعطاه إياه ) . وأما من قال إنه يمين الغضب فإنه يرده حلف النبي صلى الله عليه وسلم غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه. وسيأتي في « براءة » . قال ابن العربي: وأما من قال: إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى. وضعفه ابن عطية أيضا وقال: قد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.

 

قوله تعالى: « في أيمانكم » الأيمان جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا. وقيل: يمين فعيل من اليمن، وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع أيمان وأيمن، قال زهير:

فتجمع أيمن منا ومنكم

 

قوله تعالى: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » مثل قوله: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » [ المائدة: 89 ] . وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى. وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا اللغو، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه. و « غفور حليم » صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.

 

الآيتان: 226 - 227 ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم )

 

قوله تعالى: « للذين يؤلون » « يؤلون » معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية وألوة وإلوة. وقرأ أبي وابن عباس « للذين يقسمون » . ومعلوم أن « يقسمون » تفسير « يؤلون » . وقرئ « للذين آلوا » يقال: آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه « ولا يأتل أولو الفضل منكم » ، وقال الشاعر:

فآليت لا أنفك أحدو قصيدة تكون وإياها بها مثلا بعدي

وقال آخر:

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت

وقال ابن دريد:

ألية باليعملات يرتمي بها النجاء بين أجواز الفلا

قال عبدالله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.

قلت: وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كذا في صحيح مسلم. وقيل: لأن زينب ردت عليه هديته، فغضب صلى الله عليه وسلم فآلى منهن، ذكره ابن ماجة.

 

ويلزم الإيلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء. وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي إذا لم يكن مجبوبا، والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط. واختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى، ففي قول: لا إيلاء له. وفي قول: يصح إيلاؤه، والأول أصح وأقرب إلى الكتاب والسنة، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث بقي حكم الإيلاء. وإيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة لازم له، وكذلك الأعجمي إذا آلى من نسائه.

 

واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده لقوله عليه السلام: ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) . وبه قال الشافعي في الجديد. وقال ابن عباس: ( كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء ) ، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي. قال ابن عبدالبر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله أو بصفة من صفاته أو قال: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته فإنه يلزمه الإيلاء. فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر بـ « الله » فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلا أن يكون أراد بـ « الله » ونواه. ومن قال إنه يمين يدخل عليه، وسيأتي بيانه في « المائدة » إن شاء الله تعالى. فإن حلف بالصيام ألا يطأ امرأته فقال: إن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول. وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة. والأصل في هذه الجملة عموم قوله تعالى: « للذين يؤلون » ولم يفرق، فإذا آلى بصدقة أو عتق عبد معين أو غير معين لزم الإيلاء.

 

فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه في رواية ابن القاسم عن مالك. وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمول، وهو أصح لأن الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف، وهو مذهب فقهاء الأمصار، لأنه بين بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل. ووجه ما رواه ابن القاسم مبني على أن الاستثناء لا يحل اليمين، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة، على ما يأتي بيانه في « المائدة » فلما كانت يمينه باقية منعقدة لزمه حكم الإيلاء وإن لم تجب عليه كفارة. فإن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمول، قاله مالك وغيره. قال الباجي: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره، ففي المبسوط: أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال: قال مالك: كل كلام نوي به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء.

 

واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: ( لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا ) . وقال طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود والنخعي وابن أبي ليلى والحكم وحماد بن أبي سليمان وقتادة، وبه قال إسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فان حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا، وكانت عندهم يمينا محضا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء. قال الكوفيون: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر كما جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفي العدة ثلاثة قروء، فلا تربص بعد. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفيء وهو الجماع في داخل المدة، والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر. واحتج مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل. ووجه قول إسحاق - في قليل الأمد يكون صاحبه به موليا إذا لم يطأ - القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإنه يكون موليا، لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.

 

واختلفوا أن من حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الأربعة الأشهر ولم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الأربعة الأشهر طلقة رجعية. ومنهم ومن غيرهم من يقول: يلزمه طلقة بائنة بانقضاء الأربعة الأشهر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء فيراجع امرأته بالوطء ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. والفيء: الجماع فيمن يمكن مجامعتها. قال سليمان بن يسار: كان تسعة رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء، قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر.

 

وأجل المولي من يوم حلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم، فإن خاصمته ولم ترض بامتناعه من الوطء ضرب له السلطان أجل أربعة أشهر من يوم حلف، فإن وطئ فقد فاء إلى حق الزوجة وكفر عن يمينه، وإن لم يفيء طلق عليه طلقة رجعية. قال مالك: فإن راجع لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة. قال الأبهري: وذلك أن الطلاق إنما وقع لدفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر باق، فلا معنى للرجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته، لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر وإنما هو من أجل العذر.

 

واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب، فقال ابن عباس: ( لا إيلاء إلا بغضب ) ، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء، كلهم يقولون: ( الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشادة وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها إضرارا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء ) . وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد. قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك.

قلت: ويدل عليه عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم. والله أعلم.

قال علماؤنا: ومن امتنع من وطء امرأته بغير يمين حلفها إضرارا بها أمر بوطئها، فإن أبى وأقام على امتناعه مضرا بها فرق بينه وبينها من غير ضرب أجل. وقد قيل: يضرب أجل الإيلاء. وقد قيل: لا يدخل على الرجل الإيلاء في هجرته من زوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله تعالى في ألا يمسكها ضرارا.

واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد. قال مالك: وقد بلغني أن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة.

وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل إلى أنه لا يكون موليا من حلف ألا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار لأنه يجد السبيل إلى وطئها في غير ذلك المكان. قال ابن أبي ليلى وإسحاق: إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، ألا ترى أنه يوقف عند الأشهر الأربعة، فإن حلف ألا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك، وهذا إنما يكون في سفر يتكلف المؤونة والكلفة دون جنته أو مزرعته القريبة.

 

قوله تعالى: « من نسائهم » يدخل فيه الحرائر والذميات والإماء إذا تزوجن. والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: إيلاؤه مثل إيلاء الحر، وحجتهم ظاهر

قوله تعالى: « للذين يؤلون من نسائهم » فكان ذلك لجميع الأزواج. قال ابن المنذر: وبه أقول. وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران. وقال الحسن والنخعي: إيلاؤه من زوجته الأمة شهران، ومن الحرة أربعة أشهر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.

قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما. وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول. وقال مالك: ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.

وأما الذمي فلا يصح إيلاؤه، كما لا يصح ظهاره ولا طلاقه، وذلك أن نكاح أهل الشرك ليس عندنا بنكاح صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع فتلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطء زوجته ضرارا من غير يمين.

 

قوله تعالى: « تربص أربعة أشهر » التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر، قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها

وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى: « واهجروهن في المضاجع » [ النساء: 34 ] وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهن. وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:

ألا طال هذا الليل وأسود جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه

فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر.

 

قوله تعالى: « فإن فاؤوا » معناه رجعوا، ومنه « حتى تفيء إلى أمر الله » [ الحجرات: 9 ] ومنه قيل للظل بعد الزوال: فيء، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفيء فيئة وفيوءا. وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع. قال:

ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

 

قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهي امرأته، فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك في المدونة والمبسوط. وقال عبدالملك: وتكون بائنا منه يوم انقضت المدة، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى، فان أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها، حمل أمره على الكذب فيها واللدد، وأمضيت الأحكام على ما كانت تجب في ذلك الوقت. وقالت طائفة: إذا شهدت بينة بفيئته في حال العذر أجزأه، قاله الحسن وعكرمة والنخعي: وبه قال الأوزاعي. وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطء، قال ابن عطية: ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان له عذر يفيء بقلبه، وبه قال أبو قلابة. وقال أبو حنيفة: إن لم يقدر على الجماع فيقول: قد فئت إليها. قال الكيا الطبري: أبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض وبينه وبينها مدة أربعة أشهر، وهي رتقاء أو صغيره أو هو مجبوب: إنه إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح، والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه. وقالت طائفة: لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره، وكذلك قال سعيد بن جبير، قال: وكذلك إن كان في سفر أو سجن.

 

أوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته. وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي، قال النخعي: كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه. وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: « فإن فاؤوا » يعني لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له قوله تعالى: « فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم » ، ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطء الزوجة معصية.

قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها ) خرجه ابن ماجة في سننه. وسيأتي لها مزيد بيان في آية الأيمان إن شاء الله تعالى. وحجة الجمهور قوله عليه السلام: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) .

إذا كفر عن يمينه سقط عنه الإيلاء، قاله علماؤنا. وفي ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء، ودليل على أبي حنيفة في مسألة الأيمان، إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث، قاله ابن العربي.

قلت: بهذه الآية استدل محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال: لما حكم الله تعالى للمولي بأحد الحكمين من فيء أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير فيء أو عزيمة الطلاق، لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شيء لم يكن موليا. وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب.

 

قوله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » العزيمة: تتميم العقد على الشيء، يقال: عزم عليه يعزم عزما ( بالضم ) وعزيمة وعزيما وعزمانا واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك. قال شمر: العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله. والطلاق من طلقت المرأة تطلق ( على وزن نصر ينصر ) طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا. قال الأعشى:

أيا جارتا بيني فإنك طالقة

ويجوز طلقت ( بضم اللام ) مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق: التخلية، يقال: نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعي، وبعير طلق ( بضم الطاء واللام ) غير مقيد، والجمع أطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه. فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها. وقيل: إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة.

 

في قوله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك: ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: « سميع » وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: « سمع » لإيلائه، « عليم » بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر. وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: « للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم » . وتقديرها عندهم: « للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا » فيها « فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق » بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها « فإن الله سميع عليم » . ابن العربي: وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه.

قلت: وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق، والله أعلم.

وفي قوله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » دليل على أن الأمة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق، والله أعلم.

 

الآية: 228 ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم )

 

قوله تعالى: « والمطلقات » لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق. وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثا ) ، فنسخ ذلك وقال: « الطلاق مرتان » الآية. والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية « الأحزاب » : « فما لكم عليهن من عدة تعتدونها » [ الأحزاب: 49 ] على ما يأتي. وكذلك الحامل بقوله: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] . والمقصود من الأقراء الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة. وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي. وقال قوم: إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة، وهو عرف النساء وعليه معظمهن.

 

قوله تعالى: « يتربصن » التربص الانتظار، على ما قدمناه. وهذا خبر والمراد الأمر، كقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن » [ البقرة: 233 ] وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري. ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره. وقيل،: معناه ليتربصن، فحذف اللام.

 

قرأ جمهور الناس « قروء » على وزن فعول، اللام همزة. ويروى عن نافع « قرو » بكسر الواو وشدها من غير همز. وقرأ الحسن « قرء » بفتح القاف وسكون الراء والتنوين. وقروء جمع أقرؤ وأقراء، والواحد قرء بضم القاف، قال الأصمعي. وقال أبو زيد: « قرء » بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ. وأقرأت طهرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت، بلا ألف. يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين. والقرء: انقطاع الحيض. وقال بعضهم: ما بين الحيضتين وأقرأت حاجتك: دنت، عن الجوهري. وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا، ذكره النحاس.

 

واختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر:

كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح

فقيل للحيض: وقت، وللطهر وقت، لأنهما يرجعان لوقت معلوم، وقال الأعشى في الأطهار:

أفي كل عام أنت جاشم غزوة تسد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة عزا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وقال آخر في الحيض:

يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض

يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض. وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني. ويقال لاجتماع حروفه، ويقال: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم تجمع في جوفها، وقال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا

فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء، لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز.

قلت: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهري وغيره. واسم ذلك الماء قرى ( بكسر القاف مقصور ) . وقيل: القرء، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعي في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا، ويكون معنى قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » . أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات، والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيا فتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، ولكن عرفنا بدليل آخر، إن الله تعالى لم يرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإذا خرج أحدهما عن أن يكون مرادا بقي الآخر وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما. قال الكيا الطبري: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي، ويمكن أن نذكر في ذلك سرا لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب فبحيضها علم براءة رحمها. والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فان الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الشاعر:

ومبرأ من كل غبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغْيَل

يعني أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها. فهذا ما للعلماء وأهل اللسان في تأويل القرء. وقالوا: قرأت المرأة إذا حاضت أو طهرت. وقرأت أيضا إذا حملت. واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول الله تعالى: « فطلقوهن لعدتهن » [ الطلاق: 1 ] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: « فطلقوهن » يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى: « وأحصوا العدة » . يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: ( مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ) . أخرجه مسلم وغيره. وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء. ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض، ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. قال أبو بكر بن عبدالرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في ( أن الأقراء هي الأطهار ) . فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة. فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها: إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا ممن قال: الأقراء الأطهار يقول هذا غير ابن شهاب الزهري، فإنه قال: تلغي الطهر الذي طلقت فيه ثم تعتد بثلاثة أطهار، لأن الله عز وجل يقول « ثلاثة قروء » .

قلت: فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقول ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة، وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود بن علي وأصحابه. والحجة على الزهري أن النبي صلى أذن في طلاق الطاهر من غير جماع، ولم يقل أول الطهر ولا آخره. وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض، لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض. احتج الكوفيون بقوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم: ( إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء ) . وقال تعالى: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر » [ الطلاق: 4 ] . فجعل المأيوس منه المحيض، فدل على أنه هو العدة، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما. وقال عمر بحضرة الصحابة: ( عدة الأمة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت ) ، ولم ينكر عليه أحد. فدل على أنه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وحسبك ما قالوا! وقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » يدل على ذلك، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء، يريد كوامل، هذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض، لأن من يقول: إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا. وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة.

قلت: هذا يرده قوله تعالى: « سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام » [ الحاقة: 7 ] فأثبت الهاء في « ثمانية أيام » ، لأن اليوم مذكر وكذلك القرء، فدل على أنه المراد. ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر. وعندنا تعتد بالطهر، على ما بيناه. وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع، كما قال تعالى: « الحج أشهر معلومات » [ البقرة: 197 ] والمراد به شهران وبعض الثالث، فكذلك قوله: « ثلاثة قروء » . والله أعلم. وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قال سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي. وقال شريك: إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل. وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: ( إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج. إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها ) . وروى نحوه عن ابن عباس، وهو قول ضعيف بدليل قول الله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن » [ البقرة:234 ] على ما يأتي. وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت. والله أعلم.

 

والجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان. وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة: فإن السنة أحق أن تتبع. وقال الأصم عبدالرحمن بن كيسان وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء. واحتج الجمهور بقوله عليه السلام: ( طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ) . رواه ابن جريج عن عطاء عن مظاهر بن أسلم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان ) فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف. وروي عن ابن عمر: أيهما رق نقص طلاقه، وقالت به فرقة من العلماء.

 

قوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » أي من الحيض، قاله عكرمة والزهري والنخعي. وقيل: الحمل، قاله عمر وابن عباس. وقال مجاهد: الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض. والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطلاع إلا من جهة النساء جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك، وهو مقتضى قوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » . وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات. ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل، لتقطع حقه من الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية. وحكي أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي وهي حبلى، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري فأنزل الله الآية، وردت امرأة الأشجعي عليه.

الثانية: قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم: إذا قالت المرأة في عشرة أيام: قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لا تصدق ولا يقبل ذلك منها، إلا أن تقول: قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه. واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة، فقال مالك: إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان. قال في المدونة: إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء، وبه قال شريح، وقال له علي بن أبي طالب: قالون! أي أصبت وأحسنت. وقال في كتاب محمد: لا تصدق إلا في شهر ونصف. ونحوه قول أبي ثور، قال أبو ثور: أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما، وأقل الحيض يوم. وقال النعمان: لا تصدق في أقل من ستين يوما، وقال به الشافعي.

 

قوله تعالى: « إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر » هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه. أي فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق، وليس قوله: « إن كن يؤمن بالله » على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم، لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن، وإنما هو كقولك: إن كنت أخي فلا تظلمني، أي فينبغي أن يحجزك الإيمان عنه، لأن هذا ليس من فعل أهل الإيمان.

 

قوله تعالى: « وبعولتهن » البعولة جمع البعل، وهو الزوج، سمي بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى: « أتدعون بعلا » [ الصافات: 125 ] أي ربا، لعلوه في الربوبية، يقال: بعل وبعولة، كما يقال في جمع الذكر: ذكر وذكورة، وفي جمع الفحل: فحل وفحولة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، وهو شاذ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها السماع، فلا يقال في لعب: لعوبة. وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على فعول. والبعولة أيضا مصدر البعل. وبعل الرجل يبعل ( مثل منع يمنع ) بعولة، أي صار بعلا: والمباعلة والبعال: الجماع، ومنه قوله عليه السلام لأيام التشريق: ( إنها أيام أكل وشرب وبعال ) وقد تقدم. فالرجل بعل المرأة، والمرأة بعلته. وباعل مباعلة إذا باشرها. وفلان بعل هذا، أي مالكه وربه. وله محامل كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « أحق بردهن » أي بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العدة على حديث ابن عمر. ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وإذا كان هذا فيكون في الآية دليل على تخصيص ما شمله العموم في المسميات، لأن قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » عام في المطلقات ثلاثا، وفيما دونها لا خلاف فيه. ثم قوله: « وبعولتهن أحق » حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث. وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء. قال المهلب: وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، لقوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق. قال ابن المنذر: وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روي عن الأوائل في هذا الباب، والله تعالى أعلم.

 

واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة، فقال مالك: إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة. وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق، لقوله عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) . فإن وطئ في العدة لا ينوي الرجعة فقال مالك: يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد. قال ابن القاسم: فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في بقية مدة الاستبراء، فإن فعل فسخ نكاحه، ولا يتأبد تحريمها عليه لأن الماء ماؤه. وقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، وهكذا قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين والزهري وعطاء وطاوس والثوري. قال: ويشهد، وبه قال أصحاب الرأي والأوزاعي وابن أبي ليلى، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عمر: وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها، ويروى ذلك عن طائفة من أصحاب مالك، وإليه ذهب الليث. ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخيار أن له وطأها في مدة الخيار، وأنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه واختار نقض البيع بفعله ذلك. وللمطلقة الرجعية حكم من هذا. والله أعلم.

 

من قبل أو باشر ينوي بذلك الرجعة كانت رجعة، وإن لم ينو بالقبلة والمباشرة الرجعة كان آثما وليس بمراجع. والسنة أن يشهد قبل أن يطأ أو قبل أن يقبل أو يباشر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهي رجعة، وهو قول الثوري: وينبغي أن يشهد. وفي قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور لا يكون رجعة، قاله ابن المنذر. وفي « المنتقى » قال: ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول، فأما بالفعل نحو الجماع والقبلة فقال القاضي أبو محمد: يصح بها وبسائر الاستمتاع للذة. قال ابن المواز: ومثل الجسة للذة، أو أن ينظر إلى فرجها أو ما قارب ذلك من محاسنها إذا أراد بذلك الرجعة، خلافا للشافعي في قوله: لا تصح الرجعة إلا بالقول، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وجابر بن زيد وأبي قلابة.

قال الشافعي: إن جامعها ينوي الرجعة، أو لا ينويها فليس برجعة، ولها عليه مهر مثلها. وقال مالك: لا شيء لها، لأنه لو ارتجعها لم يكن عليه مهر، فلا يكون الوطء دون الرجعة أولى بالمهر من الرجعة. وقال أبو عمر: ولا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي، وليس قوله بالقوي، لأنها في حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر المثل في وطء امرأة حكمها في أكثر أحكامها حكم الزوجة! إلا أن الشبهة في قول الشافعي قوية، لأنها عليه محرمة إلا برجعة لها. وقد أجمعوا على أن الموطوءة بشبهة يجب لها المهر، وحسبك بهذا!

 

واختلفوا هل يسافر بها قبل أن يرتجعها، فقال مالك والشافعي: لا يسافر بها حتى يراجعها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه روى عنه الحسن بن زياد أن له أن يسافر بها قبل الرجعة، وروى عنه عمرو بن خالد، لا يسافر بها حتى يراجع.

 

واختلفوا هل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها، وهل تتزين له وتتشرف، فقال مالك: لا يخلو معها، ولا يدخل عليها إلا بإذن، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها. وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك فقال: لا يدخل عليها ولا يرى شعرها. ولم يختلف أبو حنيفة وأصحابه في أنها تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وعن سعيد بن المسيب قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا، ويسلم إذا دخل، ونحوه عن قتادة، ويشعرها إذا دخل بالتنخم والتنحنح. وقال الشافعي: المطلقة طلاقا يملك رجعتها محرمة على مطلقها تحريم المبتوتة حتى يراجع، ولا يراجع إلا بالكلام، على ما تقدم.

 

أجمع العلماء على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة: إني كنت راجعتك في العدة وأنكرت أن القول قولها مع يمينها، ولا سبيل له إليها، غير أن النعمان كان لا يرى يمينا في النكاح ولا في الرجعة، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم. وكذلك إذا كانت الزوجة أمة واختلف المولى والجارية، والزوج يدعي الرجعة في العدة بعد انقضاء العدة وأنكرت فالقول قول الزوجة الأمة وإن كذبها مولاها، هذا قول الشافعي وأبي ثور والنعمان. وقال يعقوب ومحمد: القول قول المولى وهو أحق بها.

 

لفظ الرد يقتضي زوال العصمة، إلا أن علماءنا قالوا: إن الرجعية محرمة الوطء، فيكون الرد عائدا إلى الحل. وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن قال بقولهما - في أن الرجعة محللة الوطء: إن الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له خاصة، وإن أحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء - قالوا: وأحكام الزوجية وإن كانت باقية فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة، فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت المرأة في سلوكها، وهذا رد مجازي، والرد الذي حكمنا به رد حقيقي، فإن هناك زوال مستنجز وهو تحريم الوطء، فوقع الرد عنه حقيقة، والله أعلم.

 

لفظ « أحق » يطلق عند تعارض حقين، ويترجح أحدهما، فالمعنى حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، ومثل هذا قوله عليه السلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) . وقد تقدم.

 

الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم، لقوله تعالى: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » [ البقرة: 231 ] ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه.

 

قوله تعالى: « ولهن » أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف » أي زينة من غير مأثم. وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن. وقيل: إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن. قاله الطبري: وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب. والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية.

 

قول ابن عباس: ( إني لأتزين لامرأتي ) . قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت. لأن اللحية لم توفر بعد، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي ) . وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال. وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به. فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع. والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة « النحل » . ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره. وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها.

 

قوله تعالى: « وللرجال عليهن درجة » أي منزلة. ومدرجة الطريق: قارعته، والأصل فيه الطي، يقال: درجوا، أي طووا عمرهم، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها. ويقال: رجل بين الرجلة، أي القوة. وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما. وفرس رجيل، أي قوي، ومنه الرجل، لقوتها على المشي. فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد. وقال حميد: الدرجة اللحية، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها. قال ابن العربي: فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه. وقيل: الدرجة الصداق، قاله الشعبي. وقيل: جواز الأدب. وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه السلام: ( ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) . وقال ابن عباس: ( الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه ) . قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع. قال الماوردي: يحتمل أنها في حقوق النكاح، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها.

قلت: ومن هذا قوله عليه السلام: ( أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح ) . قوله تعالى: « والله عزيز » أي منيع السلطان لا معترض عليه. قوله تعالى: « حكيم » أي عالم مصيب فيما يفعل.

 

الآية: 229 ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )

 

قوله تعالى: « الطلاق مرتان » ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك. فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، ونسخ ما كانوا عليه. قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: ( المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين ) .

 

الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه السلام في حديث ابن عمر: ( فإن شاء أمسك وإن شاء طلق ) وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها، خرجه ابن ماجة. وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور. قال ابن المنذر: وليس في المنع منه خبر يثبت.

 

روى الدار قطني حدثني أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه ) . حدثنا محمد بن موسى بن علي حدثنا حميد بن الربيع حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك اللخمي معروفا! قلت: هو جدي! قال يزيد: سررتني، الآن صار حديثا!. قال ابن المنذر: وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة. قال: وبالقول الأول أقول.

 

قوله تعالى: « فإمساك بمعروف » ابتداء، والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف، أي فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق. ويجوز في غير القرآن « فإمساكا » على المصدر. ومعنى « بإحسان » أي لا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول. والإمساك: خلاف الإطلاق. والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض. وسرح الماشية: أرسلها. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، وهذا قول السدي والضحاك. والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصح لوجوه ثلاثة:

أحدها: ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: « الطلاق مرتان » فلم صار ثلاثا؟ قال: ( إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان - في رواية - هي الثالثة ) . ذكره ابن المنذر. الثاني: إن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ « إن عزموا السراح » .

الثالثة: أن فعل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، قال أبو عمر: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: « أو تسريح بإحسان » هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] . وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله. وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا: حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » فأين الثالثة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) . ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله.

قلت: وذكر الكيا الطبري هذا الخبر وقال: إنه غير ثابت من جهة النقل، ورجح قول الضحاك والسدي، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] . فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج، فوجب حمل قوله: « أو تسريح بإحسان » على فائدة مجددة، وهو وقوع البينونة بالاثنتين عند انقضاء العدة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: « أو تسريح بإحسان » هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » . فوجب ألا يكون معنى قوله: « أو تسريح بإحسان » الثالثة، ولو كان قوله: « أو تسريح بإحسان » بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك: « فإن طلقها » الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: « أو تسريح بإحسان » هو تركها حتى تنقضي عدتها.

 

ترجم البخاري على هذه الآية « باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه. قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة. وقيل عنهما: لا يلزم منه شيء، وهو قول مقاتل. ويحكى عن داود أنه قال لا يقع. والمشهور عن الحجاج بن أرطأة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا. ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] . وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه، وقد تقدم. وقال: « الطلاق مرتان » والثالثة « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » . ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم، إذ هو غير مذكور في القرآن. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة: أحدها: حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة. وثانيها: حديث ابن عمر على رواية من روى ( أنه طلق امرأته ثلاثا، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة ) . وثالثها: ( أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها، والرجعة تقتضي وقوع واحدة ) . والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس ( فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج ) ، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه. قال ابن عبدالبر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. قال القاضي أبو الوليد الباجي: « وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة، فقد روى عنه الأئمة: معمر وابن جريج وغيرهما، وابن طاوس إمام. والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ( كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم ) . ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه ( أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة ) ، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا » .

قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي إنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذي يطلقون ثلاثا، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث. قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها. وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فقال لي: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة. فقال الدارقطني: كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض. قال عبيدالله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع: أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبي والحسن. وأما حديث ركانة فقيل: إنه حديث مضطرب منقطع، لا يستند من وجه يحتج به، رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع، وليس فيهم من يحتج به، عن عكرمة عن ابن عباس. وقال فيه: إن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أرجعها ) . وقد رواه أيضا من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل، ولا يحتج بشيء من مثل هذا.

قلت: قد أخرج هذا الحديث من طرق الدارقطني في سننه، قال في بعضها: « حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وآخرون قالوا: حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبدالله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله ما أردت إلا واحدة ) ؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمان عثمان. قال أبو داود: هذا حديث صحيح » . فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله، والله أعلم. وقال أبو عمر: رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول، فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة، كلهم من بني عبدالمطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم.

 

فصل: ذكر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي هذه المسألة في وثائقه فقال: الطلاق، ينقسم على ضربين: طلاق سنة، وطلاق بدعة. فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمه واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق، فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: ( يلزمه طلقة واحدة ) ، وقاله ابن عباس، وقال: ( قوله ثلاثا لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا فيكون مخبرا عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح، ولو قرأها مره واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف فقال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله ) . وقال الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف. وروينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبدالسلام الحسني فريد وقته وفقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم. وكان من حجة ابن عباس أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال عز اسمه: « الطلاق مرتان » يريد أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة. ومعنى قوله: « أو تسريح بإحسان » يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليها إن وقع ندم بينهما، قال الله تعالى: « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » [ الطلاق: 1 ] يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة، وموقع الثلاث غير حسن، لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه الطلاق مفرقا يدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك، من ذلك قول الإنسان: مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك. وفي الإشراف لابن المنذر: وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة.

قلت: وربما اعتلوا فقالوا: غير المدخول بها لا عدة عليها، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت بنفس فراغه من قوله: أنت طالق، فيرد « ثلاثا » عليها وهى بائن فلا يؤثر شيئا، ولأن قوله: أنت طالق مستقل بنفسه، فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده، أصله إذا قال: أنت طالق.

 

استدل الشافعي بقوله تعالى: « أو تسريح بإحسان » وقوله: « وسرحوهن » [ الأحزاب: 49 ] على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه، مثل أن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى: « أو فارقوهن بمعروف » [ الطلاق: 2 ] وقال: « أو تسريح بإحسان » وقال: « فطلقوهن لعدتهن » [ الطلاق: 1 ] .

قلت: وإذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين: صريح وكناية، فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله. ثم إن عمر بن عبدالعزيز قد قال: « لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوى » أخرجه مالك. وقد روى الدارقطني عن علي قال: ( الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن البتة ثلاث، من طريق فيه لين ) ، خرجه الدارقطني. وسيأتي عند قوله تعالى: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » [ البقرة: 231 ] إن شاء الله تعالى.

 

لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته: قد طلقتك، إنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها، فمن قال لامرأته: أنت طالق فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر من ذلك. فإن نوى اثنتين أو ثلاثا لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئا فهي واحدة تملك الرجعة. ولو قال: أنت طالق، وقال: أردت من وثاق لم يقبل قوله ولزمه، إلا أن يكون هناك ما يدل على صدقه. ومن، قال: أنت طالق واحدة، لا رجعة لي عليك فقوله: « لا رجعة لي عليك » باطل، وله الرجعة لقوله واحدة، لأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فإن نوى بقوله: « لا رجعة لي عليك » ثلاثا فهي ثلاث عند مالك.

واختلفوا فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو حبلك على غاربك، أو أنت علي حرام، أو الحقي بأهلك، أو قد وهبتك لأهلك، أو قد خليت سبيلك، أو لا سبيل لي عليك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: هو طلاق بائن، وروى عن ابن مسعود وقال: ( إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرك، أو أمرك لك، أو الحقي بأهلك فقبلوها فواحدة بائنة ) . وروي عن مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أنه من صريح الطلاق، كقوله: أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائلها، ويسأل ما أراد من العدد، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها. قال ابن المواز: وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة، إلا أن ينوي أكثر، وقاله ابن القاسم وابن عبدالحكم. وقال أبو يوسف: هي ثلاث، ومثله خلعتك، أو لا ملك لي عليك. وأما سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوى فيها قائلها، وينوى في غير المدخول بها. فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطبا من الخطاب، لأنه لا يخلي المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها إلا ثلاث تطليقات. والتي لم يدخل بها يخليها ويبريها ويبينها الواحدة. وقد روى مالك وطائفة من أصحابه، وهو قول جماعة من أهل المدينة، أنه ينوي في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في البتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: له نيته في ذلك كله، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث، وإن نوى واحدة فهي واحده بائنة وهي أحق بنفسها. وإن نوى اثنتين فهي واحدة. وقال زفر: إن نوى اثنتين فهي اثنتان. وقال الشافعي: هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام مني طلاقا فيكون ما نوى. فإن نوى دون الثلاث كان رجعيا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية. وقال إسحاق: كل كلام يشبه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق. وقال أبو ثور: هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته. وروي عن ابن مسعود ( أنه كان لا يرى طلاقا بائنا إلا في خلع أو إيلاء ) وهو المحفوظ عنه، قال أبو عبيد. وقد ترجم البخاري « باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته » . وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله: أو ما عنى به من الطلاق « والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقا أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقول المتكلم: إنه أراد بها الطلاق فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. قال أبو عمر: واختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته: اعتدي، أو قد خليتك، أو حبلك على غاربك، فقال مرة: لا ينوي فيها وهي ثلاث. وقال مرة: ينوي فيها كلها، في المدخول بها وغير المدخول بها، وبه أقول.»

قلت: ما ذهب إليه الجمهور، وما روى عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح، لما ذكرناه من الدليل، وللحديث الصحيح الذي خرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني وغيرهم عن يزيد بن ركانة: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ( الله ما أردت إلا واحدة ) ؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن ماجة: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث! وقال مالك في الرجل يقول لامرأته: أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير: أراها البتة وإن لم تكن له نية، فلا تحل إلا بعد زوج. وفي قول الشافعي: إن أراد طلاقا فهو طلاق، وما أراد من عدد الطلاق، وإن لم يرد طلاقا فليس بشيء بعد أن يحلف. وقال أبو عمر: أصل هذا الباب في كل كناية عن الطلاق، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - للتي تزوجها حين قالت: أعوذ بالله منك - : ( قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك ) . فكان ذلك طلاقا. وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها: الحقي بأهلك فلم يكن ذلك طلاقا، فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية، وأنها لا يقضى فيها إلا بما ينوي اللافظ بها، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. والله أعلم. وأما الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق ولا يكنى بها عن الفراق، فأكثر العلماء لا يوقعون بشيء منها طلاقا وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأي لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله كلي واشربي وقومي واقعدي، ولم يتابع مالكا على ذلك إلا أصحابه.

 

قوله تعالى: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » « أن » في موضع رفع بـ « يحل » . والآية خطاب للأزواج، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم، لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقا وجهازا، فلذلك خص بالذكر. وقد قيل: إن قوله « ولا يحل » فصل معترض بين قوله تعالى: « الطلاق مرتان » وبين قوله: « فإن طلقها » .

 

والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز. وأجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. وحكى ابن المنذر عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم، لا يحل له ما صنع، ولا يجبر على رد ما أخذه. قال ابن المنذر: وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك، ولا أحسب أن لو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شيء ثم يقابله مقابل بالخلاف نصا، فيقول: بل يجوز ذلك: ولا يجبر على رد ما أخذ. قال أبو الحسن بن بطال: وروى ابن القاسم عن مالك مثله. وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله تعالى، وخلاف حديث امرأة ثابت، وسيأتي.

 

قوله تعالى: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » حرم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد. والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ. والخطاب للزوجين. والضمير في « أن يخافا » لهما، و « ألا يقيما » مفعول به. و « خفت » يتعدى إلى مفعول واحد. ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظن. ثم قيل: « إلا أن يخافا » استثناء منقطع، أي لكن إن كان منهن نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية. وقرأ حمزة « إلا أن يخافا » بضم الياء على ما لم يسم فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام، واختاره أبو عبيد. قال: لقوله عز وجل « فإن خفتم » قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان.

قلت: وهو قول سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين. وقال شعبة: قلت لقتادة: عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان واليا لعمر وعلي. قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك، ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان. وقد أنكر اختياره أبي عبيد ورد، وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى. أما الإعراب فإن عبدالله بن مسعود قرأ « إلا أن يخافا » تخافوا، فهذا في العربية إذا رد إلى ما لم يسم فاعله قيل: إلا أن يخاف. وأما اللفظ فإن كان على لفظ « يخافا » وجب أن يقال: فإن خيف. وإن كان على لفظ « فإن خفتم » وجب أن يقال: إلا أن تخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، إلا أن يخاف غيركم ولم يقل جل وعز: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاوي: وقد صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع، وهو قول الجمهور من العلماء.

 

قوله تعالى: « فإن خفتم ألا يقيما » أي على أن لا يقيما. « حدود الله » أي فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجميل العشرة. والمخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما. وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء. وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، حل الخلع. وقال الشعبي: « ألا يقيما حدود الله » ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال عطاء بن أبي رباح: يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إني أكرهك ولا أحبك، ونحو هذا « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . روى البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتردين عليه حديقته ) ؟ قالت: نعم. وأخرجه ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتردين عليه حديقته ) ؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. فيقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبدالله بن أبي، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة إذ هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! فقال: ( أتردين عليه حديقته ) ؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل في الخلع، وعليه جمهور الفقهاء. قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق علها ويضرها رد عليها ما أخذ منها. وقال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبدالله المزني عن الرجل تريد امرأته أن تخالعه فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: فأين قول الله عز وجل في كتابه: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به » ؟ قال: نسخت. قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة « النساء » : « وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا » [ النساء: 20 ] . قال النحاس: هذا قول شاذ خارج عن الإجماع لشذوذه، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى فيقع النسخ.، لأن قوله « فإن خفتم » الآية، ليست بمزالة بتلك الآية، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج. في « وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج » لأن هذا للرجال خاصة. وقال الطبري: الآية محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم.

 

تمسك بهذه الآية من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر، وأنه شرط في الخلع، وعضد هذا بما رواه أبو داود عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكت إليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال: ( خذ بعض مالها وفارقها ) . قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: ( نعم ) . قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذهما وفارقها ) فأخذهما وفارقها. والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر، كما دل عليه حديث البخاري وغيره. وأما الآية فلا حجة فيها، لأن الله عز وجل لم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع، فخرج القول على الغالب، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالى: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا » [ النساء: 4 ] .

 

لما قال الله تعالى: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » دل على جواز الخلع بأكثرها مما أعطاها. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور: يجوز أن تفتدى منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه. وروي هذا عن عثمان بن عفان وابن عمر وقبيصة والنخعي. واحتج قبيصة بقوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق، ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فكان بينهما كلام، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( تردين عليه حديقته ويطلقك ) ؟ قالت: نعم، وأزيده. قال: ( ردي عليه حديقته وزيديه ) . وفي حديث ابن عباس: ( وإن شاء زدته ولم ينكر ) . وقالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها، كذلك قال طاوس وعطاء والأوزاعي، قال الأوزاعي: كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ إلا ما ساق إليها، وبه قال أحمد وإسحاق. واحتجوا بما رواه ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبدالله بن أبي بن سلول، وكان أصدقها حديقة فكرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما الزيادة فلا ولكن حديقته ) ، فقالت: نعم. فأخذها له وخلى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعه أبو الزبير من غير واحد، أخرجه الدارقطني. وروي عن عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها ) .

 

الخلع عند مالك رضي الله عنه على ثمرة لم يبد صلاحها وعلى جمل شارد أو عبد آبق أو جنين في بطن أمه أو نحو ذلك من وجوه الغرر جائز، بخلاف البيوع والنكاح. وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه. وقال الشافعي: الخلع جائز وله مهر مثلها، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك قال: لأن عقود المعاوضات إذا تضمنت بدلا فاسدا وفاتت رجع فيها إلى الواجب في أمثالها من البدل. وقال أبو ثور: الخلع باطل. وقال أصحاب الرأي: الخلع جائز، وله ما في بطن الأمة، وإن لم يكن فيه ولد فلا شيء له. وقال في « المبسوط » عن ابن القاسم: يجوز بما يثمره نخله العام، وما تلد غنمه العام خلافا لأبي حنيفة والشافعي، والحجة لما ذهب إليه مالك وابن القاسم عموم قوله تعالى: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . ومن جهة القياس أنه مما يملك بالهبة والوصية، فجاز أن يكون عوضا في الخلع كالمعلوم، وأيضا فإن الخلع طلاق، والطلاق يصح بغير عوض أصلا، فإذا صح على غير شيء فلأن يصح بفاسد العوض أولى، لأن أسوأ حال المبذول أن يكون كالمسكوت عنه. ولما كان النكاح الذي هو عقد تحليل لا يفسده فاسد العوض فلأن لا يفسد الطلاق الذي هو إتلاف وحل عقد أولى.

 

ولو اختلعت منه برضاع ابنها منه حولين جاز. وفي الخلع بنفقتها على الابن بعد الحولين مدة معلومة قولان: أحدهما: يجوز، وهو قول المخزومي، واختاره سحنون. والثاني: لا يجوز، رواه ابن القاسم عن مالك، وإن شرطه الزوج فهو باطل موضوع عن الزوجة. قال أبو عمر: من أجاز الخلع على الجمل الشارد والعبد الآبق ونحو ذلك من الغرر لزمه أن يجوز هذا. وقال غيره من القرويين: لم يمنع مالك الخلع بنفقة ما زاد على الحولين لأجل الغرر، وإنما منعه لأنه حق يختص بالأب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره، والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهي الرضاع قد تجب على الأم حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب، فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأم، لأنها محل لها. وقد احتج مالك في « المبسوط » على هذا بقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » [ البقرة: 233 ] .

 

فإن وقع الخلع على الوجه المباح بنفقة الابن فمات الصبي قبل انقضاء المدة فهل للزوج الرجوع عليها ببقية النفقة، فروى ابن المواز عن مالك: لا يتبعها بشيء، وروى عنه أبو الفرج: يتبعها، لأنه حق ثبت له في ذمة الزوجة بالخلع فلا يسقط بموت الصبي، كما لو خالعها بمال متعلق بذمتها، ووجه الأول أنه لم يشترط لنفسه مالا يتموله، وإنما اشترط كفاية مؤونة ولده، فإذا مات الولد لم يكن له الرجوع عليها بشيء، كما لو تطوع رجل بالإنفاق على صبي سنة فمات الصبي لم يرجع عليه بشيء، لأنه إنما قصد بتطوعه تحمل مؤونته، والله أعلم. قال مالك: لم أر أحدا يتبع بمثل هذا، ولو اتبعه لكان له في ذلك قول. واتفقوا على أنها إن ماتت فنفقة الولد في مالها، لأنه حق ثبت فيه قبل موتها فلا يسقط بموتها.

ومن اشترط على امرأته في الخلع نفقة حملها وهي لا شيء لها فعليه النفقة إذا لم يكن لها مال تنفق منه، وإن أيسرت بعد ذلك اتبعها بما أنفق وأخذه منها. قال مالك: ومن الحق أن يكلف الرجل نفقة ولده وإن اشترط على أمه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.

 

واختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق أو فسخ، فروي عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين: هو طلاق، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: وأصحابه والشافعي في أحد قوليه. فمن نوى بالخلع تطليقتين أو ثلاثا لزمه ذلك عند مالك. وقال أصحاب الرأي: إن نوى الزوج ثلاثا كان ثلاثا، وإن نوى اثنتين فهو واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إن نوى بالخلع طلاقا وسماه فهو طلاق، وإن لم ينو طلاقا ولا سمى لم تقع فرقة، قاله في القديم. وقوله الأول أحب إلي. المزني: وهو الأصح عندهم. وقال أبو ثور: إذا لم يسم الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق، وإن سمى تطليقة فهي تطليقة، والزوج أملك برجعتها ما دامت في العدة. وممن قال: إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد. واحتجوا بالحديث عن ابن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس ( أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم لينكحها، ليس الخلع بطلاق ) ، ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء ثم قال: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » [ البقرة: 229 ] . ثم قرأ « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] . قالوا: ولأنه لو كان طلاقا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثا، وكان قوله: « فإن طلقها » بعد ذلك دالا على الطلاق الرابع، فكان يكون التحريم متعلقا بأربع تطليقات. واحتجوا أيضا بما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة ) . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ( فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة ) . قال الترمذي: حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة. قالوا: فهذا يدل على أن الخلع فسخ لا طلاق، وذلك أن الله تعالى قال: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قرء واحد.

قلت: فمن طلق امرأته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك - كما قال ابن عباس - وإن لم تنكح زوجا غيره، لأنه ليس له غير تطليقتين والخلع لغو. ومن جعل الخلع طلاقا قال: لم يجز أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره، لأنه بالخلع كملت الثلاث، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: كيف يجوز القول في رجل قالت له امرأته: طلقني على مال فطلقها إنه لا يكون طلاقا، وهو لو جعل أمرها بيدها من غير شيء فطلقت نفسها كان طلاقا!. قال وأما قوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » فهو معطوف. على قوله تعالى: « الطلاق مرتان » ، لأن قوله: « أو تسريح بإحسان » إنما يعني به أو تطليق. فلو كان الخلع معطوفا على التطليقتين لكان لا يجوز الخلع أصلا إلا بعد تطليقتين وهذا لا يقوله أحد. وقال غيره: ما تأولوه في الآية غلط فإن قوله: « الطلاق مرتان » أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله: « فإمساك بمعروف » ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع فعاد الخلع إلى الثنتين المتقدم ذكرهما، إذ المراد بذلك بيان الطلاق المطلق والطلاق بعوض، والطلاق الثالث بعوض كان أو بغير عوض فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.

قلت: هذا الجواب عن الآية، وأما الحديث فقال أبو داود - لما ذكر حديث ابن عباس في الحيضة - : هذا الحديث رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وحدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: عدة المختلعة عدة المطلقة. قال أبو داود: والعمل عندنا على هذا.

قلت: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأهل الكوفة. قال الترمذي: وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

قلت: وحديث ابن عباس في الحيضة مع غرابته كما ذكر الترمذي، وإرساله كما ذكر أبو داود فقد قيل فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضة ونصفا، أخرجه الدارقطني من حديث معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها ( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ونصفا ) . والراوي عن معمر هنا في الحيضة والنصف هو الراوي عنه في الحيضة الواحدة، وهو هشام بن يوسف أبو عبدالرحمن الصنعاني اليماني: خرج له البخاري وحده فالحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن، فسقط الاحتجاج به في أن الخلع فسخ، وفي أن عدة المطلقة حيضة، وبقي قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » نصا في كل مطلقة مدخول بها إلا ما خص منها كما تقدم. قال الترمذي: « وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عدة المختلعة حيضة، قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوي » قال ابن المنذر: قال عثمان بن عفان وابن عمر: ( عدتها حيضة ) ، وبه قال أبان بن عثمان وإسحاق. وقال علي بن أبي طالب: ( عدتها عدة المطلقة ) ، وبقول عثمان وابن عمر أقول، ولا يثبت حديث علي.

قلت: قد ذكرنا عن ابن عمر أنه قال: ( عدة المختلعة عدة المطلقة ) ، وهو صحيح.

 

واختلف قول مالك فيمن قصد إيقاع الخلع على غير عوض، فقال عبدالوهاب: هو خلع عند مالك، وكان الطلاق بائنا. وقيل عنه: لا يكون بائنا إلا بوجود العوض، قاله أشهب والشافعي، لأنه طلاق عري عن عوض واستيفاء عدد فكان رجعيا كما لو كان بلفظ الطلاق قال ابن عبدالبر: وهذا أصح قوليه عندي وعند أهل العلم في النظر. ووجه الأول أن عدم حصول العوض في الخلع لا يخرجه عن مقتضاه، أصل ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير.

 

المختلعة هي التي تختلع من كل الذي لها. والمفتدية أن تفتدي ببعضه وتأخذ بعضه. والمبارئة هي التي بارأت زوجها من قبل أن يدخل بها فتقول: قد أبرأتك فبارئني، هذا هو قول مالك. وروى عيسى بن دينار عن مالك: المبارئة هي التي لا تأخذ شيئا ولا تعطي، والمختلعة هي التي تعطي ما أعطاها وتزيد من مالها، والمفتدية هي التي تفتدي ببعض ما أعطاها وتمسك بعضه، وهذا كله يكون قبل الدخول وبعده، فما كان قبل الدخول فلا عدة فيه، والمصالحة مثل المبارئة. قال القاضي أبو محمد وغيره: هذه الألفاظ الأربعة تعود إلى معنى واحد وإن اختلفت صفاتها من جهة الإيقاع، وهي طلقة بائنة سماها أو لم يسمها، لا رجعة له في العدة، وله نكاحها في العدة. وبعدها برضاها بولي وصداق وقبل زوج وبعده، خلافا لأبي ثور، لأنها إنما أعطته العوض لتملك نفسها، ولو كان طلاق الخلع رجعيا لن تملك نفسها، فكان يجتمع للزوج العوض والمعوض عنه.

وهذا مع إطلاق العقد نافذ، فلو بذلت له العوض وشرط الرجعة، ففيها روايتان رواهما ابن وهب عن مالك: إحداهما ثبوتها، وبها قال سحنون. والأخرى نفيها. قال سحنون: وجه الرواية الأولى أنهما قد اتفقا على أن يكون العوض في مقابلة ما يسقط من عدد الطلاق، وهذا جائز. ووجه الرواية الثانية أنه شرط في العقد ما يمنع المقصود منه فلم يثبت ذلك، كما لو شرط في عقد النكاح: أني لا أطأها.

 

قوله تعالى: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » لما بين تعالى أحكام النكاح والفراق قال: « تلك حدود الله » التي أمرت بامتثالها، كما بين تحريمات الصوم في آية أخرى فقال: « تلك حدود الله فلا تقربوها » [ البقرة: 187 ] فقسم الحدود قسمين، منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال: « ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون » .

 

الآية: 230 ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون )

 

احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله: « الطلاق مرتان » لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله « فإن طلقها » على قوله « الطلاق مرتان » بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى: « وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » [ النساء: 23 ] فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.

وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة: إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو ( أن الطلاق لا يلزمها ) ، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال: إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل. الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام.

 

المراد بقوله تعالى: « فإن طلقها » الطلقة الثالثة « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » . وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.

واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كاف. وقال الحسن بن أبي الحسن: لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي: ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال: أما الناس فيقولون: لا تحل، للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها.

قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب « معاني القرآن » له. قال: وأهل العلم على أن النكاح ههنا الجماع، لأنه قال: « زوجا غيره » فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح ههنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها.

قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: « حتى تنكح زوجا غيره » والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه ) . قال بعض علماء الحنفية: من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا: ويفهم من قوله عليه السلام: ( حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه ) استواؤهما في إدراك لذة الجماع، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها.

 

روى النسائي عن عبدالله قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له ) . وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ) . وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يتزوجها بنكاح جديد.

قال أبو عمر بن عبدالبر: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا، فإن أصابها فلها مهر مثلها، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها، ولا يقر على نكاحه ويفسخ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وفيه قول ثان روي عن الثوري في نكاح الحيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة. وروي عن الأوزاعي في نكاح المحلل: بئس ما صنع والنكاح جائز. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء. وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه: لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها، ومرة قالوا: تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث - قال الشافعي: إذا قال أتزوجك لأحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا. فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم: أحدهما مثل قول مالك، والآخر مثل قول أبي حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط، وهو قول داود.

قلت: وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول، قال: وهو قول الشافعي. وقال الحسن وإبراهيم: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهذا تشديد. وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله داود بن علي لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد.

 

مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح، وسواء شرط ذلك أو نواه، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها. وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء. وقد قيل: إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها، ولا يقصد به التحليل، ويكون وطؤه لها وطأ مباحا: لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا مسلما. وقال الشافعي: إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه، وسواء أدخله بيده أم بيدها، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة، وهذا كله - على ما وصف الشافعي - قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح، وقول بعض أصحاب مالك. قال ابن حبيب: وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان قد احتسب في تحليلها الأجر لم يجز، لما خالط نكاحه من نية التحليل، ولا تحل بذلك للأول.

 

وطء السيد لأمته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها، إذ ليس بزوج، روي عن علي بن أبي طالب، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبي سليمان وأبي الزناد، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق. والقول الأول أصح، لقوله تعالى: « حتى تنكح زوجا غيره » والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح.

في موطأ مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين؟ فقالا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

 

روي عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة، فقال: تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره. قال أبو عمر: وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى: مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون: ( إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين ) ، على عموم قوله عز وجل: « أو ما ملكت أيمانكم » [ النساء: 3 ] . قال أبو عمر: وهذا خطأ من القول، لأن قوله عز وجل: « أو ما ملكت أيمانكم » لا يبيح الأمهات ولا الأخوات، فكذلك سائر المحرمات.

إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها، فقالت طائفة: الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الله تعالى قال: « حتى تنكح زوجا غيره » والنصراني زوج. وقال مالك وربيعة: لا يحلها.

 

النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور. مالك والثوري. والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، كلهم يقولون: لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح، وكان الحكم يقول: هو زوج. قال ابن المنذر: ليس بزوج، لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته.

جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله: ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) . وقال ابن عمر: التحليل سفاح، ولا يزالون زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر: لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه.

 

قوله تعالى: « فإن طلقها » يريد الزوج الثاني. « فلا جناح عليهما » أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.

واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو ( أن النكاح جديد والطلاق جديد ) ، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبدالله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال: وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبدالله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي.

 

قوله تعالى: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » شرط. قال طاوس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه. وقيل: حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال: ( دلستم علي ) .

واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة، فقال مرة: لها جميع الصداق، وقال مرة: لها نصف الصداق، وهذا ينبني على اختلاف قوله: بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول؟ قولان.

 

قال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس على الزوجة خدمة، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، ألا ترى إلى قوله تعالى: « فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا » [ النساء: 34 ] . وقال بعض أصحابنا: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل. وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم، وذلك أن الله تعالى قال: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف » [ البقرة: 228 ] . وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك.

 

قوله تعالى: « وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون » حدود الله: ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة: امتنعت من الزينة، ورجل محدود: ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع. وقد تقدم هذا مستوفى. وإنما قال: « لقوم يعلمون » لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.

 

 

الآية: 231 ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « فبلغن أجلهن » معنى « بلغن » قاربن، بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى.

 

قوله تعالى: « فأمسكوهن بمعروف » الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال: إن ذلك سنة. ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، وهذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » [ البقرة: 280 ] وقال: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] الآية، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله، أو بسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا معارض لها. والحجة للأول قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: ( تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ) فهذا نص في موضع الخلاف. والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله: إنها طلقة بائنة، لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية، أصله طلاق المولي.

 

قوله تعالى: « أو سرحوهن بمعروف » يعني فطلقوهن، وقد تقدم. « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » روى مالك عن ثور بن زيد الديلي: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها، فأنزل الله تعالى: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه » يعظهم الله به. وقال الزجاج: « فقد ظلم نفسه » يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله. وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: « الطلاق مرتان » . فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها، وهذا ظاهر.

 

قوله تعالى: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » معناه لا تتخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته. قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول: كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال عليه السلام: ( من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد ) . رواه معمر قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبي الدرداء فذكره بمعناه. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى علي؟ فقال ابن عباس: ( طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا ) . وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن علي قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب وقال: ( تتخذون آيات الله هزوا - أو دين الله هزوا ولعبا من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) . إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث. وروي عن عائشة: ( أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك. قالت: وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت تقضين عدتك راجعتك ) ، فنزلت: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » . قال علماؤنا: والأقوال كلها داخلة في معنى الآية، لأنه يقال لمن سخر من آيات الله: اتخذها هزوا. ويقال ذلك لمن كفر بها، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية. وآيات الله: دلائله وأمره ونهيه.

ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء الله تعالى. وخرج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة ) . وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء كلهم قالوا: ( ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد: النكاح والطلاق والعتاق ) . وقيل: المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين. ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه.

 

قوله تعالى: « واذكروا نعمة الله عليكم » أي بالإسلام وبيان الأحكام. « والحكمة » هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب. « يعظكم به » أي يخوفكم. « واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم » تقدم.

 

الآية: 232 ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « فلا تعضلوهن » روي أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت الآية. قال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال: ( إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح ) فقال: آمنت بالله، وزوجها منه. وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » . وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فخطبت إلي فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت: منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب لا أزوجك أبدا فأنزل الله، أو قال أنزلت: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » فكفرت عن يمين وأنكحتها إياه. في رواية للبخاري: فحمي معقل من ذلك أنفا، وقال: خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى. وقيل: هو معقل بن سنان ( بالنون ) . قال النحاس: رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان. وقال الطحاوي: هو معقل بن سنان.

إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى: « فلا تعضلوهن » للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن. وقد قيل: إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها. واحتج بها أصحاب أبي حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا: لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] ولم يذكر الولي. وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى. والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن » بلوغ الأجل في هذا الموضع: تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة. و « تعضلوهن » معناه تحبسوهن. وحكى الخليل: دجاجة معضل: قد احتبس بيضها. وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي. وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم: إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه. وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها. وفي حديث معاوية: ( معضلة ولا أبا حسن ) ، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج. وقال طاوس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس. وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي:

إذا المعضلات تصدينني كشفت حقائقها بالنظر

ويقال: أعضل الأمر إذا اشتد. وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء. وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضُلها ويعضِلها ( بالضم والكسر ) لغتان.

 

قوله تعالى: « ذلك يوعظ به من كان » ولم يقل « ذلكم » لأنه محمول على معنى الجمع. ولو كان « ذلكم » لجاز، مثل « ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم » أي ما لكم فيه من الصلاح. « وأنتم لا تعلمون » ذلك.

 

الآية: 233 ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « والوالدات » ابتداء. « يرضعن أولادهن » في موضع الخبر. « حولين كاملين » ظرف زمان. ولما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثم ولد، فالآية إذا في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، قاله السدي والضحاك وغيرهما، أي هن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج على ما يأتي. وعلى هذا يشكل قوله: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف » لأن المطلقة لا تستحق الكسوة إذا لم تكن رجعية بل تستحق الأجرة إلا أن يحمل على مكارم الأخلاق فيقال: الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها. وقيل: الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفي الزوجات. والأظهر أنها في الزوجات في حال بقاء النكاح، لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، والزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أو لم ترضع، والنفقة والكسوة مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع لم يكمل التمكين، فقد يتوهم أن النفقة تسقط فأزال ذلك الوهم بقوله تعالى: « وعلى المولود له » أي الزوج « رزقهن وكسوتهن، في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط. »

 

قوله تعالى: « يرضعن » خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي. وقيل: هو خبر عن المشروعية كما تقدم.

 

واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن » ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط. وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب. وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به. فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة. وفي كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال. وقال عبدالوهاب: هو فقير من فقراء المسلمين. وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل، هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع. وكل من يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب. وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الأم، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها. قال الشافعي،: لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا، وسيأتي ما للعلماء في هذا عند قوله تعالى: « وعلى الوارث مثل ذلك » . يقال: رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ورضع يرضع رضاعا ورضاعة ( بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني ) واسم الفاعل راضع فيهما. والرضاعة: اللؤم ( مفتوح الراء لا غير ) .

 

قوله تعالى: « حولين » أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني. وقيل: سمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب. « كاملين » قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، قال الله تعالى: « فمن تعجل في يومين » [ البقرة:203 ] وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني. وقوله تعالى: « لمن أراد أن يتم الرضاعة » دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين. وقرأ مجاهد وابن محيصن « لمن أراد أن تتم الرضاعة » بفتح التاء ورفع « الرضاعة » على إسناد الفعل إليها. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من « الرضاعة » وهي لغة كالحضارة والحضارة. وروي عن مجاهد أنه قرأ « الرضعة » على وزن الفعلة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ « أن يكمل الرضاعة » . النحاس: لا يعرف البصريون « الرضاعة » إلا بفتح الراء، ولا « الرضاع » إلا بكسر الراء، مثل القتال. وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء.

 

انتزع مالك رحمه الله تعالى ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة. هذا قوله في موطئه، وهي رواية محمد بن عبدالحكم عنه، وهو قول عمر وابن عباس، وروي عن ابن مسعود، وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور. وروى ابن عبدالحكم عنه الحولين وزيادة أيام يسيرة. عبدالملك: كالشهر ونحوه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الرضاع الحولين والشهرين بعد الحولين، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال: ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث. وحكي عن النعمان أنه قال: وما كان بعد الحولين إلى ستة أشهر فهو رضاع، والصحيح الأول لقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين. وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا رضاع إلا ما كان في الحولين ) . قال الدارقطني: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ.

قلت: وهذا الخبر مع الآية والمعنى، ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له. وقد روي عن عائشة القول به. وبه يقول الليث بن سعد من بين العلماء. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير. وروي عنه الرجوع عنه. وسيأتي في سورة « النساء » مبينا إن شاء الله تعالى.

قال جمهور المفسرين: إن هذين الحولين لكل ولد. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهرا، فان مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا، لقوله تعالى: « وحمله وفصاله ثلاثون شهرا » [ الأحقاف: 15 ] . وعلى هذا تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر.

 

قوله تعالى: « وعلى المولود له » أي وعلى الأب. ويجوز في العربية « وعلى المولود لهم » كقوله تعالى: « ومنهم من يستمعون إليك » [ يونس: 42 ] لأن المعنى وعلى الذي ولد له و « الذي » يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدم.

 

قوله تعالى: « رزقهن وكسوتهن » الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن » [ الطلاق: 6 ] لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها.

وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من مال بغير علمه فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . والكسوة: اللباس. وقوله: « بالمعروف » أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها من غير تقدير مد ولا غيره بقوله تعالى: « لا تكلف نفس إلا وسعها » على ما يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى: أي لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد.

 

في هذه الآية دليل لمالك على أن الحضانة للأم، فهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النكاح، وذلك حق لها، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا بلغ الولد ثماني سنين وهو سن التمييز، خير بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية. وروى النسائي وغيره عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا أبوك وهذه أمك فخذ أيهما شئت ) فأخذ بيد أمه. وفي كتاب أبي داود عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استهما عليه ) فقال زوجها: من يحاقني في ولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أحدهما شئت ) فأخذ بيد أمه فانطلقت به. ودليلنا ما رواه أبو داود عن الأوزاعي قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) . قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد أن الأم أحق به ما لم تنكح. وكذا قال أبو عمر: لا أعلم خلافا بين السلف من العلماء في المرأة المطلقة إذا لم تتزوج أنها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرج.

ثم اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميز وعقل بين أبيه وأمه وفيمن هو أولى به، قال ابن المنذر: وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير.، روى أبو داود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة، فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها، ابنة عمي وخالتها عندي والخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها،: ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحق بها. فقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا قال: ( وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم ) .

 

قال ابن المنذر: وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حق للأم في الولد إذا تزوجت.

قلت: كذا قال في كتاب الأشراف له. وذكر القاضي عبدالوهاب في شرح الرسالة له عن الحسن أنه لا يسقط حقها من الحضانة بالتزوج. وأجمع مالك والشافعي والنعمان وأبو ثور على أن الجدة أم الأم أحق بحضانة الولد. واختلفوا إذا لم يكن لها أم وكان لها جدة هي أم الأب، فقال مالك: أم الأب أحق إذا لم يكن للصبي خالة. وقال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني ذلك عنه أنه قال: الخالة أولى من الجدة أم الأب. وفي قول الشافعي والنعمان: أم الأب أحق من الخالة. وقد قيل: إن الأب أولى بابنه من الجدة أم الأب. قال أبو عمر: وهذا عندي إذا لم يكن له زوجة أجنبية. ثم الأخت بعد الأب ثم العمة. وهذا إذا كان كل واحد من هؤلاء مأمونا على الولد، وكان عنده في حرز وكفاية، فإذا لم يكن كذلك لم يكن له حق في الحضانة، وإنما ينظر في ذلك إلى من يحوط الصبي ومن يحسن إليه في حفظه وتعلمه الخير. وهذا على قول من قال إن الحضانة حق الولد، وقد روى ذلك عن مالك وقال به طائفة من أصحابه، وكذلك لا يرون حضانة لفاجرة ولا لضعيفة عاجزة عن القيام بحق الصبي لمرض أو زمانة. وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون عن مالك أن الحضانة للأم ثم الجدة للأم ثم الخالة ثم الجدة للأب ثم أخت الصبي ثم عمة الصبي ثم ابنة أخي الصبي ثم الأب. والجدة للأب أولى من الأخت والأخت أولى من العمة والعمة أولى ممن بعدها، وأولى من جميع الرجال الأولياء. وليس لابنة الخالة ولا لابنة العمة ولا لبنات أخوات الصبي من حضانته شيء. فإذا كان الحاضن لا يخاف منه على الطفل تضييع أو دخول فساد كان حاضنا له أبدا حتى يبلغ الحلم. وقد قيل: حتى يثغر، وحتى تتزوج الجارية، إلا أن يريد الأب نقلة سفر وإيطان فيكون حينئذ أحق بولده من أمه وغيرها إن لم ترد الانتقال. وإن أراد الخروج لتجارة لم يكن له ذلك. وكذلك أولياء الصبي الذين يكون مآله إذا انتقلوا للاستيطان. وليس للأم أن تنقل ولدها عن موضع سكنى الأب إلا فيما يقرب نحو المسافة التي لا تقصر فيها الصلاة. ولو شرط عليها في حين انتقاله عن بلدها أنه لا يترك ولده عندها إلا أن تلتزم نفقته ومؤونته سنين معلومة فإن التزمت ذلك لزمها: فإن ماتت لم تتبع بذلك ورثتها في تركتها. وقد قيل: ذلك دين يؤخذ من تركتها، والأول أصح إن شاء الله تعالى، كما لو مات الوالد أو كما لو صالحها على نفقة الحمل والرضاع فأسقطت لم تتبع بشيء من ذلك.

 

إذا تزوجت الأم لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها عند مالك. وقال الشافعي: إذا نكحت فقد انقطع حقها. فإن طلقها لم يكن لها الرجوع فيه عند مالك في الأشهر عندنا من مذهبه. وقد ذكر القاضي إسماعيل وذكره ابن خويز منداد أيضا عن مالك أنه اختلف قوله في ذلك، فقال مرة: يرد إليها. وقال مرة: لا يرد. قال ابن المنذر: فإذا خرجت الأم عن البلد الذي به ولدها ثم رجعت إليه فهي أحق بولدها في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وكذلك لو تزوجت ثم طلقت أو توفى عنها زوجها رجعت في حقها من الولد.

قلت وكذلك قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب، فإن طلقها الزوج أو مات عنها كان لها أخذه لزوال العذر الذي جاز له تركه.

 

فإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهي فارغة غير مشغولة بزوج ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا لم يكن لها بعد ذلك أخذه.

 

واختلفوا في الزوجين يفترقان بطلاق والزوجة ذمية، فقالت طائفة: لا فرق بين الذمية والمسلمة وهي أحق بولدها، هذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وابن القاسم صاحب مالك. قال ابن المنذر: وقد روينا حديثا مرفوعا موافقا لهذا القول، وفي إسناده مقال. وفيه قول ثان أن الولد مع المسلم منهما، هذا قول مالك وسوار وعبدالله بن الحسن، وحكي ذلك عن الشافعي. وكذلك اختلفوا في الزوجين يفترقان، أحدهما حر والآخر مملوك، فقالت طائفة: الحر أولى، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك: في الأب إذا كان حرا وله ولد حر والأم مملوكة: إن الأم أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الأب أحق به.

 

قوله تعالى: « لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده » المعنى: لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، هذا قول جمهور المفسرين. وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي « تضار » بفتح الراء المشددة وموضعه جزم على النهي، وأصله لا تضارر على الأصل، فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهكذا يفعل في المضاعف إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول: عض يا رجل، وضار فلانا يا رجل. أي لا ينزع الولد منها إذا رضيت بالإرضاع وألفها الصبي. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان بن عاصم وجماعة « تضار » بالرفع عطفا على قوله: « تكلف نفس » وهو خبر والمراد به الأمر. وروى يونس عن الحسن قال يقول: لا تضار زوجها، تقول: لا أرضعه، ولا يضارها فينزعه منها وهي تقول: أنا أرضعه. ويحتمل أن يكون الأصل « تضارر » بكسر الراء الأولى، ورواها أبان عن عاصم، وهي لغة أهل الحجاز. فـ « والدة » فاعله، ويحتمل أن يكون « تضارر » فـ « والدة » مفعول ما لم يسم فاعله. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ « لا تضارر » براءين الأولى مفتوحة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع « تضار » بإسكان الراء وتخفيفها. وكذلك « لا يضار كاتب » وهذا بعيد لأن المثلين إذا اجتمعا وهما أصليان لم يجز حذف أحدهما للتخفيف، فإما الإدغام وإما الإظهار. وروي عنه الإسكان والتشديد. وروي عن ابن عباس والحسن « لا تضارر » بكسر الراء الأولى.

 

قوله تعالى: « وعلى الوارث مثل ذلك » هو معطوف على قوله: « وعلى المولود » واختلفوا في تأويل قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو وارث الصبي أن لو مات. قال بعضهم: وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع، كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا، وقاله مجاهد وعطاء. وقال قتادة وغيره: هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق في كتاب « معاني القرآن » له: فأما أبو حنيفة فإنه قال: تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذي رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث. قال أبو إسحاق: فقالوا قولا ليس في كتاب الله ولا نعلم أحدا قاله. وحكى الطبري عن أبي حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا: الوارث الذي يلزمه الإرضاع هو وارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره ليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء. وقيل: المراد عصبة الأب عليهم النفقة والكسوة. قال الضحاك: إن مات أبو الصبي وللصبي مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبدالعزيز: الوارث هو الصبي نفسه، وتأولوا قوله: « وعلى الوارث » المولود، مثل ما على المولود له، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه. وقال سفيان: الوارث هنا هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما فإن مات الأب فعلى الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، ويشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث. وقال ابن خويز منداد: ولو كان اليتيم فقيرا لا مال له، وجب على الإمام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين، الأخص به فالأخص، والأم أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به، ولا ترجع عليه ولا على أحد. والرضاع واجب والنفقة استحباب: ووجه الاستحباب قوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » وواجب على الأزواج القيام بهن، فإذا تعذر استيفاء الحق لهن بموت الزوج أو إعساره لم يسقط الحق عنهن، ألا ترى أن العدة واجبة عليهن والنفقة والسكنى على أزواجهن، وإذا تعذرت النفقة لهن لم تسقط العدة عنهن. وروى عبدالرحمن بن القاسم في الأسدية عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه. قال: وقول الله عز وجل: « وعلى الوارث مثل ذلك » هو منسوخ. قال النحاس: هذا لفظ مالك، ولم يبين ما الناسخ لها ولا عبدالرحمن بن القاسم، ولا علمت أن أحدا من أصحابهم بين ذلك، والذي يشبه أن يكون الناسخ لها عنده والله أعلم، أنه لما أوجب الله تعالى للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ثم نسخ ذلك ورفعه، نسخ ذلك أيضا عن الوارث.

قلت: فعلى هذا تكون النفقة على الصبي نفسه من ماله، لا يكون على الوارث منها شيء على ما يأتي. قال ابن العربي: قوله « وعلى الوارث مثل ذلك » قال ابن القاسم عن مالك هي منسوخة، وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين، وتحتار فيه ألباب الشاذين، والأمر فيه قريب، وذلك أن العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم، وتحقيق القول فيه: أن قوله تعالى « وعلى الوارث مثل ذلك » إشارة إلى ما تقدم، فمن الناس من رده إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلف قتادة والحسن ويسند إلى عمر. وقالت طائفة من العلماء: إن معنى قوله تعالى: « وعلى الوارث مثل ذلك » لا يرجع إلى جميع ما تقدم، وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار، والمعنى: وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأم ما على الأب، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل.

قلت: قوله: « وهذا هو الأصل » يريد في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو صحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الإرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبدالوهاب، وهو أن المراد به أن الوالدة لا تضار ولدها في أن الأب إذا بذل لها أجرة المثل ألا ترضعه، « ولا مولود له بولده » في أن الأم إذا بذلت أن ترضعه بأجرة المثل كان لها ذلك، لأن الأم أرفق وأحن عليه، ولبنها خير له من لبن الأجنبية. قال ابن عطية: وقال مالك رحمه الله وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله « مثل ذلك » ألا تضار، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه. وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا. وقرأ يحيى بن يعمر « وعلى الورثة » بالجمع، وذلك يقتضي العموم، فإن استدلوا بقوله عليه السلام: ( لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج ) قيل لهم الرحم عموم في كل ذي رحم، محرما كان أو غير محرم، ولا خلاف أن صرف الصدقة إلى ذي الرحم أولى لقوله عليه السلام: ( اجعلها في الأقربين ) فحمل الحديث على هذا، ولا حجة فيه على ما راموه، والله أعلم. وقال النحاس: وأما قول من قال « وعلى الوارث مثل ذلك » ألا يضار فقول حسن، لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج شيء منها إلا بدليل قاطع. وأما قول من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب، فورثته أولى من ورثة الابن وأما حجة من قال على ورثة الابن فيقول: كما يرثونه يقومون به. قال النحاس: وكان محمد بن جرير يختار قول من قال: الوارث هنا الابن، وهو وإن كان قولا غريبا فالاستدلال به صحيح والحجة به ظاهرة، لأن ماله أولى به. وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال، والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع، وأن ذلك من مال الصبي. فإن قيل: قد قال الله عز وجل « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف » ، قيل: هذا الضمير للمؤنث، ومع هذا فإن الإجماع حد للآية مبين لها، لا يسع مسلما الخروج عنه. وأما من قال: ذلك على من بقي من الأبوين، فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع ولدها، وقد مات من كان ينفق عليه وعليها. وقد ترجم البخاري على رد هذا القول [ باب - وعلى الوارث مثل ذلك، وهل على المرأة منه شيء ] وساق حديث أم سلمة وهند. والمعنى فيه: أن أم سلمة كان لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن لهم مال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن لها في ذلك أجرا. فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلم: ولست بتاركتهم. وأما حديث هند فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب. فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء. وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا. قال النحاس: وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه. فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: « وعلى الوارث مثل ذلك » فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا: إذا ترك خاله وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شيء، فهذا مخالف نص القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم، أكثر أهل العلم على خلافه.

 

قوله تعالى: « فإن أرادا فصالا » الضمير في « أرادا » للوالدين. و « فصالا » معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات. والفصال والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل، لأنه مفصول عن أمه. « عن تراض منهما » أي قبل الحولين. « فلا جناح عليهما » أي في فصله، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما، هو الفطام، وفصالهما هو الفصال ليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان. وقال قتادة: كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله: « فإن أرادا فصالا » الآية. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين، والتشاور: استحراج الرأي، وكذلك المشاورة، والمشورة كالمعونة، وشرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار: متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، والشارة: هيئة الرجل، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره.

 

قوله تعالى: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم » أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج. قال النحاس: التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم، مثل « كالوهم أو وزنوهم » [ المطففين: 3 ] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، وأنشد سيبوبه:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

ولا يجوز: دعوت زيدا، أي دعوت لزيد، لأنه يؤدي إلى التلبيس، فيعتبر في هذا النوع السماع.

قلت: وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك. وقد قال عكرمة في قوله تعالى: « لا تضار والدة » معناه الظئر، حكاه ابن عطية. والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال: لا يلزمها رضاعه. فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة. وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك. والأصل البديع فيه أن، هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقال به، وإلى زماننا فتحققناه شرعا.

 

قوله تعالى: « إذا سلمتم » يعني الآباء، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر، قاله سفيان. مجاهد: سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع. وقرأ الستة من السبعة « ما آتيتم » بمعنى ما أعطيتم. وقرأ ابن كثير « أتيتم » بمعنى ما جئتم وفعلتم، كما قال زهير:

وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل

قال قتادة والزهري: المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب « سلمتم » الرجال والنساء، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال. قال أبو علي: المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع. قال أبو علي: ويحتمل أن تكون « ما » مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغني عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير.

 

 

الآية: 234 ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير )

 

قوله تعالى: « والذين يتوفون منكم » لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، ذكر عدة الوفاة أيضا؛ لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق. « والذين » أي والرجال الذين يموتون منكم. « ويذرون أزواجا » أي يتركون أزواجا، أي ولهم زوجات؛ فالزوجات « يتربصن » ؛ قال معناه الزجاج واختاره النحاس. وحذف المبتدأ في الكلام كثير؛ كقوله تعالى: « قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار » [ الحج: 72 ] أي هو النار. وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم؛ وهو كقولك: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم. وقيل: التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن؛ فجاءت العبارة في غاية الإيجاز وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون. وقال بعض نحاة الكوفة: الخبر عن « الذين » متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن؛ وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم.

 

هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص. وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] . وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » [ البقرة:240 ] لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفى الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج؛ ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث. وقال قوم: ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول؛ كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا. وهذا غلط بين؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج، فإن خرجت لم تمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا. وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها؛ وسيأتي.

 

عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين؛ واختاره سحنون من علمائنا.، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. والحجة لما روي عن على وابن عباس روم الجمع بين قوله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » وبين قوله: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول. وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج؛ أخرجه في الصحيح. فبين الحديث أن قوله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين؛ ويعتضد هذا بقول ابن مسعود: ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة. قال علماؤنا: وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده. والله أعلم. وإنما يعني أنها مخصصة لها؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها. وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدرا، توفي بمكة حينئذ وهي حامل، وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة، وولدت بعده بنصف شهر. وقال البخاري: بأربعين ليلة. وروى مسلم من حديث عمر بن عبدالله بن الأرقم أن سبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي. قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وقال الحسن والشعبي والنخعي وحماد: لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها. فاشترطوا شرطين: وضع الحمل، والطهر من دم النفاس. والحديث حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله: ( فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ) كما في صحيح مسلم وأبي داود؛ لأن ( تعلت ) وإن كان أصله، طهرت من دم نفاسها على ما قاله الخليل - فيحتمل أن يكون المراد به ههنا تعلت من آلام نفاسها؛ أي استقلت من أوجاعها. ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه؛ وإنما الحجة في قوله عليه السلام لسبيعة: ( قد حللت حين وضعت ) فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت؛ فصح ما قاله الجمهور.

ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها.

واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم؛ وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفي وترك امرأة حاملا فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد؛ فعلم أن المقصود الولادة.

 

قوله تعالى: « يتربصن » التربص: التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا. ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى: « أسكنوهن » وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد، وإنما قال: « يتربصن » فبينت السنة جميع ذلك. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا؛ وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، رواه عنه مالك والثوري ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وابن عيينة والقطان وشعبة، وقد رواه مالك عن ابن شهاب، وحسبك، قال الباجي: لم يرو عنه غيره، وقد أخذ به عثمان بن عفان. قال أبو عمر: وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر. وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات؛ ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف. قالوا: وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم؛ وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع. قال أبو عمر: أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة، وبالله التوفيق: وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود؛ وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري. قال ابن عباس: إنما قال الله تعالى: « يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت؛ وروي عن أبي حنيفة. وذكر عبدالرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال: خرجت عائشة بأختها أم كلثوم - حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيدالله - إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها. قال: وحدثنا الثوري عن عبيدالله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أبى الناس ذلك عليها. قال: وحدثنا معمر عن الزهري قال: أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر. وفي الموطأ: أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج. وهذا من عمر رضي الله عنه اجتهاد؛ لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازما لها؛ وهو مقتضى القرآن والسنة، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها. وقال مالك: ترد ما لم تحرم.

 

إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه؛ وعليه أكثر الفقهاء: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لحديث الفريعة. وهل يجوز بيع الدار، إذا كانت ملكا للمتوفى وأراد ذلك الورثة؛ فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز، ويشترط فيه العدة للمرأة. قال ابن القاسم: لأنها أحق بالسكنى من الغرماء. وقال محمد بن الحكم: البيع فاسد؛ لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها. وجه قول ابن القاسم: أن الغالب السلامة، والريبة نادرة وذلك لا يؤثر في فساد العقود؛ فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فارتابت، قال مالك في كتاب محمد: هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء؛ لأنه دخل على العدة المعتادة، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسدا. وقال سحنون: لا حجة للمشترى وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين؛ لأنه دخل على العدة والعدة قد تكون خمس سنين؛ ونحو هذا روى أبو زيد عن ابن القاسم.

 

فإن كان للزوج السكنى دون الرقبة، فلها السكنى في مدة العدة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عليه السلام للفريعة - وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن - : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . لا يقال إن المنزل كان لها، فلذلك قال لها: ( امكثي في بيتك ) فإن معمرا روى عن الزهري أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قتل، وأنه تركها في مسكن ليس لها واستأذنته؛ وذكر الحديث. ولنا من جهة المعنى أنه ترك دارا يملك سكناها ملكا لا تبعة عليه فيه؛ فلزم أن تعتد الزوجة فيه؛ أصل ذلك إذا ملك رقبتها.

وهذا إذا كان قد أدى الكراء، وأما إذا كان لم يؤد الكراء فالذي في المدونة: إنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرا؛ لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى ملكا تاما، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكا تاما، وإنما ملك العوض الذي بيده، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى؛ لأن ذلك مال وليس بسكنى. وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله.

قوله صلى الله عليه وسلم للفريعة: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدى كراء المسكن، أو كان أسكن فيه إلى وفاته، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدة فيه بكراء أو غير كراء، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المقام لازم لها فيه حتى تنقضي عدتها.

 

واختلفوا في المرأة يأتيها نعي زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها؛ فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالك بن أنس؛ وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه. وقال سعيد بن المسيب والنخعي: تعتد حيث أتاها الخبر، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان.

 

ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل. وفي البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار ) . وفي حديث أم حبيبة: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا... ) الحديث. الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعا للذرائع، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك، وليس دهن المرأة رأسها بالزيت والشيرج من الطيب في شيء. يقال: امرأة حاد ومحد. قال الأصمعي: ولم نعرف ( حدت ) . وفاعل ( لا يحل ) المصدر الذي يمكن صياغته من ( تحد ) مع ( أن ) المرادة؛ فكأنه قال: الإحداد.

 

وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها أنها لا إحداد عليها؛ وهو قول ابن كنانة وابن نافع، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر، وروي عن ابن القاسم أن عليها الإحداد، كالمسلمة؛ وبه قال الليث والشافعي وأبو ثور وعامة أصحابنا؛ لأنه حكم من أحكام العدة فلزمت الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة.

 

وفي قوله عليه السلام: ( فوق ثلاث إلا على زوج ) دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها؛ فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة.

 

هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن المتوفى عنهن أزواجهن، فيدخل فيه الإماء والحرائر والكبار والصغار؛ وهو مذهب الجمهور من العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أمة ولا على صغيرة؛ حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي. قال ابن المنذر: أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافا، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أم الولد إذا مات سيدها؛ لأنها ليست بزوجة، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج. قال الباجي: الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حد لها أمرت بذلك، وإن كانت لا تدرك شيئا من ذلك لصغرها فروى ابن مزين عن عيسى يجنبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة، وذلك لازم لها. والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن بنت لها توفي عنها زوجها فاشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ) مرتين أو ثلاثا؛ كل ذلك يقول ( لا ) ولم يسأل عن سنها؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز، وأيضا فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة.

 

قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها. وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المصبغة والمعصفرة، إلا ما صبغ، بالسواد فإنه رخص فيه عروة بن الزبير ومالك والشافعي، وكرهه الزهري. وقال الزهري: لا تلبس ثوب عصب، وهو خلاف الحديث. وفي المدونة قال مالك: لا تلبس رقيق عصب اليمن؛ ووسع في غليظه. قال ابن القاسم: لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتان والقطن. قال ابن المنذر: ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض؛ قال القاضي عياض: ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة لا تمسه الحاد رقيقا كان أو غليظا. ونحوه للقاضي عبدالوهاب قال: كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحاد. ومنع بعض، مشايخنا المتأخرين جيد البياض الذي يتزين به، وكذلك الرفيع من السواد. وروى ابن المواز عن مالك: لا تلبس حليا وإن كان حديدا؛ وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحلي من التجمل فلا تلبسه الحاد. ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليواقيت والزمرد وهو داخل في معنى الحلي. والله أعلم.

 

وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، إلا الحسن فإنه قال: ليس بواجب؛ واحتج بما رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت ) . قال ابن المنذر: كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال: المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضبان وتصنعان ما شاءا. وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم؛ ولعل الحسن لم تبلغه، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر وهى امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي. قال ابن المنذر؛ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوبه؛ وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به؛ وقاله إسحاق.

 

ذهب مالك والشافعي إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة. أو أكثر؛ وهو قول ربيعة وعطاء. وذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي، وأبو ثور وأبو عبيد؟؟ أن المطلقة ثلاثا عليها الإحداد؛ وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عيينة. قال الحكم: هو عليها أوكد وأشد منه على المتوفى عنها زوجها؛ ومن جهة المعنى أنهما جميعا في عدة يحفظ بها النسب. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) دليل على أن المطلقة ثلاثا والمطلِق حيُّ لا إحداد عليها.

 

أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض؛ فقالت طائفة تعتد عدة الطلاق؛ هذا قول مالك والشافعي ويعقوب وأبي عبيد وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه نقول؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثا لو ماتت لم يرثها المطلق، وذلك لأنها غير زوجة؛ وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها. وقال الثوري: تعتد بأقصى العدتين. وقال النعمان ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض.

 

واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه؛ فقالت طائفة: العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلق؛ هذا قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال مسروق وعطاء وجماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر. وفيه قول ثان وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر؛ روي هذا القول عن علي، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء الخراساني وجلاس بن عمرو. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز: إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أو طلق، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر؛ والصحيح الأول، لأنه تعالى علق العدة بالوفاة أو الطلاق، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون؛ ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها. وأيضا فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت. حاملا لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية. ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها. ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر، أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد ونية، والقصد لا يكون إلا بعد العلم. والله أعلم.

 

عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية - دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل - وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى: « يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » . وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمس ليال. قال ابن العربي: نصف عدة الحرة إجماعا، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيها بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع، لكن لصممه لم يسمع. قال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين، وليس بالثابت عنه أنه قال: عدتها عدة الحرة.

قلت: قول الأصم صحيح من حيث النظر؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة؛ فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر؛ فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة. والله أعلم. قال ابن العربي: وروي عن مالك أن الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ يبرأ الرحم؛ وهذا منه فاسد جدا، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها.

قلت: وعليه بناء ما في المدونة لا عدة عليها إن كانت غير مدخول بها؛ لأنه قد علم براءة رحمها، هذا يقتضي أن تتزوج مسلما أو غيره إثر وفاته؛ لأنه إذا لم يكن عليها عدة للوفاة ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج.

 

واختلفوا في عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها؛ فقالت طائفة: عدتها أربعة أشهر وعشر؛ قاله جماعة من التابعين منهم سعيد والزهري والحسن البصري وغيرهم، وبه قال الأوزاعي وإسحاق. وروى أبو داود والدارقطني عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر؛ يعني في أم الولد؛ لفظ أبي داود. وقال الدارقطني: موقوف. وهو الصواب، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو. قال ابن المنذر: وضعف أحمد وأبو عبيد هذا الحديث. وروي عن علي وابن مسعود أن عدتها ثلاث حيض؛ وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي؛ قالوا: لأنها عدة تجب في حال الحرية، فوجب أن تكون عدة كاملة؛ أصله عدة الحرة. وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: عدتها حيضة؛ وهو قول ابن عمر. وروي عن طاوس أن عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها؛ وبه قال قتادة. قال ابن المنذر: وبقول ابن عمر أقول؛ لأنه الأقل مما قيل فيه وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه. وذكر اختلافهم في عدتها في العتق كهو في الوفاة سواء، إلا أن الأوزاعي جعل عدتها في العتق ثلاث حيض.

قلت: أصح هذه الأقوال قول مالك، لأن الله سبحانه قال: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] فشرط في تربص الأقراء أن يكون عن طلاق؛ فانتفى بذلك أن يكون عن غيره. وقال: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » فعلق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة؛ فدل على أن الأمة بخلافها. وأيضا فإن هذه أمة موطوءة بملك اليمين فكان استبراؤها بحيضة؛ أصل ذلك الأمة.

إذا ثبت هذا فهل عدة أم الولد استبراء محض أو عدة؛ فالذي ذكره أبو محمد في معونته أن الحيضة استبراء وليست بعدة. وفي المدونة أن أم الولد عليها العدة، وأن عدتها حيضة كعدة الحرة ثلاث حيض. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا هي عدة فقد قال مالك: لا أحب أن تواعد أحدا ينكحها حتى تحيض حيضة. قال ابن القاسم: وبلغني عنه أنه قال: لا تبيت إلا في بيتها؛ فأثبت لمدة استبرائها حكم العدة.

 

أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة؛ لقوله تعالى: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن » [ الطلاق: 6 ] .

واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها؛ فقالت طائفة: لا نفقة لها؛ كذلك قال جابر بن عبدالله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبدالملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال؛ وروي هذا القول عن علي وعبدالله وبه قال ابن عمرو وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه؛ فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه. وقال القاضي أبو محمد: لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى.

 

قوله تعالى: « أربعة أشهر وعشرا » اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا؛ فقال بعضهم: لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر، وإلا فهي مسترابة. وقال آخرون: ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة؛ لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة.

 

قوله تعالى: « وعشرا » روى وكيع عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية أنه سئل: لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالى. وقال الأصمعي: ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مركض. وقال غيره: أركضت فهي مركضة وأنشد:

ومركضة صريحي أبوها تهان لها الغلامة والغلام

وقال الخطابي: قوله « وعشرا » يريد - والله أعلم - الأيام بلياليها. وقال المبرد: إنما أنث العشر لأن المراد به المدة. المعنى وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر. وقيل: لم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها. « وعشرا » أخف في اللفظ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة؛ تقول: صمنا خمسا من الشهر؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار. وذهب مالك والشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلا حتى يمضي اليوم العاشر. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة فغلب التأنيث وتأولها على الليالي. وإلى هذا ذهب الأوزاعي من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكلمين. وروي عن ابن عباس أنه قرأ « أربعة أشهر وعشر ليال » .

 

قوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير »

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن، وهو عبارة عن انقضاء العدة.

الثانية: قوله تعالى: « فلا جناح عليكم » خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء. « فيما فعلن » يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. « بالمعروف » أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد؛ لأنه حق للأولياء كما تقدم.

الثالثة: وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة. وفيها رد على إسحاق في قوله: إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأول، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل. وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة؛ قال الله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن » وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلا؛ فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك. والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب، والله أعلم.

 

الآية: 235 ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم )

 

قوله تعالى: « ولا جناح » أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع وقيل: بل هو الأمر الشاق، وهو أصح في اللغة؛ قال الشماخ:

إذا تعلو براكبها خليجا تذكر ما لديه من الجناح

وقوله تعالى: « عليكم فيما عرضتم به » المخاطبة لجميع الناس؛ والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة، أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة. والتعريض: ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه؛ كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره. وقيل؛ هو من قولك عرضت الرجل، أي أهديت إليه تحفة، وفي الحديث: أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا؛ أي أهدوا لهما. فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه.

 

قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك. ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: ( كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك ) . ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة. وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم. وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين: الأول: أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها. والثاني: أن يشير بذلك إليها دون واسطة؛ فيقول لها: إني أريد التزويج؛ أو إنك لجميلة، إنك لصالحة، إن الله لسائق إليك خيرا، إني فيك لراغب، ومن يرغب عنك، إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدر الله أمرا يكن. هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب. وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ولا بأس أن يهدي إليها، وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه؛ قاله إبراهيم. وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج؛ وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي في العرب. قلت، غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي، قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي. وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبى سلمة فقال: ( لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي ) كانت تلك خطبة؛ أخرجه الدارقطني. والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض؛ قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم. وكره مجاهد أن يقول لها: لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا. قال القاضي أبو محمد بن عطية: وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: « من خطبة النساء » الخطبة ( بكسر الخاء ) : فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول. يقال: خطبها يخطبها خطبا وخطبة. ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة؛ ومنه قول الشاعر:

برح بالعينين خطاب الكثب يقول إني خاطب وقد كذب

وإنما يخطب عسا من حلب

والخطيب: الخاطب. والخطيبى: الخطبة؛ قال: عدي بن زيد يذكر قصد جذيمة الأبرش لخطبة الزباء:

لخطيبي التي غدرت وخانت وهن ذوات غائلة لحينا

والخطب؛ الرجل الذي يخطب المرأة؛ ويقال أيضا: هي خطبه وخطبته التي يخطبها. والخطبة فعلة كجلسة وقعدة: والخطبة ( بضم الخاء ) هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره. قال النحاس: والخطبة ما كان لها أول وآخر؛ وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة.

 

قوله تعالى: « أو أكننتم في أنفسكم » معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها. والإكنان: الستر والإخفاء؛ يقال: كننته وأكننته بمعنى واحد. وقيل:، كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا؛ ومنه بيض مكنون ودر مكنون. وأكننته أسررته وسترته. وقيل: كننت الشيء ( من الأجرام ) إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه. وأكننت الأمر في نفسي. ولم يسمع من العرب « كننته في نفسي » . ويقال: أكن البيت الإنسان؛ ونحو هذا. فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد. ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها.

 

استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حد؛ وقالوا: لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد؛ لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح. قلنا: هذا ساقط لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف؛ والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرض؛ لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.

 

قوله تعالى: « علم الله أنكم ستذكرونهن » أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم؛ فرخص في التعريض دون التصريح. الحسن: معناه ستخطبونهن. « ولكن لا تواعدوهن سرا » أي على سر فحذف الحرف؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر.

واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: « سرا » فقيل؛ معناه نكاحا، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني؛ بل يعرض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية؛ هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم. « وسرا » على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسرين. وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. قال معناه جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد، والحسن وقتادة والنخعي والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهن زنا، واختاره الطبري؛ ومنه قول الأعشى:

فلا تقربن جارة إن سرها عليك حرام فأنكحن أو تأبدا

وقال الحطيئة:

ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع

وقيل: السر الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح فإن ذكر الجماع مع غير الزوج فحش؛ هذا قول الشافعي. وقال امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي

وقال رؤبة:

فكف عن إسرارها بعد العسق

أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح، سرا كان أو جهرا، قال الأعشى:

فلن يطلبوا سرها للغنى ولن يسلموها لإزهادها

وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها، ولن يسلموها لقلة مالها. وقال ابن زيد: معنى قوله « ولكن لا تواعدوهن سرا » أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك؛ فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن؛ وهذا هو معنى القول الأول؛ فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول؛ وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق. وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالى: « ولا تعزموا عقدة النكاح » .

 

قال القاضي أبو محمد بن عطية: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته. قال ابن المواز: وأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه وإن نزل لم أفسخه. وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها: فراقها أحب إلي، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة؛ فإذا حلت خطبها مع الخطاب؛ هذه رواية ابن وهب. وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا؛ وقاله ابن القاسم. وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد. وقال الشافعي: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه لأن النكاح حادث بعد الخطبة؛ قاله ابن المنذر.

 

قوله تعالى: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » استثناء منقطع بمعنى لكن؛ كقوله « إلا خطأ » [ النساء: 92 ] أي لكن خطأ. والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض. وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة: احبسي علي نفسك فإن لي بك رغبة؛ فتقول هي: وأنا مثل ذلك؛ وهذا شبه المواعدة.

 

قوله تعالى: « ولا تعزموا عقدة النكاح » قد تقدم القول في معنى العزم؛ يقال: عزم الشيء وعزم عليه. والمعنى هنا: ولا تعزموا على عقدة النكاح. ومن الأمر البين أن القرآن أفصح كلام؛ فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته؛ وقد قال الله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » [ البقرة: 227 ] وقال هنا: « ولا تعزموا عقدة النكاح » والمعنى: لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم. وحكى سيبويه: ضرب فلان الظهر والبطن؛ أي على. قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه. قال النحاس: ويجوز أن يكون « ولا تعقدوا عقدة النكاح » ؛ لأن معنى « تعزموا » وتعقدوا واحد. ويقال: « تعزموا » بضم الزاي.

 

قوله تعالى: « حتى يبلغ الكتاب أجله » يريد تمام العدة. والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة؛ سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال « كتاب الله عليكم » وكما قال: « إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا » [ النساء: 103 ] . فالكتاب: الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله؛ « كتب عليكم الصيام » [ البقرة: 183 ] أي فرض. وقيل: ، في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله؛ فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن. وعلى الأول لا حذف فهو أولى، والله أعلم.

 

حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى: « ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله » وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة. وأباح التعريض في العدة بقوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » الآية. ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم. واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة؛ وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها. واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه؛ وذلك قبل الدخول وهي:

فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما، وأنه يكون خاطبا من الخطاب؛ وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه [ ضرب أجل المفقود ] . وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول؛ ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم؛ أصله إذا بنى بها. وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها وهي:

فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة؛ يتأبد التحريم بينهما. وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم. وقال مالك: يتأبد التحريم. وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين؛ والقولان له في المدونة في طلاق السنة. وأما إن دخل في العدة، وهي:

فقال مالك والليث والأوزاعي: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين؛ مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال: لا يجتمعان أبدا. قال سعيد: ولها مهرها بما استحل من فرجها؛ أخرجه مالك في موطئه وسيأتي. وقال الثوري والكوفيون والشافعي: يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب. واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها؛ فكذلك وطؤه إياها في العدة. قالوا: وهو قول علي. ذكره عبدالرزاق. وذكر عن ابن مسعود مثله؛ وعن الحسن أيضا. وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. وذكر القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى فقال: لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبني بها في العدة أو بعدها؛ فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد؛ وبه قال أحمد بن حنبل. وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أن في التي يتزوجها الرجل في عدة من طلاق أو وفاة عالما بالتحريم روايتين؛ إحداهما: أن تحريمه يتأبد على ما قدمناه. والثانية: أنه زان وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. ووجه الرواية الأولى - وهي المشهورة - ما ثبت من قضاء عمر بذلك، وقيامه بذلك في الناس، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يعلم له مخالف؛ فثبت أنه إجماع. قال القاضي أبو محمد: وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره؛ وهذا حكم الإجماع. ووجه الرواية الثانية أن هذا وطء ممنوع فلم يتأبد تحريمه؛ كما لو زوجت نفسها أو تزوجت متعة أو زنت. وقد قال القاضي أبو الحسن: إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر. والله أعلم. وأسند أبو عمر: حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أشعث عن الشعبي عن مسروق قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال؛ وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال: يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ فقال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء. فبلغ عمر فخطب الناس فقال: أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة. قال الكيا الطبري: ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد. وفي اتفاق عمر وعلي على نفي الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد؛ إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه. واختلفوا هل تعتد منهما جميعا. وهذه مسألة العدتين وهي:

 

فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر؛ وهو قول الليث والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن علي كما ذكرنا، وعن عمر على ما يأتي. وروى محمد بن القاسم وابن وهب عن مالك: إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالشهور؛ وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه؛ فدل على أنها في عدة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه. أجاب الأولون فقالوا: هذا غير لازم لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني؛ وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه. وخرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما؛ ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا. قال مالك: وقال سعيد بن المسيب: ولها مهرها بما استحل من فرجها. قال أبو عمر: وأما طليحة هذه فهي طليحة، بنت عبيدالله أخت طلحة بن عبيدالله التيمي، وفي بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى: طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل، ولا أعلم أحدا قاله.

 

قوله ( فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات ) يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة. وقال الزهري: فلا أدري كم بلغ ذلك الجلد. قال: وجلد عبدالملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة. قال: فسئل عن ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال: لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين، وقال ابن حبيب في التي تتزوج في العدة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الولي وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدة، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه. وقال ابن المواز: يجلد الزوجان الحد إن كانا تعمدا ذلك؛ فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب؛ وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأة وزوجها بالمخفقة ضربات. وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقب. ويحمل قول ابن المواز على أنهما علما التحريم واقتحما ارتكاب المحظور جرأة وإقداما. وقد قال الشيخ أبو القاسم: إنهما روايتان في التعمد؛ إحداهما يحد، والثانية يعاقب ولا يحد.

 

قوله تعالى: « واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه » هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه.

 

الآية: 236 ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين )

 

قوله تعالى: « لا جناح عليكم إن طلقتم النساء » هذا أيضا من أحكام المطلقات؛ وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض؛ ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن. وقال قوم: « لا جناح عليكم » معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها. وقيل: لما كان أمر المهر مؤكدا في الشرع فقد يتوهم أنه لا بد من مهر إما مسمى وإما مهر المثل؛ فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر. وقال قوم: « لا جناح عليكم » معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض، بخلاف المدخول بها إذ غير المدخول بها لا عدة عليها.

 

المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها مفروض لها وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية وأنه لا يسترد منها شيء من المهر، وأن عدتها ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها فهذه الآية في شأنها ولا مهر لها بل أمر الرب تعالى بإمتاعها وبين في سورة « الأحزاب » أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها، وسيأتي. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرها بعد هذه الآية إذ قال: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » ، [ البقرة: 237 ] ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ذكرها الله في قوله: « فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن » [ النساء:24 ] ؛ فذكر تعالى هذه الآية والتي بعدها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض؛ فجعل للأولى المتعة، وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد؛ وقابل المسيس بالمهر الواجب.

 

لما قسم الله تعالى حال المطلقة هنا قسمين: مطلقة مسمى لها المهر، ومطلقة لم يسم لها دل على أن نكاح التفويض جائز وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق فإن فرض التحق بالعقد وجاز وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وحكى المهدوي عن حماد بن أبي سليمان أنه إذا طلقها ولم يدخل بها ولم يكن فرض لها أجبر على نصف صداق مثلها. وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة: لا يتنصف بالطلاق لأنه لم يجب بالعقد وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » [ البقرة:237 ] وخلاف القياس أيضا؛ فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد فوجب أن يتنصف بالطلاق؛ أصله الفرض المقترن بالعقد.

 

إن وقع الموت قبل الفرض فذكر الترمذي عن ابن مسعود ( أنه سئل عن رجل تزوج امرأة لم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود ) . قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وقد روي عنه من غير وجه، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر: ( إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قالوا: لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة ) وهول قول الشافعي. وقال: ولو ثبت حديث بروع بنت واشق لكانت الحجة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويروى عن الشافعي أنه رجع بمصر بعد عن هذا القول، وقال بحديث بروع بنت واشق.

قلت: اختلف في تثبيت حديث بروع؛ فقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب في شرح رسالة ابن أبي زيد: وأما حديث بروع بنت واشق فقد رده حفاظ الحديث وأئمة أهل العلم. وقال الواقدي: وقع هذا الحديث بالمدينة فلم يقبله أحد من العلماء وصححه الترمذي كما ذكرنا عنه وابن المنذر. قال ابن المنذر: وقد ثبت مثل قول عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه نقول. وذكر أنه قول أبي ثور وأصحاب الرأي. وذكر عن الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي مثل قول علي وزيد وابن عباس وابن عمر. وفي المسألة قول ثالث وهو أنه لا يكون ميراث حتى يكون مهر؛ قاله مسروق.

قلت: ومن الحجة لما ذهب إليه مالك أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق؛ أصله الطلاق لكن إذا صح الحديث فالقياس في مقابلته فاسد. وقد حكى أبو محمد عبدالحميد عن المذهب ما يوافق الحديث والحمد لله. وقال أبو عمر: حديث بروع رواه عبدالرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود الحديث. وفيه: فقام معقل بن سنان. وقال فيه ابن مهدي عن الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله فقال معقل بن يسار، والصواب عندي قول من قال: معقل بن سنان لا معقل بن يسار لأن معقل بن يسار رجل من مزينة، وهذا الحديث إنما جاء في امرأة من أشجع لا من مزينة وكذلك رواه داود عن الشعبي عن علقمة؛ وفيه: فقال ناس من أشجع ومعقل بن سنان قتل يوم الحرة وفي يوم الحرة يقول الشاعر:

ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها وأشجع تبكي معقل بن سنان

 

قوله تعالى: « ما لم تمسوهن » ( ما ) بمعنى الذي، أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. و « تمسوهن » قرئ بفتح التاء من الثلاثي، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ حمزة والكسائي « تماسوهن » من المفاعلة؛ لأن الوطء تم بهما؛ وقد يرد في باب المفاعلة فاعل بمعنى فعل؛ نحو طارقت النعل، وعاقبت اللص. والقراءة الأولى تقتضي معنى المفاعلة في هذا الباب بالمعنى المفهوم من المس؛ ورجحها أبو علي؛ لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن، جاء: نكح وسفد وقرع ودفط وضرب الفحل؛ والقراءتان حسنتان. و « أو » في « أو تفرضوا » قيل هو بمعنى الواو؛ أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن؛ كقوله تعالى: « وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون » [ الأعراف: 4 ] أي وهم قائلون. وقوله: « وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] أي ويزيدون.، وقوله: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » [ الإنسان:24 ] أي وكفورا. وقوله: « وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط » [ النساء: 43 ] معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون. وقوله: « إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم » [ الأنعام: 146 ] وما كان مثله. ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » [ البقرة: 237 ] . فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره.

 

قوله تعالى: « ومتعوهن » معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن. وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبى الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب. وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب. تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر. وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: « حقا على المحسنين » و « على المتقين » ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله: « متعوهن » وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: « وللمطلقات متاع » أظهر في الوجوب منه في الندب. وقوله: « على المتقين » تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن: « هدى للمتقين » .

 

واختلفوا في الضمير المتصل بقوله « ومتعوهن » من المراد به من النساء؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في حق غيرها. وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها. وقال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة. قال الزهري: يقضي لها بها القاضي. وقال جمهور الناس: لا يقضي بها لها.

قلت: هذا الإجماع إنما هو في الحرة، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة. وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده؛ لأنها هي التي اختارت الطلاق. وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة. قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد؛ مثل ملك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم: وأصل ذلك قوله تعالى: « وللمطلقات متاع بالمعروف » فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ. وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها. وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة؛ لأن الزوج سبب للفراق.

 

قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا؛ فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال ابن محيريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن: يمتع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة؛ وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » . ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضا؛ قاله بعض الشافعية، قالوا: لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى: « متاعا بالمعروف » ويلزم منه أن، الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها؛ فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء. وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير؛ لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدرة » وهذا دليل على رفض التحديد؛ والله بحقائق الأمور عليم. وقد ذكر الثعلبي حديثا قال: نزلت « لا جناح عليكم إن طلقتم النساء » الآية، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( متعها ولو بقلنسوتك ) . وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين، فقال: يقتل علي وتظهرين الشماتة، اذهبي فأنت طالق ثلاثا. قال: فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها. فقالت:

متاع قليل من حبيب مفارق

فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أنى سمعت جدي - أو حدثني أبي أنه سمع جدي - يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الأقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها. وفي رواية: أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أني أبنت الطلاق لها لراجعتها، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) .

 

من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز عن ابن القاسم. وقال أصبغ: لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك. ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف » دليل على وجوب المتعة وقرأ الجمهور « الموسع » بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله، يقال: فلان ينفق، على قدره، أي على وسعه. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر « قدره » بسكون الدال في الموضعين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى، لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، يقول: خذ قدر كذا وقدر كذا، بمعنى. ويقرأ في كتاب الله: « فسالت أودية بقدرها » [ الرعد: 17 ] وقدرها، وقال تعالى: « وما قدروا الله حق قدره » [ الأنعام: 91 ] ولو حركت الدال لكان جائزا. و « المقتر » المقل القليل المال. و « متاعا » نصب على المصدر، أي متعوهن متاعا « بالمعروف » أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد.

 

قوله تعالى: « حقا على المحسنين » أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت، أي أوجبت، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله: « حقا » تأكيد للوجوب. ومعنى « على المحسنين » و « على المتقين » أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول: لست بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين؛ فيحسنون، بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار؛ فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين. و « حقا » صفة لقوله « متاعا » أو نصب على المصدر، وذلك أدخل في التأكيد للأمر؛ والله أعلم.

 

الآية: 237 ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير )

 

اختلف الناس في هذه الآية؛ فقالت فرقة منها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتع؛ إذ يتناولها قوله تعالى: « ومتعوهن » . وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية الآية التي في « الأحزاب » لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.

قلت: قول سعيد وقتادة فيه نظر؛ إذ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكن. وقال ابن القاسم في المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: « وللمطلقات متاع بالمعروف » [ البقرة:241 ] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة « الأحزاب » فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط. وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض.

 

قوله تعالى: « فنصف ما فرضتم » أي فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع. والنصف الجزء من اثنين؛ فيقال: نصف الماء القدح أي بلغ نصفه. ونصف الإزار الساق؛ وكل شيء بلغ نصف غيره فقد نصفه. وقرأ الجمهور « فنصف » بالرفع. وقرأت فرقة « فنصف » بنصب الفاء؛ المعنى فادفعوا نصف. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت « فنصف » بضم النون في جميع القرآن وهي لغة. وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء يقال: نصف ونصف ونصيف،، لغات ثلاث في النصف؛ وفي الحديث: ( لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أي نصفه. والنصيف أيضا القناع.

 

إذا أصدقها ثم طلقها قبل الدخول ونما الصداق في يدها فقال مالك: كل عرض أصدقها أو عبد فنماؤهما لهما جميعا ونقصانه بينهما، وتواه عليهما جميعا ليس على المرأة منه شيء. فإن أصدقها عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عبدا أو دارا أو اشترت به منه أو من غيره طيبا أو شوارا أو غير ذلك مما لها التصرف فيه لجهازها وصلاح شأنها في بقائها معه فذلك كله بمنزلة ما لو أصدقها إياه، ونماؤه ونقصانه بينهما. وإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا نصفه، وليس عليها أن تغرم له نصف ما قبضته منه، وإن اشترت به أو منه شيئا تختص به فعليها أن تغرم له نصف صداقها الذي قبضت منه، وكذلك لو اشترت من غيره عبدا أو دارا بالألف الذي أصدقها ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألف.

 

لا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها وقد سمى لها أن لها ذلك المسمى كاملا والميراث، وعليها العدة.

واختلفوا في الرجل يخلو بالمرأة ولم يجامعها حتى فارقها؛ فقال الكوفيون ومالك: عليه جميع المهر، وعليها العدة؛ لخبر ابن مسعود قال: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا أن لها الميراث وعليها العدة؛ وروي مرفوعا خرجه الدارقطني وسيأتي في « النساء » . والشافعي لا يوجب مهرا كاملا، ولا عدة إذا لم يكن دخول؛ لظاهر القرآن. قال شريح: لم أسمع الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق؛ وهو مذهب ابن عباس وسيأتي ما لعلمائنا في هذا في سورة « النساء » إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: « وقد أفضى بعضكم إلى بعض » [ النساء: 21 ] .

 

قوله تعالى: « إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » الآية. « إلا أن يعفون » استثناء منقطع؛ لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن. و « يعفون » معناه يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن. والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي، وجب لهن عند الزوج، ولم تسقط النون مع « أن » ؛ لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع والنصب والجزم، فهي ضمير وليست بعلامة إعراب فلذلك لم تسقط؛ ولأنه لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر. والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله سبحانه وتعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه؛ إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن، إذا ملكن أمر أنفسهن وكن بالغات عاقلات راشدات. وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين: ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها؛ وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز. وأما التي في حجر أب أو وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا، ولا خلاف فيه فيما أعلم.

 

قوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده » معطوف على الأول مبني، وهذا معرب. وقرأ الحسن « أو يعفو » ساكنة الواو، كأنه استثقل الفتحة في الواو. واختلف الناس في المراد بقوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » فروى الدارقطني عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة من بني نصر فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملا وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: « إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » وأنا أحق بالعفو منها. وتأول قوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » يعني نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، أي عقدة نكاحه؛ فلما أدخل اللام حذف الهاء كقوله: « فإن الجنة هي المأوى » [ النازعات: 41 ] أي مأواه. قال النابغة:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب

أي أحلامهم. وكذلك قوله: « عقدة النكاح » أي عقدة نكاحه. وروى الدارقطني مرفوعا من حديث قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ولي عقدة النكاح الزوج ) . وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح. قال: وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاوس ومجاهد، والشعبي وسعيد بن جبير، زاد غيره ومجاهد والثوري؛ واختاره أبو حنيفة، وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلا للولي على شيء من صداقها؛ للإجماع على أن الولي لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده. وأجمعوا على أن الولي لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها. وأجمعوا على أن من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب، والله أعلم. ومنهم من قال هو الولي أسنده الدارقطني أيضا عن ابن عباس قال: وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، زاد غيره وعكرمة وطاوس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم. فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت، بلغت المحيض أم لم تبلغه. قال عيسى بن دينار: ولا ترجع بشيء منه على أبيها، والدليل على أن المراد الولي أن الله سبحانه وتعالى قال في أول الآية: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب، ثم قال: « إلا أن يعفون » فذكر النسوان، « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » فهو ثالث فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الولي فهو المراد. قال معناه مكي وذكره ابن العربي. وأيضا فإن الله تعالى قال: « إلا أن يعفون » ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما، فبين الله القسمين فقال: « إلا أن يعفون » أي إن كن لذلك أهلا، « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » وهو الولي؛ لأن الأمر فيه إليه. وكذلك روى ابن وهب وأشهب وابن عبدالحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته. وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد، ولا يجوز عفوه إذا كان سفيها. فإن قيل: لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به؛ لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم. فالجواب - أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل أب البكر يملكه خاصة دون الزوج؛ لأن المعقود عليه هو بضع البكر، ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه. وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر؛ وكذلك قال عكرمة: يجوز عفو الذي، عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أبا أو أخا، وإن كرهت. وقرأ أبو نهيك والشعبي « أو يعفو » بإسكان الواو على التشبيه بالألف؛ ومثله قول الشاعر:

فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

 

قوله تعالى: « وأن تعفوا أقرب للتقوى » ابتداء وخبر، أو الأصل تعفووا أسكنت الواو الأولى لثقل حركتها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وهو خطاب للرجال والنساء في قول ابن عباس فغلب الذكور، واللام بمعنى إلى، أي أقرب إلى التقوى. وقرأ الجمهور « تعفو » بالتاء باثنتين من فوق. وقرأ أبو نهيك والشعبي « وأن يعفوا » بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح.

قلت: ولم يقرأ « وأن تعفون » بالتاء فيكون للنساء. وقرأ الجمهور « ولا تنسوا الفضل » بضم الواو؛ وكسرها يحيى بن يعمر. وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة « ولا تناسوا الفضل » وهي قراءة متمكنة المعنى؛ لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه. قال مجاهد: الفضل إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.

 

قوله تعالى: « إن الله بما تعملون بصير » خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم.

 

الآية: 238 ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين )

 

قوله تعالى: « حافظوا » خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها. والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه. ، والوسطى تأنيث الأوسط. ووسط الشيء خيره وأعدله؛ ومنه قوله تعالى: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] وقد تقدم. وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا

ووسط فلان القوم يسطهم أي صار في وسطهم. وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها؛ كقوله تعالى: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] ، وقوله: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . وقرأ أبو جعفر الواسطي « والصلاة الوسطى » بالنصب على الإغراء، أي وألزموا الصلاة الوسطى: وكذلك قرأ الحلواني. وقرأ قالون عن نافع « الوصطى » بالصاد لمجاورة الطاء لها؛ لأنهما من حيز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه.

 

واختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال:

الأول: أنها الظهر؛ لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر كما تقدم، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام. وممن قال أنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم. ومما يدل على أنها وسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » بالواو. وروي أنها كانت أشق على المسلمين؛ لأنها كانت تجيء في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم. وروى أبو داود عن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن تصلى صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. وروى مالك في موطئه وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر؛ زاد الطيالسي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير.

الثاني: إنها العصر؛ لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل. قال النحاس: وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثانية مما فرض. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وقاله الشافعي وأكثر أهل الأثر، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب واختاره ابن العربي في قبسه وابن عطية في تفسيره وقال: وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره، وأنصها حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقد أتينا زيادة على هذا في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس.

الثالث: إنها المغرب؛ قاله قبيصة بن أبي ذؤيب في جماعة. والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر. وروي من حديث عائشة رضي الله عتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة - أو قال - أربعين سنة ) .

الرابع: صلاة العشاء الآخرة؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران، وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها.

الخامس: إنها الصبح؛ لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما؛ ولأن وقتها يدخل والناس نيام، والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، أخرجه، الموطأ بلاغا، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر وابن عباس تعليقا، وروي عن جابر بن عبدالله، وهو قول مالك وأصحابه وإليه ميل الشافعي فيما ذكر عنه القشيري. والصحيح عن علي أنها العصر، وروي عنه ذلك من وجه معروف صحيح وقد استدل من قال أنها الصبح بقوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » يعني فيها، ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت إلا الصبح. قال أبو رجاء: صلى بنا ابن عباس صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله تعالى أن نقوم فيها قانتين. وقال أنس: قنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بعد الركوع؛ وسيأتي حكم القنوت وما للعلماء فيه في « آل عمران » عند قوله تعالى: « ليس لك من الأمر شيء » .

السادس: صلاة الجمعة؛ لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا ذكره ابن حبيب ومكي وروى مسلم عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ( لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ) .

السابع: إنها الصبح والعصر معا. قاله الشيخ أبو بكر الأبهري؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار... ) الحديث، رواه أبو هريرة. وروى جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ( أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها... ) يعني العصر والفجر: ثم قرأ جرير « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ ق: 39 ] . وروى عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) ، يعني الفجر والعصر. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى البردين دخل الجنة ) كله ثابت في صحيح مسلم وغيره. وسميتا البردين لأنهما يفعلان في وقتي البرد.

الثامن: إنها العتمة والصبح. قال أبو الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه: ( اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم ) قاله عمر وعثمان. وروى الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا - وقال - إنهما أشد الصلاة على المنافقين ) وجعل لمصلي الصبح في جماعة قيام ليلة والعتمة نصف ليلة؛ ذكره مالك موقوفا على عثمان ورفعه مسلم، وخرجه أبو داود والترمذي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة ) وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم.

التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها؛ قاله معاذ بن جبل؛ لأن قوله تعالى: « حافظوا على الصلوات » يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر.

العاشر: إنها غير معينة؛ قاله نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات. ومما يدل على صحة أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: « حافظوا على الصلوات وصلاة العصر » فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » فقال رجل: هي إذا صلاة العصر؟ قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم. فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم. وهذا اختيار مسلم لأنه أتى به في آخر الباب وقال به غير واحد من العلماء المتأخرين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لتعارض الأدلة وعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها في أوقاتها والله أعلم.

 

وهذا الاختلاف في الصلاة الوسطى يدل على بطلان من أثبت « وصلاة العصر » المذكور في حديث أبي يونس مولى عائشة حين أمرته أن يكتب لها مصحفا قرآنا. قال علماؤنا: وإنما ذلك كالتفسير من النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك حديث عمرو بن رافع قال: ( أمرتني حفصة أن أكتب لها مصحفا... ) الحديث. وفيه: فأملت علي « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وهي العصر - وقوموا لله قانتين » وقالت: هكذا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فقولها: « وهي العصر » دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الصلاة الوسطى من كلام الله تعالى بقوله هو ( وهي العصر ) . وقد روى نافع عن حفصة « وصلاة العصر » ؛ كما روي عن عائشة وعن حفصة أيضا « صلاة العصر » بغير واو. وقال أبو بكر الأنباري: وهذا الخلاف في هذا اللفظ المزيد يدل على بطلانه وصحة ما في الإمام مصحف جماعة المسلمين. وعليه حجة أخرى وهو أن من قال: والصلاة الوسطى وصلاة العصر جعل الصلاة الوسطى غير العصر؛ وفي هذا دفع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبدالله قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا... ) الحديث.

 

قوله تعالى: « والصلاة الوسطى » دليل على أن الوتر ليس بواجب لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة. وفي حديث الإسراء: ( هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ) .

 

قوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » معناه في صلاتكم. واختلف الناس في معنى قوله « قانتين » فقال الشعبي: طائعين؛ وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير.، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن فإنما يعني به الطاعة. وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون عاصين، فقيل لهذه الأمة فقوموا لله طائعين. وقال مجاهد: معنى قانتين خاشعين، والقنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح. وقال الربيع: القنوت طول القيام؛ وقاله ابن عمر وقرأ « أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما » [ الزمر: 9 ] . وقال عليه السلام. ( أفضل الصلاة طول القنوت ) خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر:

قانتا لله يدعو ربه وعلى عمدن من الناس اعتزل

وقد تقدم. وروي عن ابن عباس « قانتين » داعين. وفي الحديث: ( قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان ) قال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طول قيامه. وقال السدي: « قانتين » ساكتين؛ دليله أن الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام؛ وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: ( إن في الصلاة شغلا ) . وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: « وقوموا لله قانتين » فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء. ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت.

 

قال أبو عمر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه قال: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد صلاته بذلك. وهو قول ضعيف في النظر؛ لقول الله عز وجل: « وقوموا لله قانتين » وقال زيد بن أرقم: ( كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: « وقوموا لله قانتين » ... ) الحديث. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة ) . وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ومن أجله يمنع من الاستئناف، فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو مال أو ما كان بسبيل ذلك استأنف صلاته ولم يبن. هذا هو الصحيح في المسألة إن شاء الله تعالى.

 

واختلفوا في الكلام ساهيا فيها؛ فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الكلام فيها ساهيا لا يفسدها، غير أن مالكا قال: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها؛ وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك قال: لو أن قوما صلى بهم الإمام ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة: إنك لم تتم فأتم صلاتك؛ فالتفت إلى القوم فقال: أحق ما يقول هذا؟ فقالوا: نعم، قال: يصلي بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين. هذا قول ابن القاسم في كتابه المدونة وروايته عن مالك، وهو المشهور من مذهب مالك وإياه تقلد إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن. وذكر الحارث بن مسكين قال: أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده فإنه يقول فيها بقول مالك، وغيرهم يأبونه ويقولون: إنما كان هذا في صدر الإسلام، فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم فمن تكلم فيها أعادها؛ وهذا هو قول العراقيين: أبي حنيفة وأصحابه والثوري فإنهم ذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان سهوا أو عمدا لصلاة كان أو لغير ذلك؛ وهو قوله إبراهيم النخعي، وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة. وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث أبى هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم، قالوا: وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث ( من أدركه الفجر جنبا فلا صوم له ) قالوا: وكان كثير الإرسال. وذكر علي بن زياد قال حدثنا أبو قرة قال: سمعت مالكا يقول: يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني. قال: وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ؛ لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم. وقد روى سحنون عن ابن القاسم في رجل صلى وحده ففرغ عند نفسه من الأربع، فقال له رجل إلى جبنه: إنك لم تصل إلا ثلاثا؛ فالتفت إلى آخر فقال: أحق ما يقول هذا؟ قال: نعم، قال: تفسد صلاته ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا أن يلتفت إليه. قال أبو عمر: فكانوا يفرقون في هذه المسألة بين الإمام مع الجماعة والمنفرد فيجيزون من الكلام في شأن الصلاة. للإمام ومن معه ما لا يجيزونه للمنفرد؛ وكان غير هؤلاء يحملون جواب ابن القاسم في المنفرد في هذه المسألة وفي الإمام ومن معه على اختلاف من قوله في استعمال حديث ذي اليدين كما اختلف قول مالك في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه: من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته، فإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لأنه قد أكملها عند نفسه فإنه يبني. واختلف قول أحمد في هذه المسألة فذكر الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت؛ وهذا هو قول مالك المشهور. وذكر الخرقي عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته، إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. واستثنى سحنون من أصحاب مالك أن من سلم من اثنتين في الرباعية فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة. والصحيح ما ذهب إليه مالك في المشهور تمسكا بالحديث وحملا له على الأصل الكلي من تعدي الأحكام، وعموم الشريعة، ودفعا لما يتوهم من الخصوصية إذ لا دليل عليها. فإن قال قائل: فقد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) فلم لم يسبحوا؟ فيقال: لعل في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولئن كان كما ذكرت فلم يسبحوا؛ لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت؛ وقد جاء ذلك في الحديث قال: وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ فلما يكن بد من الكلام لأجل ذلك. والله أعلم.

وقد قال بعض المخالفين: قول أبي هريرة ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو ليس منهم؛ كما روي عن النزال بن سبرة أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف وأنتم اليوم بنو عبدالله ونحن بنو عبدالله ) وإنما عنى به أنه قال لقومه وهذا بعيد؛ فإنه لا يجوز أن يقول صلى بنا وهو إذ ذاك كافر ليس من أهل الصلاة ويكون ذلك كذبا، وحديث النزال هو كان من جملة القوم وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. وأما ما ادعته الحنفية من النسخ والإرسال فقد أجاب عن قولهم علماؤنا وغيرهم وأبطلوه، وخاصة الحافظ أبا عمر بن عبدالبر في كتابه المسمى بـ [ التمهيد ] وذكر أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وقدم المدينة في ذلك العام، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وشهد قصة ذي اليدين وحضرها، وأنها لم تكن قبل بدر كما زعموا، وأن ذا اليدين قتل في بدر. قال: وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكر.

 

القنوت: القيام، وهو أحد أقسامه فيما ذكر أبو بكر بن الأنباري، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما ) الحديث،، أخرجه الأئمة، وهو بيان لقوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » . واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام؛ فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: ( وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ) وهذا هو الصحيح في المسألة على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقد أجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا وأبو بكر إلى جنبه قائما يصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشر إلى أبي بكر ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته بهم جالسا وهم قيام؛ ومعلوم أن ذلك كان منه بعد سقوطه عن فرسه؛ فعلم أن الآخر من فعله ناسخ للأول. قال أبو عمر: وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة الشافعي وداود بن علي، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. قال: وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه ممن يعلم الناس بصلاته، وهذه الرواية غريبة عن مالك. وقال بهذا جماعة من أهل المدينة وغيرهم وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحد جالسا، فإن أمهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحد بعدي قاعدا ) . قال: فإن كان الإمام عليلا تمت صلاة الإمام وفسدت صلاة من خلفه. قال: ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة؛ هذه رواية أبي مصعب في مختصره عن مالك، وعليها فيجب على من صلى قاعدا الإعادة في الوقت وبعده. وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة، وقول محمد بن الحسن في هذا مثل قول مالك المشهور. واحتج لقوله ومذهبه بالحديث الذي ذكره أبو مصعب، أخرجه الدارقطني عن جابر عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحد بعدي جالسا ) . قال الدارقطني: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي وهو متروك الحديث، مرسل لا تقوم به حجة. قال أبو عمر: جابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا؟ قال محمد بن الحسن: إذا صلى الإمام المريض جالسا بقوم أصحاء ومرضى جلوسا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام صحيحة جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن حكمه القيام باطلة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: صلاته وصلاتهم جائزة. وقالوا: لو صلى وهو يومئ بقوم وهم يركعون ويسجدون لم تجزهم في قولهم جميعا وأجزأت الإمام صلاته. وكان زفر يقول: تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه، كما قال الشافعي.

قلت: أما ما ذكره أبو عمر وغيره من العلماء قبله وبعده من أنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت لغيرهم خلال ذلك ممن جمع طرق الأحاديث في هذا الباب، وتكلم عليها وذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر ما ذكره ملخصا حتى يتبين لك الصواب إن شاء الله تعالى. وصحة قول من قال أن صلاة المأموم الصحيح قاعدا خلف الإمام المريض جائزة، فذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فقال: ( ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم ) قالوا: بلى، نشهد أنك رسول الله، قال: ( ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتي ) ؟ قالوا: بلى، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتك. قال: ( فإن من طاعة الله أن تطيعوني ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم فإن صلوا قعودا فصلوا قعودا ) . في طريقه عقبة بن أبي الصهباء وهو ثقة؛ قاله يحيى بن معين. قال أبو حاتم: في هذا الخبر بيان واضح أن صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا من طاعة الله جل وعلا التي أمر الله بها عباده، وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته؛ لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به: جابر بن عبدالله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد، ولم يرو عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف لهؤلاء الأربعة، لا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا. وبه قال جابر بن زيد والأوزاعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. وهذه السنة رواها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وعائشة وأبو هريرة وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر بن الخطاب وأبو أمامة الباهلي. وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من بعده من أصحابه. وأعلى شيء احتجوا به فيه شيء رواه جابر الجعفي عن الشعبي قال قال رسول الله: ( لا يؤمن أحد بعدي جالسا ) وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل من الخبر وما لم يرو سيان في الحكم عندنا، ثم إن أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، وما أتيته بشيء قط من رأي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرا الجعفي ويكذبه ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه. قال أبو حاتم: وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فجاءت الأخبار فيها مجملة ومختصرة، وبعضها مفصلة مبينة؛ ففي بعضها: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر. وفي بعضها: فجلس عن يسار أبي بكر وهذا مفسر. وفيه: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس قاعدا وأبو بكر قائما. قال أبو حاتم: وأما إجمال هذا الخبر فإن عائشة حكت هذه الصلاة إلى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقعود أيضا في هذه الصلاة كما أمرهم به عند سقوطه عن فرسه؛ أنبأنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال أنبأنا يزيد بن موهب قال حدثني الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: ( كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا ) . قال أبو حاتم: ففي هذا الخبر المفسر بيان واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قعد عن يسار أبي بكر وتحول أبو بكر مأموما يقتدى بصلاته ويكبر يسمع الناس التكبير ليقتدوا بصلاته، أمرهم صلى الله عليه وسلم حينئذ بالقعود حين رآهم قياما؛ ولما فرغ من صلاته أمرهم أيضا بالقعود إذا صلى إمامهم قاعدا.

وقد شهد جابر بن عبدالله صلاته صلى الله عليه وسلم حين سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، وكان سقوطه صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة آخر سنة خمس من الهجرة، وشهد هذه الصلاة في علته صلى الله عليه وسلم في غير هذا التاريخ فأدى كل خبر بلفظه؛ ألا تراه يذكر في هذه الصلاة: رفع أبو بكر صوته بالتكبير ليقتدي به الناس، وتلك الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته عند سقوطه عن فرسه، لم يحتج إلى أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس تكبيره على صغر حجرة عائشة، وإنما كان رفعه صوته بالتكبير في المسجد الأعظم الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في علته؛ فلما صح ما وصفنا لم يجز أن نجعل بعض هذه الأخبار ناسخا لبعض؛ وهذه الصلاة كان خروجه إليها صلى الله عليه وسلم بين رجلين، وكان فيها إماما وصلى بهم قاعدا وأمرهم بالقعود. وأما الصلاة التي صلاها آخر عمره فكان خروجه إليها بين بريرة وثوبة، وكان فيها مأموما، وصلى قاعدا خلف أبي بكر في ثوب واحد متوشحا به. رواه أنس بن مالك قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا خلف أبي بكر فصلى عليه السلام صلاتين في المسجد جماعة لا صلاة واحدة. وإن في خبر عبيدالله بن عبدالله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بين رجلين. يريد أحدهما العباس والآخر عليا. وفي خبر مسروق عن عائشة: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة وثوبة، إني لأنظر إلى نعليه تخطان في الحصى وأنظر إلى بطون قدميه؛ الحديث. فهذا يدلك على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة. قال أبو حاتم: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا بدل بن المحبر قال: حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة: أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه. قال أبو حاتم: خالف شعبة بن الحجاج زائدة بن قدامة في متن هذا الخبر عن موسى بن أبي عائشة فجعل شعبة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وجعل زائدة النبي صلى الله عليه وسلم إماما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وهما متقنان حافظان. فكيف يجوز أن يجعل إحدى الروايتين اللتين تضادتا في الظاهر في فعل واحد ناسخا لأمر مطلق متقدم، فمن جعل أحد الخبرين ناسخا لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وترك الآخر من غير دليل ثبت له على صحته سوغ لخصمه أخذ ما ترك من الخبرين وترك ما أخذ منهما. ونظير هذا النوع من السنن خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم وخبر أبي رافع صلى نكحها وهما حلالان فتضاد الخبران في فعل واحد في الظاهر من غير أن يكون بينهما تضاد عندنا؛ فجعل جماعة من أصحاب الحديث الخبرين اللذين رويا في نكاح ميمونة متعارضين، وذهبوا إلى خبر عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) فأخذوا به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في نكاح ميمونة، وتركوا خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم؛ فمن فعل هذا لزمه أن يقول: تضاد الخبران في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته على حسب ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجيء إلى الخبر الذي فيه الأمر بصلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا فيأخذ به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته ويترك الخبر المنفرد عنهما كما فعل ذلك في نكاح ميمونة. قال أبو حاتم: زعم بعض العراقيين ممن كان ينتحل مذهب الكوفيين أن قوله: ( وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا ) أراد به وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعون فحرف الخبر عن عموم ما ورد الخبر فيه بغير دليل ثبت له على تأويله.

 

الآية: 239 ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون )

 

قوله تعالى: « فإن خفتم » من الخوف الذي هو الفزع. « فرجالا » أي فصلوا رجالا. « أو ركبانا » معطوف عليه. والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم: رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل - ( بضم الجيم ) وهي لغة أهل الحجاز؛ يقولون: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا؛ - حكاه الطبري وغيره - ورجلان ورجيل ورجل، ويجمع على رجال ورجلي ورجال ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجله ( بفتح الجيم ) وأرجلة وأراجل وأراجيل. والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال.

 

لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال، ورخص لعبيده في الصلاة رجالا على الأقدام وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.

هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السُّموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.

 

واختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا؛ فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه؛ فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف. فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا، وقيل: يعيدون؛ وهو قول أبي حنيفة. قال أبو عمر: فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه. وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية، وهذا يأتي بيانه في سورة « النساء » إن شاء الله تعالى. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء.

 

قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة؛ وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية أقوى دليل عليه، وسيأتي هذا في « النساء » إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها، والله أعلم.

 

لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء؛ روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن عبدالبر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أولى ما احتيط فيه، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم: يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق بن راهويه: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ذكره ابن المنذر.

وقوله تعالى: « فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم » أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان. وقال مجاهد: « أمنتم » خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة؛ ورد الطبري على هذا القول. وقالت فرقة: « أمنتم » زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة.

 

واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن؛ فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعة راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى؛ وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى. وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبنى في شيء من هذا كله.

قوله تعالى: « فاذكروا الله » قيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه. فالكاف في قوله « كما » بمعنى الشكر؛ تقول: افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا. « وما » في قوله « ما لم » مفعولة بـ « علمكم » .

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر « آل عمران » إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي: ولهذا قال علماؤنا: وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في « براءة » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 240 ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم )

 

قوله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا » ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة « النساء » قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء، روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في « البقرة » : « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا - إلى قوله - غير إخراج » قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: « غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم » . قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا رحمهما الله تعالى، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. قال غيره: معنى قوله « وصية » أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ.

قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا » قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا - إلى قوله - من معروف » قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: « غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم » إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام: ( إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول ) الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا - مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد - إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه؛ قاله أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية. فقوله عز وجل: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهن متاعا إلى الحول غير إخراج » منسوخ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت. وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق.

 

قوله تعالى: « وصية » قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر « وصية » بالرفع على الابتداء، وخبره « لأزواجهم » . ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية، ويكون قوله « لأزواجهم » صفة؛ قال الطبري: قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية، ويكون قوله « لأزواجهم » صفة، قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله بن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر « وصية » بالنصب، وذلك حمل على الفعل، أي فليوصوا وصية. ثم الميت لا يوصي، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة، و « لأزواجهم » على هذه القراءة أيضا صفة. وقيل: المعنى أوصى الله وصية. « متاعا » أي متعوهن متاعا: أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية؛ كقوله: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما » [ البلد: 14 - 15 ] والمتاع ههنا نفقة سنتها.

 

قوله تعالى: « غير إخراج » معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و « غير » نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا. وقيل: نصب لأنه صفة المتاع وقيل: نصب على الحال من الموصين أي متعوهن غير مخرجات. وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج.

 

قوله تعالى: « فإن خرجن » الآية. معناه باختيارهن قبل الحول. « فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن » أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا. وقيل: أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة. لأنه قال « من معروف » وهو ما يوافق الشرع. « والله عزيز » صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. « حكيم » أي محكم لما يريد من أمور عباده.

 

الآيتان: 241 - 242 ( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون )

 

اختلف الناس في هذه الآية؛ فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة؛ وكذلك قال الزهري. قال الزهري: حتى للأمة يطلقها زوجها. وكذلك قال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية. وقال مالك: لكل مطلقه - اثنتين أو واحدة بنى بها أم لا؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد؛ حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال: جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها. قال ابن عطية: ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله: « وللمطلقات » يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجيء على أن قوله تعالى: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن » [ البقرة: 237 ] مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل: إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: « فتعالين أمتعكن » [ الأحزاب: 28 ] محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم، لا وجوب له. وقوله: « فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن » [ الأحزاب: 49 ] محمول على غير المفروضة أيضا؛ قال الشافعي: والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا.

 

الآية: 243 ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون )

 

قوله تعالى: « ألم تر » هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم. والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين. ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « ألم تر » بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء. وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها ( داوردان ) فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى. قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم. وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل: سبعة، والله أعلم. قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم. وقيل: إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل: كان اسمه شمعون. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وقيل: إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: « وقاتلوا في سبيل الله » [ البقرة: 190 ] ؛ قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية.

قوله تعالى: « وهم ألوف » قال الجمهور: هي جمع ألف. قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف. وقيل: كانوا ثمانين ألفا. ابن عباس: أربعين ألفا. أبو مالك: ثلاثين ألفا. السدي: سبعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين ألفا؛ قاله عطاء بن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جريج. وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى: « وهم ألوف » وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف. وقال ابن زيد في لفظة ألوف: إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. فألوف على هذا جمع الف؛ مثل جالس وجلوس. قال ابن العربي: أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قال مجاهد: إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. ابن جريج عن ابن عباس: وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم. وروي أنهم كانوا بواسط العراق. ويقال: إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم.

 

قوله تعالى: « حذر الموت » أي لحذر الموت؛ فهو نصب لأنه مفعول له. و « موتوا » أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا. وقد حكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين « موتوا » ، والله أعلم.

 

أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. وقال عمرو بن دينار في هذه الآية: وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال: فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن: خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا.

قلت: وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية. فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال ( رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه ) وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: ( بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها ) قال: حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبدالرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها: أنه رجع. وقال الطبري: في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها؛ وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ) .

قلت: وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري: ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضوع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا » ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان؛ وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه. فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء: ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) . وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام.

في قوله عليه السلام: ( إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) . دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم.

 

في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء؛ قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فناء أمتي بالطعن والطاعون ) قالت: الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال: ( غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط ) . قال العلماء: وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين؛ كما قال معاذ في طاعون عمواس: إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف ) . وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ) . وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: ( الطاعون شهادة والمطعون شهيد ) . أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه؛ ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث، والله أعلم.

 

قال أبو عمر: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع؛ فكان إذا جمع صاحوا به: فر من الطاعون فمات بالسيالة. قال: وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك:

ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو

وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان؛ فسمع حاديا يحدو خلفه:

لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار

أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري

وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها [ سكر ] . فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان. فقال له عبدالعزيز: ما اسمك ؟ فقال له: طالب بن مدرك. فقال: أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية.

 

الآية: 244 ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم )

 

هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى: « قل هذه سبيلي » [ يوسف: 108 ] . قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا. وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل؛ وروي عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله « وقاتلوا » عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. قال النحاس: « وقاتلوا » أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء. « واعلموا أن الله سميع عليم » أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري: لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. والله أعلم.

 

الآية: 245 ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون )

 

قوله تعالى: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك. فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة. و « من » رفع بالابتداء، و « ذا » خبره، و « الذي » نعت لذا، وإن شئت بدل. ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال: أخبرنا أبي إجازة قال: قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه؛ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال: أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال: لما نزلت: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال: ( نعم يا أبا الدحداح ) قال: أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة.، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله؛ فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد بن أسلم: لما نزل: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال: ( نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ) . قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال: ( نعم ) قال: فناولني يدك؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده: فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك ) قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: ( إذا يجزيك الله به الجنة ) . فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:

هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد

بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا من ولا ارتداد

إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد

والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد

قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:

بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح

قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح ) .

 

قال ابن العربي: « انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: » لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء « [ آل عمران: 181 ] . الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره. والله أعلم. »

 

قوله تعالى: « قرضا حسنا » القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد:

وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل

والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي. واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني. واقترضت منه أي أخذت القرض. وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ قال أمية:

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ومدينا مثل ما دانا

وقال آخر:

تجازى القروض بأمثالها فبالخير خيرا وبالشر شرا

وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ. وأصل الكلمة القطع؛ ومنه المقراض. وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها. وانقرض القوم: انقطع أثرهم وهلكوا. والقرض ههنا: اسم، ولولاه لقال ههنا إقراضا. واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد؛ لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. حسب ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء الله تعالى. وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة ا الدين. وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام. ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى: ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال: ( استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ) وكذا فيما قبل؛ أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به.

 

يجب على المستقرض رد القرض؛ لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء. وفي الخبر: ( النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر ) على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل » [ البقرة: 261 ] الآية. وقال ههنا: « فيضاعفه له أضعافا كثيرة » وهذا لا نهاية له ولا حد.

 

ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه. خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ) . قال: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير عن قيس بن رومي قال: كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا ثم أتاه فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال: نعم وكرامة يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، قال: فجاءت بها؛ فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا؛ قال: فلله أبوك ؟ ما حملك على ما فعلت بي ؟ قال: ما سمعت منك؛ قال: ما سمعت مني ؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة ) قال: كذلك أنبأني ابن مسعود.

 

قرض الآدمي للواحد واحد، أي يرد عليه مثل ما أقرضه. وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف - كما قال ابن مسعود - أو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه؛ لأن ذلك من باب المعروف؛ استدلالا بحديث أبي هريرة في البكر: ( إن خياركم أحسنكم قضاء ) رواه الأئمة: البخاري ومسلم وغيرهما. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا، والخيار: المختار، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة؛ لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات - مخففة الباء - وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم.

 

ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك؛ بهذا جاءت السنة: خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال:، سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبله ذلك ) .

 

القرض يكون من المال - وقد بينا حكمه - ويكون من العرض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعِرضي على عبادك ) . وروي عن ابن عمر: أقرض من عرضك ليوم فقرك؛ يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التصدق بالعِرض لأنه حق الله تعالى، وروي عن مالك. ابن العربي: وهذا فاسد، قال عليه السلام في الصحيح: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام... ) الحديث. وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي.

 

قوله تعالى: « حسنا » قال الواقدي: محتسبا طيبة به نفسه. وقال عمرو بن عثمان الصدفي: لا يمن به ولا يؤذي. وقال سهل بن عبدالله: لا يعتقد في قرضه عوضا.

 

قوله تعالى: « فيضاعفه له أضعافا كثيرة » قرأ عاصم وغيره « فيضاعفه » بالألف ونصب الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء. وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء. فمن رفعه نسقه على قوله: « يقرض » وقيل: على تقدير هو يضاعفه. ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء. وقيل: بإضمار « أن » والتشديد والتخفيف لغتان. دليل التشديد « أضعافا كثيرة » لأن التشديد للتكثير. وقال الحسن والسدي: لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده، لقوله تعالى: « ويؤت من لدنه أجرا عظيما » [ النساء:40 ] . قاله أبو هريرة: هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف.

 

قوله تعالى: « والله يقبض ويبسط » هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في ( شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى ) . « وإليه ترجعون » وعيد فيجازي كلا بعمله.

 

الآية: 246 ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين )

 

ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل. والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم والرهط. والملأ أيضا: حسن الخلق، ومنه الحديث ( أحسنوا الملأ فكلكم سيروى ) خرجه مسلم.

 

قوله تعالى: « من بعد موسى » أي من بعد وفاته. « إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » قيل: هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز. ويقال فيه: شمعون، قاله السدي: وإنما قيل: ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها. ويقال له: سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته « سمعون » ، تقول: سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب. وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السلام. وقال قتادة: هو يوشع بن نون. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى. وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم. وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله. وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم.

قوله تعالى: « نقاتل » بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك.

 

قوله تعالى: « قال هل عسيتم » و « عسيتم » بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر. قال أبو حاتم: وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة. قال مكي في اسم الفاعل: عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي. والفتح في السين هي اللغة الفاشية. قال أبو علي: ووجه الكسر قول العرب: هو عسٍ بذلك، مثل حرٍ وشجٍ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عَسَيت وعَسِيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عَسِيَ زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى. ومعنى هذه المقالة: هل أنتم قريب من التولي والفرار؟. « إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا » قال الزجاج: « ألا تقاتلوا » في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة. « قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله » قال الأخفش: « أن » زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول: ما لك ألا تصلي ؟ أي ما منعك. وقيل: المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله قال النحاس: وهذا أجودها. « وأن » في موضع نصب. « وقد أخرجنا من ديارنا » تعليل، وكذلك « وأبنائنا » أي بسبب ذرارينا.

 

قوله تعالى: « فلما كتب عليهم القتال » أي فرض عليهم. « القتال تولوا » أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم، ربما قد تذهب « تولوا » أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها. وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فأثبتوا ) رواه الأئمة. ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى.

 

الآية: 247 ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم )

 

قوله تعالى: « وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء. وقيل: دباغا. وقيل: مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي: وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا. قال وهب بن منبه: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه؛ فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم. قال: وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على ما زعموا، قال: فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » . وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان؛ ولذلك، لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودوايد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين. والفرق بين هذا والأول أنك تقول: الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك.

 

قوله تعالى: « أنى يكون له الملك علينا » أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه. جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا: « أنى » أي من أي جهة، فـ « أنى » في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: « إن الله اصطفاه » أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو مِلاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء؛ فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وإنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه؛ لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا. وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني. وهذه الآية أصل فيها. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه؛ وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل: سمى طالوت لطوله. وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم؛ ألم تر إلى قول الشاعر:

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه فخلف ظنك الرجل الطرير

وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير

قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: ( أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا ) فكن يتطاولن؛ فكانت زينب أولهن موتا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ خرجه مسلم. وقال بعض المتأولين: المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل. وقد قيل: زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي.

 

قوله تعالى: « والله يؤتي ملكه من يشاء » ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو من قول شمويل وهو الأظهر. قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى: « والله يؤتي ملكه من يشاء » . وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك. ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم: « إن آية ملكه » . ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » . قال ابن عطية: والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري.

 

الآية: 248 ( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين )

 

قوله تعالى: « وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت » أي إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم.

قلت: وهذا أدل دليله على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين. قال النحاس: والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. وقيل: كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم؛ فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت: أبعث لنا ملكا؛ فلما قال لهم: ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري. فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك. قيل: وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة. وقيل: وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت؛ فأخذوه وجملوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم. وقيل: جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم؛ قال الربيع بن خيثم. وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. الكلبي: وكان من عود شمسار الذي يتخذ منه الأمشاط. وقرأ زيد بن ثابت « التابوه » وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم. وروي عنه « التيبوت » ذكره النحاس. وقرأ حميد بن قيس « يحمله » بالياء.

 

قوله تعالى: « فيه سكينة من ربكم وبقية » اختلف الناس في السكينة والبقية؛ فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة. فقوله « فيه سكينة » أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره « فأنزل الله سكينته عليه » [ التوبة: 40 ] أي أنزل عليه ما سكن به قلبه. وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم. وقال علي بن أبي طالب: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج لها رأسان. وقال مجاهد: حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم. وقال ابن عباس: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء؛ وقال السدي. وقال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.

قلت: وفي صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة « الكهف » وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ( تلك السكينة تنزلت للقرآن ) . وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه: فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: ( تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم ) خرجه البخاري ومسلم. فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة. وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وبقية » اختلف في البقية على أقوال، فقيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح؛ لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قال ابن عباس. زاد عكرمة:، التوراة. وقال أبو صالح: البقية: عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة. وقال عطية بن سعد: وهي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقاله الثوري: من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت. وقال الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الأعداء. قال ابن عطية: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون. وآل الرجل قرابته. وقد تقدم.

 

الآية: 249 ( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )

 

قوله تعالى: « فلما فصل طالوت بالجنود » « فصل » معناه خرج بهم. فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع. قال وهب بن منبه: فلما فصل طالوت قالوا له أن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت: إن الله مبتليكم بنهر. وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفا. وقال وهب: لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض. والابتلاء الاختبار. والنهَر والنهْر لغتان. واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم. قال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين. وقرأ الجمهور « بنهر » بفتح الهاء. وقرأ مجاهد وحميد الأعرج « بنهر » بإسكان الهاء. ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة:

وأحسوا قراح الماء والماء بارد

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( حسب المرء لقيمات يقمن صلبه ) . وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.

قلت: ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا.

 

استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله: « إن الله مبتليكم » وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعله الإلهام ابتلاء من الله لهم. ومن قال لم يكن نبيا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب. وقد ذهب قوم إلى أن عبدالله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله علي وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم، وسيأتي بيانه في « النساء » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فمن شرب منه فليس مني » شرب قيل معناه كرع. ومعنى « فليس مني » أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان. قال السدي: كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفي الحديث ( من غشنا فليس منا ) أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا. قال:

إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني

هذا مهيع في كلام العرب؛ يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه: لست مني.

 

قوله تعالى: « ومن لم يطعمه فإنه مني » يقال: طعمت الشيء أي ذقته. وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء.

 

استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم؛ ولهذه المبالغة لم يأت الكلام « ومن لم يشرب منه » .

 

لما قال تعالى: « ومن لم يطعمه » دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي: وهو الصحيح من المذهب. قال أبو عمر قال مالك: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا.

 

قال ابن العربي قال أبو حنيفة: من قال إن شرب عبدي فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق؛ لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد. قال: وهذا فاسد؛ لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه.

قلت: قول أبي حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة. قال الجوهري وغيره: وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفيه لغة أخرى [ كرع ] بكسر الراء يكرع كرعا. والكَرَع: ماء السماء يكرع فيه. وأما السنة فذكر ابن ماجة في سننه: حدثنا واصل بن عبدالأعلى حدثنا ابن فضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد ) وهذا نص. وليث بن أبي سليم خرج له مسلم وقد ضعف.

 

قوله تعالى: « إلا من اغترف غرفة بيده » الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغَرف مثل الاغتراف. وقرئ « غرفة » بفتح الغين وهي مصدر، ولم يقل اغترافة لأن معنى الغرف والاغتراف واحد. والغرفة المرة الواحدة. وقرئ « غرفة » بضم الغين وهي الشيء المغترف. وقال بعض المفسرين: الغَرفة بالكف الواحد والغُرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد. وقال علي رضي الله عنه: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:

لا يدلفون إلى ماء بآنية إلا اغترافا من الغدران بالراح

الدليف: المشي الرويد.

قلت: ومن أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل وآناء النهار، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم عليهما السلام إذا طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا ) . خرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال: ( لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء... ) الحديث كما تقدم، وفي إسناده بقية بن الوليد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو زرعة: إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة.

 

قوله تعالى: « فشربوا منه إلا قليلا منهم » قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.

 

قوله تعالى: « فلما جاوزه هو » الهاء تعود على النهر، و « هو » توكيد. « والذين » في موضع رفع عطفا على المضمر في « جاوزه » يقال: جاوزت المكان مجاوزة وجوازا. والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه. قال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون؛ فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » . وأكثر المفسرين: على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم فقال أولو العزم منهم: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » . قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا - وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا - وما جاز معه إلا مؤمن.

 

قوله تعالى: « قال الذين يظنون » والظن هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل.

 

قوله تعالى: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة » الفئة: الجماعة من الناس والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته. وفي قولهم رضي الله عنهم: « كم من فئة قليلة » الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه.

قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ) . فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة. قال الله تعالى: « اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله » [ آل عمران: 200 ] وقال: « وعلى الله فتوكلوا » [ المائدة: 23 ] وقال: « إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » [ النحل: 128 ] وقال: « ولينصرن الله من ينصره » [ الحج: 40 ] وقال: « إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون » [ الأنفال: 45 ] . فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.

 

الآية: 250 ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين )

 

قوله: « برزوا » صاروا في البَراز وهو الأفيح من الأرض المتسع. وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل. ويقال: إن البر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس. وقال عكرمة: في تسعين ألفا، ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم؛ وهذا كقوله: « وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير » [ آل عمران: 146 ] إلى قوله « وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا » [ آل عمران: 147 ] الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال: ( اللهم بك أصول وأجول ) وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو: ( اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ) ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده على ما يأتي بيانه في « آل عمران » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 251 ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين )

 

قوله تعالى: « فهزموهم بإذن الله » أي فأنزل الله عليهم النصر « فهزموهم » : فكسروهم. والهزم: الكسر ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم: إنها هزمة جبريل أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء. والهزم: ما تكسر من يابس الحطب.

 

قوله تعالى: « وقتل داود جالوت » وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده. وهو داود، بن إيشى - بكسر الهمزة، ويقال: داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه: يا داود خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت: من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي؛ فجاء داود عليه السلام فقال: أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغير سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا؛ ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له: هل جربت نفسك بشيء ؟ قال نعم؛ قال بماذا ؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده. قال طالوت: الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره ؟ قال: نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما؛ أفترى هذا أشد من الأسد ؟ قال لا؛ وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت؛ فقال طالوت: فأركب فرسي وخذ سلاحي ففعل؛ فلما مشى قليلا رجع فقال الناس: جبن الفتى فقال داود: إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي. قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره؛ فقال له جالوت: أنت يا فتى تخرج إلي قال نعم؛ قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب قال نعم، وأنت أهون. قال: لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع؛ ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله، وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، وأختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة. وقد قيل: إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل: عينه وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم. وقيل: إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه؛ وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين، والله أعلم. وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود.

قلت: وفي قول طالوت: ( من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي ) معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام: من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في « الأنفال » إن شاء الله تعالى. وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما. واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال: لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه. وحكي عنه أنه قال: لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه. وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه؛ هذا قول مالك. سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز ؟ فقال: ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى. وقال الشافعي: لا بأس بالمبارزة. قال ابن المنذر: المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه.

 

قوله تعالى: « وآتاه الله الملك والحكمة » قال السدي: أتاه الله ملك، طالوت ونبوة شمعون. والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود؛ فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ؛ وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت.

 

قوله تعالى: « مما يشاء » أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض » كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ « دفاع » ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال: حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء؛ ومثله كتبه كتابا؛ ومنه « كتاب الله عليكم » [ النساء: 24 ] النحاس: وهذا حسن؛ فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع ودفع بمعنى واحد؛ مثل طرقت النعل وطارقت؛ أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف: الخرز. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور « ولولا دفع الله » . وأنكر أن يقرأ « دفاع » وقال: لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم « الله » في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله. و « دفاع » مرفوع بالابتداء عند سيبويه. « الناس » مفعول، « بعضهم » بدل من الناس، « ببعض » في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه.

واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل: هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق. وروي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدله الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء ) ذكره الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » . وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب، وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه. وقال ابن عباس: ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد. وقال سفيان الثوري: هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق. وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا. قال الثعلبي وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ) خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض. حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا ) . أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:

لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع

ومهملات في الفلاة رتع صب عليكم العذاب الأوجع

وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهله دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ) . وقال قتادة: يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن. وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم:، ( إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء ) . ثم قرأ ابن عمر « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض » . وقيل: هذا الدفع بما شرع على السنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله. « ولكن الله ذو فضل على العالمين » . بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.

 

الآية: 252 ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين )

 

تلك: ابتداء « آيات الله » خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر « نتلوها عليك بالحق » . « وإنك لمن المرسلين » ، خبر إن أي وإنك لمرسل. نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل.

 

الآية: 253 ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد )

 

قوله تعالى: « تلك الرسل » قال: « تلك » ولم يقل: ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء. و « الرسل » نعته، وخبر الابتداء الجملة. وقيل: الرسل عطف بيان، و « فضلنا » الخبر. وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تخيروا بين الأنبياء ) و ( لا تفضلوا بين أنبياء الله ) رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. يقال: خير فلان بين فلان وفلان، وفضل، ( مشددا ) إذا قال ذلك. وقد اختلف العلماء في تأويله هذا المعنى؛ فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل. وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: « لا تخيروني على موسى » على طريق التواضع؛ كما قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك معنى قوله: ( لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى ) على معنى التواضع. وفي قوله تعالى: « ولا تكن كصاحب الحوت » [ القلم: 48 ] ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول: ولا تكن مثله؛ فدل على أن قوله: ( لا تفضلوني عليه ) من طريق التواضع. ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني. وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة. قال شيخنا: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم.

قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: « ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا » [ الإسراء: 55 ] وقال: « تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض » [ البقرة: 253 ] .

قلت: وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال: إن الله تعالى قال: « ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين » [ الأنبياء: 29 ] . وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 1 - 2 ] . قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟. قال: قال الله تعالى: « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » [ إبراهيم: 4 ] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: « وما أرسلناك إلا كافة للناس » [ سبأ: 28 ] فأرسله إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده. وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوج وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبدالحق قال: إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا أكرم ولد آدم على ربي ) وقال: ( أنا سيد ولد آدم ) ولم يعين، وقال عليه السلام: ( لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ) وقال: ( لا تفضلوني على موسى ) . وقال ابن عطية: وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول؛ لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة. فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى.

قلت: ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال: « منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات » [ البقرة: 253 ] وقال « وآتينا داود زبورا » [ الإسراء: 55 ] وقال تعالى: « وآتيناه الإنجيل » [ المائدة: 46 ] ، « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين » [ الأنبياء: 48 ] وقال تعالى: « ولقد آتينا داود وسليمان علما » [ النمل: 15 ] وقال: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر.

قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق: « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار » [ الفتح: 29 ] إلى آخر السورة. وقال: « وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها » [ الفتح: 26 ] ثم قال: « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » [ الحديد: 10 ] وقال: « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة » [ الفتح: 18 ] فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين.

 

قوله تعالى: « منهم من كلم الله » المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال: ( نعم نبي مكلم ) . قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى. وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله.

 

قوله تعالى: « ورفع بعضهم درجات » قال النحاس: بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: ( بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت، الشفاعة ) . ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وقال ابن عطية معناه، وزاد: وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله. ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا. ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي.

 

قوله تعالى: « وآتينا عيسى ابن مريم البينات » وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل. « وأيدناه » قويناه. « بروح القدس » جبريل عليه السلام، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم » أي من بعد الرسل. وقيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع. وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ. وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. وكسرت النون من « ولكن اختلفوا » لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه:

فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

« فمنهم من آمن ومنهم من كفر » « من » في موضع رفع بالابتداء والصفة

 

الآية: 254 ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون )

 

قال الحسن: هي الزكاة المفروضة. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية. وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله: « والكافرون هم الظالمون » أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.

قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: « فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق » [ المنافقين: 10 ] . والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. والخلالة والخلالة والخلالة: الصداقة والمودة، قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والخلة بالضم أيضا: ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها. والخلة بالفتح: الحاجة والفقر. والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي. يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة. والأنثى خلة أيضا. ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك. والخلة: الخمرة الحامضة. والخلة ( بالكسر ) : واحدة خلل السيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهي أيضا سيور تلبس ظهر سِيَتي القوس. والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان. وسيأتي في « النساء » اشتقاق الخليل ومعناه. فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله. وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « لا بيع فيه ولا خلة، ولا شفاعة » بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة « إبراهيم » « لا بيع فيه ولا خلال » [ إبراهيم: 31 ] وفي « الطور ] » لا لغو فيها ولا تأثيم « [ الطور: 23 ] وأنشد حسان بن ثابت: »

ألا طعان ولا فرسان عادية إلا تجشوكم عند التنانير

وألف الاستفهام غير مغيرة عمل « لا » كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه. وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي:

وما صرمتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل

ويروى « وما هجرتك » فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع ؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي. و « لا » مع الاسم المنفى بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر « فيه » . وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله « لا » بمنزلة ليس. وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع ؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و « فيه » الخبر. قال مكي: والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج:

هذا لعمركم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه:

لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع

ف « لا » زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية:

فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبدا مقيم

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله. « والكافرون » ابتداء. « هم » ابتداء ثان، « الظالمون » خبر الثاني، وإن شئت كانت « هم » زائدة للفصل و « الظالمون » خبر « الكافرون » . قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: « والكافرون هم الظالمون » ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

 

الآية: 255 ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم )

 

قوله تعالى: « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها. روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. وروى الأئمة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ) ؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ) ؟ قال قلت: « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » فضرب في صدري وقال: ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ) . زاد الترمذي الحكيم أبو عبدالله: ( فوالذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) . قال أبو عبدالله: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات، وروي لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة ولية الله. يريد يدعي قارئها في ملكوت السماوات والأرض عزيزا، قال: فكان عبدالرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارسا من جوانبه الأربع، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته. وروي عن عمر أنه صارع جنيا فصرعه عمر رضي الله عنه؛ فقال له الجني: خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه وسأله فقال: إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي.

قلت: هذا صحيح، وفي الخبر: من قرأ الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد. وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد المنبر: ( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله ) . وفي البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة وفيها: فقلت يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخيلت سبيله، قال: ( ما هي ) ؟ قلت قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » . وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ) ؟ قال: لا؛ قال: ( ذاك شيطان ) . وفي مسند الدارمي أبي محمد قال الشعبي قال عبدالله بن مسعود: لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلا شخيتا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك ؟ قال: لا والله إني منهم لضليع ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، قال نعم، فصرعه، قال:، تقرأ آية الكرسي: « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ؟ قال: نعم؛ قال: فإنك لا تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح. أخرجه أبو نعيم عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي. وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدثناه أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبدالله قال: فقيل لعبدالله: أهو عمر ؟ فقال: ما عسى أن يكون إلا عمر. قال أبو محمد الدارمي: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح. وقال أبو عبيدة: الخبج: الضراط، وهو الحبج أيضا بالحاء. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ حم - المؤمن - إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ) قال: حديث غريب. وقال أبو عبدالله الترمذي الحكيم: وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة. عن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أوحى الله إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطي الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت ) قال موسى عليه السلام: يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال: ( إني لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي ) . وعن أبي بن كعب قال: قال الله تعالى: ( يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء ) قال أبو عبدالله: معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لأحد إلا للأنبياء. وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهي خمسون كلمة، وفي كل كلمة خمسون بركة، وهي تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية. و « الله » مبتدأ، و « لا إله » مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود. و « إلا هو » بدل من موضع لا إله. وقيل: « الله لا إله إلا هو » ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى، أي ما إله إلا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلا إياه، نصب على الاستثناء. قال أبو ذر في حديثه الطويل: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم ؟ فقال: ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة.

 

قوله: « الحي القيوم » نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من « هو » ، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ. ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. و « الحي » اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم. ويقال: إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء: يا حي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم. ويقال: إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم. ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به. قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه. وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها. وقال قتادة: الحي الذي لا يموت. وقال السدي: المراد بالحي الباقي. قال لبيد:

فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر

وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. « القيوم » من قام؛ أي القائم بتدبير ما خلق؛ عن قتادة. وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها. وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول؛ قال أمية بن أبي الصلت:

لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يقوم

قدره مهيمن قيوم والحشر والجنة والنعيم

إلا لأمر شأنه عظيم

قال البيهقي: ورأيت في « عيون التفسير » لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام؛ وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي: « لا تأخذه سنة ولا نوم » . وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له؛ ذكره أبو بكر الأنباري. وأصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء؛ ولا يكون قيوم فعولا؛ لأنه من الواو فكان يكون قيووما. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي « الحي القيام » بالألف، وروي ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة. والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ؛ قال الشاعر:

إن ذا العرش للذي يرزق النا س وحي عليهم قيوم

ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم. والسنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما؛ قال عدي بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر:

وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم

وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب. وقال السدي: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان.

قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله. والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال. والأصل في سِنَة وسْنَة حذفت الواو كما حذفت من يسن. والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر. والواو للعطف و « لا » توكيد.

قلت: والناس يذكرون في هذا الباب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: ( وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كله يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي أحديهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان - قال - ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض ) ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي

 

قوله تعالى: « له ما في السماوات وما في الأرض » أي بالملك فهو مالك الجميع وربه وجاءت العبارة بـ « ما » وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

 

قوله تعالى: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » « من » رفع بالابتداء و « ذا » خبره؛ و « الذي » نعت لـ « ذا » ، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون « ذا » زائدة كما زيدت مع « ما » لأن « ما » مبهمة فزيدت « ذا » معها لشبهها بها. وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال: « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » [ الأنبياء: 28 ] قال ابن عطية: والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعماله صالحة. وفي البخاري في « باب بقية من أبواب الرؤية » : إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا. وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة. وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم. وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء. وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصة له.

قلت: قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب؛ فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها؛ أجارنا الله منها. فذكر من حديث أبي سعيد الخدري: ( ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم - قيل: يا رسول الله وما الجسر ؟ قال: دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا - وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم « إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما » [ النساء: 40 ] ( فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما ) وذكر الحديث. وذكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك - أو قال ليس ذلك إليك - وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله ) . وذكر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ( حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ) الحديث بطوله.

قلت: فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها، أجارنا الله منها وقول ابن عطية: « ممن لم يصل أو وصل » يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم. وقد خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يصف الناس يوم القيامة صفوفا - وقال ابن نمير أهل الجنة - فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ؟ قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورا ؟ فيشفع له - قال ابن نمير - ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك ؟ فيشفع له ) .

وأما شفاعات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها؛ فقيل ثلاث، وقيل اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في « سبحان » إن شاء الله تعالى. وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » والحمد لله.

 

قوله تعالى: « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: « له ما في السماوات وما في الأرض » . وقال مجاهد: « ما بين أيديهم » الدنيا « وما خلفهم » الآخرة. قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده؛ وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره.

 

قوله تعالى: « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته؛ وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض. ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه.

 

قوله تعالى: « وسع كرسيه السماوات والأرض » ذكر ابن عساكر في تاريخه عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله ) . وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة - وهو عاصم بن أبي النجود - عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه. يقال كُرسي وكرسي والجمع الكراسي. وقال ابن عباس: كرسيه علمه. ورجحه الطبري، قال: ومنه الكراسة التي تضم العلم؛ ومنه قيل للعلماء: الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم؛ كما يقال: أوتاد الأرض.

قال الشاعر:

يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب

أي علماء بحوادث الأمور. وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده. وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله « وسع كرسيه » . قال البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله « وسع كرسيه » قال: علمه. وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله « وسع كرسيه السماوات والأرض » قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش. قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش. وفي رواية أسباط عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله « وسع كرسيه السماوات والأرض » فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. وأهل الحق يجيزونهما؛ إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك. قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل. قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى. وعن ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أعجب شيء رأيته ) ؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لقولها: ( لا قدست أمة - أو كيف تقدس أمة - لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ) . قال ابن عطية: في قول أبي موسى « الكرسي موضع القدمين » يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك. وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه؛ وهذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه. وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم ؟ قال: ( آية الكرسي - ثم قال - يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة ) . أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح. وقال مجاهد: ما السماوات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة. وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الأمر العظيم.

 

و « يؤوده » معناه يثقله؛ يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي؛ وإذا كانت للكرسي؛ فهو من أمر الله تعالى. و « العلي » يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان؛ لأن الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلى: سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى. والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء؛ تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر:

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه قوله تعالى: « إن فرعون علا في الأرض » [ القصص: 4 ] . و « العظيم » صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام. وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى:

فكأن الخمر العتيق من الإسـ ـفنط ممزوجة بماء زلال

وحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم؛ إذ لا معظم له حينئذ.

 

الآية: 256 ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )

 

قوله تعالى: « لا إكراه في الدين » الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: « قد تبين الرشد من الغي » . والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله: « إلا من أكره » [ النحل: 106 ] . وقرأ أبو عبدالرحمن « قد تبين الرشد من الغي » وكذا روي عن الحسن والشعبي؛ يقال: رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِدَ يرْشَد رَشَدا: إذا بلغ ما يحب. وغوى ضده؛ عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قرأ « الرشاد » بالألف. وروي عن الحسن أيضا « الرشد » بضم الراء والشين. « الغي » مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي؛ ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق.

 

اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:

[ الأول ] قيل إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها « يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين » [ التوبة: 73 ] . وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.

الثاني: ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم « يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين » . هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا « لا إكراه في الدين » .

الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » . قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: « لا إكراه في الدين » من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع. قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.

الرابع: قال السدي: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت: « لا إكراه في الدين » ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: ( أبعدهما الله هما أول من كفر ) فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » [ النساء: 65 ] الآية ثم إنه نسخ « لا إكراه في الدين » فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة [ براءة ] . والصحيح في سبب قوله تعالى: « فلا وربك لا يؤمنون » حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في « النساء » بيانه إن شاء الله تعالى.

[ وقيل ] معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو القول الخامس.

[ وقول سادس ] وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة

والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في « براءة » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله » جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى. - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. وقال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال الله تعالى: « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به » [ النساء: 60 ] . وقد يكون جمعا قال الله تعالى: « أولياؤهم الطاغوت » [ البقرة 257 ] والجمع الطواغيت. « ويؤمن بالله » عطف. « فقد استمسك بالعروة الوثقى » جواب الشرط، وجمع الوُثْقى الوُثْق مثل الفُضْلى والفُضْل؛ فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه. واختلف عبارة المفسرين في الشيء المشبه به؛ فقال مجاهد: العروة الإيمان. وقال السدي: الإسلام. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك؛ لا إله إلا الله؛ وهذه عبارات ترجع إلى معنىً واحد. ثم قال: « لا انفصام لها » قال مجاهد: أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. والقصم: كسر ببينونة؛ وفي صحيح الحديث ( فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا ) أي يقلع. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول: فصمته فانفصم؛ قال الله تعالى: لا انفصام لها « وتفصم مثله؛ قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة: »

كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم

وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل « مقصوم » بالقاف فيكون بائنا باثنين. وافْصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات « سميع » من أجل النطق « عليم » من أجل المعتقد.

 

الآية: 257 ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « الله ولي الذين آمنوا » الولي فعيل بمعنى فاعل. قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين؛ قال الله عز وجل « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، وقال « ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم » [ محمد: 11 ] قال قتادة: الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع. وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: قوله « الله ولي الذين آمنوا » نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات. قال ابن عطية: فكأن هذا المعتقد أحرز نوراً في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلى الله عليه وسلم الداعي المرسل فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان إذ هو معه معد وأهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم؛ عدلا منه، لا يسأل عما يفعل. وقرأ الحسن « أولياؤهم الطواغيت » يعني الشياطين، والله أعلم.

 

الآية: 258 ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « ألم تر » هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له. وقال الفراء: « ألم تر » بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قرية، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما. قال ابن جريح: هو أول ملك في الأرض. قال ابن عطية: وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها؛ وهو أحد الكافرين؛ والآخر بختنصر. وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام؛ حكى جميعه ابن عطية. وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان؛ وفيه يقول حبيب:

وكأنه الضحاك من فتكاته في العالمين وأنت أفريدون

وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا. وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى [ كوشا ] أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر. وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا. وفي قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها؛ فلما رجعوا قال لهم: أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا: فمن تعبد؟ قال: أعبد ربي الذي يحيي ويميت. وقال بعضهم: إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: مالك لا تسجد لي قال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال له نمروذ: من ربك ؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت؛ فيقول: ميروهم. وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له: من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت؛ فلما سمعها نمروذ قال: أنا أحيي وأميت؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه؛ فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء؛ فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي سقت. فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك.

قلت: وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال: انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا ؟ فقال: حنطة حمراء؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال: وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً. وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال: قد أحييت هذا وأمت هذا؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروي في الخبر: أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك. ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي. وقال السدي: إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له: من ربك ؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. قال النمروذ: أنا أحيي وأميت، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه « فبهت الذي كفر » أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه.

 

هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: « قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين » [ البقرة: 111 ] . « إن عندكم من سلطان » [ يونس: 68 ] أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة [ الأنبياء ] وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام: « قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا » [ هود: 32 ] الآيات إلى قوله: « وأنا بريء مما تجرمون » [ هود: 35 ] . وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في « آل عمران » . وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل: « فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم » [ آل عمران: 66 ] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة.

قراءات - قرأ علي بن أبي طالب « ألم تر » بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم. « أن آتاه الله الملك » في موضع نصب، أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله. وقرأ جمهور القراء « أن أحيي » بطرح الألف التي بعد النون من « أنا » في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى: « إن أنا إلا نذير » [ الأعراف: 188 ] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل. قال النحويون: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت: أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، فلا يقال: أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

قال النحاس: على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ « أنا أحيي وأميت » ولا وجه له. قال مكي: والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية. وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون. والاسم عند الكوفيين « أنا » بكماله؛ فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً؛ ولأن الفتحة تدل عليها. قال الجوهري: وأما قولهم « أنا » فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين « أن » التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة؛ كما قال:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره. وقال الطبري: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى « بَهَت » بفتح الباء والهاء. قال ابن جني قرأ أبو حيوة: « فبهت الذي كفر » بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في « بهت » بكسر الهاء. قال: وقرأ ابن السميقع « فبهت » بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر؛ فالذي في موضع نصب. قال: وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة « فبهت » بكسر الهاء كغرق ودهش. قال: والأكثرون بالضم في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ « فبهت » بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة.

 

الآية: 259 ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » « أو » للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية. وقال المبرد: المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية. فأضمر في الكلام من هو. وقرأ أبو سفيان بن حسين « أو كالذي مر » بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير. وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها؛ من قولهم: قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم. قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي مر على القرية هو عزير. وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد بن عمير وعبدالله بن بكر بن مضر: هو إرمياء وكان نبياً. وقال ابن إسحاق: إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه. قال ابن عطية: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه.

قلت: إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة « الكهف » . وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم. وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى. قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام. وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه. والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي. والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. قال: وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكور تين أخضر وعنب وركوة من خمر. وقيل من عصير. وقيل: قلة ماء هي شرابه. والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد. وحكى النقاش أن قوما قالوا: هي المؤتفكة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة. فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها. وقيل: إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت؛ قاله ابن زيد. وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام. قال: ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بـ « ـهذه » إنما هي إلى القرية. وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة: القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي. وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها.

والعريش: سقف البيت. وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش؛ ومنه عريش الدالية؛ ومنه قوله تعالى: « ومما يعرشون » [ النحل: 68 ] . قال السدي: يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها؛ واختاره الطبري. وقال غير السدي: معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة؛ وخاوية معناها خالية؛ وأصل الخواء الخلو؛ يقال: خَوَت الدار وخَوِيَتْ تخوى خواء ( ممدود ) وخُوِياً: أقْوَتْ، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى: « فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا » [ النمل: 52 ] أي خالية، ويقال ساقطة؛ كما يقال: « فهي خاوية على عروشها » أي ساقطة على سقفها. والخَواء الجوع لخلو البطن من الغذاء. وخوت المرأة وخويت أيضا خوًى أي خلا جوفها عند الولادة. وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام. والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل. وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده.

 

قوله تعالى: « قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها » معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن: أنى تعمر هذه بعد خرابها. فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته. وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها. وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك.

 

قوله تعالى: « فأماته الله مائة عام » « مائة » نصب على الظرف. والعام: السنة؛ يقال: سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأول؛ كما يقال: بينهم شغل شاغل. وقال العجاج:

من مر أعوام السنين العُوَّم

وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذكر؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قال الجوهري. وقال النقاش: العام مصدر كالعَوْم؛ سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك. والعوم كالسَّبْح؛ وقال الله تعالى: « كل في فلك يسبحون » [ الأنبياء: 33 ] . قال ابن عطية: هذا بمعنى قول النقاش، والعام على هذا كالقول والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقد قيل: إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له « كوشك » فعمرها في ثلاثين سنة.

 

قوله تعالى: « ثم بعثه » معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه.

 

قوله تعالى: « قال كم لبثت » اختلف في القائل له « كم لبثت » ؛ فقيل الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم. وقيل: سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك. وقيل: خاطبه جبريل. وقيل: نبي. وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت.

قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله: « وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما » والله أعلم. وقرأ أهل الكوفة « كم لبثت » بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج. فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان. قال النحاس: والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء. ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير. و « كم » في موضع نصب على الظرف.

 

قوله تعالى: « قال لبثت يوما أو بعض يوم » إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف « قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم » [ الكهف: 19 ] وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين - على ما يأتي - ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين: ( لم أقصر ولم أنْس ) . ومن الناس من يقول: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بين في نظر الأصول. فعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان. فهذا ما يتعلق بهذه الآية، والقول الأول أصح. قال ابن جريج وقتادة والربيع: أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحداً فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس فخشى أن يكون كاذبا فقال: أو بعض يوم. فقيل: بل لبثت مائة عام؛ ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك.

 

قوله تعالى: « فانظر إلى طعامك » وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها. « وشرابك لم يتسنه » قرأ ابن مسعود « وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه » . وقرأ طلحة بن مصرف غيره « وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة » . وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان فإنهما يحذفانها، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء. وقرأ طلحة بن مصرف أيضا « لم يسن » « وانظر » أدغم التاء في السين؛ فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون « يتسنه » من السنة أي لم تغيره السنون. قال الجوهري: ويقال سنون، والسنة واحدة السنين، وفي نقصانها قولان: أحدهما الواو، والآخر الهاء. وأصلها سَنْهة مثل الجبهة؛ لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون. ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى؛ وسنهاء أيضا، قال بعض الأنصار:

فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

وأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم، وتسنيت أيضا. واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا. وفي التصغير سنية وسنيهة. قال النحاس: من قرأ « لم يتسن » و « انظر » قال في التصغير: سُنّية وحذفت الألف للجزم، ويقف على الهاء فيقول: « لم يتسنه » تكون الهاء لبيان الحركة. قال المهدوي: ويجوز أن يكون أصله من سانَيْتُه مساناة، أي عاملته سنة بعد سنة، أو من سانهت بالهاء؛ فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم؛ وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل؛ وأصل سنة على هذا سنهة. وعلى القول الأول سَنَوَة. وقيل: هو من أسِنَ الماء إذا تغير، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن. أبو عمرو الشيباني: هو من قوله « حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] فالمعنى لم يتغير. الزجاج، ليس كذلك؛ لأن قوله « مسنون » ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض. قال المهدوي: وأصله على قول الشيباني « يتسنن » فأبدلت إحدى النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت. وقال مجاهد: « لم يتسنه » لم ينتن. قال النحاس: أصح ما قيل فيه أنه من السنة، أي لم تغيره السنون. ويحتمل أن يكون من السنة وهي الجدب؛ ومنه قوله تعالى: « ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين » [ الأعراف: 130 ] وقوله عليه السلام ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) . يقال منه: أسنت القوم أي أجدبوا؛ فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب، أو لم تغيره السنون والأعوام، أي هو باق على طراوته وغضارته.

 

قوله تعالى: « وانظر إلى حمارك » قال وهب بن منبه وغيره: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق؛ على هذا أكثر المفسرين. وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة عام؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، قالا: وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة.

 

قوله تعالى: « ولنجعلك آية للناس » قال الفراء: إنما ادخل الواو في قوله « ولنجعلك » دلالة على أنها شرط لفعل بعده، معناه « ولنجعلك آية للناس » ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جملت الواو مقحمة زائدة. وقال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا. عكرمة: وكان يوم مات ابن أربعين سنة. وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة. وروي عن ابن عباس قال: لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، فقال لها: أهذا منزل عزير؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت: فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة! قال: فأنا عزير؛ قالت: إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة. قال: فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت: فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق، فادع الله يرد علي بصري؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال. قالت: أشهد أنك عزير! ثم انطلقت إلى ملأ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمان وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم، هذا والله عزير فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه؛ فنظرها فإذا هو عزير. وقيل: جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا. قال ابن عطية: وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كله آية غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض.

 

قوله تعالى: « وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما » قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء، وروى أبان عن عاصم « ننشرها » بفتح النون وضم الشين والراء، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة؛ فقيل: هما لغتان في الإحياء بمعنى؛ كما يقال رجع ورجعته، وغاض الماء وغضته، وخسرت الدابة وخسرتها؛ إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم الله فحيوا؛ قال الله تعالى: « ثم إذا شاء أنشره » ويكون نشرها مثل نشر الثوب. نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت؛ قال الأعشى:

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

فكأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر. وأما قراءة « ننشزها » بالزاي فمعناه نرفعها. والنشز: المرتفع من الأرض؛ قال:

ترى الثعلب الحولي فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل

قال مكي: المعنى: انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء؛ لأن النشز الارتفاع؛ ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها؛ ومنه قوله تعالى: « وإذا قيل انشزوا فانشزوا » [ المجادلة: 11 ] أي ارتفعوا وانضموا. وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أولى بذلك المعنى، إذ هو ، بمعنى الانضمام دون الإحياء. فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال: هذا عظم حي، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. وقرأ النخعي « ننشزها » بفتح النون وضم الشين والزاي؛ وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة. وقرأ أبي بن كعب « ننشيها » بالياء.

والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها. وقد استعاره لبيد للإسلام فقال:

حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

وقد تقدم أول السورة.

 

قوله تعالى: « فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير » بقطع الألف. وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده. قال قتادة: إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أول ما خلق الله منه ورأسه وقيل له: انظر، فقال عند ذلك: « أعلم » بقطع الألف، أي أعلم هذا. وقال الطبري: المعنى في قوله « فلما تبين له » أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال: أعلم. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى: لا إله إلا الله ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.

قلت: وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي: إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ « أعلم » بقطع الألف وهم الأكثر من القراء. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين: أحدهما قال له الملك: اعلم، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

قال ابن عطية: وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر:

تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل

قال مكي: ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن. وفي حرف عبدالله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى ألزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم. وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله « انظر إلى طعامك » و « انظر إلى حمارك » و « انظر إلى العظام » فكذلك « واعلم أن الله » وقد كان ابن عباس يقرؤها « قيل اعلم » ويقول أهو خير أم إبراهيم؟ إذ قيل له: « واعلم أن الله عزيز حكيم » . فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء.

 

الآية: 260 ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم )

 

اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: ( ليس الخبر كالمعاينة ) رواه ابن عباس ولم يروه غيره، قاله أبو عمر. قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى. وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) الحديث، ثم رجح الطبري هذا القول.

قلت: حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ) . قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: ( هي أرجى آية ) فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك. ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله « أو لم تؤمن » أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. وأما قول عطاء: ( دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ) فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ذلك محض الإيمان ) إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: « ربي الذي يحيي ويميت » [ البقرة: 258 ] فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا. ومتى قلت: كيف ثوبك ؟ وكيف زيد ؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون « كيف » خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي. و « كيف » في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: « أو لم تؤمن قال بلى » فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.

قلت: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » [ الحجر: 42 ] وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله: « أرني كيف » طلب مشاهدة الكيفية. وقال بعض أهل المعاني: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب، وهذا فاسد مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي، وليست الألف في قوله « أو لم تؤمن » ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا

والواو واو الحال. و « تؤمن » معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى.

 

قوله تعالى: « قال بلى ولكن ليطمئن قلبي » أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعا ) الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء. وقال الطبري: معنى « ليطمئن قلبي » ليوقن، وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض. وقال السدي وابن جبير أيضا: أو لم تؤمن بأنك خليلي؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة. وقيل: دعا أن يريه كيف يحيي الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تؤمن أني أجيب دعاءك، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب دعائي.

واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل: إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد. وقيل: قول النمروذ: أنا أحيي وأميت. وقال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق،

 

قوله تعالى: « قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم » فقيل له: « خذ أربعة من الطير » قيل: هي الديك والطاووس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد. وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر. فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر: « سعى » إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقي كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله. وقال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر « جزءا » على فعل. وعن أبي جعفر أيضا « جزا » مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف، وهي لغات، ومعناه النصيب. « يأتينك سعيا » نصب على الحال. و « صرهن » معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال: صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق. وعن أبي الأسود الدؤلي: هو بالسريانية التقطيع، قاله توبة بن الحمير يصفه:

فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد سيورها

فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

أي يقطعها. والصور: القطع. وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روي عنه: إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن. وقيل: المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال: رجل أصْور إذا كان مائل العنق. وتقول: إني إليكم لأصور، يعني مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر:

الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور

فقوله « إليك » على تأويل التقطيع متعلق بـ « خذ » ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بـ « صرهن » وفي الكلام متروك: فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات: اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرأ قوم « فصرهن » بضم الصاد وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم « فصرهن » بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش. قال ابن جني: هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وهر الحرب يَهُرها ويهِرها، ومنه بيت الأعشى:

ليعتورنك القول حتى تهره

إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جني: وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد.

القراءة الخامسة « صرهن » بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله « رب أرني أنظر إليك » [ الأعراف: 143 ] ؟ فعنه جوابان: أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف. الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. وقال ابن عباس: أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم.

 

الآية: 261 ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )

 

لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم. روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب زد أمتي ) فنزلت « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة » [ البقرة: 245 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب زد أمتي ) فنزلت « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » [ الزمر: 10 ] . وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك. وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى: « والله يضاعف لمن يشاء » يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله.

 

روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ) . وقال عثمان: يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما. وقيل: نزلت في نفقة التطوع. وقيل: نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة، ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.

 

قوله تعالى: « كمثل حبة » الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب، ومنه قول المتلمس:

آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس

وحبة القالب: سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: ( فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ) والجمع حبب. والحبة بضم الحاء الحب يقال: نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال. وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد.

قلت: هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري في هذه الآية: إن قوله « في كل سنبلة مائة حبة » معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال: « في كل سنبلة مائة حبة » معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية: فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك. وقال أبو عمرو الداني: وقرأ بعضهم « مائة » بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة.

قلت: وقال يعقوب الحضرمي: وقرأ بعضهم « في كل سنبلة مائة حبة » على: أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم « وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم » [ الملك: 6 ] على « وأعتدنا لهم عذاب السعير » [ الملك: 5 ] وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « أنبتت سبع سنابل » بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو:

يا لعن الله بني السعلاة عمرو بن ميمون لئام النات

أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان.

 

ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله « والله يضاعف لمن يشاء » فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.

قلت: وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية. وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبدالله بن عمرو وأبي أمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم - ثم تلا هذه الآية « والله يضاعف لمن يشاء الله » ) . وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الإسناد عنه.

 

في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال: « مثل الذين ينفقون أموالهم » الآية. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة ) . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( التمسوا الرزق في خبايا الأرض ) يعني الزرع، أخرجه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم في النخل: ( هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل ) . وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقي عبدالله بن عبدالملك بن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول:

أقول لعبدالله يوم لقيته وقد شد أحلاس المطي مشرقا

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها لعلك يوما أن تجاب فترزقا

فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا

وحكي عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.

 

الآية: 262 ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

قوله تعالى: « الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله » قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال عبدالرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: ( ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان ) . وقال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: ( يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه ) فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت: « الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى » الآية.

 

لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، قال الله تعالى: « لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » [ الإنسان: 9 ] . ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى. وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله. وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال:

يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياتي وأمهنه

وكن لنا من الزمان جنة أقسم بالله لتفعلنه

قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال:

إذاً أبا حفص لأذهبنه

قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟ - قال:

تكون عن حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه

وموقف المسؤول بينهنه إما إلى نار وإما جنه

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره. قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل. فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: « ولا تمنن تستكثر » [ المدثر: 6 ] أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها. وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين. قال ابن عطية: وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد.

 

قوله تعالى: « منا ولا أذى » المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ) . وفي بعض طرق مسلم: ( المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة ) . والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. وقال ابن زيد: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة. فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله: ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته فقال: « لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى. وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 263 ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم )

 

قوله تعالى: « قول معروف » ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: ويجوز أن يكون « قول معروف » خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف. والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها. قال صلى الله عليه وسلم: ( الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ) أخرجه مسلم. فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال:

لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسؤولا

لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولا

تلقى الكريم فتستدل ببشره وترى العبوس على اللئيم دليلا

واعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا

وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى ) .

قلت: دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى، خرجه مسلم وغيره. وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسؤول. وقال بشر بن الحارث: رأيت عليا في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به، قال: ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله. فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولى وهو يقول:

قد كنت ميتا فصرت حيا وعن قليل تصير ميتا

فاخرب بدار الفناء بيتا وابن بدار البقاء بيتا

 

قوله تعالى: « ومغفرة » المغفرة هنا: الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي - وقد سأل قوما بكلام فصيح - فقال له قائل: ممن الرجل ؟ فقال له: اللهم غفرا! سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل: المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه من المن والأذى، قال معناه النقاش. وقال النحاس: هذا مشكل يبينه الإعراب. « مغفرة » رفع بالابتداء والخبر « خير من صدقة » . والمعنى والله أعلم وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، وتقديره في العربية وفعل مغفرة. ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها.

 

قوله تعالى: « والله غني حليم » أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته.

 

الآية: 264 ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين )

 

قوله تعالى: « بالمن والأذى » قد تقدم معناه. وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي، لا غيرها. والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها.

قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل. وقيل: بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها، وهذا حسن. والعرب تقول لما يمن به: يد سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة: يد بيضاء. ولما يعطى عن مسألة: يد خضراء. وقال بعض البلغاء: من من بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره. وقال بعض الشعراء:

وصاحب سلفت منه إلي يد أبطا عليه مكافاتي فعاداني

لما تيقن أن الدهر حاربني أبدى الندامة فيما كان أولاني

وقال آخر:

أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنان

وقال أبو بكر الوراق فأحسن:

أحسن من كل حسن في كل وقت وزمن

صنيعة مربوبة خالية من المنن

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف، إذا أحصي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا - « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » ) .

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولى غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى. وهذا بخلاف صدقة التطوع السر، لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل.

 

قوله تعالى: « كالذي ينفق ماله رئاء الناس » الكاف في موضع نصب، أي إبطال « كالذي » فهي نعت للمصدر المحذوف. ويجوز أن تكون موضع الحال. مثل الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء. ثم مثل هذا المنفق أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظان أرضا منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي. فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس. وقيل: المراد بالآية إبطال الفضل دون الثواب، فالقاصد بنفقته الرياء غير مثاب كالكافر، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب. وخالف صاحب المن والأذى القاصد وجه الله المستحق ثوابه - وإن كرر عطاءه - وأبطل فضله. وقد قيل: إنما يبطل المن ثواب صدقته من وقت منه وإيذائه، وما قبل ذلك يكتب له ويضاعف، فإذا من وآذى انقطع التضعيف، لأن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل، فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت، فإذا جاء المن بها والأذى وقف بههناك وانقطع زيادة التضعيف عنها، والقول الأول أظهر والله أعلم. والصفوان جمع واحده صفوانة، قاله الأخفش. قال: وقال بعضهم: صفوان واحد، مثل حجر. وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صِفْوان وصُفِي وصِفِي، وأنكره المبرد وقال: إنما صفي جمع صفا كقفا وقفي، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا، وقد تقدم. وقرأ سعيد بن المسيب والزهري « صفوان » بتحريك الفاء، وهي لغة. وحكى قطرب صفوان. قال النحاس: صَفْوان وصَفَوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا، إلا أن الأولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل: « عليه تراب فأصابه وابل » وإن كان يجوز تذكير الجمع إلا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلا بدليل قاطع، فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس بصحيح على حقيقة النظر، ولكن صفوان جمع صفاً، وصفاً بمعنى صفوان، ونظيره ورل وورلان وأخ وإخوان وكراً وكروان، كما قال الشاعر:

لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات ولا نطير

والضعيف في العربية كِرْوان جمع كَرَوَان، وصُفِي وصِفِي جمع صفا مثل عصا. والوابل: المطر الشديد. وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة. قال الأخفش: ومنه قوله تعالى: « أخذناه أخذا وبيلا » [ المزمل: 16 ] أي شديدا. وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد. والصلد: الأملس من الحجارة. قال الكسائي: صَلِد يَصْلَدُ صَلَدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان، وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد، وأنشد الأصمعي لرؤبة:

براق أصلاد الجبين الأجله

قال النقاش: الأصلد الأجرد بلغة هذيل. ومعنى « لا يقدرون » يعني المرائي والكافر والمان « على شيء » أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب. وقيل: ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي.

 

الآية: 265 ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم » « ابتغاء » مفعول من أجله. « وتثبيتا من أنفسهم » عطف عليه. وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول من أجله. قال ابن عطية: وهو مردود، ولا يصح في « تثبيتا » أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و « ابتغاء » نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو « تثبيتا » عليه. ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه. و « ابتغاء » معناه طلب. و « مرضات » مصدر من رضي يرضى. « وتثبيتا » معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله مجاهد والحسن. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقه تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك. وقيل: معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: معناه واحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم: « وتثبيتا » معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته « وتثبيتا » مصدر على غير المصدر. قال ابن عطية: وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى: « والله أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] ، « وتبتل إليه تبتيلا » [ المزمل: 8 ] . وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول: أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر. قال ابن عطية: هذا مهْيَعُ كلام العرب فيما علمته. وقال النحاس: لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما، وقول قتادة: احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد. وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال: ثبت فلانا في هذا الأمر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك. وقيل: « وتثبيتا من أنفسهم » أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب.

 

قوله تعالى: « كمثل جنة بربوة » الجنة البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم. وقد تقدم. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية: ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن. وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: « زوجي كليل تهامة » . وقال السدي: « بربوة » أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض. قال ابن عطية: وهذه عبارة قِلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد.

قلت: عبارة السدي ليست بشيء، لأن بناء « رَبَ و » معناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالىِ. ربا يربو إذا أخذه الربو. وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع. وقال الفراء في قوله تعالى: « أخذهم أخذة رابية » [ الحاقة: 10 ] أي زائدة، كقولك: أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم. وقال الخليل: الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه. وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، لأن قوله تعالى: « أصابها وابل » إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين. والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر. وفيها خمس لغات « ربوة » بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. و « ربوة » بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن. « وربوة » بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي. و « رباوة » بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبدالرحمن، وقال الشاعر:

من منزلي في روضة برباوة بين النخيل إلى بقيع الغرقد؟

و « رباوة » بالكسر، وبها قرأ الأشهب العقيلي. قال الفراء: ويقال بِرَباوة وبرِباوة، وكله من الرابية، وفعله ربا يربو.

 

قوله تعالى: « أصابها » يعني الربوة. « وابل » أي مطر شديد قال الشاعر:

ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل

 

قوله تعالى: « فآتت » أي أعطت. « أكلها » بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل، ومنه قوله تعالى: « تؤتي أكلها كل حين » [ إبراهيم: 25 ] . والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل. والأكلة: اللقمة، ومنه الحديث: ( فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين ) يعني لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم. وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار. وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة. وقرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو « أكلها » بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أُكُلَه أو كان غير مضاف إلى شيء مثل « أكل خمط » فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال: أَكْل وأُكُل بمعنى. « ضعفين » أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين. وقال بعض أهل العلم: حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين.

 

قوله تعالى: « فإن لم يصبها وابل فطل » تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها. قال المبرد وغيره: تقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج: فالذي يصيبها طل. والطل: المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة. وقال قوم منهم مجاهد: الطل: الندى. قال ابن عطية: وهو تجوز وتشبيه. قال النحاس: وحكى أهل اللغة وَبَلَت وأوْبَلَت، وطَلّت وأَطَلّت. وفي الصحاح: الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه: طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع. قال بعضهم الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين. يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين.

قلت: التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير. فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفُلُوّ والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا. وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم ) خرجه الموطأ أيضا.

 

قوله تعالى: « والله بما تعملون بصير » وعد ووعيد. وقرأ الزهري « يعملون » بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض.

 

الآية: 266 ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون )

 

قوله تعالى: « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب » الآية. حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول.

قلت وروي عن ابن عباس أيضا قال: هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها. وحكي عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] الآية، قال: ثم ضرب في ذلك مثلا فقال: « أيود أحدكم » الآية. قال ابن عطية: وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام. وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا.

قلت: قد روي عن ابن عباس أنها مثل لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلا أن الذي ثبت في البخاري عنه خلاف هذا. خرج البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب » ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله. في رواية: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضى ذلك عمر. وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية. وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء. قال ابن عطية: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم. وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن « جنات » بالجمع. « تجري من تحتها الأنهار » تقدم ذكره. « له فيها من كل الثمرات » يريد ليس شيء من الثمار إلا وهو فيها نابت.

 

قوله تعالى: « وأصابه الكبر » عطف ماضيا على مستقبل وهو « تكون » وقيل: « يود » فقيل: التقدير وقد أصابه الكبر. وقيل إنه محمول على المعنى، لأن المعنى أيود أحدكم أن لو كانت له جنة. وقيل: الواو واو الحال، وكذا في قوله تعالى « وله » .

 

قوله تعالى: « فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت » قال الحسن: « إعصار فيه نار » ريح فيها برد شديد. الزجاج: الإعصار في اللغة الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يقال لها: الزوبعة. قال الجوهري: الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة. ويقال: أم زوبعة، وهي ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود. وقيل: الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق. المهدوي: قيل لها إعصار لأنها تلتف كالثوب إذا عصر. ابن عطية: وهذا ضعيف.

قلت: بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا. وقيل: إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء. وإما لأنها تنعصر بالرياح. وحكى ابن سيده: إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب. ابن زيد: الإعصار ريح عاصف وسموم شديدة، وكذلك قال السدي: الإعصار الريح والنار السموم. ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة. قال ابن عطية: ويكون، ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها، كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ) و ( إن النار اشتكت إلى ربها ) الحديث. وروي عن ابن عباس وغيره: ( إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء - يريد صبيانا بنات وغلمانا - فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار فأحرقته، ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه.

 

قوله تعالى: « كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون » يريد كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء. وقال ابن عباس أيضا: تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.

 

الآية: 267 ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا » هذا خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السلماني وابن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد. قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد. والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة. تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افْعَلْ صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهي عنه في النقل كما هو منهي عنه في الفرض، والله أحق من اختير له. وروى البراء أن رجلا علق قِنْوَ حَشَف، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( بئسما علق ) فنزلت الآية، خرجه الترمذي وسيأتي بكماله. والأمر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار. وجمهور المتأولين قالوا: معنى « من طيبات » من جيد ومختار « ما كسبتم » . وقال ابن زيد: من حلال « ما كسبتم » .

 

الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتي حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه. والميراث داخل في هذا، لأن غير الوارث قد كسبه. قال سهل بن عبدالله: وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن. قال: إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف نفسه عن الناس فترك هذا أفضل، لأنه إذا طلب حلالا وأنفق في حلال سئل عنه وعن وكسبه وعن إنفاقه، وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال.

 

قال ابن خويز منداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا ) .

 

قوله تعالى: « ومما أخرجنا لكم من الأرض » يعني النبات والمعادن والركاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية. أما النبات فروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة ) . والوَسْق ستون صاعا، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة. وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقول الله تعالى: « ومما أخرجنا لكم من الأرض » [ البقرة: 267 ] وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب. وسيأتي بيان هذا في « الأنعام » مستوفى. وأما المعدن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العجماء جرحها جُبَار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس ) . قال علماؤنا: لما قال صلى الله عليه وسلم: ( وفي الركاز الخمس ) دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز، لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس، فلما قال ( وفي الركاز الخمس ) علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم.

والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك، لأنهم يقولون في الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب، فيها الخمس، لأنها ركاز. وقد روى عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء. وروى عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركاز قال: ( الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السماوات والأرض ) . عبدالله بن سعيد هذا متروك الحديث، ذكر ذلك ابن أبي حاتم. وقد روى من طريق أخرى عن أبي هريرة ولا يصح، ذكره الدارقطني. ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة.

 

واختلفوا في حكم الركاز إذا وجد، فقال مالك: ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أو في فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفيه الخمس، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة. قال: وما وجد من ذلك في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده، وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس، ولا شيء للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم. وقيل: بل هو لجملة أهل الصلح. قال إسماعيل: وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله، فكان له أربعة أخماسه. وقال ابن القاسم: كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا: إن فيه الخمس ثم رجع فقال: لا أرى فيه شيئا، ثم آخر ما فارقناه أن قال: فيه الخمس. وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار: إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس. وخالفه أبو يوسف فقال: إنه للواجد دون صاحب الدار، وهو قول الثوري: وان وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفيه الخمس. ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها، وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين. ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شيء من ذلك وقالوا: سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لأحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفيه الخمس على عموم ظاهر الحديث، وهو قول الليث وعبدالله بن نافع والشافعي وأكثر أهل العلم.

 

وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه، فقال مالك وأصحابه: لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس أواق فضة، فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه. والركاز عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولا. قال سحنون في رجل له معادن: إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكى إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد. وقال محمد بن مسلمة: يضم بعضها إلى بعض ويزكى الجميع كالزرع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: المعدن كالركاز، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاه لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة. فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه. وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل، وهو قول الثوري. وذكر المزني عن الشافعي قال: وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن. قال المزني: الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه. وقال الليث بن سعد: ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولا، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول ) أخرجه الترمذي والدارقطني. واحتجوا أيضا بما رواه عبدالرحمن بن أنعم عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهيبة في تربتها، بعثها علي رضي الله عنه من اليمن. قال الشافعي: والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة. وحجة مالك حديث عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة. وهذا حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة. ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه. ذكره البزار، ورواه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها. وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، ذكره البزار أيضا، وكثير مجمع على ضعفه. هذا حكم ما أخرجته الأرض، وسيأتي في سورة [ النحل ] حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض. ويأتي في « الأنبياء » معنى قوله عليه السلام: ( العجماء جرحها جبار ) كل في موضعه إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » تيمموا معناه تقصدوا، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القصد في « النساء » إن شاء الله تعالى. ودلت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث. وروى النسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » قال: هو الجعرور ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة. وروى الدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السحل بكبائس قال سفيان: يعني الشيص - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من جاء بهذا ) ؟ وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به. فنزلت: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » . قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة - قال الزهري: لونين من تمر المدينة - وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه، وسيأتي. وحكى الطبري والنحاس أن في قراءة عبدالله « ولا تأمموا » وهما لغتان. وقرأ مسلم بن جندب « ولا تيمموا » بضم التاء وكسر الميم. وقرأ ابن كثير « تيمموا » بتشديد التاء. وفي اللفظة لغات، منها « أممت الشيء » مخففة الميم الأولى و « أممته » بشدها، و « يممته وتيممته » . وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ « ولا تؤمموا » بهمزة بعد التاء المضمومة.

 

قوله تعالى: « منه تنفقون » قال الجرجاني في كتاب « نظم القرآن » : قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله تعالى « الخبيث » ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال: « منه تنفقون » وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع. والضمير في « منه » عائد على الخبيث وهو الدون والرديء. قال الجرجاني: وقال فريق آخر: الكلام متصل إلى قوله « منه » ، فالضمير في « منه » عائد على « ما كسبتم » ويجيء « تنفقون » كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله.

 

قوله تعالى: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، قال معناه البراء بن عازب وابن عباس والضحاك. وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه. وروي نحوه عن علي رضي الله عنه. قال ابن عطية: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة. قال ابن العربي: لو كانت في الفرض لما قال « ولستم بآخذيه » لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل. وقال البراء بن عازب أيضا معناه: « ولستم بآخذيه » لو أهدى لكم « إلا أن تغمضوا فيه » أي تستحي من المهدي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه. قال ابن عطية: وهذا يشبه كون الآية في التطوع. وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه.

 

قوله تعالى: « إلا أن تغمضوا فيه » كذا قراءة الجمهور، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، ومن ذلك قول الطرماح:

لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ل أناس يرضون بالإغماض

وقد يحتمل أن يكون منتزعا إما من تغميض العين، لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه - قال:

إلى كم وكم أشياء منك تريبني أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالإغضاء عند المكروه. وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية - وأشار إليه مكي - وإما من قول العرب: أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر، كما تقول: أعمن أي أتى عمان، وأعرق أي أتى العراق، وأنجد وأغور أي أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، أي فهو يطلب التأويل على أخذه. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وعنه أيضا. « تغمضوا » بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدها. فالأولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم. والثانية، وهى قراءة قتادة فيما ذكر النحاس، أي تأخذوا بنقصان. وقال أبو عمرو الداني: معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان. وحكى مكي عن الحسن « إلا أن تغمضوا » مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة أيضا « تغمضوا » بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا. قال أبو عمرو الداني: معناه إلا أن يغمض لكم، وحكاه النحاس عن قتادة نفسه. وقال ابن جني: معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس. وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، إلى غير ذلك من الأمثلة. قال ابن عطية: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض. وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك، إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهدى أو مأخوذا في دين على قول غيره. وقال المهدوي: ومن قرأ « تغمضوا » فالمعنى تغمضون أعين بصائركم عن أخذه. قال الجوهري: وغمضت عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأغمضت، وقال تعالى: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » [ البقرة: 267 ] . يقال: أغمض لي فيما بعتني، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه. و « أن » في موضع نصب، والتقدير إلا بأن.

 

قوله تعالى: « واعلموا أن الله غني حميد » نبه سبحانه وتعالى على صفة الغني، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر وبال، فإنما يقدم لنفسه. و « حميد » معناه محمود في كل حال. وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في « الكتاب الأسنى » والحمد لله. قال الزجاج في قوله: « واعلموا أن الله غني حميد » : أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه.

 

الآية: 268 ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم )

 

قوله تعالى: « الشيطان » تقدم معنى الشيطان واشتقاقه فلا معنى لإعادته. و « يعدكم » معناه يخوفكم « الفقر » أي بالفقر لئلا تنفقوا. فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهي المعاصي والإنفاق فيها. وقيل: أي بأن لا تتصدقوا فتعصوا وتتقاطعوا. وقرئ « الفُقْر » بضم الفاء وهي لغة. قال الجوهري: والفقر لغة في الفقر، مثل الضُّعف والضَّعف.

 

قوله تعالى: « والله يعدكم مغفرة منه وفضلا » الوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقدر بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعا. قال ابن عباس: في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان. وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان - ثم قرأ - الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. ويجوز في غير القرآن « ويأمركم الفحشاء » بحذف الباء، وأنشد سيبويه:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة. والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى.

 

ذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه. قال ابن عطية: وليس في الآية حجة قاطعة بل المعارضة بها قوية. وروي أن في التوراة ( عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ) . وفي القرآن مصداقه وهو قوله: « وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين » [ سبأ: 39 ] . ذكره ابن عباس. « والله واسع عليم » تقدم معناه. والمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يعطي من سعة ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة. وهما اسمان من أسمائه ذكرناهما في جملة الأسماء في ( الكتاب الأسنى ) والحمد لله.

 

الآية: 269 ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب )

 

قوله تعالى: « يؤتِ الحكمة من يشاء » أي يعطيها لمن يشاء من عباده. واختلف العلماء في الحكمة هنا، فقال السدي: هي النبوة. ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره. وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الإصابة في القول والفعل. وقال ابن زيد: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك بن أنس: الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له. وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به. وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية. وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن، وقاله زيد بن أسلم. وقال الحسن: الحكمة الورع.

قلت: وهذه الأقوال كلها ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم. وفي البخاري: ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) وقال هنا: « ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا » وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها، وتنبيها على شرفها وفضلها حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: « فبدل الذين ظلموا قولا » [ البقرة: 59 ] . وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده: حدثنا مروان بن محمد حدثنا رفدة الغساني قال: أخبرنا ثابت بن عجولان الأنصاري قال: كان يقال: إن الله يريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم. قال مروان: يعني بالحكمة القرآن.

 

قوله تعالى: « ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب » يقال: إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك: « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » [ الإسراء: 85 ] . وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم. وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا فقال: « قل متاع الدنيا قليل » وسمى العلم والقرآن « خيرا كثيرا » . وقرأ الجمهور « ومن يؤت » على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب « ومن يؤت » بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة، فالفاعل اسم الله عز وجل. و « من » مفعول أول مقدم، والحكمة مفعول ثان. والألباب: العقول، واحدها لب وقد تقدم.

 

الآية: 270 ( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار )

 

شرط وجوابه، وكانت النذور من سيرة العرب تكثر منها، فذكر الله تعالى النوعين، ما يفعله المرء متبرعا، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه. وفي الآية معنى الوعد والوعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكسبه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا ولا يجد له ناصرا فيه. ومعنى « يعلمه » يحصيه، قاله مجاهد. ووحد الضمير وقد ذكر شيئين، فقال النحاس: التقدير « وما أنفقتم من نفقة » فإن الله يعلمها، « أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه » ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على « ما » كما أنشد سيبويه لامرئ القيس:

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل

ويكون « أو نذرتم من نذر » معطوفا عليه. قال ابن عطية: ووحد الضمير في « يعلمه » وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص.

قلت: وهذا حسن: فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كثر. والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر - بضم الذال - وينذر - بكسرها - . وله أحكام يأتي بيانها في غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 271 ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير )

 

ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات. قال الحسن: إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل، لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده. قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا. قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.

قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك. وروى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة ) . وفي الحديث: ( صدقة السر تطفئ غضب الرب ) .

قال ابن العربي: وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت، فأما صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا بأنها في السر أفضل منها في الجهر، بيد أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها والمعطى إياها والناس الشاهدين لها. أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السنة وثواب القدوة.

قلت: هذا لمن قويت حاله وحسنت نيته وأمن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل. وأما المعطى إياها فإن السر له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل.

وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما نزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، فكان يأمر بقسم الزكاة في السر. قال ابن عطية: وهذا مردود، لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل.

قلت: ذكر الكيا الطبري أن في هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقا أولى، وأنها حق الفقير وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه، على ما هو أحد قولي الشافعي. وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات ههنا التطوع دون الفرض الذي إظهاره أولى لئلا يلحقه تهمة، ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التهمة. وقال المهدوي: المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء أفضل في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك، فاستحسن العلماء إظهار الفرائض لئلا يظن بأحد المنع. قال ابن عطية: وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوع، لأنه ذكر الإخفاء ومدحه والإظهار ومدحه، فيجوز أن يتوجه إليهما جميعا. وقال النقاش: إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية » [ البقرة: 274 ] الآية.

 

قوله تعالى: « فنعما هي » ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك. ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. قال دعبل الخزاعي:

إذا انتقموا أعلنوا أمرهم وإن أنعموا باكتتام

وقال سهل بن هارون:

خل إذا جئته يوما لتسأله أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا

يخفى صنائعه والله يظهرها إن الجميل إذا أخفيته ظهرا

وقال العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا أعجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء فأحسن:

زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير

واختلف القراء في قول « فنعما هي » فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير « فنعما هي » بكسر النون والعين. وقرأ أبو عمرو أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل « فنعما » بكسر النون وسكون العين. وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي « فنعما » بفتح النون وكسر العين، وكلهم سكن الميم. ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي. قال النحاس: ولكنه في السواد متصل فلزم الإدغام. وحكى النحويون في « نعم » أربع لغات: نعم الرجل زيد، هذا الأصل. ونعم الرجل، بكسر النون لكسر العين. ونعم الرجل، بفتح النون وسكون العين، والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة. ونعم الرجل، وهذا أفضل اللغات، والأصل فيها نَعِم. وهي تقع في كل مدح، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ « فنعما هي » فله تقديران: أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم. والتقدير الآخر أن يكون على اللغة الجيدة، فيكون الأصل نِعْمَ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال. حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه. وقال أبو علي: من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال ونحوه. ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في « بارئكم - و - يأمركم » فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه. قال أبو علي: وأما من قرأ « نعما » بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر:

ما أقلت قدماي إنهم نعم الساعون في الأمر المبر

قال أبو علي: و « ما » من قوله تعالى: « نعما » في موضع نصب، وقوله « هي » تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير نعم شيئا إبداؤها، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويدلك على هذا قوله « فهو خير لكم » أي الإخفاء خير. فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك، أولا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مثله. « وإن تخفوها » شرط، فلذلك حذفت النون. « وتؤتوها » عطف عليه. والجواب « فهو خير لكم » . « ويكفر » اختلف القراء في قراءته، فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وقتادة وابن أبي إسحاق « ونكفر » بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم. وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش « يكفر » بنصب الراء. وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء، ورواه حفص عن عاصم، وكذلك روي عن الحسن، وروي عنه بالياء والجزم. وقرأ ابن عباس « وتكفر » بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء. وقرأ عكرمة « وتكفر » بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء. وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ « وتكفر » بالتاء ورفع الراء. وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآ بتاء ونصب الراء. فهذه تسع قراءات أبينها « ونكفر » بالنون والرفع. هذا قول الخليل وسيبويه. قال النحاس: قال سيبويه: والرفع ههنا الوجه وهو الجيد، لأن الكلام الذي بعد الفاء يجري مجراه في غير الجزاء. وأجاز الجزم بحمله على المعنى، لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيرا لكم ونكفر عنكم. وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش « يكفر » بالياء دون واو قبلها. قال النحاس: والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء. والذي روي عن عاصم « ويكفر » بالياء والرفع يكون معناه ويكفر الله، هذا قول أبي عبيد. وقال أبو حاتم: معناه يكفر الإعطاء. وقرأ ابن عباس « وتكفر » يكون معناه وتكفر الصدقات. وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء مكفر أيضا كما ذكرنا، وحكاه مكي. وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفر أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر. والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة. وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم. فأما نصب « ونكفر » فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بُعْد. قال المهدوي: وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما الرفع فليس فيه هذا المعنى.

قلت: هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه. و « من » في قوله « من سيئاتكم » للتبعيض المحض. وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ. « والله بما تعملون خبير » وعد ووعيد.

 

الآية: 272 ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )

 

قوله تعالى: « ليس عليك هداهم » هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين. روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم ) . فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس لك من صدقة المسلمين شيء ) . فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: « ليس عليك هداهم » فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات. وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك. وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك. وحكى الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: « ليس عليك هداهم » . وقيل: « ليس عليك هداهم » ليس متصلا بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام.

 

قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله عليه السلام: ( أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم ) . قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا. وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية. قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع. والله أعلم. وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر. ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له. ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أغنوهم عن سؤال هذا اليوم ) يعني يوم الفطر.

قلت: وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين. وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات. قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين.

قلت: وفي التنزيل « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » [ الإنسان: 8 ] والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. وقال تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم » [ الممتحنة: 8 ] . فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة المفروضة، لقوله عليه السلام لمعاذ: ( خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم ) واتفق العلماء على ذلك على ما تقدم. فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا، والله أعلم. قال ابن العربي: فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب. وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين. وفي صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غني وسارق وزانية وتقبلت صدقته، على ما يأتي بيانه في آية « الصدقات » .

 

قوله تعالى: « ولكن الله يهدي من يشاء » أي يرشد من يشاء. وفي هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة، كما تقدم.

 

قوله تعالى: « وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله » شرط وجوابه. والخير في هذه الآية المال، لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: « خير مستقرا » [ الفرقان: 24 ] وقوله « مثقال ذرة خيرا يره » [ الزلزلة: 7 ] . إلى غير ذلك. وهذا تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال. وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو « وما تنفقوا من خير فلأنفسكم » . ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه. و « ابتغاء » هو على المفعول له. وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم. وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيِ امرأتك ) .

 

قوله تعالى: « وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون » « يوف إليكم » تأكيد وبيان لقوله: « وما تنفقوا من خير فلأنفسكم » وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم.

 

الآية: 273 ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم )

 

قوله تعالى: « للفقراء » اللام متعلقة بقوله « وما تنفقوا من خير » وقيل: بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء. قال السدي ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر. وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: أهل الصفة. قال أبو ذر: كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتى النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشى معه. فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ناموا في المسجد ) . وخرج الترمذي عن البراء بن عازب « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل، قال: فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فيضربه بعصاه فيسقط من البُسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحَشَف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد، فأنزل الله تعالى « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » [ البقرة: 267 ] . قال: ولو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. قال علماؤنا: وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا. ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى: « الذين أحصروا في سبيل الله » والمعنى حبسوا ومنعوا. قال قتادة وابن زيد: معنى « أحصروا في سبيل الله » حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى: « لا يستطيعون ضربا في الأرض » لكون البلاد كلها كفرا مطبقا. وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء. وقيل: معنى « لا يستطيعون ضربا في الأرض » أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد. والأول أظهر. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف » أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه. وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرضى ولا عميان. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره. وفتح السين وكسرها في « يحسبهم » لغتان. قال أبو علي: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس. و « من » في قوله « من التعفف » لابتداء الغاية. وقيل لبيان الجنس.

 

قوله تعالى: « تعرفهم بسيماهم » فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: « ولتعرفنهم في لحن القول » [ محمد: 30 ] . فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل. واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب.

والسيما ( مقصورة ) : العلامة، وقد تمد فيقال السيماء. وقد اختلف العلماء في تعيينههنا، فقال مجاهد: هي الخشوع والتواضع. السدي: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة. ابن زيد: رثاثة ثيابهم. وقال قوم وحكاه مكي: أثر السجود. ابن عطية: وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم.

قلت: وهده السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر « الفتح » بقوله: « سيماهم في وجوههم من أثر السجود » [ الفتح: 29 ] فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار. والله أعلم. وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغني والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الإله.

 

قوله تعالى: « لا يسألون الناس إلحافا » مصدر في موضع الحال أي ملحفين يقال: ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء ويقال:

وليس للملحف مثل الرد

واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر:

فظل يحفهن بقفقفيه ويلحفهن هفهافا ثخينا

يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه. وروى النسائي ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم « لا يسألون الناس إلحافا » .

 

واختلف العلماء في معنى قوله « لا يسألون الناس إلحافا » على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح. وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا. روى الأئمة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته ) . وفي الموطأ « عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله لنا شيئاً نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا أجد ما أعطيك ) فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه يغضب علي ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا ) . قال الأسدي: فقلت للقحة لنا خير من أوقية - قال مالك: والأوقية أربعون درهما - قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله » . قال ابن عبدالبر: هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم. وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث. وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى.

 

قال ابن عبدالبر: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال: إذا لم يكن ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية. قيل لأبي عبدالله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر. قيل له: فإن تعفف ؟ قال: ذلك خير له. ثم قال: ما أظن أحدا يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه. ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري ( من استعف أعفه الله ) . وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( تعفف ) . قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع. قال: وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره؟ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال: ( تصدقوا ) ولم يقل أعطوهم. قال أبو عمر: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( اشفعوا تؤجروا ) . وفيه إطلاق السؤال لغيره. والله أعلم. وقال: ( ألا رجل يتصدق على هذا ) ؟ قال أبو بكر: قيل له - يعني أحمد بن حنبل - فالرجل يذكر الرجل فيقول: إنه محتاج؟ فقال: هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه. ثم قال: لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره؟ والتعريض هنا أحب إلي.

قلت: قد روى أبو داود والنسائي وغيرهما أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال: ( لا وإن كنت سائلا لا بد فاسأل الصالحين ) . فأباح صلى الله عليه وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى. قال إبراهيم بن أدهم: سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا.

 

فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله. روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لم رددته ) ؟ فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله ) . فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته. وهذا نص. وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك ) . زاد النسائي - بعد قوله ( خذه - فتموله أو تصدق به ) . وروى مسلم من حديث عبدالله بن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق ) . وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل. قال الأثرم: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف ) أي الإشراف أراد؟ فقال: أن تستشرفه وتقول: لعله يبعث إلي بقلبك. قيل له: وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب. قيل له: هذا شديد قال: وإن كان شديدا فهو هكذا. قيل له: فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إلي. قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف. قال أبو عمر: الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض. وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لأن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة. وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع.

 

الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر ) رواه أبو هريرة خرجه مسلم. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم ) رواه مسلم أيضا.

 

السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه. فإن كان المسؤول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقاً في سؤاله فلا يفلح في رده.

فإن كان محتاجاً إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي: سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلاً يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة. فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي: كساه إياها أبو الطاهر البرسني أخذ الثناء.

 

الآية: 274 ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

روي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي أمامة وأبي الدرداء وعبدالله بن بشر الغافقي والأوزاعي أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله. وذكر ابن سعد في الطبقات قال: أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال: أنبأنا سعيد بن سنان عن يزيد بن عبدالله بن عريب عن أبيه عن جده عريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » قال: ( هم أصحاب الخيل ) . وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبوالها وأرواثها عند الله يوم القيامة كذكي المسك ) . وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم جهراً، ذكره عبدالرزاق قال: أخبرنا عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس. ابن جريج: نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يسم عليا ولا غيره. وقال قتادة. هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. ومعنى « بالليل والنهار » في الليل والنهار، ودخلت الفاء في قوله تعالى: « فلهم » لأن في الكلام معنى الجزاء. وقد تقدم. ولا يجوز زيد فمنطلق.

 

الآية: 275 ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « الذين يأكلون الربا » ( يأكلون ) يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل. والربا في اللغة الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الحديث: ( فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها ) يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، خرج الحديث مسلم رحمه الله. وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوله، وقد كتبوه في القرآن بالواو. ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده، فمرة أطلقه على كسب الحرام، كما قال الله تعالى في اليهود: « وأخذهم الربا وقد نهوا عنه » [ النساء: 161 ] . ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى: « سماعون للكذب أكالون للسحت » [ المائدة: 42 ] يعني به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا: « ليس علينا في الأميين سبيل » [ آل عمران: 75 ] . وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب. والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان: تحريم النساء، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبينه. وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم: أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه. وهذا كله محرم باتفاق الأمة.

أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه. ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها، آكل الربا فتجوز وتشبيه.

 

روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثْلا بِمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء ) . وفي حديث عبادة بن الصامت: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مُدْيٌ بمديٍ والشعير بالشعير مدي بمدي والتمر بالتمر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد وأما نسيئة فلا ) . وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البر والشعير فإن مالكا جعلهما صنفا واحدا، فلا يجوز منهما اثنان بواحد، وهو قول الليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام، وأضاف مالك إليهما السلت. وقال الليث: السلت والدخن والذرة صنف واحد، وقاله ابن وهب.

قلت: وإذا ثبتت السنة فلا قول معها. وقال عليه السلام: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . وقوله: ( البر بالبر والشعير بالشعير ) دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر، ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة، ولا اعتبار بالمنبت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع، بل فصل وبين، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وأصحاب الحديث.

 

كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبي صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المصوغ بالمضروب. وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة، حتى وقع له مع عبادة ما خرجه مسلم وغيره، قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال وإن رغم - ما أبالي إلا أصحبه في جنده في ليلة سوداء. قال حماد هذا أو نحوه. قال ابن عبدالبر: وقد روي أن هذه القصة إنما كانت لأبي الدرداء مع معاوية. ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه، ولكن الحديث في العرف محفوظ لعبادة، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب [ الربا ] . ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز، وغير نكير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم، وقد خفي على أبي بكر وعمر ما وجد عند غيرهم ممن هو دونهم، فمعاوية أخرى. ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس، فقد كان وهو بحر في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد. وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر. قال قبيصة بن ذؤيب: إن عبادة أنكر شيئا على معاوية فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة. فقال له عمر: ما أقدمك ؟ فأخبره. فقال: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك ! وكتب إلى معاوية « لا إمارة لك عليه » .

 

روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء ) . قال العلماء فقوله عليه السلام: ( الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما ) إشارة إلى جنس الأصل المضروب، بدليل قوله: ( الفضة بالفضة والذهب بالذهب ) الحديث. والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل سواء بسواء على كل حال، على هذا جماعة أهل العلم على ما بينا. واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنا للأشياء، ومنع من إلحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد.

 

لا اعتبار بما قد روي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضراب، خذ فضتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه، أن ذلك جائز للضرورة، وأنه قد عمل به بعض الناس. وحكاه ابن العربي في قبسه عن مالك في غير التاجر، وإن مالكا خفف في ذلك، فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا. والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له: اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأجرة، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أجرتها، فالذي فعل مالك أولا هو الذي يكون آخرا، ومالك إنما نظر إلى المال فركب عليه حكم الحال، وأباه سائر الفقهاء. قال ابن العربي: والحجة فيه لمالك بينة. قال أبو عمر رحمه الله: وهذا هو عين الربا الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( من زاد أو ازداد فقد أربى ) . وقد رد ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها. وزعم الأبهري أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق، وليس الربا إلا على من أراد أن يربي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه. ونسي الأبهري أصله في قطع الذرائع، وقوله فيمن باع ثوبا بنسيئة وهو لا نية له في شرائه ثم يجده في السوق يباع: إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه، ومثله كثير، ولو لم يكن الربا إلا على من قصده ما حرم إلا على الفقهاء. وقد قال عمر: لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا. وهذا بين لمن رزق الإنصاف وألهم رشده.

قلت: وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهم كالمتحقق، فمنع دينارا ودرهما بدينار ودرهم سدا للذريعة وحسما للتوهمات، إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا. وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع، فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب. وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنوي، وذلك أنه منع دينارا من الذهب العالي ودينارا من الذهب الدون في مقابلة العالي وألفى الدون، وهذا من دقيق نظره رحمه الله، فدل أن تلك الرواية عنه منكرة ولا تصح. والله أعلم.

 

قال الخطابي: التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم أو دنانير، واحدتها تبرة. والعين: المضروب من الدراهم أو الدنانير. وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشيء من تبر غير مضروب. وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب منها، وذلك معنى قوله: ( تبرها وعينها سواء ) .

 

أجمع العلماء على أن التمر بالتمر ولا يجوز إلا مثلا بمثل. واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين، والحبة الواحدة من القمح بحبتين، فمنعه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري، وهو قياس قول مالك وهو الصحيح، لأن ما جرى الربا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسا ونظرا. احتج من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة والتمرتين لا تجب عليه القيمة، قال: لأنه لا مكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل.

 

اعلم رحمك الله أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا، فقال أبو حنيفة: علة ذلك كونه مكيلا أو موزونا جنسا، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو نسيئا لا يجوز، فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا، لأنه يدخله الكيل، وأجاز الخبز قرصا بقرصين، لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه. وقال الشافعي: العلة كونه مطعوما جنسا. هذا قوله في الجديد، فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبر بالخبز متفاضلا ولا نسيئا، وسواء أكان الخبز خميرا أو فطيرا. ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين، ولا رمانة برمانتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة، لأن ذلك كله طعام مأكول. وقال في القديم: كونه مكيلا أو موزونا. واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا، كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليها، وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم، والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون، واختلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر. فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء. وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام: ( إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضراوات. قال مالك: لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا، لأنه مما يدخر، ويجوز عنده مثلا بمثل. وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: جائز بيضة ببيضتين وأكثر، لأنه مما لا يدخر، وهو قول الأوزاعي.

 

اختلف النحاة في لفظ « الربا » فقال البصريون: هو من ذوات الواو، لأنك تقول في تثنيته: رِبَوان، قاله سيبويه. وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء، لأجل الكسرة التي في أوله. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرؤون: « وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس » [ الروم: 39 ] قال محمد بن يزيد: كتب « الربا » في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو، لأنه من ربا يربو.

 

قوله تعالى: « لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » الجملة خبر الابتداء وهو « الذين » . والمعنى من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد. وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه. وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جميع أهل المحشر. ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود « لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » . قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره: قد جن هذا! وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:

وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق

وقال آخر:

لعمرك بي من حب أسماء أولق

لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. و « يتخبطه » يتفعله من خبط يخبط، كما تقول: تملكه وتعبده. فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون. ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم. وقال بعض العلماء: إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك، كما أن الغال يجيء بما غل يوم القيامة بشهرة يشهر بها ثم العذاب من وراء ذلك. وقال تعالى: « يأكلون » والمراد يكسبون الربا ويفعلونه. وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنه دال على الجشع وهو أشد الحرص، يقال: رجل جشع بين الجشع وقوم جشعون، قاله في المجمل. فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال داخل في قوله: « الذين يأكلون » .

 

في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس، وقد مضى الرد عليهم فيما تقدم من هذا الكتاب. وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ( اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً ) . وروي من حديث محمد بن المثنى حدثنا أبو داود حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيئ الأسقام ) . والمس: الجنون، يقال: مس الرجل وألس، فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونا، وذلك علامة الربا في الآخرة. وروي في حديث الإسراء: ( فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا فيقبلون مثل الإبل المهيومة يتخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون براحا حتى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا، فإن الله تعالى يقول: « ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب » [ المؤمن: 46 ] - قلت - يا جبريل من هؤلاء؟ قال: ( هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . والمس الجنون وكذلك الأولق والألس والرود.

 

قوله تعالى: « ذلك بأنهم قالوا » معناه عند جميع المتأولين في الكفار، ولهم قيل: « فله ما سلف » ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلا، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية.

 

قوله تعالى: « إنما البيع مثل الربا » أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تربي، أي تزيد في الدين. فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: « وأحل الله البيع وحرم الربا » [ البقرة: 275 ] وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة. وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال: ( ألا إن كل رباً موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله ) . فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به. وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس.

 

قوله تعالى: « وأحل الله البيع » هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، كما قال تعالى: « والعصر إن الإنسان لفي خسر » [ العصر 1، 2 ] ثم استثنى « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » [ العصر: 3 ] . وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وحَبلَ الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه. ونظيره « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص وهذا مذهب أكثر الفقهاء. وقال بعضهم: هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل. فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة، والتفصيل ما لم يخص بدليل. والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. والأول أصح. والله أعلم.

 

البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً. وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن. وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع والمبتاع والثمن والمثمن. ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعاً، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحاً، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف، وان كان بدين مؤجل فهو السلم، وسيأتي بيانه في آية الدين. وقد مضى حكم الصرف، ويأتي حكم الإجارة في « القصص » وحكم المهر في النكاح في « النساء » كل في موضعه إن شاء الله تعالى.

 

البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك. فسواء قال: بعتك هذه السلعة بعشرة فقال: اشتريتها، أو قال المشتري: اشتريتها وقال البائع: بعتكها، أو قال البائع: أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري: أنا أشتري أو قد اشتريت، وكذلك لو قال: خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك - وهما يريدان البيع - فذلك كله بيع لازم. ولو قال البائع: بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال: ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده، لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له، لأن العقد لم يتم عليه. ولو قال البائع: كنت لاعبا، فقد اختلفت الرواية عنه، فقال مرة: يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله. وقال مرة: ينظر إلى قيمة السلعة.

فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار، علم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلاً فلم يلزمه.

 

قوله تعالى: « وحرم الربا » الألف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها.

عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أين هذا ) ؟ فقال بلال: من تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به ) وفي رواية ( هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ) . قال علماؤنا: فقوله ( أوه عين الربا ) أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه. وقوله: ( فردوه ) يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو رباً، فيسقط الربا ويصح البيع. ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع.

كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها. فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض. قال مالك: يرد الحرام البين فات أو لم يفت، وما كان مما كره الناس رد إلا أن يفوت فيترك.

 

قوله تعالى: « فمن جاءه موعظة من ربه » قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله: حرم الله الربا ليتقارض الناس. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قرض مرتين يعدل صدقة مرة ) أخرجه البزار، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وقال بعض الناس: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس. وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى: « فمن جاءه » لأن تأنيث « الموعظة » غير حقيقي وهو بمعنى وعظ. وقرأ الحسن « فمن جاءته » بإثبات العلامة.

هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم. روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها، فقالت لنا: ممن أنتن ؟ قلنا من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين ! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقداً. قالت: فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وما اشتريت ! فأبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي ؟ قالت: « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف » . العالية هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي إسحاق. وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال، فان كان منها ما يؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعاً جائزاً. وخالف مالكاً في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا: الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون. ودليلنا القول بسد الذرائع، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته. وقد تقدم. وهذا الحديث نص، ولا تقول عائشة ( أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب ) إلا بتوقيف، إذ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ) . وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن من الكبائر شتم الرجل والديه ) قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: ( يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) . فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء. ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذا أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله. وقال أبو بكر في كتابه: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة. واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنيناً، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع، لأنها ذرائع المحرمات. والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد. وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته، وهي في معنى هذا الباب. والله الموفق للصواب.

 

روى أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) . في إسناده أبو عبدالرحمن الخراساني. ليس بمشهور. وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال: هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة، وذلك أن العَين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره.

قال علماؤنا: فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه، أو إلى أبعد منه، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل: وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة، لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو، وهذا هو الربا بعينه. وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر. ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة، ومدارها على ما ذكرناه فاعلم.

 

قوله تعالى: « فله ما سلف » أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي وغيره. وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك. وسلف: معناه تقدم في الزمن وانقضى.

 

قوله تعالى: « وأمره إلى الله » فيه أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والآخر أن يكون الضمير عائداً على « ما سلف » أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. واختار هذا القول النحاس، قال: وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه. والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول: وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته.

 

قوله تعالى: « ومن عاد » يعني إلى فعل الربا حتى يموت، قاله سفيان. وقال غيره: من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر. قال ابن عطية: إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي.

 

الآية: 276 ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم )

 

قوله تعالى: « يمحق الله الربا » يعني في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيراً. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل ) . وقيل: « يمحق الله الربا » يعني في الآخرة. وعن ابن عباس في قوله تعالى: « يمحق الله الربا » قال: لا يقبل منه صدقة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلةً. والمحق: النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه. « ويربي الصدقات » أي ينميها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة. وفي صحيح مسلم: ( إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد ) . وقرأ ابن الزبير « يمحق » بضم الياء وكسر الحاء مشددة « يربي » بفتح الراء وتشديد الباء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.

 

قوله تعالى: « والله لا يحب كل كفار أثيم » ووصف كفار بأثيم مبالغة، من حيث اختلف اللفظان. وقيل: لإزالة الاشتراك في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض: قاله ابن فورك.

 

الآية: 277 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة » تقدم القول فيه وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهما وتنبيها على قدرهما إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن والزكاة في أعمال المال.

 

قوله تعالى: « لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى « أو يأخذهم على تخوف » [ النحل: 47 ] وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب « فلا خوف » بفتح الفاء على التبرمة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن « لا » لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون « لا » في قوله فلا خوف بمعنى ليس والحزن والحزن ضد السرور ولا يكون إلا على ماض وحزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بنى عليه قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما واحتزن وتحزن بمعنى والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا وقيل ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم.

 

الآية: 278 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا » ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول آية التحريم، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا. وقد قيل: إن الآية نزلت بسبب ثقيف، وكانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عبدة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة: لا نعطي شيئا فإن الربا قد رفع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت. هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم. والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه.

 

قوله تعالى: « إن كنتم مؤمنين » شرط محض في ثقيف على بابه لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلاً فافعل كذا. وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: إن « إنْ » في هذه الآية بمعنى « إذ » . قال ابن عطية: وهذا مردود لا يعرف في اللغة. وقال ابن فورك: يحتمل أن يريد « يا أيها الذين آمنوا » بمن قبل محمد عليه السلام من الأنبياء « ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين » بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ لا ينفع الأول إلا بهذا. وهذا مردود بما روي في سبب الآية.

 

الآية: 279 ( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )

 

قوله تعالى: « فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله » هذا وعيد إن لم يذروا الربا، والحرب داعية القتل. وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقال ابن عباس أيضا: من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستثيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا. وقيل: المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي أعداء. وقال ابن خويز منداد: ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: « فأذنوا بحرب من الله ورسوله » [ البقرة: 279 ] . وقرأ أبو بكر عن عاصم « فآذنوا » على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم.

 

ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلاً سكراناً يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب.

 

دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك على ما نبينه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره ) وروى الدارقطني عن عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة ) وروي عنه عليه السلام أنه قال: ( الربا تسعة وتسعون بابا أدناها كإتيان الرجل بأمه ) يعني الزنا بأمه. وقال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري عن أبي جحيفة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات... - وفيها - وآكل الربا ) . وفي مصنف أبي داود عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده.

 

قوله تعالى: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » الآية. روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ( ألا إن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون ) وذكر الحديث. فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: « لا تَظْلِمون » في أخذ الربا « ولا تُظْلَمون » في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون « لا تُظْلَمون » في مطل، لأن مطل الغني ظلم، فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دَيْن ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: ( قم فاقضه ) . فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات. وسيأتي في « النساء » بيان الصلح وما يجوز منه وما لا يجوز، إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » تأكيد لإبطال ما لم يُقْبَض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه. فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع، لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض، لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر. هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي. ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد. وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض. وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب فلا يتعرض له. فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل. واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، كما حكي عن اليهود في قوله تعالى « وأخذهم الربا وقد نهوا عنه » [ النساء: 161 ] . وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا:

« أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » [ هود: 87 ] فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به. نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد.

 

ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام. قال ابن العربي: وهذا غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه كما أن الإهلاك إتلاف لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسا بين معنى. والله أعلم.

قلت: قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه. فإن التبس عليه الأمر ولم يدرِ كَمْ الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه. فإن أيس من وجوده تصدق به عنه. فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه. وفارق ههنا المفلس في قول أكثر العلماء لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه. وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه.

 

هذا الوعيد الذي وعد الله به في الربا من المحاربة، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في المخابرة. وروى أبو داود قال: أخبرنا يحيى بن معين قال أخبرنا ابن رجاء قال ابن خيثم حدثني عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله ) . وهذا دليل على منع المخابرة وهي أخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع، ويسمى المزارعة. وأجمع أصحاب مالك كلهم والشافعي وأبو حنيفة وأتباعهم وداود، على أنه لا يجوز دفع الأرض على الثلث والربع، ولا على جزء مما تخرج، لأنه مجهول، إلا أن الشافعي وأصحابه وأبا حنيفة قالوا بجواز كراء الأرض بالطعام إذا كان معلوماً، لقوله عليه السلام: ( فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ) خرجه مسلم. وإليه ذهب محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، ومنعه مالك وأصحابه، لما رواه مسلم أيضا عن رافع بن خديج قال: ( كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكتريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزارعها. وكره كراءها وما سوى ذلك ) . قالوا: فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام مأكولا كان أو مشروبا على حال، لأن ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئا. وكذلك لا يجوز عندهم كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاما مأكولا ولا مشروبا، سوى الخشب والقصب والحطب، لأنه عندهم في معنى المزابنة. هذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه. وقد ذكر ابن سحنون عن المغيرة بن عبدالرحمن المخزومي المدني أنه قال: لا بأس بإكراء الأرض بطعام لا يخرج منها. وروى يحيى بن عمر عن المغيرة أن ذلك لا يجوز، كقول سائر أصحاب مالك. وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة كان يقول: لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل خرج منها أو لم يخرج منها، وبه قال يحيى بن يحيى، وقال: إنه من قول مالك. قال: وكان ابن نافع يقول: لا بأس بأن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره خرج منها أو لم يخرج، ما عدا الحنطة وأخواتها فإنها المحاقلة المنهي عنها. وقال مالك في الموطأ: فأما الذي يعطي أرضه البيضاء بالثلث والربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغَرَر، لأن الزرع يقل مرة ويكثر أخرى، وربما هلك رأسا فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوما، وإنما مثل ذلك مثل رجل استأجر أجيرا لسفر بشيء معلوم، ثم قال الذي استأجر للأجير: هل لك أن أعطيك عشر ما أربح في سفري هذا إجارة لك. فهذا لا يحل ولا ينبغي. قال مالك: ولا ينبغي لرجل أن يؤاجر نفسه ولا أرضه ولا سفينته ولا دابته إلا بشيء معلوم لا يزول. وبه يقول الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما. وقال أحمد بن حنبل والليث والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يعطي الرجل أرضه على جزء مما تخرجه نحو الثلث والربع، وهو قول ابن عمر وطاوس. واحتجوا بقصة خيبر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم وثمارهم. قال أحمد: حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ولا يصح، والقول بقصة خيبر أولى وهو حديث صحيح. وقد أجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يعطى الرجل سفينته ودابته، كما يعطى أرضه بجزء مما يرزقه الله في العلاج بها. وجعلوا أصلهم في ذلك القراض المجمع عليه على ما يأتي بيانه في « المزمل » إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: « وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله » [ المزمل: 20 ] وقال الشافعي في قول ابن عمر: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها. قال: وفي ذلك نسخ لسنة خيبر.

قلت: ومما يصحح قول الشافعي في النسخ ما رواه الأئمة واللفظ للدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيا إلا أن تُعلم. صحيح. وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة. قلت: وما المخابرة ؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع.

 

في القراءات. قرأ الجمهور « ما بقي » بتحريك الياء، وسكنها الحسن، ومثله قول جرير:

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

وقال عمر بن أبي ربيعة:

كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم يا أشبه الناس كل الناس بالقمر

إني لأجذل أن أمسي مقابله حباً لرؤية من أشبهت في الصور

أصله « ما رضي » و « أن أمسي » فأسكنها وهو في الشعر كثير. ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لا تصل هنا إلى الياء. ومن هذه اللغة أحب أن أدعوك، وأشتهي أن أقضيك، بإسكان الواو والياء. وقرأ الحسن « ما بقى » بالألف، وهي لغة طيء، يقولون للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وقال الشاعر:

لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا

وقرأ أبو السمال من بين جميع القراء « من الربو » بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو. وقال أبو الفتح عثمان بن جني: شذ هذا الحرف من أمرين، أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم، والآخر وقوع الواو بعد الضم في آخر الاسم. وقال المهدوي. وجهها أنه فخم الألف فانتحى بها نحو الواو التي الألف منها، ولا ينبغي أن يحمل على غير هذا الوجه، إذ ليس في الكلام اسم آخره واو ساكنة قبلها ضمة. وأمال الكسائي وحمزة « الربا » لمكان الكسرة في الراء. الباقون بالتفخيم لفتحة الباء. وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة « فآذنوا » على معنى فآذنوا غيركم، فحذف المفعول. وقرأ الباقون « فأذنوا » أي كونوا على إذن، من قولك: إن على علم، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي. وحكى أهل اللغة أنه يقال: أذنت به إذنا، أي علمت به. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: معنى « فأذنوا » فاستيقنوا الحرب من الله تعالى، وهو بمعنى الإذن. ورجح أبو علي وغيره قراءة المد قال: لأنهم إذا أمروا بإعلام غيرهم ممن لم ينته عن ذلك علموا هم لا محالة. قال: ففي إعلامهم علمهم وليس في علمهم إعلامهم. ورجح الطبري قراءة القصر، لأنها تختص بهم. وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم. وقرأ جميع القراء « لا تظلمون » بفتح التاء « ولا تظلمون » بضمها. وروى المفضل عن عاصم « لا تظلمون » « ولا تظلمون » بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية على العكس. وقال أبو علي: تترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله: « وإن تبتم » في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فيجيء « تظلمون » بفتح التاء أشكل بما قبله.

 

الآية: 280 ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « وإن كان ذو عسرة » لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا: ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية « وإن كان ذو عسرة » .

قوله تعالى: « وإن كان ذو عسرة » مع قوله « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » [ البقرة: 279 ] يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه. ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالماً، فإن الله تعالى يقول: « فلكم رؤوس أموالكم » فجعل له المطالبة برأس ماله. فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.

 

قال المهدوي وقال بعض العلماء: هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعسر. وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام. قال ابن عطية: فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ. قال الطحاوي: كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » . واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن سرق قال: كان لرجل علي مال - أو قال دين - فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالاً فباعني منه، أو باعني له. أخرجه البزار بهذا الإسناد أطول منه. ومسلم بن خالد الزنجي وعبدالرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما. وقال جماعة من أهل العلم: قوله تعالى: « فنظرة إلى ميسرة » عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر، وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. قال النحاس: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم. قال: هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله. فهذا قول يجمع الأقوال، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه. ولأن القراءة بالرفع بمعنىً وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه، وهو قول إبراهيم. واحتجوا بقول الله تعالى: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » [ النساء: 58 ] الآية. قال ابن عطية: فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة.

 

من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته. روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه. والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزرياً به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه. والأصل في هذا قوله تعالى: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » . روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تصدقوا عليه ) فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: ( خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ) . وفي مصنف أبى داود: فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله. وهذا نص، فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس الرجل، وهو معاذ بن جبل كما قال شريح، ولا بملازمته، خلافا لأبي حنيفة فإنه قال: يلازم لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا. وبالله توفيقنا.

 

ويحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده. وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا.

فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع، فعلى المفلس ضمانه، ودين الغرماء ثابت في ذمته. فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له، كان عليهم ضمانه وقد برئ المفلس منه. وقال محمد بن عبدالحكم: ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء.

 

العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنظرة التأخير. والميسرة مصدر بمعنى اليسر. وارتفع « ذو » بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث، هذا قول سيبويه وأبى علي وغيرهما. وأنشد سيبويه:

فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

ويجوز النصب. وفي مصحف أبي بن كعب « وإن كان ذا عسرة » على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش « وإن كان معسراً فنظرة » . قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن كعب. قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ « ذو » فهي عامة في جميع من عليه دين، وقد تقدم. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان « فإن كان - بالفاء - ذو عسرة » . وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال: في مصحف عثمان « وإن كان ذا عسرة » ذكره النحاس. وقراءة الجماعة « نظرة » بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن « فنظرة » بسكون الظاء، وهي لغة تميمية وهم الذين يقولون: في كَرْم زيد بمعنى كَرَم زيد، ويقولون كبْد في كبِد. وقرأ نافع وحده « ميسرة » بضم السين، والجمهور بفتحها. وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء « فناظره - على الأمر - إلى ميسر هي » بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج. وقرئ « فناظرة » قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة، إنما ذلك في « النمل » لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها، من نظرت تنظر فهي ناظرة، وما في « البقرة » فمن التأخير، من قولك: أنظرتك بالديْن، أي أخرتك به. ومنه قوله: « أنظرني إلى يوم يبعثون » [ الأعراف: 14 ] وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى: « ليس لوقعتها كاذبة » [ الواقعة: 2 ] . وكقوله تعالى: « تظن أن يفعل بها فاقرة » [ القيامة: 25 ] وكـ « خائنة الأعين » [ المؤمن: 19 ] وغيره.

 

قوله تعالى: « وأن تصدقوا » ابتداء، وخبره « خير » . ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك. وقال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم. والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني.

روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة ) ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة، قال فقال: ( بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة ) . وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه ) . وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: آلله ؟ قال: ألله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ) ، وفي حديث أبي اليسر الطويل - واسمه كعب بن عمرو - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ) . ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها. وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم. وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر. والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته. وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له: إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل.

 

الآية: 281 ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )

 

قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء، قاله ابن جريج. وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال. وروي بثلاث ليال. وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه عليه السلام قال: ( اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ) . وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ) .

قلت: وحكي عن أبي كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل: « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » [ التوبة: 128 ] إلى آخر الآية. والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر. ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ( يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة ) . ذكره أبو بكر الأنباري في « كتاب الرد » له، وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل، وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما، على ما يأتي بيانه في آخر سورة « إذا جاء نصر الله والفتح » [ النصر: 1 ] إن شاء تعالى. والآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان. و « يوما » منصوب على المفعول لا على الظرف. « ترجعون فيه إلى الله » من نعته. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، مثل « إن إلينا إيابهم » [ الغاشية: 25 ] واعتبارا بقراءة أبي « يوما تصيرون فيه إلى الله » . والباقون بضم التاء وفتح الجيم، مثل « ثم ردوا إلى الله » [ الأنعام: 62 ] . « ولئن رددت إلى ربي » [ الكهف: 36 ] واعتبارا بقراءة عبدالله « يوما تردون فيه إلى الله » وقرأ الحسن « يرجعون » بالياء، على معنى يرجع جميع الناس. قال ابن جني: كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم: « واتقوا يوما » ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم. وجهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية. وقال قوم: هو يوم الموت. قال ابن عطية: والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية. وفي قوله « إلى الله » مضاف محذوف، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه. « وهم » رد على معنى « كل » لا على اللفظ، إلا على قراءة الحسن « يرجعون » فقوله « وهم » رد على ضمير الجماعة في « يرجعون » . وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وهو رد على الجبرية، وقد تقدم.

 

الآية: 282 ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم » الآية. قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة. معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا. وقال ابن خويز منداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما. وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دَيْناً مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.

 

قوله تعالى: « بدين » تأكيد مثل قوله « ولا طائر يطير بجناحيه » [ الأنعام: 38 ] . « فسجد الملائكة كلهم أجمعون » [ الحجر: 30 ] . وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا، قال الشاعر:

وعدتنا بدرهمينا طلاء وشواء معجلا غير دين

وقال آخر:

لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما أوقدوا حطبا ونارا فذاك الموت نقدا غير دين

وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق « إلى أجل مسمى » .

 

قوله تعالى: « إلى أجل مسمى » قال ابن المنذر: دل قول الله « إلى أجل مسمى » على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال ابن عمر: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حَبَل الحَبَلة. وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها. بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ممن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام. فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله.

قلت: وقال علماؤنا: إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم.

 

حدّ علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا: هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم. فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول، ومن السلم في الأعيان المعينة، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا.

وقولهم [ محصور بالصفة ] تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة. وقولهم [ بعين حاضرة ] تحرز من الدين بالدين. وقولهم [ أو ما هو في حكمها ] تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر، بشرط وبغير شرط لقرب ذلك، ولا يجوز اشتراطه عليها. ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق، ورأوا أنه كالصرف. ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. والله أعلم.

وقولهم إلى أجل معلوم تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي. ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه.

 

السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب [ السَّلم ] لأن السلف يقال على القرض. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك. وأرخص في السلم، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة. والله أعلم.

 

في شروط السلم المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة: ستة في المُسْلَم فيه، وثلاثة في رأس مال السلم. أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة، وأن يكون موصوفا، وأن يكون مقدرا، وأن يكون مؤجلا، وأن يكون الأجل معلوما، وأن يكون موجودا عند محل الأجل. وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس، مقدرا، نقدا. وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم. قال ابن العربي: وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة، لأنه مداينة، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا. وعلى ذلك القول اتفق الناس. بيد أن مالكا قال: لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين: أحدهما أن يكون قرية مأمونة، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه. وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل، لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر، لئلا يتعذر عند المحل. وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه، ولا بد من احتمال الغرر اليسير، وذلك كثير في مسائل الفروع، تعدادها في كتب المسائل. وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة، وهي مبنية على قاعدة المصلحة، لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء، لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد، لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له. فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه، وكذلك الشرط الثالث. والتقدير يكون من ثلاثة أوجه: الكيل، والوزن، والعدد، وذلك ينبني على العرف، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع. وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه، فقال الشافعي: يجوز السلم الحال، ومنعه الأكثر من العلماء. قال ابن العربي: واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم، حتى قال بعض علمائنا: السلم الحال جائز. والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه، لأن المبيع على ضربين: معجل وهو العين، ومؤجل. فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب: بيع ما ليس عندك، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه، وتتنزل الأحكام، الشرعية منازلها. وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها. وقول الله تعالى « إلى أجل مسمى » وقوله عليه السلام: ( إلى أجل معلوم ) يغني عن قول كل قائل.

قلت: الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان من الأسعار، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة. فأما في البلد الواحد فلا، لأن سعره واحد، والله أعلم. وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوما فلا خلاف فيه بين الأمة، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك. وانفرد مالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد، لأنه رآه معلوما. وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى « يسألونك عن الأهلة » [ البقرة: 189 ] . وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضا، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء.

 

ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه خلافا لبعض السلف، لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثني عبدالله بن شداد وأبو بردة إلى عبدالله بن أبي أوفى فقالا: سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ؟ فقال عبدالله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده ؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبدالرحمن بن أبزى فسألته فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ؟ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: المراعى وجوده عند الأجل. وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤونة وقالوا: السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض. وقال الأوزاعي: هو مكروه. وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع القبض، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل، ومثله ابن أبي أوفى.

 

روى أبو داود عن سعد - يعني الطائي - عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) . قال أبو محمد عبدالحق بن عطية: هو العوفي ولا يحتج أحد بحديثه، وإن كان الأجلة قد رووا عنه. قال مالك: الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاعه منه فأقاله، إنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه، وأنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى. قال مالك: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.

 

قوله تعالى: « فاكتبوه » يعني الدين والأجل. ويقال: أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. ويقال: أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » إلى آخر الآية: ( إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره فقال يا رب من هذا قال: هذا ابنك داود، قال: يا رب فما عمره ؟ قال: ستون سنة، قال: يا رب زده في عمره ! فقال: لا إلا أن تزيده من عمرك، قال: وما عمري ؟ قال: ألف سنة، قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة، قال: فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة، قال: إنه بقي من عمري أربعون سنة، قالوا: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما وهبت لأحد شيئا، فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته - في رواية: وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة ) . خرجه الترمذي أيضا. وفي قوله « فاكتبوه » إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له المعربة عنه، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه. والله أعلم.

 

ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري. وقال ابن جريج: من ادّان فليكتب، ومن باع فليشهد. وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله « فإن أمن » [ البقرة: 283 ] ناسخ لأمره بالكتب. وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري. وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: « فإن أمن بعضكم بعضا » . وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق. قال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة. ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخ في هذا، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس.

 

قوله تعالى: « وليكتب بينكم كاتب » قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقاله الشعبي، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب. السدي: واجب مع الفراغ. وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني، لأن الثاني غائب والأول للمخاطب. وقد ثبتت في المخاطب، ومنه قوله تعالى: « فلتفرحوا » بالتاء. وتحذف في الغائب، ومنه:

محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا

 

قوله تعالى: « بالعدل » أي بالحق والمعدلة، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل. وإنما قال « بينكم » ولم يقل أحدكم، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر. وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل.

الباء في قوله تعالى « بالعدل » متعلقة بقوله: « وليكتب » وليست متعلقة بـ « كاتب » لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها. أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين. قال مالك رحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل » .

قلت: فالباء على هذا متعلقة بـ « كاتب » أي ليكتب بينكم كاتب عدل، فـ « بالعدل » في موضع الصفة.

 

قوله تعالى: « ولا يأب كاتب أن يكتب » نهى الله الكاتب عن الإباء، واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال الطبري والربيع: واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب. وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره، فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره. السدي: واجب عليه في حال فراغه، وقد تقدم. وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله « ولا يأب » منسوخ بقوله « ولا يضار كاتب ولا شهيد » .

قلت: هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان. ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة. ابن العربي: والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذه حقه. وأبى يأبى شاذ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « كما علمه الله فليكتب » الكاف في « كما » متعلقة بقوله « أن يكتب » المعنى كتبا كما علمه الله. ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله « ولا يأب » من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه. ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله « أن يكتب » ثم يكون « كما علمه الله » ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله « فليكتب » .

 

قوله تعالى: « وليملل الذي عليه الحق » وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه. والإملاء والإملال لغتان، أملّ وأملى، فأمل لغة أهل الحجاز وبني أسد، وتميم تقول: أمليت. وجاء القرآن باللغتين، قال عز وجل: « فهي تملى عليه بكرة وأصيلا » [ الفرقان: 5 ] . والأصل أمللت، أبدل من اللام ياء لأنه أخف. فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره. وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهى عن أن يبخس شيئا من الحق. والبخس النقص. ومن هذا المعنى قوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » [ البقرة: 228 ] .

 

قوله تعالى: « فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا » قال بعض الناس: أي صغيرا. وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه. « أو ضعيفا » أي كبيرا لا عقل له. « أو لا يستطيع أن يمل » جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف: مستقل بنفسه يمل، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل. فالسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. والبذيء اللسان يسمى سفيها، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة. والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، قال الشاعر:

نخاف أن تسفه أحلامنا ويجهل الدهر مع الحالم

وقال ذو الرمة:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم

أي استضعفها واستلانها فحركها. وقد قالوا: الضعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي، وقيل: هما لغتان. والأول أصح، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقله ضعف فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله، إني لا أصبر عن البيع ساعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن كنت غير تارك البيع فقل ها وها ولا خلابة ) وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي من حديث أنس وقال: هو صحيح، وقال: إن رجلا كان في عقله ضعف، وذكر الحديث. وذكره البخاري في التاريخ وقال فيه: ( إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال ) . وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع ابني حبان: وقيل: وهو منقذ جد يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حبان، أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شج في بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم مأمومة خبل منها عقله ولسانه: وروى الدارقطني قال: كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا ضرير البصر وكان قد سفع في رأسه مأمومة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار فيما يشتري ثلاثة أيام، وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بع وقل لا خلابة ) فكنت أسمعه يقول: لا خذابة لا خذابة. أخرجه من حديث ابن عمرو. الخلابة: الخديعة، ومنه قولهم: « إذا لم تغلب فاخلب » .

 

اختلف العلماء فيمن يخدع في البيوع لقلة خبرته وضعف عقله فهل يحجر عليه أولا فقال بالحجر عليه أحمد وإسحاق. وقال آخرون: لا يحجر عليه. والقولان في المذهب، والصحيح الأول، لهذه الآية، ولقوله في الحديث: ( يا نبي الله احجر على فلان ) . وإنما ترك الحجر عليه لقوله: ( يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع ) . فأباح له البيع وجعله خاصا به، لأن من يخدع في البيوع ينبغي أن يحجر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخبل عقله. ومما يدل على الخصوصية ما رواه محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو وكان رجلا قد أصابته آفة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ( إذا بعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها ) . وقد كان عمَّر عمرا طويلا، عاش ثلاثين ومائة سنة، وكان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين فشا الناس وكثروا، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبنا قبيحا، فيلومونه ويقولون له تبتاع ؟ فيقول: أنا بالخيار، إن رضيت أخذت وإن سخطت رددت، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثا. فيرد السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد، فيقول: والله لا أقبلها، قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم، قال فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثا. فكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للتاجر: ويحك ! إنه قد صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثا. أخرجه الدارقطني. وذكره أبو عمر في الاستيعاب وقال: ذكره البخاري في التاريخ عن عياش بن الوليد عن عبدالأعلى عن ابن إسحاق.

 

قوله تعالى: « أو ضعيفا » الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة العاجز عن الإملاء، إما لعيه أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا. والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووليه وصيه أو أبوه والغائب عن موضوع الإشهاد، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر. ووليه وكيله. وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع. فهذه أصناف تتميز، وسيأتي في « النساء » بيانها والكلام عليها إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فليملل وليه بالعدل » ذهب الطبري إلى أن الضمير في « وليه » عائد على « الحق » وأسند في ذلك عن الربيع، وعن ابن عباس. وقيل: هو عائد على « الذي عليه الحق » وهو الصحيح. وما روي عن ابن عباس لا يصح. وكيف تشهد البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ! هذا شي ليس في الشريعة. إلا أن يريد قائله: إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرس ولي عند أحد العلماء، مثل ما ثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه. فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به. وهذا معنى لم تعن الآية إليه: ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه.

 

لما قال الله تعالى: « فليملل الذي عليه الحق » دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدعي مائة، فالقول قول الراهن والرهن قائم، وهو مذهب أكثر الفقهاء: سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، واختاره ابن المنذر قال: لأن المرتهن مدع للفضل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ) . وقال مالك: القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك. فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد للمرتهن، وقوله تعالى: « فليملل الذي عليه الحق » رد عليه. فإن الذي عليه الحق هو الراهن. وستأتي هذه المسألة. وإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة والكتاب، والشهادة دالة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة. قيل له: الرهن لا يدل على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدين، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير. يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين إلى أن يساوي قيمة الرهن. وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب، فلا حاصل لقولهم هذا.

وإذا ثبت أن المراد الولي ففيه دليل على أن إقراره جائز على يتيمه، لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه.

وتصرف السفيه المحجور عليه دون إذن وليه فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف يأتي بيانه في « النساء » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « واستشهدوا » الاستشهاد طلب الشهادة. واختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « شهيدين » رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا، على ما يأتي بيانه في سورة « النساء » . وشهيد بناء مبالغة، وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنه إشارة إلى العدالة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « من رجالكم » نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. وقال مجاهد: المراد الأحرار، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه. وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد، فقال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. والصحيح قول الجمهور، لأن الله تعالى قال: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين » [ البقرة: 282 ] وساق الخطاب إلى قوله « من رجالكم » فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة. فإن قالوا: إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها. قيل لهم: هذا يخصه قوله تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » على ما يأتي بيانه. وقوله « من رجالكم » دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة لكن إذا علم يقينا، مثل ما روي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: ( ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع ) . وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ. نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها، لأن الإقدام على الوطء جائز بغلبة الظن، فلو زفت إليه امرأة وقيل: هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول. ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه، لأن سبيل الشهادة اليقين، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه. فهذا مذهب هؤلاء. والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيرا لا وجه له، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت، لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان. وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.

قلت: مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت. قال ابن قاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ؟ قال: قال مالك: شهادته جائزة. وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشريح الكندي والشعبي وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث.

 

قوله تعالى: « فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان » المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين، هذا قول الجمهور. « فرجل » رفع بالابتداء، « وامرأتان » عطف عليه والخبر محذوف. أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما. ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وحكى سيبويه: إن خنجرا فخنجرا. وقال قوم: بل المعنى فإن لم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين. فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل. وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها، لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال. ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى: « إذا تداينتم بدين » يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح. وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة.

وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح:

فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا. ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير. وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبدالله بن الزبير. وقال مالك: وهو الأمر عندنا المجتمع عليه. ولم يجز الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم، لقوله تعالى: « من رجالكم » وقوله: « ممن ترضون » وقوله: « ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] وهذه الصفات ليست في الصبي.

 

لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه، فكما له أن يحلف مع الشاهد عندنا، وعند الشافعي كذلك، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية. وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد وقالوا: إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها، ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله، وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ. وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة. قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن. وزعم عطاء أن أول من قضى به عبدالملك بن مروان، وقال: الحكم: القضاء باليمين والشاهد بدعة، وأول من حكم به معاوية. وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئا، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم وليس في قول الله تعالى: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » الآية، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى، وهذا قاطع في الرد عليهم. قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق، أن حقه لحق، وثبت حقه على صاحبه. فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده؟ فمن أقر فليقر باليمين مع الشاهد. قال علماؤنا: ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشريح وعمر بن عبدالعزيز - وكتب به إلى عماله - وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو الزناد وربيعة، ولذلك قال مالك: وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم ! هذا إغفال شديد، ونظر غير سديد. روى الأئمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو بن دينار: في الأموال خاصة، رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد بن دينار عن ابن عباس. قال أبو عمر: هذا أصح إسناد لهذا الحديث، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات. قال يحيى القطان: سيف بن سليمان ثَبْت، ما رأيت أحفظ منه. وقال النسائي: هذا إسناد جيد، سيف ثقة، وقيس ثقة. وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا. قال أبو بكر البزار: سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان، ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة. ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد، بل جاء عنهم القول به، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة. واختلف فيه عن عروة بن الزبير وابن شهاب، فقال معمر: سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال: هذا شيء أحدثه الناس، لابد من شاهدين. وقد روي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين، وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الأثر، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه، لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنا بعد قرن. وقال مالك: يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان، ولم يحتج في موطئه لمسألة غيرها. ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ومصر وغيرهما، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه. وخالف يحيى مالكا في ذلك مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة. ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى: « وأحل لكم ما وراء ذلكم » [ النساء: 24 ] . وكنهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مع قوله: « قل لا أجد » [ الأنعام: 145 ] . وكالمسح على الخفين، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما، ومثل هذا كثير. ولو جاز أن يقال: إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد، لجاز أن يقال: إن القرآن في قوله عز وجل: « وأحل الله البيع وحرم الربا » [ البقرة: 275 ] وفي قوله: « إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم » [ النساء: 29 ] ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع، وهذا لا يسوغ لأحد، لأن السنة مبينة للكتاب.

فإن قيل: إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم. قلنا: بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة، فكأنه قال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد. ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق، ومن جهة القياس والنظر أنا وقد وجدنا اليمين أقوى من المرأتين، لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين تدخل في اللعان. وإذا صحت السنة فالقول بها يجب، ولا تحتاج السنة إلى مايتابعها، لأن من خالفها محجوج بها. وبالله التوفيق.

 

وإذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد، فقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان، للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد. قال: لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان، بدليل قبول شهادة النساء فيها. وقد اختلف قول مالك في جراح العمد، هل يجب القَوَد فيها بالشاهد واليمين ؟ فيه روايتان: إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والدية. والأخرى أنه لا يجب به شيء، لأنه من حقوق الأبدان. قال: وهو الصحيح. قال مالك في الموطأ: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، وقاله عمرو بن دينار. وقال المازري: يقبل في المال المحض من غير خلاف، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة ما ليس بمال، ولكنه يؤدي إلى المال، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك، ففي قبوله اختلاف، فمن راعى المال قبله كما يقبله في المال، ومن راعى الحال لم يقبله. وقال المهدوي: شهادة النساء في الحدود غير جائزة في قول عامة الفقهاء، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، وإنما يشهدن في الأموال. وكل ما لا يشهدن فيه فلا يشهدن على شهادة غيرهن فيه، كان معهن رجل أو لم يكن، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل وامرأة. ويقضى باثنتين منهن في كل ما لا يحضره غيرهن كالولادة والاستهلال ونحو ذلك. هذا كله مذهب مالك، وفي بعضه اختلاف.

 

قوله تعالى: « ممن ترضون من الشهداء » في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين. قال ابن بكير وغيره: هذه مخاطبة للحكام. ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض.

لما قال الله تعالى: « ممن ترضون من الشهداء » دل على أن في الشهود من لا يرضي، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنى زائد على الإسلام، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال. وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا.

قلت فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو من رجالنا وأهل ديننا. وكونه بدويا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي، قال الله تعالى: « ممن ترضون من الشهداء » وقال تعالى: « وأشهدوا ذوي عدل منكم » فـ « منكم » خطاب للمسلمين. وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة، لأن الصفة زائدة على الموصوف، وكذلك « ممن ترضون » مثله، خلاف ما قال أبو حنيفة، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام. وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ) . والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا، على ما يأتي في « النساء » و « براءة » إن شاء الله تعالى. وليس في حديث أبي هريرة فرق بين القروي في الحضر أو السفر، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله.

قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر، ظاهر الأمانة غير مغفل. وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل، والمعنى متقارب.

 

لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة، وهي قبول قول الغير على الغير، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة. فمن حكم الشاهد. أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته. وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام. وسيأتي لهذا في سورة « يوسف » زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك.

قال أبو حنيفة: يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود. وهذه مناقصة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه، لأننا نقول: حق من الحقوق. فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود، قاله ابن العربي.

 

وإذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: إن النكاح ينعقد. بشهادة فاسقين. فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب.

قلت: قول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام، وإنما يعلم بالنظر في أحواله حسب ما تقدم. ولا يغتر بظاهر قوله: أنا مسلم. فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته، مثل قوله تعالى: « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه » [ البقرة:204 ] إلى قوله: « والله لا يحب الفساد » [ البقرة:205 ] وقال: « وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم » [ المنافقين: 4 ] الآية.

 

قوله تعالى: « أن تضل إحداهما » قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران ببن ذلك ضالا. ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها. وقرأ حمزة « إن » بكسر الهمزة على معنى الجزاء، والفاء في قوله: « فتذكر » جوابه، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل، وارتفع « تذكر » على الاستئناف، كما ارتفع قوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » [ المائدة: 95 ] هذا قول سيبويه. ومن فتح « أن » فهي مفعول له والعامل فيها محذوف. وانتصب « فتذكر » على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب بأن. قال النحاس: ويجوز « تضل » بفتح التاء والضاد، ويجوز تضل بكسر التاء وفتح الضاد. فمن قال: « تضل » جاء به على لغة من قال: ضَلِلْت تَضَل. وعلى هذا تقول تِضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر « أن تضل » بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني. وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة. تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما.

 

قوله تعالى: « فتذكر » خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة المرأة نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، قاله سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء. وفيه بعد، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر، وهو معنى قراءة الجماعة « فتذكر » بالتشديد، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت.

قلت: وإليها ترجع قراءة أبي عمرو، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى، يقال: تذكرت الشيء وأذكرته وذكرته بمعنى، قاله في الصحاح.

 

قوله تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس. وقال قتادة والربيع وابن عباس: أي لتحملها وإثباتها في الكتاب. وقال مجاهد: معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك. وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا، وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم. وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم، على ما يأتي. وقال ابن عطية: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء.

قلت: وقد يستلوح من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت. فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم. فإن قيل: هذه شهادة بالأجرة، قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم. وقد قال تعالى: « والعاملين عليها » [ التوبة: 60 ] ففرض لهم.

لما قال تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » دل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة، ومن أمثالهم: « في بيته يؤتى الحكم » .

وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء، وهو يخص عموم قوله: « من رجالكم » لأنه لا يمكنه أن يجيب، ولا يصح له أن يأتي، لأنه لا استقلال له بنفسه، وإنما يتصرف بإذن غيره، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية. نعم ! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

قال علماؤنا: هذا في حال الدعاء إلى الشهادة. فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ففرض الله الأداء عند الدعاء، فإذا لم يدع كان ندبا، لقوله عليه السلام: ( خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) رواه الأئمة. والصحيح أن أداءها فرض وان لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق، وقد قال تعالى: « وأقيموا الشهادة لله » [ الطلاق: 2 ] وقال: « إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » [ الزخرف: 86 ] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) . فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار.

لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جرحة في الشاهد والشهادة، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وهذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جرحة في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك. والصحيح الأول، لأن الذي يوجب جرحته إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر، والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا، وهذا واضح.

 

لا تعارض بين قوله عليه السلام: ( خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وبين قوله عليه السلام في حديث عمران بن حصين: ( إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - ثم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا - ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن ) أخرجهما الصحيحان. وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يتحمله ولا حمله. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بباب الجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كمقامي فيكم. ثم قال: ( يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور ) . الوجه الثاني: أن يراد به الذي يحمله الشره على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها، فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدل على هوى غالب على الشاهد. الثالث ما قاله إبراهيم النخعي راوي طرق بعض هذا الحديث: كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات.

 

قوله تعالى: « ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله » « تسأموا » معناه تملوا. قال الأخفش: يقال سئمت أسأم سأما وسآمة وسآما وسأْمة وسأَما، كما قال الشاعر:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا - لا أبالك - يسأم

« أن تكتبوه » في موضع نصب بالفعل. « صغيرا أو كبيرا » حالان من الضمير في « تكتبوه » وقدم الصغير اهتماما به. وهذا النهي عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكتب، ويقول أحدهم: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه، فأكد تعالى التحضيض في القليل والكثير. قال علماؤنا: إلا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوف النفس إليه إقرارا وإنكارا.

 

قوله تعالى: « ذلكم أقسط عند الله » معناه أعدل، يعني أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه. « وأقوم للشهادة » أي أصح وأحفظ. « وأدنى » معناه أقرب. و « ترتابوا » تشكوا.

قوله تعالى: « وأقوم للشهادة » دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها لما دخل عليه من الريبة فيها، ولا يؤدي إلا ما يعلم لكنه يقول: هذا خطي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه. قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة. واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى: « وما شهدنا إلا بما علمنا » [ يوسف: 81 ] . وقال بعض العلماء: لما نسب الله تعالى الكتابة إلى العدالة وسعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكر. ذكر ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الرجل يشهد على شهادة فينساها قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك أو خط يده. قال ابن المبارك: استحسنت هذا جدا. وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، وعن الرسل من قبله ما يدل على صحة هذا المذهب. والله أعلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في ( الأحقاف ) إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم » « أن » في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال الأخفش أبو سعيد: أي إلا أن تقع تجارة، فكان بمعنى وقع وحدث. وقال غيره: « تديرونها » الخبر. وقرأ عاصم وحده « تجارة » على خبر كان واسمها مضمر فيها. « حاضرة » نعت لتجارة، والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة، أو إلا أن تكون المبايعة تجارة، هكذا قدره مكي وأبو علي الفارسي، وقد تقدم نظائره والاستشهاد عليه. ولما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك: هذا فيما كان يدا بيد.

 

قوله تعالى: « تديرونها بينكم » يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض. ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك مبايعة الدين، فكان الكتاب توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب. فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من صاحبه، فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب، بالكتاب والشهادة والرهن. قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان، وبيع بأمانة، وقرأ هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب.

 

قوله تعالى: « وأشهدوا » قال الطبري: معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره. واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو الندب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي وابنه أبو بكر. هو على الوجوب، ومن أشدهم في ذلك عطاء قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث أو أقل من ذلك، فإن الله عز وجل يقول: « وأشهدوا إذا تبايعتم » . وعن إبراهيم قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت ولو دَسْتَجَةَ بَقَلٍ. وممن كان يذهب إلى هذا ويرجحه الطبري، وقال: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفا كتاب الله عز وجل، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن وجد كاتبا. وذهب الشعبي والحسن إلى أن ذلك على الندب والإرشاد لا على الحتم. ويحكى أن هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وزعم ابن العربي أن هذا قول الكافة، قال: وهو الصحيح. ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. قال وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وكتب. قال: ونسخة كتابه: ( بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدا - أو أمة - لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم ) . وقد باع ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد. ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة.

قلت: قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك. وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داود. وكان إسلامه بعد الفتح وحنين، وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا، ثم أسلم فحسن إسلامه. ذكره أبو عمر، وذكر حديثه هذا، وقال في آخره: قال الأصمعي: سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال: الإباق والسرقة والزنا، وسألته عن الخبثة فقال: بيع أهل عهد المسلمين. وقال الإمام أبو محمد بن عطية: والوجوب في ذلك قلق، أما في الدقائق فصعب شاق، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا، لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا. وحكى المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا: « وأشهدوا إذا تبايعتم » منسوخ بقوله: « فإن أمن بعضكم بعضا » [ البقرة: 283 ] وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري، وأنه تلا « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » إلى قوله: « فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته » [ البقرة: 283 ] . قال: نسخت هذه الآية ما قبلها. قال النحاس: وهذا قول الحسن والحكم وعبدالرحمن بن زيد. قال الطبري: وهذا لا معنى له، لأن هذا حكم غير الأول، وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله عز وجل: « وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا - أي فلم يطالبه برهن - فليؤد الذي اؤتمن أمانته » [ البقرة: 283 ] . قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون قوله عز وجل: « وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط » [ النساء: 43 ] الآية ناسخا لقوله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » [ المائدة: 5 ] الآية ولجاز أن يكون قوله عز وجل: « فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين » [ النساء: 92 ] ناسخا لقوله عز وجل: « فتحرير رقبة مؤمنة » [ النساء: 92 ] وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: « فإن أمن بعضكم بعضا » لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد، بل وردا معا. ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة. قال: وقد روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له: إن آية الدين منسوخة قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب. فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضرا وصفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.

قلت: هذا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد، وهو ما خرجه الدارقطني عن طارق بن عبدالله المحاربي قال: ( أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة: حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا. فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم ؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة. قال: ومعنا جمل أحمر، فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا نعم. قال بكم ؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر. قال: فما استوضعنا شيئا وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعينة: لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم. ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه. فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا ) . وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، الحديث. وفيه: فطفق الأعرابي يقول: هلم شاهدا يشهد أني بعتك - قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: ( بم تشهد ) ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه النسائي وغيره.

 

قوله تعالى: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » فيه ثلاثة أقوال:

الأول: لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها. قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم.

الثاني: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد. « ولا يضار » على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال: لأن بعده. « وإن تفعلوا فإن فسوق بكم » [ البقرة: 282 ] فالأولى أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يقال له: فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول. وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يضارر بكسر الراء الأولى.

الثالث: وقال مجاهد والضحاك وطاوس والسدي وروي عن ابن عباس: معنى الآية ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما، وقال: خالفتما أمر الله، ونحو هذا من القول فيضر بهما. وأصل « يضار » على هذا يضارر بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود « يضارر » بفتح الراء الأولى، فنهى الله سبحانه عن هذا، لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما. ولفظ المضارة، إذ هو من اثنين، يقتضي هذه المعاني. والكاتب والشهيد على القولين الأولين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله.

 

قوله تعالى: « وإن تفعلوا » يعني المضارة. « فإنه فسوق بكم » أي معصية، عن سفيان الثوري. فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق. وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله. وقوله « بكم » تقديره فسوق حال بكم.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم » وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا » [ الأنفال: 29 ] . والله أعلم.

 

الآية: 283 ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم )

 

لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر. فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن. وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي ) فمات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي بيانه آنفا.

 

قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر بنص التنزيل، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح. وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى، إذا قد تترتب الأعذار في الحضر، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود، متمسكين بالآية. ولا حجة فيها، لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال. وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد. وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله.

 

قوله تعالى: « ولم تجدوا كاتبا » قرأ الجمهور « كاتبا » بمعنى رجل يكتب. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية « ولم تجدوا كتابا » . قال أبو بكر الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مدادا يعني في الأسفار. وروي عن ابن عباس « كتّابا » . قال النحاس: هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها. وقلما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن، ونسق الكلام على كاتب، قال الله عز وجل قبل هذا: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل » وكتاب يقتضي جماعة. قال ابن عطية: كتابا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة: ولم تجدوا كتابا. وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ « كُتُبا » وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة. وأما قراءة أبي وابن عباس « كتّابا » فقال النحاس ومكي: هو جمع كاتب كقائم وقيام. مكي: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة. ونفي وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف.

 

قوله تعالى: « فرهان مقبوضة » وقرأ أبو عمرو وابن كثير « فرهن » بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقال الطبري: تأول قوم أن « رهنا » بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجاج عن الفراء. وقال المهدوي: « فرهان » ابتداء والخبر محذوف. والمعنى فرهان مقبوضة يكفي من ذلك. قال النحاس: وقرأ عاصم بن أبي النجود « فرهن » بإسكان الهاء، ويروى عن أهل مكة. والباب في هذا « رهان » ، كما يقال: بغل وبغال، وكبش وكباش، ورُهُن سبيله أن يكون جمع رهان، مثل كتاب وكتب. وقيل: هو جمع رهن، مثل سقف وسقف، وحلق وحلق، وفرش وفرش، ونشر ونشر، وشبهه. « ورهن » بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمة حذفت لثقلها. وقيل: هو جمع رهن، مثل سهم حشر أي دقيق، وسهام حشر. والأول أولى، لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت. وقال أبو علي الفارسي: وتكسير « رهن » على أقل العدد لم أعلمه جاء، فلو جاء كان قياسه أفْعُلا ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير، كما استغنى ببناء الكثير عن بناء القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وقد استغنى ببناء القليل عن الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين وهما فُعُل وفِعَال. الأخفش: فَعْل على فُعُل قبيح وهو قليل شاذ، قال: وقد يكون « رهن » جمعا للرهان، كأنه يجمع رهن على رهان، ثم يجمع رهان على رُهُن، مثل فراش وفرش.

 

معنى الرَّهن: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم، وهكذا حده العلماء، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار. وقال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:

الخبز واللحم لهم راهن وقهوة راووقها ساكب

قال الجوهري: ورهن الشيء رهنا أي دام. وأرهنت له الطعام والشراب أدمته لهم، وهو طعام راهن. والراهن: الثابت، والراهن: المهزول من الإبل والناس، قال:

إما تري جسمي خلا قد رهن هزلا وما مجد الرجال في السمن

قال ابن عطية: ويقال في معنى الرهن الذي هو الوثيقة من الرهن: أرهنت إرهانا، حكاه بعضهم. وقال أبو علي: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت. وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت بها، وهو في الغلاء خاصة. قال:

عيدية أرهنت فيها الدنانير

يصف ناقة. والعيد بطن من مهرة وإبل مهرة موصوفة بالنجابة. وقال الزجاج: يقال في الرهن: رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي والأخفش. قال عبدالله بن همام السلولي:

فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكا

قال ثعلب: الرواة كلهم على أرهنتهم، على أنه يجوز رهنته وأرهنته، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم، على أنه عطف بفعل مستقبل على فعل ماض، وشبهه بقولهم: قمت وأصك وجهه، وهو مذهب حسن، لأن الواو واو الحال، فجعل أصك حالا للفعل الأول على معنى قمت صاكا وجهه، أي تركته مقيما عندهم، لأنه لا يقال: أرهنت الشيء، وإنما يقال: رهنته. وتقول: رهنت لساني بكذا، ولا يقال فيه: أرهنت. وقال ابن السكيت: أرهنت فيها بمعنى أسلفت. والمرتهن: الذي يأخذ الرهن. والشيء مرهون ورهين، والأنثى رهينة. وراهنت فلانا على كذا مراهنة: خاطرته. وأرهنت به ولدي إرهانا: أخطرتهم به خطرا. والرهينة واحدة الرهائن، كله عن الجوهري. ابن عطية: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع تقول: رهنت رهنا، كما تقول رهنت ثوبا.

 

قال أبو علي: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت، والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه، لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له.

قلت: هذا هو المعتمد عندنا في أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن، وقاله أبو حنيفة، غير أنه قال: إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا لا يبطل حكم القبض المتقدم، ودليلنا « فرهان مقبوضة » ، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكما، وهذا واضح.

إذا رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك حكما، لقوله تعالى: « فرهان مقبوضة » قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم، وهذا ظاهر جدا. وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، لقوله تعالى: « أوفوا بالعقود » [ المائدة: 1 ] وهذا عقد، وقوله « بالعهد » [ الإسراء: 34 ] وهذا عهد. وقوله عليه السلام: ( المؤمنون عند شروطهم ) وهذا شرط، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته. وعندهما شرط في لزومه وصحته.

 

قوله تعالى: « مقبوضة » يقتضي بينونة المرتهن بالرهن. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله. واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: قبض العدل قبض. وقال ابن أبي ليلى وقتادة والحكم وعطاء: ليس بقبض، ولا يكون مقبوضا إلا إذا كان عند المرتهن، ورأوا ذلك تعبدا. وقول الجمهور أصح من جهة المعنى، لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضا لغة وحقيقة، لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل، وهذا ظاهر.

ولو وضع الرهن عل يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده، لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه. والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن.

لما قال تعالى: « مقبوضة » قال علماؤنا: فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع. خلافا لأبي حنيفة وأصحابه، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفا من عبد ولا سيف، ثم قالوا: إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضا فهو جائز إذا قبضاها. قال ابن المنذر: وهذا إجازة رهن المشاع، لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار. قال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه.

 

ورهن ما في الذمة جائز عند علمائنا، لأنه مقبوض خلافا لمن منع ذلك، ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه. قال ابن خويز منداد: وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه، ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة، لأن بيعه جائز، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهنا، قياسا على سلعة موجودة. وقال من منع ذلك: لأنه لا يتحقق إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن، لأنه لا بد أن يستوفي الحق منه عند المحل، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين.

 

روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ) . وأخرجه أبو داود وقال بدل ( يشرب ) في الموضعين: ( يحلب ) . قال الخطابي: هذا كلام مبهم ليس في نفس اللفظ بيان من يركب ويحلب، هل الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن ؟.

قلت: قد جاء ذلك مبينا مفسرا في حديثين، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك، فروى الدارقطني من حديث أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته ) . أخرجه عن أحمد بن علي بن العلاء حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة. وهو قول أحمد وإسحاق: أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة. وقال أبو ثور: إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن. وان كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد. وقاله الأوزاعي والليث. الحديث الثاني خرجه الدارقطني أيضا، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه - من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يغلق الرهن ولصاحبه غنمه وعليه غرمه ) . وهو قول الشافعي والشعبي وابن سيرين. وهو قول مالك وأصحابه. قال الشافعي: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة. قال الخطابي: وهو أولى الأقوال وأصحها، بدليل قوله عليه السلام: ( لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه ) . قال الخطابي: وقوله: ( من صاحبه أي لصاحبه ) . والعرب تضع « من » موضع اللام، كقولهم:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

قلت: قد جاء صريحا ( لصاحبه ) فلا حاجة للتأويل. وقال الطحاوي: كان ذلك وقت كون الربا مباحا، ولم ينه عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك. وقد أجمعت الأمة على أن الأمة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا يجوز له خدمتها. وقد قال الشعبي: لا ينتفع من الرهن بشيء. فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو منسوخ. وقال ابن عبدالبر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن. ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ) ما يرده ويقضي بنسخه. وإن كان بإذنه ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يخلق، ما يرده أيضا، فإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا. والله أعلم.

وقال ابن خويز منداد: ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان: إن كان من قرض لم يجز، وإن كان من بيع أو إجارة جاز، لأنه يصير بائعا للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدة معلومة فكأنه بيع وإجارة، وأما في القرض فلأنه يصير قرضا جر منفعة، ولأن موضوع القرض أن يكون قربة، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربا.

 

لا يجوز غلق الرهن، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله. وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا يغلق الرهن ) هكذا قيدناه برفع القاف على الخبر، أي ليس يغلق الرهن. تقول: أغلقت الباب فهو مغلق. وغلق الرهن في يد مرتهنه إذا لم يفتك، قال الشاعر:

أجارتنا من يجتمع يتفرق ومن يك رهنا للحوادث يغلق

وقال زهير:

وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

 

روى الدارقطني من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه ) . زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن. وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغلق الرهن ) . قال أبو عمر: وهكذا رواه كل من روى الموطأ عن مالك فيما علمت، إلا معن بن عيسى فإنه وصله، ومعن ثقة، إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبدالحميد الغضائري عن مجاهد بن موسى عن معن بن عيسى. وزاد فيه أبو عبدالله عمروس عن الأبهري بإسناده: ( له غنمه وعليه غرمه ) . وهذه اللفظة قد اختلف الرواة في رفعها، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما. ورواه ابن وهب وقال: قال يونس قال ابن شهاب: وكان سعيد بن المسيب يقول: الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أن معمرا ذكره عن ابن شهاب مرفوعا، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب. وتابعه على رفعه يحيى بن أبي أنيسة ويحيى ليس بالقوي. وأصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها. وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم وإن اختلفوا في تأويله ومعناه. ورواه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعا. قال أبو عمر: لم يسمعه إسماعيل من ابن أبي ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير عن ابن أبي ذئب، وعباد عندهم ضعيف لا يحتج به. وإسماعيل عندهم أيضا غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده، فإذا حدث عن الشاميين فحديثه مستقيم، وإذا حدث عن المدنيين وغيرهم ففي حديثه خطأ كثير واضطراب.

 

نماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن، أو كان نسلا كالولادة والنتاج، وفي معناه فسيل النخل، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأمهات، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار، لأنها ليست تبعا للأمهات في الزكاة ولا هي في صورها ولا في معناها ولا تقوم معها، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج. والله أعلم بصواب ذلك.

ورهن من أحاط الديْن بماله جائز ما لم يفلس، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء، قاله مالك وجماعة من الناس. وروي عن مالك خلاف هذا - وقاله عبدالعزيز بن أبي سلمة - أن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء، لأن من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشتري ويقضي، لم يختلف قول مالك في هذا الباب، فكذلك الرهن. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإن أمن بعضكم بعضا » شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل. يعني إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق وثقة فليؤد له ما عليه ائتمن. وقوله « فليؤد » من الأداء مهموز، وهو جواب الشرط ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين، لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا. وهو أمر معناها الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير.

 

قوله تعالى: « أمانته » الأمانة مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، كما قال تعالى: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم » [ النساء: 5 ] .

 

قوله تعالى: « وليتق الله ربه » أي في ألا يكتم من الحق شيئا. وقوله: « ولا تكتموا الشهادة » تفسير لقوله: « ولا يضارر » بكسر العين. نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد. وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق. وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال: ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي. وقرأ أبو عبدالرحمن « ولا يكتموا » بالياء، جعله نهيا للغائب.

 

إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات. وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال له: أحي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه.

 

قوله تعالى: « ومن يكتمها فإنه آثم قلبه » خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام، فعبر بالبعض عن الجملة، وقد تقدم في أول السورة. وقال الكيا: لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا. فقوله « آثم قلبه » مجاز، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني. يقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة. و « قلبه » رفع بـ « آثم » و « آثم » خبر « إن » ، وان شئت رفعت آثما بالابتداء، و « قلبه » فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن. وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير. وإن شئت كان « قلبه » بدلا من « آثم » بدل البعض من الكل. وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في « آثم » .

وهنا ثلاث مسائل:

الأولى: اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين. فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر » [ المائدة: 91 ] الآية. فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى: « ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم » [ النساء: 66 ] الآية.

الثانية: روى البخاري عن أبي هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها استدانت، فقيل: يا أم المؤمنين، تستدينين وليس عندك وفاء ؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه ) . وروى الطحاوي وأبو جعفر الطبري والحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها ) قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال: ( الدين ) . وروى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره: ( اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال ) . قال العلماء: ضلع الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه. وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أي ثقيل، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل، قاله صاحب العين. وقال صلى الله عليه وسلم: ( الدَّيْن شيْن الدِّين ) . وروي عنه أنه قال: ( الدين هم بالليل ومذلة بالنهار ) . قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه. وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك. ولهذا كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم، وهو الدين. فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟ فقال: ( إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ) . وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه السلام: ( نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه ) . وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله. والله اعلم

الثالثة: لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهي عنه. قال أبو الفرج الجوزي: ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم، إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل. فذكر المحاسبي في هذا كلاما كثيرا، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره. والحارث عندي أعذر من أبي حامد، لأن أبا حامد كان أفقه، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه. قال المحاسبي في كلام طويل له: ولقد بلغني أنه لما توفي عبدالرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نخاف على عبدالرحمن فيما ترك. فقال كعب: سبحان الله ! وما تخافون على عبدالرحمن ؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا. فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا، فمر بلحي بعير فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعبا، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك. فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر. فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألا بأس بما تركه عبدالرحمن ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ( الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا ) . قال المحاسبي: فهذا عبدالرحمن مع فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا، إلى غير ذلك من كلامه. ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة. قال أبو حامد: فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله. فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى. قال الجوزي: وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوء فهم المراد بالمال، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه، إذ جعله قواما للآدمي وما جعل قواما للآدمي الشريف فهو شريف، فقال تعالى: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما » [ النساء: 5 ] ونهى جل وعز أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال: « فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم » [ النساء: 6 ] . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) . وقال: ( ما نفعني مال كمال أبي بكر ) . وقال لعمرو بن العاص: ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) . ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه: ( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه ) . وقال كعب: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال: ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) . قال الجوزي: هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخر يندر، فلهذا خيف فتنته. فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات. وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته. ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه، فقال: ( أعطوه حيث بلغ سوطه ) . وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه: اللهم وسع علي. وقال إخوة يوسف: « ونزداد كيل بعير » . وقال شعيب لموسى: « فإن أتممت عشرا فمن عندك » . وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شبعت ؟ فقال: يا رب فقير يشبع من فضلك ؟. وهذا أمر مركوز في الطباع. وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال. من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم. وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتج بحديثه.

والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين، وعبدالرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين. ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبدالرحمن! أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أو يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه؟ هذا قلة فهم وفقه. ثم أينكر أبو ذر على عبدالرحمن، وعبدالرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب ؟ ثم تعلقه بعبدالرحمن وحده دليل على أنه لم يسير سير الصحابة؛ فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير. والبهار الحمل. وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف. وخلف ابن مسعود تسعين ألفا. وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد. وأما قوله: « إن عبدالرحمن يحبو حبوا يوم القيامة » فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبدالرحمن في القيامة؛ أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ؟ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان؛ وقال البخاري: ربما اضطرب حديثه. وقال أحمد: يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. وقال الدارقطني: ضعيف. وقوله: « ترك المال الحلال أفضل من جمعه » ليس كذلك، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء. وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به دينه ويصون به عرضه؛ فإن مات تركه ميراثا لمن بعده. وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول: المال في هذا الزمان سلاح. وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء؛ وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمم فقنعوا باليسير. فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم.

قلت: ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) . وسيأتي بيانه في « المائدة » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 284 ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « لله ما في السماوات وما في الأرض » تقدم معناه. « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » اختلف الناس في معنى قوله تعالى: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » على أقوال خمسة:

[ الأول ] أنها منسوخة، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » [ البقرة: 286 ] . وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا ) قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا قال: ( قد فعلت ) ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال: ( قد فعلت ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين » [ البقرة: 286 ] قال: ( قد فعلت ) : في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » وسيأتي.

الثاني: قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إنها محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.

الثالث: أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقاله مجاهد أيضا.

الرابع: أنها محكمة عامة غير منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا. روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: ( إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم ) فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله: « يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء » [ البقرة: 284 ] وهو قوله عز وجل: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » [ البقرة: 225 ] من الشك والنفاق. وقال الضحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه. وفي الخبر: ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يوم تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء ) فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في الباب، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه، لا يقال: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ) . فإنا نقول: ذلك محمول على أحكام الدنيا، مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة. وقال الحسن: الآية محكمة ليست بمنسوخة. قال الطبري: وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس وصحبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها. ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى، وهو [ القول الخامس ] : ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة: قال ابن عطية: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب، فكان في هذا البيان فرجهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها: ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ( قولوا سمعنا وأطعنا ) يجيء منه الأمر بأن يثبتوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران. فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى: « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين » [ الأنفال: 65 ] فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا واثبتوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ بعد ذلك. وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين. قال ابن عطية: وهذه الآية في « البقرة » أشبه شيء بها. وقيل: في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، واللفظ لمسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جل وعز حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ) . وقد قيل: إنها نزلت في الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله، قاله الواقدي ومقاتل. واستدلوا بقوله تعالى في ( آل عمران ) « قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه ـ من ولاية الكفار ـ يعلمه الله » [ آل عمران: 29 ] يدل عليه ما قبله من قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » [ آل عمران: 28 ] .

قلت: وهذا فيه بعد، لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بين في « آل عمران » والله أعلم. وقد قال سفيان بن عيينة: بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية « لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » .

 

قوله تعالى: « فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء » قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي « فيغفر ويعذب » بالجزم عطف على الجواب. وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع، أي فهو يغفر ويعذب. وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار « أن » . وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى: « فيضاعفه له » وقد تقدم. والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة، كما قال الشاعر:

ومتى ما يع منك كلاما يتكلم فيجبك بعقل

قال النحاس: وروي عن طلحة بن مصرف « يحاسبكم به الله يغفر » بغير فاء على البدل. ابن عطية: وبها قرأ الجعفي وخلاد. وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود. قال ابن جني: هي على البدل من « يحاسبكم » وهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر:

رويدا بني شيبان بعض وعيدكم تلاقوا غدا خيلي على سفوان

تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتداني

فهذا على البدل. وكرر الشاعر الفعل، لأن الفائدة فيما يليه من القول. قال النحاس: وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع، يكون في موضع الحال، كما قال الشاعر:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد

 

الآية: 285 ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير )

 

قوله تعالى: « آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه » روي عن الحسن ومجاهد والضحاك: أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم: جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال إنها كانت ليلة المعراج قال: لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ في السماوات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات. قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وأهل السماوات كلهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال الله تعالى: « آمن الرسول » على معنى الشكر أي صدق الرسول « بما أنزل إليه من ربه » فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال: « والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله » يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ؟ وهو قوله: « إن تبدوا ما في أنفسكم » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) يعني المرجع. فقال الله تعالى عند ذلك: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » يعني طاقتها ويقال: إلا دون طاقتها. « لها ما كسبت » من الخير « وعليها ما اكتسبت » من الشر، فقال جبريل عند ذلك: سل تعطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا » يعني إن جهلنا « أو أخطأنا » يعني إن تعمدنا، ويقال: إن عملنا بالنسيان والخطأ. فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان. فسل شيئا آخر فقال: « ربنا ولا تحمل علينا إصرا » يعني ثقلا « كما حملته على الذين من قبلا » وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفف الله عن هذه الأمة وحط عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة. ثم قال: « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » يقول: لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال: ما تشق علينا، لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه « واعف عنا » من ذلك كله « واغفر لنا » وتجاوز عنا، ويقال: « واعف عنا » من المسخ « واغفر لنا » من الخسف « وارحمنا » من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال: « أنت مولانا » يعني ولينا وحافظنا « فانصرنا على القوم الكافرين » فاستجيبت دعوته. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) ويقال إن الغزاة: إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع أوحى الله هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك. ولهذه الآية تفسير آخر، قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله سبحانه وتعالى: « لله ما في السماوات وما في الأرض » ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: « آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه » أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي: « لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير » [ المائدة: 284 ] فإنه لما أنزل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: « آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » [ البقرة: 285 ] . فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت » « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » قال: ( نعم ) « ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا » قال: ( نعم ) « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » قال: ( نعم ) « واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين » قال: ( نعم ) . أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

قال علماؤنا: قوله في الرواية الأولى ( قد فعلت ) وهنا قال: ( نعم ) دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم. ولما تقرر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا: سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن بيت ثابت بن قيس بن شماس يزهر كل ليلة بمصابيح. قال: ( فلعله يقرأ سورة البقرة ) فسئل ثابت قال: قرأت من سورة البقرة « آمن الرسول » نزلت حين شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم. على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( فلعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو إسرائيل ) قالوا: بل سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تعالى ثناء عليهم: « آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه » فقال صلى الله عليه وسلم: ( وحق لهم أن يؤمنوا ) .

 

قوله تعالى: « آمن » أي صدق، وقد تقدم. والذي أنزل هو القرآن. وقرأ ابن مسعود « وآمن المؤمنون كل آمن بالله » على اللفظ، ويجوز في غير القرآن « آمنوا » على المعنى. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر « وكتبه » على الجمع. وقرؤوا في « التحريم » كتابه، على التوحيد. وقرأ أبو عمرو هنا وفي « التحريم » و « كتبه » على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي « وكتابه » على التوحيد فيهما. فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله. ويجوز في قراءة من وحد أن يراد به الجمع يكون الكتاب اسما للجنس فتستوي القراءتان، قال الله تعالى: « فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب » [ البقرة: 213 ] . قرأت الجماعة « ورسله » بضم السين، وكذلك « رسُلنا ورسُلكم ورسلك » ، إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف « رسْلنا ورسْلكم » ، وروي عنه في « رسلك » التثقيل والتخفيف. قال أبو علي: من قرأ « رسلك » بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد، مثل عنق وطنب. وإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقال معناه مكي. وقرأ جمهور الناس « لا نفرق » بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، فحذف القول، وحذف القول كثير، قال الله تعالى: « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم » [ الرعد: 23 ] : أي يقولون سلام عليكم. وقال: « ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا » [ آل عمران: 191 ] أي يقولون ربنا، وما كان مثله. وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب « لا يفرق » بالياء، وهذا على لفظ كل. قال هارون: وهي في حرف ابن مسعود « لا يفرقون » . وقال « بين أحد » على الإفراد ولم يقل آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجميع، كما قال تعالى: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] فـ « حاجزين » صفة لأحد، لأن معناه الجمع. وقال صلى الله عليه وسلم: ( ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم ) وقال رؤبة:

إذا أمور الناس دينت دينكا لا يرهبون أحدا من دونكا

ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

 

قوله تعالى: « وقالوا سمعنا وأطعنا » فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين. وقيل: سمع بمعنى قبل، كما يقال: سمع الله لمن حمده فلا يكون فيه حذف. وعلى الجملة فهذا القول يقتضي المدح لقائله. والطاعة قبول الأمر. وقوله « غفرانك » مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قاله الزجاج. وغيره: نطلب أو أسأل غفرانك. « وإليك المصير » إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل: ( إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه ) فسأل إلى آخر السورة.

 

الآية: 286 ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين )

 

قوله تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري. والوسع: الطاقة والجدة. وهذا خبر جزم. نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر. وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول:

ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد

 

اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة. واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فقال فرقة: وقع في نازلة أبي لهب، لأنه كلفه بالإيمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لا يؤمن، لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وقالت فرقة: لم يقع قط. وقد حكى الإجماع على ذلك. وقوله تعالى: « سيصلى نارا » [ المسد: 3 ] معناه إن وافى، حكاه ابن عطية. « ويكلف » يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا. فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا. فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة.

 

قوله تعالى: « لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت » يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي. وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية. وهو مثل قوله: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] « ولا تكسب كل نفس إلا عليها » [ الأنعام: 164 ] . والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات بـ « لها » من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات بـ « عليها » من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول: لي مال وعلى دين. وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال: « فمهل الكافرين أمهلهم رويدا » [ الطارق: 17 ] . قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى.

 

في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة. ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض. وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد. قال ابن عطية: وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية.

 

قال الكيا الطبري: قوله تعالى: « لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت » يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه. ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: « ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل. وقالوا: إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة » .

 

قوله تعالى: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » المعنى: أعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) أي إثم ذلك. وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله ؟ اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات. وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع.

 

قوله تعالى: « ربنا ولا تحمل علينا إصرا » أي ثقلا قال مالك والربيع: الإصر الأمر الغليظ الصعب. وقال سعيد بن جبير: الإصر شدة العمل. وما غلظ على بني إسرائيل من البول ونحوه، قال الضحاك: كانوا يحملون أمورا شدادا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة:

يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا

عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير، وقاله ابن زيد أيضا. وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى: « وأخذتم على ذلكم إصري » . [ آل عمران: 81 ] والإصر: الضيق والذنب والثقل. والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر أصرا حبسه. والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري: والموضع مأصِر ومأصَر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. قال ابن خويز منداد: ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ المؤمنون: 78 ] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدين يسر فيسروا ولا تعسروا ) . اللهم شق على من شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قلت: ونحوه قال الكيا الطبري قال: يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين.

 

أعلى