فهرس تفسير القرطبي للسور

31 - تفسير القرطبي سورة لقمان

التالي السابق

سورة لقمان

مقدمة السورة

 

وهي مكية، غير آيتين قال قتادة: أولهما « ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام » [ لقمان:27 ] إلى آخر الآيتين. وقال ابن عباس: ثلاث آيات، أولهن « ولو أنما في الأرض » [ لقمان:27 ] . وهي أربع وثلاثون آية.

 

الآيات: 1 - 5 ( الم، تلك آيات الكتاب الحكيم، هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )

 

قوله تعالى: « الم، تلك آيات الكتاب الحكيم » مضى الكلام في فواتح السور. و « تلك » في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هذه تلك. ويقال: « تيك آيات الكتاب الحكيم » بدلا من تلك. والكتاب: القرآن. والحكيم: المحكم؛ أي لا خلل فيه ولا تناقض. وقيل ذو الحكمة وقيل الحاكم « هدى ورحمة » بالنصب على الحال؛ مثل: « هذه ناقة الله لكم آية » [ الأعراف: 73 ] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي. وقرأ حمزة: « هدى ورحمة » بالرفع، وهو من وجهين: أحدهما: على إضمار مبتدأ؛ لأنه أول آية. والآخر: أن يكون خبر « تلك » . والمحسن: الذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. وقيل: هم المحسنون في الدين وهو الإسلام؛ قال الله تعالى: « ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله » [ النساء: 125 ] الآية. « الذين يقيمون الصلاة » في موضع الصفة، ويجوز الرفع على القطع بمعنى: هم الذين، والنصب بإضمار أعني. وقد مضى الكلام في هذه الآيات.

 

الآية: 6 ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث » « من » في موضع رفع بالابتداء. و « لهو الحديث » : الغناء؛ في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وهو ممنوع بالكتاب والسنة؛ والتقدير: من يشتري ذا لهو أو ذات لهو؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . أو يكون التقدير: لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو.

قلت: هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية قوله تعالى: « وأنتم سامدون » [ النجم: 61 ] . قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية؛ اسمدي لنا؛ أي غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى: « واستفزز من استطعت منهم بصوتك » [ الإسراء: 64 ] قال مجاهد: الغناء والمزامير. وقد مضى في « الإسراء » الكلام فيه. وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله » ) إلى آخر الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة وعلّي ابن يزيد يضعّف في الحديث؛ قاله محمد بن إسماعيل. قال ابن عطية: وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعّي.

قلت: هذا أعلى ما قيل في هذه الآية، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء. روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال: سئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث » فقال: الغناء والله الذي لا إله إلا هو؛ يرددها ثلاث مرات. وعن ابن عمر أنه الغناء؛ وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال قال عبدالله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب؛ وقاله مجاهد، وزاد: إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن: لهو الحديث المعازف والغناء. وقال القاسم بن محمد: الغناء باطل والباطل في النار. وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال: قال الله تعالى: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » [ يونس: 32 ] أفحق هو؟! وترجم البخاري ( باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك ) ، وقوله تعالى: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا » فقوله: ( إذا شغل عن طاعة الله ) مأخوذ من قوله تعالى: « ليضل عن سبيل الله » . وعن الحسن أيضا: هو الكفر والشرك. وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم: رستم، واسفنديار؛ فكان يجلس بمكة، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول: حديثي هذا أحسن من حديث محمد؛ حكاه الفراء والكلبي وغيرهما. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه؛ ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وهذا القول والأول ظاهر في الشراء. وقالت طائفة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل. قال ابن عطية: فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها؛ على حد قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » [ البقرة: 16 ] ؛ اشتروا الكفر بالإيمان، أي استبدلوه منه واختاروه عليه. وقال مطرف: شراء لهو الحديث استحبابه. قتادة: ولعله لا ينفق فيه مالا، ولكن سماعه شراؤه.

قلت: القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب؛ للحديث المرفوع فيه، وقول الصحابة والتابعين فيه. وقد زاد الثعلبي والواحدي في حديث أبي أمامة: ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) . وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ) . وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علّي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بعثت بكسر المزامير ) خرجه أبو طالب الغيلاني. وخرج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بعثت بهدم المزامير والطبل ) . وروى الترمذي من حديث علّي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها: إذا اتخذت القينات والمعازف ) . وفي حديث أبي هريرة: ( وظهرت القيان والمعازف ) . وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة ) . وروى أسد بن موسى عن عبدالعزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر قال: بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: ( أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني ) . وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثله، وزاد بعد قوله ( المسك: ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي، وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ) . فقيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: ( قراء أهل الجنة ) خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره: ( فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . إلى غير ذلك. وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك. ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه ) .

 

ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء. وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن؛ فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح؛ كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام. قال ابن العربّي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو. وفي اليراعة تردد. والدف مباح. الجوهريّ: وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة. قال القشيريّ: ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح ) فكن يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار. وقد قيل: إن الطبل في النكاح كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث

 

الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة، فإن لم يدم لم ترد. وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وذكر أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبريّ قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب؛ وهو مذهب سائر أهل المدينة؛ إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا. وقال ابن خويز منداد: فأما مالك فيقال عنه: إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها. وروي عنه أنه قال: تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب، فقالت لي أمي: أي بنّي! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك، فطلب العلوم الدينية؛ فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا. قال أبو الطيب الطبري: وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة: إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه؛ إلا ما روي عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال: وأما مذهب الشافعّي فقال: الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال: وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبدالعزيز إباحة الغناء، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات؛ قال: وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد؛ ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية. فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا؛ ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا؟ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. قال أبو الفرج: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق.

 

وهذا دليل على أن الغناء محظور؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم. وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي خمر لأيتام؟ فقال: ( أرِقْها ) . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى. قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه. وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيدالله العنبري؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالسواد الأعظم. ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) . قال أبو الفرج: وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص.

قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز. وقد ادعى أبو عمر بن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. وقد مضى في الأنعام عند قوله: « وعنده مفاتح الغيب » [ الأنعام: 59 ] وحسبك.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها. أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله. وقال أبو الطيب الطبري: أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز، سواء كانت حرة أو مملوكة. قال: وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته؛ ثم غلظ القول فيه فقال: فهي دياثة. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها.

 

قوله تعالى: « ليضل عن سبيل الله » قراءة العامة بضم الياء؛ أي ليضل غيره عن طريق الهدى، وإذا أضل غيره فقد ضل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء ) على اللازم؛ أي ليضل هو نفسه. « ويتخذها هزوا » قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على « من يشتري » ويجوز أن يكون مستأنفا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: « ويتخذها » بالنصب عطفا على « ليضل » . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله: « بغير علم » والوقف على قوله: « هزوا » ، والهاء في « يتخذها » كناية عن الآيات. ويجوز أن يكون كناية عن السبيل؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر. « أولئك لهم عذاب مهين » أي شديد يهينهم قال الشاعر:

ولقد جزعت إلى النصارى بعدما لقي الصليب من العذاب مهينا

 

الآية: 7 ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم )

 

قوله تعالى: « وإذا تتلى عليه آياتنا » يعني القرآن. « ولى » أي أعرض. « مستكبرا » نصب على الحال. « كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا » ثقلا وصمما. وقد تقدم. « فبشره بعذاب أليم » تقدم.

 

الآيات: 8 - 9 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم » لما ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين. « خالدين فيها » أي دائمين. « وعد الله حقا » أي وعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه. « وهو العزيز الحكيم » تقدم.

 

الآيات: 10 - 11 ( خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « خلق السماوات بغير عمد ترونها » تكون « ترونها » في موضع خفض على النعت لـ « عمد » فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من « السماوات » ولا عمد ثم البتة. النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفا، ولا عمد ثم؛ قاله مكي. ويكون « بغير عمد » التمام. وقد مضى في « الرعد » الكلام في هذه الآية. « وألقى في الأرض رواسي » أي جبالا ثوابت. « أن تميد بكم » في موضع نصب؛ أي كراهية أن تميد. والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد. « وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم » عن ابن عباس: من كل لون حسن. وتأوله الشعبي على الناس؛ لأنهم مخلوقون من الأرض؛ قال: من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم، ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم. وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب، وظاهر القرآن يدل على ذلك.

 

قوله تعالى: « هذا خلق الله » مبتدأ وخبر. والخلق بمعنى المخلوق؛ أي هذا الذي ذكرته مما تعاينون « خلق الله » أي مخلوق الله، أي خلقها من غير شريك. « فأروني » معاشر المشركين « ماذا خلق الذين من دونه » يعني الأصنام. « بل الظالمون » أي المشركون « في ضلال مبين » أي خسران ظاهر. « وما » استفهام في موضع رفع بالابتداء وخبره « ذا » وذا بمعنى الذي. و « خلق » واقع على هاء محذوفة؛ تقديره فأروني أي شيء خلق الذين من دونه؛ والجملة في موضع نصب بـ « أروني » وتضمر الهاء مع « خلق » تعود على الذين؛ أي فأروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه. وعلى هذا القول تقول: ماذا تعلمت، أنحو أم شعر. ويجوز أن تكون « ما » في موضع نصب بـ « أروني » و « ذا » زائد؛ وعلى هذا القول يقول: ماذا تعلمت، أنحوا أم شعرا.

 

الآية: 12 ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا لقمان الحكمة » مفعولان. ولم ينصرف « لقمان » لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين؛ فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم ينصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان، وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين قد زال؛ قاله النحاس. وهو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم؛ كذا نسبه محمد بن إسحاق. وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة؛ ذكره السهيلي. قال وهب: كان ابن أخت أيوب. وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب. الزمخشري: وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل كان من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل. وقال سعيد ابن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة؛ وعلى هذا جمهور أهل التأويل إنه كان وليا ولم يكن نبيا. وقال بنبوته عكرمة والشعبي؛ وعلى هذا تكون الحكمة النبوة. والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى - وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل - قاضيا في بني إسرائيل، أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، أي عظيم الشفتين؛ قاله ابن عباس وغيره. وروي من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه، فمّن عليه بالحكمة، وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق؛ فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت علّي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني؛ ذكره ابن عطية. وزاد الثعلبي: فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه المظلوم من كل مكان، إن يعن فبالحرى أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه؛ فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها. ثم نودي داود بعده فقبلها - يعني الخلافة - ولم يشترط ما اشترطه لقمان، فهوى في الخطيئة غير مرة، كل ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يوازره بحكمته؛ فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء، وأعطى داود الخلافة وابتلي بالبلاء والفتنة. وقال قتادة: خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة؛ فاختار الحكمة على النبوة؛ فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح وهو ينطق بها؛ فقيل كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي.

واختلف في صنعته؛ فقيل: كان خياطا؛ قاله سعيد بن المسيب، وقال لرجل أسود: لا تحزن من أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان. وقيل: كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب. وقال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وقيل: كان راعيا، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأدائي الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني؛ قاله عبدالرحمن بن زيد بن جابر. وقال خالد الربعي: كان نجارا؛ فقال له سيده: اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين؛ فأتاه باللسان والقلب؛ فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبثها مضغتين؛ فألقى اللسان والقلب؛ فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب؟! فقال له: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.

قلت: هذا معناه مرفوع في غير ما حديث؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة؛ منها قوله عليه السلام: ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه ورجليه... ) الحديث. وحكم لقمان كثيرة مأثورة هذا منها. وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا.

قلت: وهذا أيضا مرفوع معنى، قال صلى الله عليه وسلم: ( كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ) . رواه أبو هريرة خرجه البخاري. وقال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع، وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأل، فأدركته الحكمة فسكت؛ فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله. فقال له داود: بحق ما سميت حكيما.

 

قوله تعالى: « أن اشكر لله » فيه تقديران: أحدهما أن تكون « أن » بمعنى أي مفسرة؛ أي قلنا له اشكر. والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها؛ كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم؛ إلا أن هذا الوجه عنده بعيد. وقال الزجاج: المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن يشكر الله تعالى. وقيل: أي بأن اشكر لله تعالى فشكر؛ فكان حكيما بشكره لنا. والشكر لله: طاعته فيما أمر به. وقد مضى القول في حقيقته لغة ومعنى في « البقرة » وغيرها. « ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه » أي من يطع الله تعالى فإنما يعمل لنفسه؛ لأن نفع الثواب عائد إليه. « ومن كفر » أي كفر النعم فلم يوحد الله « فإن الله غني » عن عبادة خلقه « حميد » عند الخلق؛ أي محمود. وقال يحيى بن سلام: « غني » عن خلقه « حميد » في فعله.

 

الآية: 13 ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )

 

قوله تعالى: « وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه » قال السهيلي: اسم ابنه ثاران؛ في قول الطبري والقتبي. وقال الكلبي: مشكم. وقيل أنعم؛ حكاه النقاش. وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما.

قلت: ودل على هذا قوله: وفي صحيح مسلم وغيره عن عبدالله قال: لما نزلت « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » [ الأنعام: 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) . واختلف في قوله: « إن الشرك لظلم عظيم » فقيل: إنه من كلام لقمان. وقيل: هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى؛ ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » [ الأنعام: 82 ] أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم؛ فأنزل الله تعالى: « إن الشرك لظلم عظيم » فسكن إشفاقهم، وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى؛ وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد. و « إذ » في موضع نصب بمعنى اذكر. وقال الزجاج في كتابه في القرآن: إن « إذ » في موضع نصب بـ « آتينا » والمعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. النحاس: وأحسبه غلطا؛ لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك. وقال: « يا بنيِّ » بكسر الياء؛ لأنها دالة على الياء المحذوفة، ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده؛ وقد مضى في « هود » القول في هذا. وقوله: « يا بني » ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق؛ كما يقال للرجل: يا أخي، وللصبي هو كويس.

 

الآيات: 14 - 15 ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « ووصينا الإنسان بوالديه » هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان. وقيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه؛ أخبر الله به عنه؛ أي قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى. وقيل: أي وإذ قال لقمان لابنه؛ فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه؛ أي قلنا له اشكر لله، وقلنا له ووصينا الإنسان. وقيل: وإذ قال لقمان لابنه، لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه؛ ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص؛ كما تقدم في « العنكبوت » وعليه جماعة المفسرين.

وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب؛ ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة؛ على أن هذا أقوى من الندب؛ لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها.

 

لما خص تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة؛ وأشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبّر؟ قال: ( أمك ) قال ثم من؟ قال: ( أمك ) قال ثم من؟ قال: ( أمك ) قال ثم من؟ قال: ( أبوك ) فجعل له الّربع من المبرة كما في هذه الآية؛ وقد مضى هذا كله في « الإسراء » .

 

قوله تعالى: « وهنا على وهن » أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف. وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثقفّي: « وهنا على وهن » بفتح الهاء فيهما؛ ورويت عن أبي عمرو، وهما بمعنى واحد. قال قعنب بن أم صاحب:

هل للعواذل من ناه فيزجرها إن العواذل فيها الأين والوهن

يقال: وهن يهن، ووهن يوهن ووهن، يهن؛ مثل ورم يرم. وانتصب « وهنا » على المصدر؛ ذكره القشيري. النحاس: على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر؛ أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور: « وفصاله » وقرأ الحسن ويعقوب: « وفصله » وهما لغتان، أي وفصاله في انقضاء عامين؛ والمقصود من الفصال الفطام، فعبّر بغايته ونهايته. ويقال: انفصل عن كذا أي تميّز؛ وبه سمي الفصيل.

 

الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبّي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحّرم؛ وقد مضى هذا في « البقرة » مستوفى.

 

قوله تعالى: « أن اشكر لي » « أن » في موضع نصب في قول الزجاج، وأن المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس: وأجود منه أن تكون « أن » مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان، وللوالدين على نعمة التربية. وقال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.

 

قوله تعالى: « وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما » قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل؛ كما تقدم في الآية قبلها.

 

قوله تعالى: « وصاحبهما في الدنيا معروفا » نعت لمصدر محذوف؛ أي مصاحبا معروفا؛ يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا. و « معروفا » أي ما يحسن.

والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقير، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبّي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليه خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علّي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: ( نعم ) . وراغبة قيل معناه: عن الإسلام. قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العّزى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبدالرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.

 

قوله تعالى: « واتبع سبيل من أناب إلي » وصية لجميع العالم؛ كأن المأمور الإنسان. و « أناب » معناه مال ورجع إلى الشيء؛ وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وحكى النقاش أن المأمور سعد، والذي أناب أبو بكر؛ وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبدالرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا: آمنت! قال نعم؛ فنزلت فيه: « أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه » [ الزمر: 9 ] فلما سمعها الستة آمنوا؛ فأنزل الله تعالى فيهم: « والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى » إلى قوله « أولئك الذين هداهم الله » [ الزمر: 17 - 18 ] . قيل: الذي أناب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر؛ فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة. ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.

 

الآية: 16 ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير )

 

المعنى: وقال لقمان لابنه يا بنّي. وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى. وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحّس لا يدرك لها ثقلا، إذ لا ترجح ميزانا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حّبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه؛ أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتباع سبيل من أناب إلّي.

قلت: ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن مسعود: ( لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك ) . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا؛ سبحانه لا شريك له. وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة التي تقع في سفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية. وقيل: المعنى أنه أراد الأعمال، المعاصي والطاعات؛ أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله؛ أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه. وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى. وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف.

 

قوله تعالى: « مثقال حبة » عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة، وتصلح للأعمال؛ أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة. ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر: قراءة عبدالكريم الجزري « فتكن » بكسر الكاف وشد النون، من الكّن الذي هو الشيء المغطى. وقرأ جمهور القّراء: « إن تك » بالتاء من فوق « مثقال » بالنصب على خبر كان، واسمها مضمر تقديره: مسألتك، على ما روي، أو المعصية والطاعة على القول الثاني؛ ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له: « يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة » الآية. فما زال ابنه يضطرب حتى مات؛ قاله مقاتل. والضمير في « إنها » ضمير القصة؛ كقولك: إنها هند قائمة؛ أي القصة إنها إن تك مثقال حبة. والبصريون يجيزون: إنها زيد ضربته؛ بمعنى إن القصة. والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا. وقرأ نافع: « مثقال » بالرفع، وعلى هذا « تك » يرجع إلى معنى خردلة؛ أي إن تك حبة من خردل. وقيل: أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه؛ لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة؛ كما قال: « فله عشر أمثالها » [ الأنعام: 160 ] فأنث وإن كان المثل مذكرا؛ لأنه أراد الحسنات. ومن هذا قول الشاعر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم

و « تك » ها هنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا.

 

قوله تعالى: « فتكن في صخرة » قيل: معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم؛ أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض. وقال ابن عباس: الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض. وقيل: هي الصخرة على ظهر الحوت. وقال السّدي: هي صخرة ليست في السموات والأرض، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم؛ لأنه قال: « أو في السموات أو في الأرض » وفيهما غنية عن قوله: « فتكن في صخرة » ؛ وهذا الذي قاله ممكن، ويمكن أن يقال: قوله: « فتكن في صخرة » تأكيد؛ كقوله: « اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق » [ العلق: 2 ] ، وقول: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا » [ الإسراء: 1 ] .

 

الآية: 17 ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور )

 

قوله تعالى: « يا بني أقم الصلاة » وصّى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجر عن المنكر، وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع. ولقد أحسن من قال:

وابدأ بنفسك فانهها عن غَيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

في أبيات تقدم في « البقرة » ذكرها. « واصبر على ما أصابك » يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر؛ فهو إشعار بأن المغير أحيانا؛ وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله؛ وأما على اللزوم فلا، وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في « آل عمران والمائدة » . وقيل: أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل؛ وهذا قول حسن لأنه يعّم. « إن ذلك من عزم الأمور » قال ابن عباس: من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره. وقيل: إن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور؛ أي مما عزمه الله وأمر به؛ قاله ابن جريج. ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة. وقول ابن جريج صوب.

 

الآية: 18 ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )

 

قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن: « تصاعر » بالألف بعد الصاد. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد: « تُصَعّر » وقرأ الجحدري: « تُصْعر » بسكون الصاد؛ والمعنى متقارب. والصعر: الميل؛ ومنه قول الأعرابي: وقد أقام الدهر صعري، بعد أن أقمت صعره. ومنه قول عمرو بن حنّي التغلبي:

وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقومِ

وأنشده الطبري: « فتقوما » . قال ابن عطية: وهو خطأ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة. وفي بيت آخر: أقمنا له من خّده المتصعر قال الهروي: « لا تصاعر » أي لا تعرض عنهم تكبرا عليهم؛ يقال: أصاب البعير صعر وصيد إذ أصابه داء يلوي منه عنقه. ثم يقال للمتكبر: فيه صعر وصيد؛ فمعنى: « لا تصعر » أي لا تلزم خّدك الصعر. وفي الحديث: ( يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر ) والأصعر: المعرض بوجهه كبرا؛ وأراد رذالة الناس الذين لا دين لهم. وفي الحديث: ( كل صعار ملعون ) أي كل ذي أبهة وكبر.

 

معنى الآية: ولا تمل خّدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم. وهذا تأويل ابن عباس وجماعة. وقيل: هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره؛ فالمعنى: أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه. وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

قلت: ومن هذا المعنى ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) . فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه. وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك؛ وكذلك يصنع هو بك. ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسره ويسرك؛ فمعنى التدابر موجود فيمن صعر خده، وبه فسر مجاهد الآية. وقال ابن خويز منداد: قوله: « ولا تصاعر خّدك للناس » كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة؛ ونحو ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس للإنسان أن يذل نفسه ) .

 

قوله تعالى: « ولا تمش في الأرض مرحا » أي متبخترا متكبرا، مصدر في موضع الحال، وقد مضى في « الإسراء » . وهو النشاط والمشي فرحا في غير شغل وفي غير حاجة. وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء؛ فالمرح مختال في مشيته. روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا وعبدالله بن عبيد بن عمير قال: فجلسنا إلى عبدالله بن عمرو بن العاصي فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غّرك بي! لقد كنت تمشي حولي فّدادا. قال ابن عائذ قلت لغُضيف: ما الفدّاد يا أبا أسماء؟ قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانا. قال أبو عبيد: والمعنى ذا مال كثير وذا خيلاء. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من جّر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ) . والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى؛ قاله مجاهد. وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك.

 

الآية: 19 ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )

 

قوله تعالى: « واقصد في مشيك » لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال: « واقصد في مشيك » أي توسّط فيه. والقصد: ما بين الإسراع والبطء؛ أي لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن ) . فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع - فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت؛ والله أعلم. وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقّدم بيانه في « الفرقان » .

 

قوله تعالى: « واغضض من صوتك » أي انقص منه؛ أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع؛ وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مُرْيَطاؤك! والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير. والمريطاء: ما بين السرة إلى العانة. « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » أي أقبحها وأوحشها؛ ومنه أتانا بوجه منكر. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه؛ ومن استفحاشهم لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين؛ كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى.

 

في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير؛ لأنها عالية. وفي الصحيح عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا ) . وقد روي: أنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانا. وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وقال عطاء: نهيق الحمير دعاء على الظلمة.

 

وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة؛ وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، حتى قال شاعرهم:

جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم

ويعد على الأين عدوى الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم

فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار؛ فجعلهم في المثل سواء.

 

قوله تعالى: « لصوت الحمير » اللام للتأكيد، ووحد الصوت وإن كان مضافا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت. ويقال: صوت تصويتا فهو مصوت. ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت؛ كقولهم: رجال مال ونال؛ أي كثير المال والنوال.

 

الآيات: 20 - 21 ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير )

 

قوله تعالى: « ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض » ذكر نعمه على بني آدم، وأنه سخر لهم « ما في السموات » من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم. « وما في الأرض » عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى. « وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة » أي أكملها وأتمها. وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: « وأصبغ » بالصاد على بدلها من السين؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا. والنعم: جمع نعمة كسدرة وسدر ( بفتح الدال ) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص. الباقون: « نعمة » على الإفراد؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى: « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » [ إبراهيم: 34 ] . وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح. وقيل: إن معناها الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: ( الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ) . قال النحاس: وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل: « ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم » [ المائدة: 6 ] قال: يدخلكم الجنة. وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة. وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل. وقال المحاسبي: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى. وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات. وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة، كلها ترجع إلى هذا.

 

قوله تعالى: « ومن الناس من يجادل في الله » تقدمت. نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن ربك، من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته؛ قاله مجاهد. وقد مضى هذا في « الرعد » . وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول: إن الملائكة بنات الله؛ قاله ابن عباس. « يجادل » يخاصم « بغير علم » أي بغير حجة « ولا هدى ولا كتاب منير » أي نير بين؛ إلا الشيطان فيما يلقي إليهم. « وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم » [ الأنعام: 121 ] وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد. « أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير » فيتبعونه.

 

الآية: 22 ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور )

 

قوله تعالى: « ومن يسلم وجهه إلى الله » أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى. « وهو محسن » لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع؛ نظيره: « ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن » [ طه: 112 ] . وفي حديث جبريل قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . « فقد استمسك بالعروة الوثقى » قال ابن عباس: لا إله إلا الله؛ وقد مضى في « البقرة » . وقد قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار: « ومن يسلم » . النحاس: و « يسلم » في هذا أعرف؛ كما قال عز وجل: « فقل أسلمت وجهي لله » [ آل عمران: 20 ] ومعنى: « أسلمت وجهي لله » قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل؛ ويكون « يسلم » على التكثير؛ إلا أن المستعمل في سلمت أنه بمعنى دفعت؛ يقال سلمت في الحنطة، وقد يقال أسلمت. الزمخشري: قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: « ومن يسلم » بالتشديد؛ يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى؛ فإن قلت: ماله عدي بإلى، وقد عدي باللام في قول عز وجل: « بلى من أسلم وجهه لله » ؟ [ البقرة: 112 ] قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله؛ أي خالصا له. ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه. « وإلى الله عاقبة الأمور » أي مصيرها.

 

الآيات: 23 - 24 ( ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور، نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ )

 

قوله تعالى: « ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا » أي نجازيهم بما عملوا. « إن الله عليم بذات الصدور » . « نمتعهم قليلا » أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. « ثم نضطرهم » أي نلجئهم ونسوقهم. « إلى عذاب غليظ » وهو عذاب جهنم. ولفظ « من » يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: « كفره » ثم قال: « مرجعهم » وما بعده على المعنى.

 

الآيات: 25 - 26 ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد )

 

قوله تعالى: « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله » أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره. « قل الحمد لله » أي على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره. « بل أكثرهم لا يعلمون » أي لا ينظرون ولا يتدبرون. « لله ما في السماوات والأرض » أي ملكا وخلقا. « إن الله هو الغني » أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم لينفعهم. « الحميد » أي المحمود على صنعه.

 

الآية: 27 ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم )

 

لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، وأنها لا نهاية لها. وقال القفال: لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى؛ والمخلوق لا بد له من نهاية، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق. وقد مضى الكلام في معنى « كلمات الله » في آخر « الكهف » . وقال أبو علّي: المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود. وهذا نحو مما قاله القفال، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة؛ لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور. ومعنى نزول الآية: يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم. قال ابن عباس: إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد، كيف عنينا بهذا القول « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » [ الإسراء: 85 ] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( التوراة قليل من كثير ) ونزلت هذه الآية، والآية مدنية. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه عز وجل علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون؛ فلو سمى كل دابة وحدها، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال، وما زاد فيها في كل زمان، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر.

قلت: هذا معنى قول القفال، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. وقال قوم: إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر؛ فنزلت وقال السّدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد! فنزلت.

 

قوله تعالى: « والبحر يمده » قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء، وخبره في الجملة التي بعدها، والجملة في موضع الحال؛ كأنه قال: والبحر هذه حاله؛ كذا قدرها سيبويه. وقال بعض النحويين: هو عطف على « أن » لأنها في موضع رفع بالابتداء. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: « والبحر » بالنصب على العطف على « ما » وهي اسم « أن » . وقيل: أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه. وقرأ ابن هرمز والحسن: « يمده » ؛ من أمّد. قالت فرقة: هما بمعنى واحد. وقالت فرقة: مّد الشيء بعضه بعضا؛ كما تقول: مّد النيل الخليج؛ أي زاد فيه. وأمّد الشيء ما ليس منه. وقد مضى هذا في « البقرة. وآل عمران » . وقرأ جعفر بن محمد: « والبحر مداده » . « ما نفدت كلمات الله » تقدم. « إن الله عزيز حكيم » . وقال أبو عبيدة: البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام.

 

الآية: 28 ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير )

 

قوله تعالى: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » قال الضحاك: المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة. قال النحاس: وهكذا قّدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وقال مجاهد: لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون. ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » ، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة. « إن الله سميع » لما يقولون « بصير » بما يفعلون.

 

الآيات: 29 - 30 ( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » تقدم. « وسخر الشمس والقمر » أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماما للمنافع. « كل يجري إلى أجل مسمى » قال الحسن: إلى يوم القيامة. قتادة: إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه. « وأن الله بما تعملون خبير » أي من قدر على هذه الأشياء فلا بد من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقراءة العامة « تعملون » بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمّي ونصر بن عاصم والدوري عن أبي عمرو بالياء على الخبر. « ذلك » أي فعل الله تعالى ذلك لتعلموا وتقروا « بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل » أي الشيطان؛ قاله مجاهد. وقيل: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان. « وأن الله هو العلي الكبير » العلّي في مكانته، الكبير في سلطانه.

 

الآية: 31 ( ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الفلك » أي السفن « تجري » في موضع الخبر. « في البحر بنعمة الله » أي بلطفه بكم وبرحمته لكم في خلاصكم منه. وقرأ ابن هرمُز: « بنعمات الله » جمع نعمة وهو جمع السلامة، وكان الأصل تحريك العين فأسكنت. « ليريكم من آياته » « من » للتبعيض، أي ليريكم جري السفن؛ قال يحيى بن سلام. وقال ابن شجرة: « من آياته » ما تشاهدون من قدرة الله تعالى فيه. النقاش: ما يرزقهم الله منه. وقال الحسن: مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء. « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » أي صبار لقضائه شكور على نعمائه. وقال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن بهذه الصفة؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان. والآية: العلامة، والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء. قال الشعبّي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ ألم تر إلى قوله تعالى: « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » وقوله: « وفي الأرض آيات للموقنين » [ الذاريات: 20 ] وقال عليه السلام: ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) .

 

الآية: 32 ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور )

 

قوله تعالى: « وإذا غشيهم موج كالظلل » قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب؛ وقاله قتادة: جمع ظلة؛ شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها. قال النابغة في وصف بحر:

يماشيهن أخضر ذو ظلال على حافاته فلق الدنان

وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر. وأصله من الحركة والازدحام؛ ومنه: ماج البحر، والناس يموجون. قال كعب:

فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع

وقرأ محمد ابن الحنفية: « موج كالظلال » جمع ظل. « دعوا الله مخلصين له الدين » موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه؛ وقد تقدم. « فلما نجاهم » يعني من البحر. « إلى البر فمنهم مقتصد » قال ابن عباس: موف بما عاهد عليه الله في البحر. النقاش: يعني عدل في العهد، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر. وقال الحسن: « مقتصد » مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: « مقتصد » في القول مضمر للكفر. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر. ودل على المحذوف قوله تعالى: « وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور » الختار: الغدار. والختر: أسوأ الغدر. قال عمرو بن معد يكرب:

فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى:

بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختار

قال الجوهري: الختر الغدر؛ يقال: ختره فهو ختار. الماوردي: وهو قول الجمهور. وقال عطية: إنه الجاحد. ويقال: ختر يختِر ويختُر ( بالضم والكسر ) خترا؛ ذكره القشيري، وجحد الآيات إنكار أعيانها. والجحد بالآيات إنكار دلائلها.

 

الآية: 33 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس اتقوا ربكم » يعني الكافر والمؤمن؛ أي خافوه ووحدوه. « واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا » تقدم معنى « يجزي » في البقرة وغيرها. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحله القسم ) . وقال: ( من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهّن كّن له حجابا من النار ) . قيل له: المعنّي بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر. والمعنّي بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة. « إن وعد الله حق » أي البعث « فلا تغرنكم » أي تخدعنكم « الحياة الدنيا » بزينتها وما تدعوا إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة « ولا يغرنكم بالله الغرور » قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين، وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره، وهو الذي يغّر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة؛ وفي سورة « النساء » : « يعدهم ويمنيهم » . وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين؛ أي لا تغتروا. كأنه مصدر غّر يغر غرورا. قال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة.

 

الآية: 34 ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )

 

زعم الفراء أن هذا معنى النفي؛ أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى. قال أبو جعفر النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل: « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » [ الأنعام: 59 ] : ( إنها هذه ) :

قلت: قد ذكرنا في سورة « الأنعام » حديث ابن عمر في هذا، خرجه البخاري. وفي حديث جبريل عليه السلام قال: ( أخبرني عن الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا ) قال: ( صدقت ) . لفظ أبي داود الطيالسّي. وقال عبدالله بن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس: « إن الله عنده علم الساعة، الآية إلى آخرها. وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبّي مرسل؛ فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه. ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك؛ حسبما تقدم ذكره في الأنعام. وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده. وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم، فقال لابن عباس: إن شئت نبأتك نجم ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول علّي الحول حتى أموت. قال: فأين موتك يا يهودّي؟ فقال: لا أدري. فقال ابن عباس: صدق الله. » وما تدري نفس بأي أرض تموت « فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما، ومات بعد عشرة أيام. ومات اليهودّي قبل الحول، ومات ابن عباس أعمى. قال علّي بن الحسين راوي هذا الحديث: هذا أعجب الأحاديث. وقال مقاتل: إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة، أتى النبّي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا، وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ذكره القشيري والماوردّي. وروى أبو المليح عن أبي عّزة الهذلي قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - » إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - بأي أرض تموت « ) ذكره الماوردّي، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود بمعناه. وقد ذكرناه في كتاب { التذكرة } مستوفى. وقراءة العامة: » وينزل « مشددا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزه والكسائي مخففا. وقرأ أبي بن كعب: » بأية أرض « الباقون » بأي أرض « . قال الفراء: اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي. وقيل: أراد بالأرض المكان فذكر. قال الشاعر: »

فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها

وقال الأخفش: يجوز مررت بجارية أي جارية، وأية جارية. وشبه سيبويه تأنيث « أي » بتأنيث كل في قولهم: كلتهن. « إن الله عليم خبير » « خبير » نعت لـ « عليم » أو خبر بعد خبر. والله تعالى أعلم.

 

أعلى