فهرس السور

58 - تفسير القرطبي سورة المجادلة

التالي السابق

سورة المجادلة

مقدمة السورة

 

سورة المجادلة مدنية في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 7 ] نزلت بمكة.

 

الآية: 1 ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير )

 

قوله تعالى: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله » التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل اسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدى ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله » خرجه ابن ماجة في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها » . وقال الماوردي: هي خولة بنت ثعلبة. وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف، لأن أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت أخو عباد بن الصامت.

وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خولة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عروة: وكان أمرا به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ( حرمتِ عليه ) فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: ( حرمت عليه ) فما زالت تراجعه ومراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أوحى إلي في هذا شيء ) فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: ( هو ما قلت لك ) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله » الآية.

وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال: إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس: ( اعتق رقبة ) قال: مالي بذلك يدان. قال: ( فصم شهرين متتابعين ) قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري. قال: ( فأطعم ستين مسكينا ) قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم. « إن الله سميع بصير » قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا، وفي الترمذي وسنن ابن ماجة: أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( أعتق رقبة ) قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: ( فصم شهرين ) فقلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: ( فأطعم ستين مسكينا ) الحديث. وذكر ابن العربي في أحكامه: روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد حرمت عليه ) فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حرمت عليه ) فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة : اسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها: ( اعتق رقبة ) قال: لا أجد. قال: ( صم شهرين متتابعين ) قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: ( فأطعم ستين مسكينا ) . قال: فأعني. فأعانه بشيء. قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أوس بن الصامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خويلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمة كانت لعبدالله بن أبي، وهي التي أنزل الله فيها « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا » [ النور: 33 ] لأنه كان يكرهها على الزنى. وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها، ومرة إلى أمها، ومرة إلى جدها، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبدالله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين.

 

قرئ « قد سمع الله » بالإدغام و « قد سمع الله » بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. وقال الحاكم أبو عبدالله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكى واشتكى بمعنى واحد. وقرئ « تحاورك » أي تراجعك الكلام و « تجادلك » أي تسائلك.

 

الآية: 2 ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور )

 

قوله تعالى: « الذين يظاهرون » قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف « يظاهرون » بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب « يظهرون » بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش « يظاهرون » بضم الياء وتخفيف الظاء والف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في « الأحزاب » . وفي قراءة أبى « يتظاهرون » وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك.

 

حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضى الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري.

 

أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكنايه الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت.

 

ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومت شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي.

 

إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الإمام الشافعي في قوله: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لأن كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.

 

إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم.

قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء، كما قال الكوفي والشافعي. وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم.

 

إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لأن قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين يقضي به فيه.

 

الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لأن مالكا يقول: إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الأمة في عموم قوله: « من نسائهم » لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الأمة، أصله الحلف بالله تعالى.

 

ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: « من نسائهم » وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة « التوبة » عند قوله تعالى « ومنهم من عاهد الله » [ التوبة: 75 ] الآية.

 

الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى: « منكم » يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: « وأشهدوا ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال.

 

قوله تعالى: « منكم » يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.

 

وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: « والذين يظهرون منكم من نسائهم » ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لا ظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحاق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها

 

من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته.

من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبدالله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شيء، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شيء، دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران.

يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى: « حتى تعلموا ما تقولون » [ النساء: 43 ] على ما تقدم في « النساء » بيانه. والله أعلم.

 

ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لأن قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، استغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجة والنسائي عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ( ما حملك على ذلك ) فقال: يا رسول الله! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يقربها حتى يكفر. وروى ابن ماجة والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا.

الثامنة عشر: إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شيء من ذلك، لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع.

 

فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأول هو المذهب. وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق.

 

قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء، لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ما هن أمهاتهم » أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة « أمهاتهم » بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى: « ما هذا بشرا » [ يوسف: 31 ] . وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما « أمهاتهم » بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون « ما هذا بشر » ، و « ما هن أمهاتهم » بالرفع. « إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم » أي ما أمهاتهم إلا الوالدات. وفي المثل: ولدك من دمي عقبيك. وقد تقدم القول في اللائي في « الأحزاب » . « وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا » أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع. والزور الكذب « وإن الله لعفو غفور » إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر.

 

الآيات: 3 - 4 ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « والذين يظاهرون من نسائهم » هذا ابتداء والخبر « فتحرير رقبة » وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله: « وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا » [ المجادلة: 2 ] فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عز وجل: « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة » وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الأول: أنه العزم على الوطء، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني: العزم على الإمساك بعد التظاهر منها، قال مالك. الثالث: العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئه، قال مالك في قول الله عز وجل: « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا » قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك: وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع: أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس: وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس: أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. السابع هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا: إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء.

وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال: « ثم يعودون لما قالوا » أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا » هو أنو يقول لها أنت علي كظهر أمي فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره.

قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل ممنه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الأول: أنه قال: « ثم » وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني: أن قوله تعالى: « ثم يعودون » يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث: أن قوله تعالى: « ثم يعودون » على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال وراها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقول: « من قبل أن يتماسا » . وهذا تفسير بالغ في فنه.

 

قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون » إلى ما كانوا عليه من الجماع « فتحرير رقبة » لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: « لما قالوا » متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال: « الحمد لله الذي هدانا لهذا » [ الأعراف: 43 ] وقال: « فاهدوهم إلى صراط الجحيم » [ الصافات: 23 ] وقال: « بأن ربك أوحى لها » [ الزلزلة: 5 ] وقال: « وأوحي إلى نوح » [ هود: 36 ] .

 

قوله تعالى: « فتحرير رقبة » أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها. فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لأن نصف العبدين في معنى العبدالواحد، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام، ودليلنا قوله تعالى: « فتحرير رقبة » وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا أشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا.

 

قوله تعالى: « من قبل أن يتماسا » أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء مر، القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ذلكم توعظون به » أي تؤمرون به « والله بما تعملون خبير » من التكفير وغيره.

 

من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه. وقال مالك: إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي.

 

ا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله: « متتابعين » . ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر وقياسا على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع.

 

ا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى: « من قبل أن يتماسا » وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم.

 

ن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.

 

ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك.

 

ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل: إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق.

فصل وفيه أربع مسائل: الأولى: ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار « من أوسط ما تطعمون » [ المائدة: 89 ] فواجب قصد الشبع. قال ابن العربي: وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبدالحكم: مد بمد هشام وهو الشبع ها هنا، لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط. وقال في رواية أشهب: مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم: قيل له: ألم تكن قلت مد هشام؟ قال: بلى، مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي. وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا.

قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى: « فإطعام ستين مسكينا » وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول، بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: « فإطعام ستين مسكينا » فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم.

الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى: « فتحرير رقبة » ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام. الرابعة: وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.

 

قوله تعالى: « ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله » أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة « لتؤمنوا » أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال: « ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله » أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله: « ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله » أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور. وقيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق. « وتلك حدود الله » أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة. « وللكافرين عذاب أليم » أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.

 

الآيات: 5 - 6 ( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين، يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد )

 

قوله تعالى: « إن الذين يحادون الله ورسوله » لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود، وهو مثل قوله تعالى: « ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله » [ الأنفال: 13 ] . وقيل: « يحادون الله » أي أولياء الله كما في الخبر: ( من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) . وقال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك. وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. « كبتوا » قال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا. وقال قتادة: اخزوا كما أخزي الذين من قبلهم. وقال ابن زيد: عذبوا. وقال السدي: لعنوا. وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق. وقيل: يوم بدر. والمراد المشركون. وقيل: المنافقون. « كما كبت الذين من قبلهم » قيل: « كبتوا » أي سيكبتون، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه. وقيل: هي بلغة مدحج. « وقد أنزلنا آيات بينات » فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم. « والله على كل شيء شهيد » .

 

قوله تعالى: « يوم » نصب بـ « عذاب مهين » أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. « يبعثهم الله جميعا » أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة « فينبئهم » أي يخبرهم « بما عملوا » في الدنيا « أحصاه الله » عليهم في صحائف أعمالهم « ونسوه » هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. « والله على كل شيء شهيد » مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.

 

الآية: 7 ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض » فلا يخفى عليه سر ولا علانية. « ما يكون من نجوى » قراءه العامة بالياء، لأجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى « ما تكون » بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ونجوى، ومنه قوله تعالى: « وإذ هم نجوى » [ الإسراء: 47 ] . وقوله تعالى: « ثلاثة » خفض بإضافة « نجوى » إليها. قال الفراء: « ثلاثة » نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت « نجوى » إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة « ثلاثة » و « خمسة » بالنصب على الحال بإضمار يتناجون، لأن نجوى يدل عليه، قال الزمخشري. ويجوز رفع « ثلاثة » على البدل من موضع « نجوى » . ثم قيل: كل سرار نجوى. وقيل: النجوى ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. « إلا هو رابعهم » يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه آفتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل: النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به، والمعنى: أن سمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. « ولا أدنى من ذلك ولا أكثر » قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع « من نجوى » قبل دخول « من » لأن تقديره ما يكون نجوى، و « ثلاثة يجوز أن يكون مرفوعا على محل » لا « مع » أدنى « كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في » البقرة « بيان هذا مستوفى.»

وقرأ الزهري وعكرمة « أكبر » بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم » قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك آكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. « ثم ينبئهم » يخبرهم « بما عملوا » من حسن وسيء « يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم » .

 

الآية: 8 ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير )

 

قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى » قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت.

 

روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى ) فقلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ - يعني الدجال - فرقا منه. فقال: ( ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه ) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ( الشرك الحفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ) ذكره الماوردي. وقرأ حمزة وخلف ورويس عن يعقوب « وينتجون » في وزن يفتعلون وهي قراءة عبدالله وأصحابه. وقرأ الباقون « ومتناجون » في وزن يتفاعلون، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: « إذا تناجيتم » [ المجادلة: 9 ] و « تناجوا » . النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا « يتناجون » و « ينتجون » واحد. ومعنى « بالإثم والعدوان » أي الكذب والظلم. « ومعصية الرسول » أي مخالفته. وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد « ومعصيات الرسول » بالجمع.

 

قوله تعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السلام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليكم ) في رواية، وفي رواية أخرى ( وعليكم ) . قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم ) فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم، وفضحا لبواطنهم، معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( أتدرون ما قال هذا ) قالوا: الله ورسول أعلم. قال: ( قال كذا ردوه علي ) فردوه، قال: ( قلت السام عليكم ) قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت ) فأنزل الله تعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » .

قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وثبت عن عائشة أنها قالت: جاء أناس من اليهود إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: ( مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال: ( ألست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم ) فنزلت هذه الآية « بما لم يحيك به الله » أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ) كذا الرواية ( وعليكم ) بالواو تكلم عليها العلماء، لأن الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سأمه ديننا وهو الملال. يقال: سئم يسأم سأمه وسأما. فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي لما أجزنا أنتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. روى الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: ( وعليكم ) فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ( بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا ) خرجه مسلم. ورواية الواو أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر.

وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السِّلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قال مالك أولى اتباعا للسنة، والله أعلم. وروى مسروق عن عائشة قالت: أتى النبي صلى ا لله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: ( وعليكم ) قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عائشة لا تكوني فاحشة ) فقالت: ما سمعت ما قالوا! فقال: ( أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم ) . وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش ) وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » إلى آخر الآية. الذام بتخفيف الميم هو العيب، وفي المثل ( لا تعدم الحسنات ذاما ) أي عيبا، ويهمز ولا يهمز، يقال: ذأمه يذأمه، مثل ذأب يذأب، والمفعول مذؤوم مهموزا، ومنه « مذؤوما مدحورا » [ الأعراف: 18 ] ويقال: ذامه يذومه مخففا كرامه يرومه.

 

قوله تعالى: « ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول » قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. « حسبهم جهنم » أي كافيهم جهنم عقابا غدا « فبئس المصير » أي المرجع.

 

الآية: 9 ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم » نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: « يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم » أي تساررتم. « فلا تتناجوا » هذه قراءة العامة. وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب « فلا تنتجوا » من الانتجاء « وتناجوا بالبر » أي بالطاعة « والتقوى » بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. « الذي إليه تحشرون » أي تجمعون في الآخرة.

 

الآية: 10 ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قوله تعالى: « إنما النجوى من الشيطان » أي من تزيين الشياطين « ليحزن الذين آمنوا » إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم « وليس بضارهم شيئا » أي التناجي « إلا بإذن الله » أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه.

 

في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد ) . وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه ) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ. وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: ( من أجل أن يحزنه ) أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به. وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان في أول الإسلام، لأن ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا، فإنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث. والله أعلم.

 

الآية: 11 ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس » لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله: « مقاعد للقتال » [ آل عمران: 121 ] . وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حول من غير أهل بدر: ( قم يا فلان وأنت يا فلان ) بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. « تفسحوا » أي توسعوا. وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له، ومنه قولهم: بلد فسيح ولك في كذا فسحة، وفسح يفسح مثل منع يمنع، أي وسع في المجلس، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم كرامة أي صار واسعا، ومنه مكان فسيح.

 

قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم « في المجالس » . وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه « إذا قيل لكم تفاسحوا » الباقون « تفسحوا في المجلس » فمن جمع فلأن قوله: « تفسحوا في المجالس » ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع لأن لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم.

قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم: ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) . وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. لفظ البخاري.

 

إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا ) . فرع: القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك، لأن فيه تفويت حظه.

 

إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه.

فرع: وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد.

 

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به ) قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « يفسح الله لكم » أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. « وإذا قيل انشزوا فانشزوا » قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل « يعكفون » [ الأعراف: 138 ] و « يعرشون » [ الأعراف: 137 ] والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، قال أكثر المفسرين. وقال مجاهد والضحاك: إذا نودي للصلاة فقوموا إليها. وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت. وقال الحسن ومجاهد أيضا: أي انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: « وإذا قيل أنشزوا » عن النبي صلى الله عليه وسلم « فانشزوا » فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف. وهذا هو الصحيح، لأنه يعم. والنشز الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه، أي ارتفع منه. وامرأة ناشز منتحية عن زوجها. وأصل هذا من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكره النحاس.

 

قوله تعالى: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات » أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم « درجات » أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم. ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: ( يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك ) وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن. وقال يحيى بن يحيى عن مالك: « يرفع الله الذين آمنوا منكم » الصحابة « والذين أوتوا العلم درجات » يرفع الله بها العالم والطالب للحق.

قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير « إذا جاء نصر الله والفتح » [ النصر: 1 ] فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. الحديث وقد مضى في آخر « الأعراف » . وفي صحيح مسلم أن نافع بن الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوتادي؟ فقال: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) وقد مضى أول الكتاب. ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب والحمد لله. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ) . وعنه صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ) . وعنه عليه الصلاة والسلام: ( يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

 

الآية: 12 ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول » « ناجيتم » ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلافه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول » [ المجادلة: 9 ] الآمة، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فأنتهى أهل الباطل عن النجوى، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية.

 

قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: « ذلك خير لكم وأطهر » ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر. وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبدالرحمن وقد ضعفه العلماء. والأمر في قوله تعالى: « ذلك خير لكم وأطهر » نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم.

 

روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة » سألته قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما ترى دينارا ) قلت لا يطيقونه. قال: ( فنصف دينار ) قلت: لا يطيقونه. قال: ( فكم ) قلت: شعيرة. قال: ( إنك لزهيد ) قال فنزلت: « أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات » [ المجادلة: 13 ] الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الأولى: نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية: النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لأبي حنيفة.

قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بن يدي نجواكم صدقة » كان لى دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى « أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات » [ المجادلة: 13 ] . وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.

 

قوله تعالى: « ذلك خير لكم » أي من إمساكها « وأطهر » لقلوبكم من المعاصي « فإن لم تجدوا » يعني الفقراء « فإن الله غفور رحيم » .

 

الآية: 13 ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون )

 

قوله تعالى: « أأشفقتم » استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: « أأشفقتم » أي أبخلتم بالصدقة، وقل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم « أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات » قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم » أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به « فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » فنسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لأن الله تعالى قال: « فإذ لم تفعلوا » وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. « وأطيعوا الله » في فرائضه « ورسوله والله خبير بما تعملون » في سننه « والله خبير بما تعملون » .

 

الآيات: 14 - 16 ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم » قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود « ما هم منكم ولا منهم » يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبدالله بن أبي وعبدالله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال: ( يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ) فدخل عبدالله بن نبتل - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال عليه الصلاة والسلام: ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( فعلت ) فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية. وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: ( يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر الشيطان ) فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شيء، فأنزل الله عز وجل: « يوم يبعثهم الله جميعا » [ المجادلة:18 ] إلى قوله: « هم الخاسرون » واليهود مذكرون في القرآن بـ « وغضب الله عليهم » [ الفتح: 6 ] . « أعد الله لهم » أي لهؤلاء المنافقين « عذابا شديدا » في جهنم وهو الدرك الأسفل. « إنهم ساء ما كانوا يعملون » أي بئس الأعمال أعمالهم « اتخذوا أيمانهم جنة » يستجنون بها من القتل. وقرأ الحسن وأبو العالية « إيمانهم » بكسر الهمزة هنا وفي « المنافقون » . أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم « فلهم عذاب مهين » في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار. والصد المنع « عن سبيل الله » أي عن الإسلام. وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.

 

الآيات: 17 - 19 ( لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون )

 

قوله تعالى: « لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا » أي من عذابه شيئا. وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت: « يوم يبعثهم الله جميعا » أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم « فيحلفون له كما يحلفون لكم » اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعرف ضرورية. وقال ابن عباس: هو قولهم « والله ربنا ما كنا مشركين » [ الأنعام: 23 ] . « ويحسبون أنهم على شيء » بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة. وقيل: « ويحسبون » في الدنيا « أنهم على شيء » لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والأول أظهر. وعن بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجهوهم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها ) . قال ابن عباس: صدقوا والله! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا « ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون » هم والله القدرية. ثلاثا.

 

قوله تعالى: « استحوذ عليهم الشيطان » أي غلب واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا. وقيل: قوي عليهم. وقال المفضل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم. يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم. « فأنساهم ذكر الله » أي أوامره في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهي عن معصيته. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. « أولئك حزب الشيطان » طائفته ورهطه « ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون » في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.

 

الآيات: 20 - 21 ( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز )

 

قوله تعالى: « إن الذين يحادون الله ورسوله » تقدم. « أولئك في الأذلين » أي من جملة الأذلاء لا أذل منهم « كتب الله لأغلبن » أي قضى الله ذلك. وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال. « أنا » توكيد « ورسلي » من بعث منهم بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بعث منمهم بالحجة فإنه غالب بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على. فارس والروم، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! والله إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: « لأغلبن أنا ورسلي » . نظيره: « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون » [ الصافات: 171 ] .

 

الآية: 22 ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون )

 

قوله تعالى: « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون » أي يحبون ويوالون « من حاد الله ورسوله » تقدم « ولو كانوا آباءهم » قال السدي: نزلت في عبدالله بن عبدالله بن أبي، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفضل له فأتاه بها، فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها. فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بل ترفق به وتحسن إليه ) . وقال ابن جريج: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ( أو فعلته، لا تعد إليه ) فقال: والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة وأبوعبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر » الآية. قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام. « أو أبناءهم » يعني أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر ) . « أو إخوانهم » يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر. « أو عشيرتهم » يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلا وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر. وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ما يأتي بيانه أول سورة « الممتحنة » إن شاء الله تعالى. بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب.

 

استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله » .

قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبدالعزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت ) « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان » أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد الله. وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس. وقيل: جعل، كقوله تعالى: « فاكتبنا مع الشاهدين » [ آل عمران: 53 ] أي اجعلنا. وقوله: « فسأكتبها للذين يتقون » [ الأعراف: 156 ] وقيل: « كتب » أي جمع، ومنه الكتيبة، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقراءة العامة بفتح الكاف من « كتب » ونصب النون من « الإيمان » بمعنى كتب الله وهو الأجود، لقوله تعالى: « وأيدهم بروح منه » وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم « كتب » على ما لم يسم فاعله « الإيمان » برفع النون. وقرأ زر بن حبيش « وعشيراتهم » بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم. وقيل: « كتب في قلوبهم » أي على قلوبهم، كما في قلوبهم « في جذوع النخل » [ طه: 71 ] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. « وأيدهم بروح منه » قواهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى. وقيل: برحمة من الله. وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام. « ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم » أي قبل أعمالهم « ورضوا عنه » فرحوا بما أعطاهم « أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون » قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهي! من حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه: « يا داود الغاضة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي » .

 

أعلى