فهرس السور

61 - تفسير البغوي سورة الصف

التالي السابق

سورة الصف

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( 3 )

( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال المفسرون: إن المؤمنين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا. فأنـزل الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين، فأنـزل الله تعالى « لِمَ تقولون ما لا تفعلون »

وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر، [ قالت الصحابة ] لئن لقينا بعده قتالا لنُفْرِغَنَّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيَّرهم الله بهذه الآية

وقال قتادة والضحاك: نـزلت في [ شأن ] القتال، كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، فنـزلت هذه الآية قال ابن زيد: نـزلت في المنافقين كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ) في موضع الرفع فهو كقولك: بئس رجلا أخوك، ومعنى الآية: أي عَظُمَ ذلك في المَقْت والبغض عند الله، أي: إن الله يبغض بغضًا شديدًا أن تقولوا ( مَا لا تَفْعَلُونَ ) أن تعِدوا من أنفسكم شيئا ثم لم توفوا به.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً ) أي يصفُّون أنفسهم عند القتال صفًا ولا يزولون عن أماكنهم ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قد رُصَّ بعضه ببعض [ أي ألزق بعضه ببعض ] وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل. وقيل كالرصاص. ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ) من بني إسرائيل: ( يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ) وذلك حين رموه بالأدرة ( وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) والرسول يعظم [ ويكرم ] ويحترم ( فَلَمَّا زَاغُوا ) عدلوا عن الحق ( أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أمالها عن الحق، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) قال الزجَّاج: يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.

 

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 6 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 )

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) والألف فيه للمبالغة في الحمد، وله وجهان: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل، وهو أكثر حمدًا لله من غيره، والثاني: أنه مبالغة في المفعول، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو [ أكثرهم مبالغة ] وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها. ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

( وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدعَى إِلَى الإسلامِ واللَّه لا يَهِدي القَومَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللَّهُ مُتِمُ نُورِهِ وَلَوَ كَرِهَ الكَافِرُون ) .

( هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ ) .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ ) . قرأ ابن عامر « تُنْجيكم » بالتشديد والآخرون بالتخفيف ( مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) . نـزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وجعل ذلك بمنـزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار. ثم بين تلك التجارة فقال:

( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( 14 )

( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ) . أي: ولكم خصلة أخرى في العاجل مع ثواب الآخرة تحبونها وتلك الخصلة: ( نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) . قال الكلبي: هو النصر على قريش، وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم. ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) . يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة. ثم حضَّهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ) . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو: « أنصارًا » بالتنوين « لله » بلام الإضافة، وقرأ الآخرون: « أنصار الله » مضافا لقوله: « نحن أنصار الله » .

( كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ ) . أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) . ؟ أي: من ينصرني مع الله؟ ( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) . قال ابن عباس: يعني في زمن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالوا: كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه الله إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: ( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) . عالين غالبين. وروى مغيرة عن إبراهيم قال: فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه .

 

أعلى