تفسير البغوي

69 - تفسير البغوي سورة الحاقة

التالي السابق

سورة الحاقة

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ ( 1 ) مَا الْحَاقَّةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( 3 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ( 4 ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ( 5 )

( الْحَاقَّةُ ) يعني القيامةُ سميت حاقة لأنها حقت فلا كاذبة لها. وقيل لأن فيها حواق الأمور وحقائقها ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال، أي يجب يقال: حق عليه الشيء إذا وجب يحق [ حقوقا ] قال الله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر- 71 ) قال الكسائي: « الحاقة » يوم الحق. ( مَا الْحَاقَّةُ ) هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها كما يقال: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) أي أنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال. ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ) قال ابن عباس وقتادة: بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. وقيل: كذبت بالعذاب الذي أوعدهم نبيهم حتى نـزل بهم فقرع قلوبهم. ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) أي بطغيانهم وكفرهم. قيل: هي مصدر، وقيل: نعت أي بفعلهم الطاغية وهذا معنى قول مجاهد، كما قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( الشمس- 11 ) وقال قتادة: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم. وقيل: طغَت على الخُزَّان [ فلم يكن لهم عليها سبيل ولم يعرفوا كم خرج منها ] كما طغى الماء على قوم نوح.

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( 6 ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( 7 ) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ( 8 )

( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) عتت على خُزَّانها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل، وجاوزت المقدار فلم يعرفوا كم خرج منها. ( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ) أرسلها عليهم. وقال مقاتل: سلطها عليهم ( سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ) قال وهب: هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد ورياح شديدة. قيل: سميت عجوزًا لأنها في عجز الشتاء. وقيل: سميت بذلك لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سربًا فتبعتها الريح، فقتلتها اليوم الثامن من نـزول العذاب وانقطع العذاب ( حُسُومًا ) قال مجاهد وقتادة: متتابعة ليس لها فترة، فعلى هذا فهو من حسم الكَيّ وهو أن يتابع على موضع الداء بالمكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء توبع: حاسم وجمعه حسوم، مثل شاهد وشهود، وقال الكلبي ومقاتل: حسومًا دائمة. وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم: القطع والمنع ومنه حسم الداء. قال الزجاج: [ الذي توجبه الآية فعلى معنى ] تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم. وقال عطية: حسومًا كأنها حسمت الخير عن أهلها ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا ) أي في تلك الليالي والأيام ( صَرْعَى ) هلكى جمع صريع ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) ساقطة، وقيل: خالية الأجواف. ( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) أي من نفس باقية، يعني: لم يبق منهم أحد.

 

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ( 9 ) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ( 10 ) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ( 11 )

( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ) قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه من جنوده وأتباعه، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن قبله من الأمم الكافرة ( وَالْمُؤْتَفِكَاتُ ) أي: قرى قوم لوط، يريد: أهل المؤتفكات. وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم، أي أهلكوا بذنوبهم ( بِالْخَاطِئَةِ ) أي بالخطيئة والمعصية وهي الشرك. ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ) يعني لوطًا وموسى ( فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ) نامية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة. وقيل: زائدة على عذاب الأمم. ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ) أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه، يعني زمن نوح عليه السلام ( حَمَلْنَاكُمْ ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ( فِي الْجَارِيَةِ ) في السفينة التي تجري في الماء.

لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ( 12 ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ( 13 ) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ( 14 ) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 15 ) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ( 16 ) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ( 17 )

( لِنَجْعَلَهَا ) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا مِنْ إِغْراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ( لَكُمْ تَذْكِرَةً ) عبرة وموعظة ( وَتَعِيَهَا ) قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها ( أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) أي: حافظة لما جاء من عند الله. قال قتادة: [ أذن ] سمعت وعقلت ما سمعت. قال الفَّراء: لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد . ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ) وهي النفخة الأولى. ( وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ ) رفعت من أماكنها ( فَدُكَّتَا ) كسرتا ( دَكَّةً ) كسرة ( وَاحِدَةً ) فصارتا هباءً [ منثورًا ] . ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) قامت القيامة. ( وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) ضعيفة. قال الفراء: وَهْيُها: تشُّقُقها . ( وَالْمَلَكُ ) يعني الملائكة ( عَلَى أَرْجَائِهَا ) نواحيها وأقطارها ما لم ينشق منها واحدها: « رجا » مقصورًا وتثنيته رَجَوَان. قال الضحاك: تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينـزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ ) أي فوق رءوسهم يعني الحملة ( يَوْمَئِذٍ ) يوم القيامة ( ثَمَانِيَةٌ ) أي ثمانية أملاك.

جاء في الحديث: « إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء » .

وجاء في الحديث: « لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر » .

أخبرنا أبو بكر بن الهيثم الترابي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أخبرنا محمد بن يحيى الخالدي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم [ الحنظلي ] حدثنا عبد الرزاق، حدثنا يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، حدثنا سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: « أتدرون ما هذا؟ قلنا: السحاب. قال: والمزن؟ قلنا: والمزن، قال: والعنان؟ فسكتنا فقال: هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض [ ثم بين ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض ] ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء » .

ويروى هذا عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس.

وروي عن ابن عباس أنه قال: « فوقهم يومئذ ثمانية » أي: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله .

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ( 18 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ( 19 ) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ( 20 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( 21 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 22 ) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ( 23 )

( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ) على الله ( لا تَخْفَى ) قرأ حمزة والكسائي: « لا يخفى » بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء ( مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) أي فِعْلة خافية. قال الكلبي: لا يخفى على الله منكم شيء. قال أبو موسى: يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعندها تطاير الصحف فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وذلك قوله عز وجل: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) تعالوا اقرءوا كتابيه الهاء في « كتابيه » هاء الوقف. ( إِنِّي ظَنَنْتُ ) علمت وأيقنت ( أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) أي: [ أني ] أحاسب في الآخرة. ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ ) حالة من العيش ( رَاضِيَة ) مرضية كقوله: مَاءٍ دَافِقٍ ( الطارق- 6 ) يريد: يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب. ( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ) رفيعة. ( قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ) ثمارها قريبة لمن يتناولها [ في كل أحواله ينالها ] قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا يقطعون كيف شاءوا. ويقال لهم:

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( 24 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( 25 ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( 26 ) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( 27 ) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ( 28 ) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( 29 ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( 30 ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( 31 ) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ( 32 )

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ ) قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ( فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ) الماضية يريد أيام الدنيا. ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ) قال ابن السائب: تُلْوَى يده اليسرى [ من صدره ] خلف ظهره ثم يعطى كتابه. وقيل: تنـزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه؛ ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه ) يتمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أعماله. ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ) يقول: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها والقاطعة للحياة، فلم أحيَ بعدها. و « القاضية » موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب. قال قتادة: يتمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت. ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ) لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا. ( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) ضلت عني حجتي، عن أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: زال عني ملكي وقوتي. قال مقاتل: يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك، يقول الله لخزنة جهنم: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) اجمعوا يده إلى عنقه. ( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي: أدخِلوه الجحيم. ( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ) فأدخلوه فيها. قال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع المَلكَ، فتدخل في دبره وتخرج من منخره . وقيل: تدخل في فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعًا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعا. قال الحسن: الله أعلم أي ذراع هو.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن [ رضاضة ] مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها » .

وعن كعب قال: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقه منها.

إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ( 33 ) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 34 )

( إِنَّه كَانَ لا يُؤمِنُ بِاللهَّ العَظِيم وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) لا يطعم المسكين في الدنيا ولا يأمر أهله بذلك.

 

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ( 35 ) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ ( 36 ) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ( 37 ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لا تُبْصِرُونَ ( 39 )

( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ) قريب ينفعه ويشفع له. ( وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ ) وهو صديد أهل النار، مأخوذ من الغسل، كأنه غسالة جروحهم وقروحهم. قال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله أهل النار. ( لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ) أي: الكافرون. ( فَلا أُقْسِمُ ) « لا » رد لكلام المشركين، كأنه قال: ليس كما يقول المشركون أقسم ( بِمَا تُبْصِرُونَ ) أي بما ترون وبما لا ترون. قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع [ المخلوقات ] والموجودات. وقال: أقسم بالدنيا والآخرة. وقيل: « ما تبصرون » ما على وجه الأرض، و « ما لا تبصرون » ما في بطنها. وقيل: « ما تبصرون » من الأجسام و « ما لا تبصرون » من الأرواح. وقيل: « ما تبصرون » الإنس و « ما لا تبصرون » الملائكة والجن. وقيل النعم الظاهرة والباطنة. وقيل: « ما تبصرون » ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم: و « ما لا تبصرون » ما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا.

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ( 44 ) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 )

( إِنَّهُ ) يعني القرآن ( لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) أي تلاوة رسول كريم، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. ( وَمَا هُوَ بِقَولِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَّا تُؤمِنُون وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: « يؤمنون ويذكرون » بالياء فيهما، وقرأ الآخرون بالتاء، وأراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا. وأنت تريد: لا تأتينا أصلا. ( تَنـزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ ) تخرَّص واختلق ( عَلَيْنَا ) محمد ( بَعْضَ الأقَاوِيلِ ) وأتى بشيء من عند نفسه. ( لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) قيل « مِنْ » صلة مجازه: لأخذناه وانتقمنا منه باليمين أي بالحق، كقوله: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( الصافات- 28 ) أي: من قبل الحق. وقال ابن عباس: لأخذناه بالقوة والقدرة. قال الشماخ في عرابة ملك اليمن:

إذا مــا رايــةٌ رُفِعَــت لمَجْــدٍ تلقَّاهــــا عُرَابَـــةُ بـــاليَمِين

أي بالقوة، عبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه.

وقيل: معناه لأخذنا بيده اليمنى، وهو مثل معناه: لأذللناه وأهنَّاه كالسلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من يريد يقول لبعض أعوانه: خذ بيده فأقمه.

ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) قال ابن عباس: أي نياط القلب وهو قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: الحبل الذي في الظهر. وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه. ( فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) مانعين يحجزوننا عن عقوبته، والمعنى: أن محمدًا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه، وإنما قال: « حاجزين » بالجمع وهو فعْل واحدٍ ردًا على معناه كقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ( البقرة- 285 ) . ( وَإِنَّهُ ) يعني القرآن ( لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) أي لعظة لمن اتقى عقاب الله. ( وَإِنَّا لَنَعلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يوم القيامة يندمون على ترك الإيمان به.

( وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ) أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.

( فَسَبِّح بِاسمِ رَبِّكَ العَظِيم ) .

 

أعلى