[ بسم الله الرحمن الرحيم ]
تفسير سورة البقرة
خمسة
وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة، ومائتان وستة وثمانون
آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر ما
ورد في فضلها
قال
الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار؛
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « البقرة
سَنَام القرآن وذروته، نـزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا، واستخرجت: اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [
البقرة:255 ] من تحت العرش، فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة، ويس:قلب
القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله، والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم
» انفرد به أحمد .
وقد رواه
أحمد - أيضًا- عن عارم، عن عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان -
وليس بالنَّهْدي- عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار، قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « اقرؤوها على موتاكم » يعني:يس
.
فقد
بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على
هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .
وقد روى
الترمذي من حديث حكيم بن جبير، وفيه ضعف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « لكل شيء سنام، وإن سَنَام
القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن:آية الكرسي » .
وفي مسند
أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي
هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا
تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان » وقال
الترمذي:حسن صحيح.
وقال أبو
عبيد القاسم بن سلام:حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن
سِنان بن سعد، عن أنس بن مالك، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه » .
سنان بن
سعد، ويقال بالعكس، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.
وقال أبو
عبيد:حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الأحوص، عن عبد
الله، يعني ابن مسعود، قال:إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة.
ورواه النسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال
الحاكم:صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال ابن
مَرْدُويه:حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أيوب بن سليمان
بن بلال، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن أبي
إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى،
ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن
أصفْرَ البيوت، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله » .
وهكذا
رواه النسائي في اليوم والليلة، عن محمد بن نصر، عن أيوب بن سليمان، به .
وروى
الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال:ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه
الشيطان وله ضراط . وقال:إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل
شيء لبابًا، وإن لباب القرآن المفصل . وروى - أيضا- من طريق الشعبي قال:قال عبد
الله بن مسعود:من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان
تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها وفي
رواية:لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق.
وعن سهل
بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لكل
شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث
ليال، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام » .
رواه أبو
القاسم الطبراني، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه .
وقد روى
الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن
عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم
ذوو عدد، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم، يعني ما معه من القرآن، فأتى على رجل
من أحدثهم سنًا، فقال: « ما معك يا فلان؟ » قال:معي
كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: « أمعك سورة البقرة؟ »
قال:نعم. قال: « اذهب فأنت أميرهم » فقال
رجل من أشرافهم:والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعلموا القرآن واقرؤوه، فإن
مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان،
ومثل من تعلمه، فيرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكِي على مسك » .
هذا لفظ
رواية الترمذي، ثم قال:هذا حديث حسن. ثم رواه من حديث الليث، عن سعيد، عن عطاء
مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم .
قال
البخاري:وقال الليث:حدثني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أسَيد بن حُضَير
قال:بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت،
فسكَنتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه
يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها،
فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اقرأ
يا ابن حُضَير » . قال:فأشفقت يا رسول الله أن
تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء،
فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: « وتدري
ما ذاك؟ » . قال:لا. قال: « تلك
الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم » .
وهكذا
رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب فضائل القرآن، عن عبد الله
بن صالح، ويحيى بن بكير، عن الليث به .
وقد روي
من وجه آخر عن أسيد بن حضير، كما تقدم ، والله أعلم.
وقد وقع
نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس، رضي الله عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد [
القاسم ] :حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن جرير بن يزيد:أن
أشياخ أهل المدينة حدثوه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له:ألم تر ثابت بن
قيس بن شماس؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح، قال: « فلعله
قرأ سورة البقرة » . قال:فسئل ثابت، فقال:قرأت
سورة البقرة .
وهذا
إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاما، ثم هو مرسل، والله أعلم.
[ ذكر
] ما ورد في فضلها مع آل عمران
قال
الإمام أحمد:حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة، عن
أبيه، قال:كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: « تعلموا
سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة » .
قال:ثم سكت ساعة، ثم قال: « تعلموا سورة البقرة، وآل
عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان،
أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره
كالرجل الشاحب، فيقول له:هل تعرفني؟ فيقول:ما أعرفك. فيقول:أنا صاحبك القرآن الذي
أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء
كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى
والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان:بم كسينا هذا؟ فيقال:بأخذ ولدكما
القرآن، ثم يقال:اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ
هَذًّا كان أو ترتيلا » .
وروى ابن
ماجه من حديث بشير بن المهاجر بعضه ، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم، فإن بشيرا هذا
أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي:ليس به بأس، إلا أن الإمام أحمد قال
فيه:هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب. وقال البخاري:يخالف
في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي:يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي:روى ما
لا يتابع عليه. وقال الدارقطني:ليس بالقوي.
قلت:ولكن
لبعضه شواهد؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي؛ قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الملك بن
عمرو حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، قال:سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اقرؤوا القرآن فإنه شافع
لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين:البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة
كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن
أهلهما » ثم قال: « اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة
، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة » .
وقد رواه
مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام
مَمْطور الحَبَشِيّ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [
الباهلي ] ، به .
الزهراوان:المنيران،
والغياية:ما أظلك من فوقك. والفِرْقُ:القطعة من الشيء، والصواف:المصطفة المتضامة .
والبطلة السحرة، ومعنى « لا تستطيعها » أي:لا
يمكنهم حفظها، وقيل:لا تستطيع النفوذ في قارئها، والله أعلم.
ومن ذلك
حديث النَّوّاس بن سِمْعان. قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد
بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جُبَير بن
نُفَير، قال:سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: « يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به،
تقدمهم سورة البقرة وآل عمران » . وضرب لهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: « كأنهما
غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف
يُحَاجَّان عن صاحبهما » .
ورواه
مسلم، عن إسحاق بن منصور، عن يزيد بن عبد ربه، به .
والترمذي،
من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، به . وقال:حسن غريب.
وقال أبو
عبيد:حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، قال:قال حماد:أحسبه عن
أبي منيب، عن عمه؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران، فلما قضى صلاته قال له كعب:أقرأت
البقرة وآل عمران؟ قال:نعم. قال:فوالذي نفسي بيده، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي
به استجاب . قال:فأخبرني به. قال:لا والله لا أخبرك، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه
بدعوة أهلك فيها أنا وأنت .
[ قال
أبو عبيد ] :وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن
عامر:أنه سمع أبا أمامة يقول:إن أخًا لكم أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع
جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان:هل فيكم من يقرأ سورة البقرة؟
وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران؟ قال:فإذا قال الرجل:نعم. دنتا منه بأعذاقهما، حتى
يتعلق بهما فتُخطران به الجبل .
[ قال
أبو عبيد ] وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي
عمران:أنه سمع أم الدرداء تقول:إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له، فقتله،
وإنه أقيدَ به ، فقتل، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة، حتى بقيت البقرة وآل
عمران جمعة، ثم إن آل عمران انسلت منه، وأقامت البقرة جمعة، فقيل لها: مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [
ق:29 ] قال:فخرجت كأنها السحابة العظيمة .
قال أبو
عبيد:أراه، يعني:أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه، فكانتا من آخر ما
بقي معه من القرآن.
وقال -
أيضًا- :حدثنا أبو مُسْهِر الغساني، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي:أن يزيد بن
الأسود الجُرَشي كان يحدث :أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم، برئ من النفاق حتى
يمسي، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح، قال:فكان يقرؤهما كل يوم وليلة
سوى جزئه .
[ قال
أيضًا ] :وحدثنا يزيد، عن وقاء بن إياس، عن سعيد بن جبير، قال:قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب- من
القانتين .
فيه
انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعة
واحدة .
[ ذكر
] ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو
عبيد:حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن سعيد بن بشير، عن قتادة،
عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « أعطيت
السبع الطُّوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان
الزبور، وفضلت بالمفصّل » .
هذا حديث
غريب، وسعيد بن بشير، فيه لين.
وقد رواه
أبو عبيد [ أيضا ] ، عن عبد الله بن صالح، عن
الليث، عن سعيد بن أبي هلال، قال:بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال...
فذكره، والله أعلم. ثم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، مولى
المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن حبيب بن هند الأسلمي، عن عروة، عن عائشة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: « من أخذ السبع فهو حَبْر » .
وهذا
أيضًا غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي، روى عنه عمرو بن أبي
عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا، فالله
أعلم.
وقد رواه
الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، وحسين، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر، به .
ورواه -
أيضًا- عن أبي سعيد، عن سليمان بن بلال، عن حبيب بن هند، عن عروة، عن عائشة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أخذ
السبع الأوَل من القرآن فهو حَبْر » .
قال
أحمد:وحدثنا حسين، حدثنا ابن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم مثله .
قال عبد
الله بن أحمد:وهذا أرى فيه، عن أبيه، عن الأعرج، ولكن كذا كان في الكتاب بلا « أبي » ، أغفله
أبي، أو كذا هو مرسل، ثم قال أبو عبيد:حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن
جبير، في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [
الحجر:87 ] ، قال:هي السبع الطول:البقرة، وآل عمران، والنساء،
والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. قال:وقال مجاهد:هي السبع الطول. وهكذا قال
مكحول، وعطية بن قيس، وأبو محمد الفارسي ،وشَداد بن عبيد الله، ويحيى بن الحارث
الذماري في تفسير الآية بذلك، وفي تعدادها، وأن يونس هي السابعة.
فصل
والبقرة
جميعها مدنية بلا خلاف، قال بعض العلماء:وهي مشتملة على ألف خبر، وألف أمر، وألف
نهي.
وقال
العادون:آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى
وعشرون كلمة، وحروفها خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، فالله أعلم.
قال ابن
جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس:أنـزل بالمدينة سورة البقرة.
وقال
خَصيف:عن مجاهد، عن عبد الله بن الزبير، قال:أنـزل بالمدينة سورة البقرة.
وقال
الواقدي:حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي الزِّناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن
أبيه، قال:نـزلت البقرة بالمدينة.
وهكذا
قال غير واحد من الأئمة والعلماء، والمفسرين، ولا خلاف فيه.
وقال ابن
مَرْدُويه:حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [
الفارسي ] حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عُبيس بن ميمون، عن موسى بن أنس
بن مالك، عن أبيه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا
تقولوا:سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن
قولوا:السورة التي يذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كله » .
هذا حديث
غريب لا يصح رفعه، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص، وهو ضعيف الرواية، لا
يحتج به. وقد ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود:أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل
البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم قال :هذا مقام الذي أنـزلت عليه سورة البقرة.
أخرجاه .
وروى ابن
مَرْدُويه، من حديث شعبة، عن عقيل بن طلحة، عن عتبة بن فرقد قال:رأى النبي صلى
الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا ، فقال: « يا
أصحاب سورة البقرة » . وأظن هذا كان يوم حنين، حين
ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: « يا
أصحاب الشجرة » ، يعني أهل بيعة الرضوان. وفي
رواية: « يا أصحاب البقرة » ؛
لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه . وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة، جعل
الصحابة يفرون لكثافة حَشْر بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون:يا أصحاب
سورة البقرة، حتى فتح الله عليهم . رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الم ( 1 )
قد اختلف
المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال:هي مما استأثر الله
بعلمه، فردوا علمها إلى الله، ولم يفسروها [
حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم به،
وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خثيم، واختاره أبو حاتم بن حبان ] .
ومنهم من
فسَّرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:إنما هي أسماء
السور [ قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في
تفسيره:وعليه إطباق الأكثر، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ] ،
ويعتضد هذا بما ورد في الصحيحين، عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: ( الم )
السجدة، و ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ) .
وقال
سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:أنه قال: ( الم ) و حم و
المص و ص فواتح افتتح الله بها القرآن.
وكذا قال
غيره:عن مجاهد. وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود، عن شبل، عن ابن أبي
نجيح، عنه، أنه قال: ( الم ) ، اسم
من أسماء القرآن.
وهكذا
قال قتادة، وزيد بن أسلم، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد:أنه اسم
من أسماء السور ، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن، فإنه يبعد أن يكون المص اسما
للقرآن كله؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول:قرأت المص ، إنما ذلك عبارة عن
سورة الأعراف، لا لمجموع القرآن. والله أعلم.
وقيل:هي
اسم من أسماء الله تعالى. فقال الشعبي:فواتح السور من أسماء الله تعالى، وكذلك قال
سالم بن عبد الله، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وقال شعبة عن السدي:بلغني
أن ابن عباس قال: ( الم ) اسم من
أسماء الله الأعظم . هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة.
ورواه
ابن جرير عن بُنْدَار، عن ابن مَهْدِي، عن شعبة، قال:سألت السدي عن حم و طس و ( الم ) ،
فقال:قال ابن عباس:هي اسم الله الأعظم.
وقال ابن
جرير:وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو النعمان، حدثنا شعبة، عن إسماعيل السدي، عن
مُرَّة الهمداني قال:قال عبد الله، فذكر نحوه [
وحكي مثله عن علي وابن عباس ] .
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى.
وروى ابن
أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة أنه قال: ( الم ) ، قسم.
ورويا -
أيضًا- من حديث شريك بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن
عباس: ( الم ) ، قال:أنا الله أعلم.
وكذا قال
سعيد بن جبير، وقال السُّدِّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرّة
الهمذاني عن ابن مسعود. وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( الم ) .
قال:أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى.
وقال أبو
جعفر الرّازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: ( الم )
قال:هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها الألسن كلها، ليس منها
حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه، وليس
منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعَجب،
فقال:وأعْجَب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؛ فالألف مفتاح
اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله،
واللام لطف الله، والميم مجد الله، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون
[ سنة ] . هذا لفظ ابن أبي حاتم.
ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها، وأنه لا
منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء السور، ومن أسماء
الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دَلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته،
كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه. قال:ولا مانع من دلالة الحرف منها
على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة وغير ذلك، كما ذكره الرّبيع
بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة، كلفظة الأمة
فإنها تطلق ويراد به الدين، كقوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ [ الزخرف:22، 23 ] .
وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله، كقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [
النحل:120 ] وتطلق ويراد بها الجماعة، كقوله: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً
مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [ القصص:23 ] ،
وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا [
النحل:36 ] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله: وَقَالَ الَّذِي
نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [
يوسف:45 ] أي:بعد حين على أصح القولين، قال:فكذلك هذا.
هذا حاصل
كلامه موجهًا، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية، فإن أبا العالية زعم أن الحرف
دل على هذا، وعلى هذا، وعلى هذا معًا، ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة
في الاصطلاح، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام،
فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول، ليس هذا
موضع البحث فيها، والله أعلم؛ ثم إن لفظ الأمة تدل على كل معانيه في سياق الكلام
بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن
يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره، فهذا مما لا
يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به.
وما
أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة، فإن في السياق ما
يدل على ما حذف بخلاف هذا، كما قال الشاعر:
قلنــا قفــي لنــا فقـالت قـاف لا تَحْسَــبِي أنــا نَسـينا
الإيجـاف
تعني:وقفت.
وقال الآخر:
مــا للظليــم عَـالَ كَـيْفَ لا يـا ينقَـــدُّ عنـــه
جــلده إذا يــا
قال ابن
جرير:كأنه أراد أن يقول:إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من يفعل، وقال الآخر:
بــالخير خــيرات وإن شـرًا فـا ولا أريـــد الشـــر إلا أن
تــا
يقول:وإن
شرًا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن
بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام، والله أعلم.
[ قال
القرطبي:وفي الحديث: « من أعان على قتل مسلم بشطر
كلمة » الحديث. قال شقيق:هو أن يقول في اقتل:اق ] .
وقال
خصيف، عن مجاهد، أنه قال:فواتح السور كلها ق و ص و حم و طسم و الر وغير ذلك هجاء
موضوع. وقال بعض أهل العربية:هي حروف من حروف المعجم، استغنى بذكر ما ذكر منها في
أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا، كما يقول
القائل:ابني يكتب في:ا ب ت ث، أي:في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر
بعضها عن مجموعها. حكاه ابن جرير.
قلت:مجموع
الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا، وهي:ا ل م ص ر
ك ي ع ط س ح ق ن، يجمعها قولك:نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددًا، والمذكور
منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف.
[ قال
الزمخشري:وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة
والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة
ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال:فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وهذه
الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينـزل
منـزلة كله ] .
ومن
هاهنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلامًا، فقال:لا شك أن هذه الحروف لم ينـزلها
سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدى؛ ومن قال من الجهلة:إنَّه في القرآن ما هو تعبد لا
معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأ كبيرًا، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح
لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلنا: آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [ آل عمران:7 ] .
ولم يجمع
العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه
اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام.
المقام
الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور، ما هي؟ مع قطع النظر
عن معانيها في أنفسها. فقال بعضهم:إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور. حكاه ابن
جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه
بالبسملة تلاوة وكتابة.
وقال
آخرون:بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين - إذ تواصوا بالإعراض عن
القرآن - حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه. حكاه ابن جرير - أيضًا- ،
وهو ضعيف أيضًا؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها، بل
غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك - أيضًا- لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام
معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك. ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة
وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.
وقال
آخرون:بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز
القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه [
تركب ] من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
ولهذا كل
سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته،
وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: الم *
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [
البقرة:1، 2 ] . الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [ آل
عمران:1- 3 ] . المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي
صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ الأعراف:1، 2 ] . الر
* كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [ إبراهيم:1 ] الم *
تَنـزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [
السجدة:1، 2 ] . حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [
فصلت:1، 2 ] . حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [
الشورى:1- 3 ] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن
أمعن النظر، والله أعلم.
وأما من
زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن
والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو
مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ما رواه محمد بن
إسحاق بن يسار، صاحب المغازي، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن
عبد الله بن رئاب، قال:مر أبو ياسر بن أخطب، في رجال من يهود، برسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ
[ هدى للمتقين ] [
البقرة:1، 2 ] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال:تعلمون -
والله- لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنـزل الله عليه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا
رَيْبَ فِيهِ فقال:أنت سمعته؟ قال:نعم. قال:فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من
اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:فقالوا:يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما
أنـزل الله عليك: الم * ذلك الكتاب لا [ ريب
] ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بلى » .
فقالوا:جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: « نعم » .
قالوا:لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته
غيرك. فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم:الألف واحدة، واللام
ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي، إنما مدة ملكه
وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:يا
محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: « نعم » ،
قال:ما ذاك؟ قال: المص ، قال:هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم
أربعون، والصاد سبعون ، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره ؟
قال: « نعم » قال:ما ذاك ؟ قال: الر .
قال:هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون
ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: « نعم » ،
قال:ماذا؟ قال: المر . قال:فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم
أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال:لقد لبس علينا أمرك يا
محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال:قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر
لأخيه حيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار:ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله
إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان،
فذلك سبعمائة وأربع سنين . فقالوا:لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هؤلاء الآيات
نـزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [ آل
عمران:7 ] .
فهذا
مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا
المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها،
وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم والله أعلم.
ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )
قال ابن
جُرَيج:قال ابن عباس: « ذَلِكَ الْكِتَابُ » :هذا
الكتاب. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسديّ ومقاتل بن حيان، وزيد بن
أسلم، وابن جريج:أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء
الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.
و (
الْكِتَابُ ) القرآن. ومن قال:إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة
والإنجيل، كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق في النـزع، وتكلف
ما لا علم له به.
والرّيب:الشك،
قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن
مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا
رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه.
وقاله
أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء
وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال ابن أبي حاتم:لا أعلم في هذا خلافًا.
[ وقد
يستعمل الريب في التهمة قال جميل:
بثينــة قــالت يـا جـميل أربتنـي فقلــت كلانــا يـا
بثيـن مـريب
واستعمل
- أيضًا- في الحاجة كما قال بعضهم :
قضينــا مــن تهامـة كـل ريـب وخــيبر ثــم أجمعنــا
السـيوفا ]
ومعنى
الكلام:أن هذا الكتاب - وهو القرآن- لا شك فيه أنه نـزل من عند الله، كما قال
تعالى في السجدة: الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ [ السجدة:1، 2 ] . [
وقال بعضهم:هذا خبر ومعناه النهي، أي:لا ترتابوا فيه ] .
ومن
القراء من يقف على قوله: ( لا رَيْبَ ) ويبتدئ
بقوله: ( فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) والوقف
على قوله تعالى: ( لا رَيْبَ فِيهِ ) أولى
للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: ( هُدًى
) صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: ( فِيهِ
هُدًى ) .
و ( هُدًى
) يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا
على الحال.
وخصّت
الهداية للمتَّقين. كما قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [
فصلت:44 ] . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [
الإسراء:82 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع
بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [
يونس:57 ] .
وقد قال
السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود،
وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ ) يعني:نورًا للمتقين.
وقال
الشعبي:هدى من الضلالة. وقال سعيد بن جبير:تبيان للمتَّقين. وكل ذلك صحيح.
وقال
السدي:عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود،
وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ ) قال:هم المؤمنون .
وقال محمد
بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن
ابن عباس: ( لِلْمُتَّقِينَ )
أي:الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في
التصديق بما جاء به.
وقال أبو
رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (
لِلْمُتَّقِينَ ) قال:المؤمنين الذين يتَّقون
الشرك بي، ويعملون بطاعتي.
وقال
سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري، قوله: (
لِلْمُتَّقِينَ ) قال:اتَّقوا ما حرّم الله
عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
وقال أبو
بكر بن عياش:سألني الأعمش عن المتَّقين، قال:فأجبته. فقال [ لي ] سل
عنها الكلبي، فسألته فقال:الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال:فرجعت إلى الأعمش،
فقال:نرى أنه كذلك. ولم ينكره.
وقال
قتادة ( لِلْمُتَّقِينَ ) هم
الذين نعتهم الله بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ الآية والتي بعدها [ البقرة:3، 4 ] .
واختار
ابن جرير:أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.
وقد روى
الترمذي وابن ماجه، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عبد الله بن يزيد، عن
ربيعة بن يزيد، وعطية بن قيس، عن عطية السعدي، قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به
حذرًا مما به بأس » . ثم قال الترمذي:حسن غريب .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان، يعني
الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة، قال:كنت جالسًا عند أبي وائل،
فدخل علينا رجل، يقال له:أبو عفيف، من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة:يا أبا
عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال:بلى سمعته يقول:يحبس الناس يوم القيامة في
بقيع واحد، فينادي مناد:أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرّحمن لا يحتجب
الله منهم ولا يستتر. قلت:من المتَّقون؟ قال:قوم اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان،
وأخلصوا لله العبادة، فيمرون إلى الجنة .
وأصل
التقوى:التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة:
سـقط النصيـف ولـم تـرد إسـقاطه فتناولتــــه واتقتنـــا
بـــاليد
وقال
الآخر:
فـألقت قناعـا دونـه الشـمس واتقت بأحسـن موصـولين كـف ومعصـم
وقد
قيل:إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له:أما سلكت
طريقًا ذا شوك؟ قال:بلى قال:فما عملت؟ قال:شمرت واجتهدت، قال:فذلك التقوى.
وقد أخذ
هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خــــل الذنــــوب صغيرهــا وكبـيـرهــــا ذاك التقـــــى
واصنـــع كمـــاش فـــوق أر ض الشــوك يحــذر مــا يـرى
لا تحـــــقـرن صغــــيـرة إن الجبــــال مـــن الحــصى
وأنشد
أبو الدرداء يومًا:
يريــد المــرء أن يــؤتى منـاه ويـــأبـى اللــه إلا مـــا
أرادا
يقــول المــرء فــائدتي ومـالي وتقــوى اللـه أفضـل مـا
اسـتفادا
وفي سنن
ابن ماجه عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما
استفاد المرء بعد تقوى الله خيرًا من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها
أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله » .
الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( 3 )
قال أبو
جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد
الله، قال:الإيمان التصديق.
وقال علي
بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، (
يُؤْمِنُونَ ) يصدقون.
وقال
مَعْمَر عن الزهري:الإيمان العمل.
وقال أبو
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: (
يُؤْمِنُونَ ) يخشون.
قال ابن
جرير وغيره:والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا وعملا
قال:وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان
كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. قلت:أما الإيمان
في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال
تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [
التوبة:61 ] ، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ
لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [
يوسف:17 ] ، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [
الإنشقاق:25، والتين:6 ] ، فأما إذا استعمل مطلقًا
فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.
هكذا ذهب
إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد
إجماعًا:أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا
الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من
فسره بالخشية، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [
الملك:12 ] ، وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ ق:33 ] ،
والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فاطر:28 ] .
وأما
الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع
مراد.
قال أبو
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال:يؤمنون بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت
وبالبعث، فهذا غيب كله.
وكذا قال
قتادة بن دعامة.
وقال
السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود،
وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر
الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس: ( بِالْغَيْبِ )
قال:بما جاء منه، يعني:مِنَ الله تعالى.
وقال
سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، قال:الْغَيْب القرآن.
وقال
عطاء بن أبي رباح:من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال
إسماعيل بن أبي خالد: ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )
قال:بغيب الإسلام.
وقال زيد
بن أسلم: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )
قال:بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي
يجب الإيمان به.
وقال
سعيد بن منصور:حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن
يزيد قال:كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله عليه
وسلم وما سبقوا به، قال:فقال عبد الله:إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا
لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: الم
* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [
البقرة:1- 5 ] .
وهكذا
رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به .
وقال
الحاكم:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي معنى
هذا الحديث الذي رواه [ الإمام ] أحمد،
حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعي، حدثني أسيد بن عبد الرحمن، عن خالد بن
دُرَيك، عن ابن مُحَيريز، قال:قلت لأبي جمعة:حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:نعم، أحدثك حديثًا جيدًا:تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال:يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك
وجاهدنا معك. قال: « نعم » ، « قوم من
بعدكم يؤمنون بي ولم يروني » .
طريق
أخرى:قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل
عن عبد الله بن مسعود، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن صالح بن
جُبَيْر، قال:قدم علينا أبو جمعة الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما
أراد الانصراف قال:إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قلنا:هات رحمك الله قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا
معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا:يا رسول الله، هل من قوم أعظم أجرًا منا؟ آمنا بك
واتبعناك، قال: « ما يمنعكم من ذلك ورسول الله
بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين
يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا » مرتين .
ثم رواه
من حديث ضَمْرَة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن جبير، عن أبي جمعة، بنحوه
.
وهذا
الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررته في
أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا
مطلقا.
وكذا
الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي:حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن
المغيرة بن قيس التميمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟
» . قالوا:الملائكة. قال: « وما
لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ » . قالوا:فالنبيون. قال: « وما
لهم لا يؤمنون والوحي ينـزل عليهم؟ » .
قالوا:فنحن. قال: « وما لكم لا تؤمنون وأنا بين
أظهركم؟ » . قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا إن
أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون
بما فيها » .
قال أبو
حاتم الرازي:المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت:ولكن
قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث
محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم:صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن
أنس بن مالك مرفوعًا ، والله أعلم.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا إسحاق بن إدريس،
أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري، أخبرني جعفر بن محمود، عن جدته
تويلة بنت أسلم، قالت:صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد
إيلياء ، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا
السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.
قال
إبراهيم:فحدثني رجال من بني حارثة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال:
« أولئك قوم آمنوا بالغيب » .
هذا حديث
غريب من هذا الوجه.
وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )
قال ابن
عباس:أي:يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس:إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال
عليها فيها.
وقال
قتادة:إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال
مقاتل بن حيان:إقامتها:المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها
وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا
إقامتها.
وقال علي
بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: (
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )
قال:زكاة أموالهم.
وقال
السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال:هي
نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنـزل الزكاة.
وقال
جُوَيْبر، عن الضحاك:كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم
وجهدهم، حتى نـزلت فرائض الصدقات:سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات،
هن الناسخات المُثْبَتَات.
وقال
قتادة: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )
فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن
تفارقها.
واختار
ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال:وأولى التأويلات وأحقها بصفة
القوم:أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ
لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير
ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود
عليه.
قلت:كثيرًا
ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته،
وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل
عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك
القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة
المفروضة داخل في قوله تعالى: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ ) ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر:أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: « بُنِيَ الإسلام على خمس:شهادة
أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت » .
والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل
الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:
لهـا
حـارس لا يـبرحُ الدهـرَ بَيْتَها وإن ذُبحَـتْ صـلى عليهـا وزَمْزَمـا
وقال
أيضًا وقابلهـــا الــريح فــي دَنّهــا وصــلى عــلى دَنّهــا وارتسـم
أنشدهما
ابن جرير مستشهدا على ذلك.
وقال
الآخر - وهو الأعشى أيضًا- :
تقـــول
بنتـي وقـد قَرَّبتُ مرتحلا يـا رب جـنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا
عليـكِ
مثـلُ الـذي صليتِ فاغتمضي نومـا فـإن لِجَنب المـرء مُضْطجعـا
يقول:عليك
من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات
الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة،
وصفاتها، وأنواعها [ المشروعة ]
المشهورة.
وقال ابن
جرير:وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبتَه من
ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجته .
[
وقيل:هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند الركوع، وهما عرقان يمتدان
من الظهر حتى يكتنفا عجب الذنب، ومنه سمي المصلي؛ وهو الثاني للسابق في حلبة
الخيل، وفيه نظر، وقيل:هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله: لا
يَصْلاهَا أي:يلزمها ويدوم فيها إِلا الأَشْقَى [ الليل:15 ] وقيل:مشتقة من تصلية
الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [
العنكبوت:45 ] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم ] .
وأما
الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله.
وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )
قال ابن
عباس: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) أي:يصدقون بما جئت به من
الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم
به من ربهم ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )
أي:بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان.
وإنما
سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا:هل هم
الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [
البقرة:3 ] ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:
أحدهما
:أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل
الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة.
والثاني:هما
واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال
تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [
الأعلى:1- 5 ] وكما قال الشاعر:
إلــى الملـك القَـرْم وابـن الهُمـام وليــثِ الكتيبــة فــي
المُزْدَحَـم
فعطف
الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد.
والثالث:أن
الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيا بقوله: (
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) الآية
مؤمنو أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من
الصحابة، واختاره ابن جرير، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ الآية [ آل
عمران:199 ] ، وبقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا
بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ *
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [
القصص:52- 54 ] . وثبت في الصحيحين، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي
موسى:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة
يؤتون أجرهم مرتين:رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله
وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها » .
وأما ابن
جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة
المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين:منافق وكافر، فكذلك المؤمنون
صنفهم إلى عربي وكتابي.
قلت:والظاهر
قول مجاهد فيما رواه الثوري، عن رجل، عن مجاهد. ورواه غير واحد، عن ابن أبي نَجِيح،
عن مجاهد أنه قال:أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت
الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها
من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى،
بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة
والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به مَنْ
قبله من الرسل والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله تعالى
المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الآية [ النساء:136 ] .
وقال: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا
وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ الآية [
العنكبوت:46 ] . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [
النساء:47 ] وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ [ المائدة:68 ] وأخبر
تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ الآية [
البقرة:285 ] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [
النساء:152 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان
بالله ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم
مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما
غيرهم فإنما يحصل له الإيمان، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح: « إذا
حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا:آمنا بالذي أنـزل إلينا
وأنـزل إليكم » ولكن قد يكون إيمان كثير من
العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من
إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم [ قد ] يحصل
له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.
أُولَئِكَ
عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )
يقول الله تعالى: (
أُولَئِكَ ) أي:المتصفون بما تقدم:من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة،
والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنـزل الله إلى الرسول ومَنْ قبله من
الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك
المحرمات.
( عَلَى
هُدًى ) أي:نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. (
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:في
الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن
أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: (
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) أي:على
نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، (
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
أي:الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وقال ابن جرير:وأما معنى قوله:
( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن
معنى ذلك:أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم،
وتوفيقه لهم وتأويل قوله: ( وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) أي المُنْجِحون المدركون ما
طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود
في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب .
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم
أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: ( أُولَئِكَ
عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) إلى
مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ الآية، على ما تقدم من الخلاف. [ قال
] وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ منقطعا مما قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره ( [
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ ]
أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) واختار أنه عائد إلى جميع من
تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح،
عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم:أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون
بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين
فقال: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) وقد تقدم من الترجيح أن ذلك
صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهد، وأبي
العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، رحمهم الله.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي،
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد
الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن
النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له:يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ
من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال:فقال: « أفلا
أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ » .
قالوا:بلى يا رسول الله. قال: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله
تعالى: ( الْمُفْلِحُونَ ) هؤلاء
أهل الجنة « . قالوا:إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إلى قوله: عَظِيمٌ هؤلاء أهل النار » .
قالوا:لسنا هم يا رسول الله. قال: « أجل » .
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
يقول
تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )
أي:غَطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه،
فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96، 97 ] وقال
في حق المعاندين من أهل الكتاب: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ الآية [
البقرة:145 ] أي:إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له، ومن أضلَّه
فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله
الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [
الرعد:40 ] ، و إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ [ هود:12 ] .
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ ) قال:كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى
أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق
له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل.
وقال
محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:بما أنـزل إليك، وإن
قالوا:إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك (
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )
أي:إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فقد كفروا
بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد
كفروا بما عندهم من علمك؟!
وقال أبو
جعفر الرّازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية، قال:نـزلت هاتان الآيتان في
قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَهَا [ إبراهيم:28، 29 ] .
والمعنى
الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة، أظهر، ويفسر
ببقية الآيات التي في معناها، والله أعلم.
وقد ذكر
ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا، فقال:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري،
حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم عن عبد
الله بن عمرو، قال:قيل:يا رسول الله، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن
نيأس، فقال: « ألا أخبركم » ، ثم
قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هؤلاء
أهل النار « . قالوا:لسنا منهم يا رسول الله؟ قال: » أجل « .»
[
وقوله: ( لا يُؤْمِنُونَ )
محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها: (
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي
هم كفار في كلا الحالين؛ فلهذا أكد ذلك بقوله: ( لا
يُؤْمِنُونَ ) ويحتمل أن يكون ( لا
يُؤْمِنُونَ ) خبرًا لأن تقديره:إن الذين كفروا لا يؤمنون، ويكون
قوله: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ ) جملة معترضة، والله أعلم ] .
خَتَمَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
قال
السّدي: ( خَتَمَ اللَّهُ ) أي:طبع
الله، وقال قتادة في هذه الآية:استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على
قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون
ولا يعقلون.
وقال ابن
جُرَيْج:قال مجاهد: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ ) قال:نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من كل نواحيه حتى
تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم، قال ابن جريج:الختم على القلب
والسمع.
قال ابن
جُرَيْج:وحدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول:الرّانُ أيسر من الطبع،
والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله.
وقال
الأعمش:أرانا مجاهد بيده فقال:كانوا يرون أن القلب في مثل هذه - يعني:الكف- فإذا
أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضَمّ. وقال بأصبع
أخرى، فإذا أذنب ضُمّ. وقال بأصبع أخرى وهكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال :يطبع
عليه بطابع.
وقال
مجاهد:كانوا يرون أن ذلك:الرين.
ورواه
ابن جرير:عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن مجاهد، بنحوه.
قال ابن
جرير:وقال بعضهم:إنما معنى قوله: (
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) إخبار
من الله عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق، كما يقال:إن
فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا.
قال:وهذا
لا يصح؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.
( قلت ) :وقد
أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها
ضعيفة جدًا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول
الحق إليها قبيح عنده - تعالى الله عنه في اعتقاده- ولو فهم قوله تعالى: فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم
على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل وتركهم
الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال،
والله أعلم.
قال
القرطبي:وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب
الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وذكر
حديث تقليب القلوب: « ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا
على دينك » ، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: « تعرض الفتن على القلوب
كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه
نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين:على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت
السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا
» الحديث.
قال
والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما
حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عَجْلان، عن القعقاع، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن
المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونـزعَ واستعتب صقل
قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: كَلا بَلْ
رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [
المطففين:14 ] ) .
وهذا
الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، وابن
ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن
عجلان، به .
وقال
الترمذي:حسن صحيح.
ثم قال
ابن جرير:فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب
أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون
للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله
تعالى: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) نظير
الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها
إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على
قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحَلّه رباطه [
عنها ] .
واعلم أن
الوقف التام على قوله تعالى: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، وقوله (
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) جملة
تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة - وهي الغطاء- تكون على
البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة
الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ )
يقول:فلا يعقلون ولا يسمعون، ويقول:وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول:على أعينهم فلا
يبصرون.
قال ابن
جرير:حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده،
عن ابن عباس: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) والغشاوة على أبصارهم.
وقال:حدثنا
القاسم، حدثنا الحسين، يعني ابن داود، وهو سُنَيد، حدثني حجاج، وهو ابن محمد
الأعور، حدثني ابن جريج قال:الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله
تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [
الشورى:24 ] ، وقال وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى
بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ الجاثية:23 ] .
قال ابن
جرير:ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: (
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) يحتمل
أنه نصبها بإضمار فعل، تقديره:وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على
الإتباع، على محل ( وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) كقوله
تعالى: وَحُورٌ عِينٌ [ الواقعة:22 ] ، وقول
الشاعر:
عَلَفْتُهـــا تبنًــا ومــاء بــاردًا حــتى شَــتتْ
هَمَّالَــةً عيناهــا
وقال
الآخر:
ورأيــت زَوْجَــك فــي الـوغى متقلِّــــدًا ســــيفًا
ورُمْحًـــا
تقديره:وسقيتها
ماء باردًا، ومعتَقِلا رمحًا.
لما تقدم
وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع
تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم
يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق، كما أنـزل
سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور،
تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا، فقال تعالى:
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ
وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )
النفاق:هو
إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع:اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي
وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال
ابن جريج:المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده
مَغِيبه.
وإنما
نـزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه،
من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن مؤمن، فلمَّا هاجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا
في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب
على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل:بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج، وبنو
النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من
اليهود إلا عبد الله بن سَلام، رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم
يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان، عليه الصلاة والسلام، وَادَعَ اليهود
وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله
كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان رأسا في
المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن
يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام
وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال:هذا أمر قد تَوَجَّه فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل
معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق
في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم
يكن أحد يهاجر مكرَهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في
الدار الآخرة.
قال محمد
بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكْرِمة، أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: (
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ ) يعني:المنافقين من الأوس
والخزرج ومن كان على أمرهم.
وكذا
فسَّرها بالمنافقين أبو العالية، والحسن، وقتادة، والسدي.
ولهذا
نبَّه الله، سبحانه، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع
بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر،
وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خَيْر، فقال تعالى: (
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ ) أي:يقولون ذلك قولا ليس وراءه
شيء آخر، كما قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ [ المنافقون:1 ]
أي:إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن
ولام التأكيد في خبرها؛ كما أكَّدوا قولهم: (
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) وليس
الأمر كذلك، كما أكْذبهم الله في شهادتهم، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم،
بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [
المنافقون:1 ] ، وبقوله ( وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ )
وقوله
تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا )
أي:بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون
الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما
قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [
المجادلة:18 ] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: ( وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )
يقول:وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من
أنفسهم، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ [ النساء:142 ] .
ومن
القراء من قرأ: « وَمَا يُخَادِعُونَ إِلا
أَنفُسَهُمْ » ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد.
قال ابن
جرير:فإن قال قائل:كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا، وهو لا يظهر بلسانه
خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟
قيل:لا
تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية، لينجو مما هو له
خائف، مخادعا، فكذلك المنافق، سمي مخادعا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه
تقية، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر، مستبطن،
وذلك من فعلِه - وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا- فهو لنفسه بذلك من فعله
خادع، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها، ويُسقيها كأس
سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومُجرّعها بها كأس عذابها، ومُزيرُها من غضب الله
وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به، فذلك خديعته نفسه، ظنًا منه - مع إساءته إليها في
أمر معادها- أنه إليها محسن، كما قال تعالى: ( وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )
إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم
عليها ربهم بكفرهم، وشكهم وتكذيبهم، غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من
أمرهم مقيمون .
وقال ابن
أبي حاتم:أنبأنا عليّ بن المبارك، فيما كتب إليّ، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا
محمد بن ثور، عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ
اللَّهَ ) قال:يظهرون « لا إله
إلا الله » يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك
.
وقال
سعيد، عن قتادة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ
وَمَا يَشْعُرُونَ ) نعت المنافق عند كثير:خَنعُ
الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره،
ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها.
فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ ( 10 )
قال
السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود،
وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ( فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال:شَكٌّ، (
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) قال:شكًّا.
وقال [
محمد ] بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن
جبير، عن ابن عباس [ في قوله ] : ( فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال:شك.
وكذلك
قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة.
وعن
عكرمة، وطاوس: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )
يعني:الرياء.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )
قال:نفاق ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا )
قال:نفاقا، وهذا كالأول.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )
قال:هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض:الشك الذي
دخلهم في الإسلام ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
) قال:زادهم رجسًا، وقرأ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [
التوبة:124، 125 ] قال:شرًا إلى شرهم وضلالة إلى
ضلالتهم.
وهذا
الذي قاله عبد الرحمن، رحمه الله، حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله
الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [ محمد:17 ] .
وقوله ( بِمَا
كَانُوا يَكْذِبُونَ ) وقرئ: «
يكذّبون » ، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون
بالحق يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه، عليه
السلام، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت
في الصحيحين:أنه قال لعمر: « أكره أن يتحدث العرب أن
محمدًا يقتل أصحابه » ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب
ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن
قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون:إن
محمدًا يقتل أصحابه، قال القرطبي:وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة
قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم. قال ابن عطية:وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن
الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون. ومنها:ما قال مالك، رحمه الله:إنما
كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم
بعلمه.
قال
القرطبي:وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا
في سائر الأحكام، قال:ومنها ما قال الشافعي:إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم
من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه
يجبّ ما قبله. ويؤيد هذا قوله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث المجمع على صحته في
الصحيحين وغيرهما: « أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا:لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها،
وحسابهم على الله، عز وجل » . ومعنى هذا:أن من قالها جرت
عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم
يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان خليط أهل الإيمان
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ الآية [ الحديد:14 ] ، فهم
يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [
سبأ:54 ] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث، ومنها
ما قاله بعضهم:أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده، عليه السلام،
بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق
وعلمه المسلمون، قال مالك:المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق
اليوم. قلت:وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا. أو
يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه
من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب
الأحكام.
( تنبيه
) قول من قال:كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض
المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا
في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل
عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم
فأطلع على ذلك حذيفة. ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها
والله أعلم.
فأما غير
هؤلاء فقد قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ الآية، وقال تعالى:لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ
ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا
أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على
أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ
لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن
أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [ صلى
عليه ] صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد
عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: « إني
أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه » وفي
رواية في الصحيح « إني خيرت فاخترت » وفي
رواية « لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت » .
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 ) أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )
قال
السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة الطيب
الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ ) أما لا تفسدوا في الأرض، قال:الفساد هو الكفر، والعمل
بالمعصية.
وقال أبو
جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: (
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ )
قال:يعني:لا تعصُوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في
الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة.
وهكذا
قال الربيع بن أنس، وقتادة.
وقال ابن
جُرَيْج، عن مجاهد: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) قال:إذا ركبوا معصية الله،
فقيل لهم:لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا:إنما نحن على الهدى، مصلحون.
وقد قال
وَكِيع، وعيسى بن يونس، وعثَّام بن علي، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن
عباد بن عبد الله الأسدي، عن سلمان الفارسي: (
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ ) قال سلمان:لم يجئ أهل هذه الآية بعد.
وقال ابن
جرير:حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شَريك، حدثني أبي، عن
الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلمان، في هذه الآية، قال:ما جاء هؤلاء بَعْدُ .
قال ابن
جرير:يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين
كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد
.
قال ابن
جرير:فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن
ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل إلا بالتصديق
به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك
والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى
ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون
فيها .
وهذا
الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال
تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [
الأنفال:73 ] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا [ النساء:144 ] ثم
قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ نَصِيرًا [ النساء:145 ]
فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة
المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين
على المؤمنين، ولو أنه استمر على حالته الأولى لكان شرّه أخف، ولو أخلص العمل لله
وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح؛ ولهذا قال تعالى: (
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
) أي:نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح
مع هؤلاء وهؤلاء، كما قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد
بن جبير، عن ابن عباس: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) أي:إنما
نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله: ( أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )
يقول:ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا
يشعرون بكونه فسادًا.
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
يقول [
الله ] تعالى:وإذا قيل للمنافقين: (
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) أي:كإيمان الناس بالله
وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر
المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر (
قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون
- لعنهم الله- أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، قاله أبو
العالية والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة،
وبه يقول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون:أنصير نحن
وهؤلاء بمنـزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!
والسفهاء:جمع
سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم [ والحلماء جمع حليم ]
والسفيه:هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار؛ ولهذا
سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [
النساء:5 ] قال عامة علماء السلف:هم النساء والصبيان.
وقد تولى
الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال ( أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ) فأكد وحصر السفاهة فيهم.
(
وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) يعني:ومن تمام جهلهم أنهم لا
يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.
وَإِذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( 14 )
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
يقول [
الله ] تعالى:وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: (
آمَنَّا ) أي:أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم
للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، (
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ )
يعني:وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. فضمن (
خَلَوْا ) معنى انصرفوا؛ لتعديته بإلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل
الملفوظ به. ومنهم من قال: « إلى » هنا
بمعنى « مع » ، والأول أحسن، وعليه يدور
كلام ابن جرير.
وقال
السدي عن أبي مالك: ( خَلَوْا )
يعني:مضوا، و ( شَيَاطِينِهِمْ )
يعني:سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.
قال
السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود،
عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ )
يعني:هم رؤوسهم من الكفر.
وقال
الضحاك عن ابن عباس:وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم.
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن
عباس: (
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) من
يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال
مجاهد: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) إلى
أصحابهم من المنافقين والمشركين.
وقال
قتادة: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ )
قال:إلى رؤوسهم، وقادتهم في الشرك، والشر.
وبنحو
ذلك فسَّره أبو مالك، وأبو العالية والسدي، والرّبيع بن أنس.
قال ابن
جرير:وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، وتكون الشياطين من الإنس والجن، كما قال تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [
الأنعام:112 ] .
وفي
المسند عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعوذ
بالله من شياطين الإنس والجن » . فقلت:يا رسول الله، وللإنس
شياطين؟ قال: « نعم » .
وقوله
تعالى: ( قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ) قال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس:أي
إنا على مثل ما أنتم عليه ( إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ ) أي:إنما نحن نستهزئ بالقوم
ونلعب بهم.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس:قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم.
وكذلك
قال الرّبيع بن أنس، وقتادة.
وقوله
تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم: (
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )
وقال ابن
جرير:أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله: يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ
قِبَلِهِ الْعَذَابُ الآية [ الحديد:13 ] ،
وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ [ آل عمران:178 ] .
قال:فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى ذكره، وسخريته ومكره وخديعته
للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول هذا التأويل.
قال:وقال
آخرون:بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر
به.
قال:وقال
آخرون:هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به:أنا الذي
خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا:وكذلك قوله:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آل
عمران:54 ] و ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
) على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى:أن
المكر والهُزْء حَاق بهم.
وقال
آخرون:قوله: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ ) وقوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [
النساء:142 ] ، وقوله فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [
التوبة:79 ] و نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [
التوبة:67 ] وما أشبه ذلك، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ
الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج
خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال
تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [
الشورى:40 ] وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ [ البقرة:194 ] ،
فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.
قال:وإلى
هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال:وقال
آخرون:إن معنى ذلك:أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم
قالوا:إنا معكم على دينكم، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما
نحن بما يظهر لهم - من قولنا لهم:صدقنا بمحمد، عليه السلام، وما جاء به مستهزئون؛
فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا، يعني من عصمة
دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنكال .
ثم شرع
ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث
منتف عن الله، عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل
والمجازاة فلا يمتنع ذلك.
قال:وبنحو
ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان، حدثنا بشر، عن
أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله تعالى: (
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) قال:يسخر بهم للنقمة منهم.
وقوله
تعالى: ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال
السدي:عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن أناس
من الصحابة [ قالوا ] يَمدهم:يملي لهم.
وقال
مجاهد:يزيدهم.
قال ابن
جرير:والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كما قال:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [
الأنعام:110 ] .
والطغيان:هو
المجاوزة في الشيء. كما قال: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ [ الحاقة:11 ] ، وقال
الضحاك، عن ابن عباس: ( فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ ) في كفرهم يترددون.
وكذا
فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنس،
ومجاهد، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد:في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن
جرير:والعَمَه:الضلال، يقال:عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا:إذا ضل.
قال:وقوله:
( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) في
ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه، وعَلاهم رجْسه، يترددون [
حيارى ] ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله تعالى قد
طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدًا،
ولا يهتدون سبيلا.
[
وقال بعضهم:العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب - أيضا-
:قال الله تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ الحج:46 ] ويقال:عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه،
وجمعه عمّه، وذهبت إبله العمهاء:إذا لم يدر أين ذهبت ] .
أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا
كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )
قال السدي في تفسيره، عن أبي
مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: (
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى )
قال:أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال [
محمد ] بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى )
أي:الكفر بالإيمان.
وقال مجاهد:آمنوا ثمّ كفروا.
وقال قتادة:استحبوا الضلالة على
الهدى [ أي:الكفر بالإيمان ] . وهذا
الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [
فصلت:17 ] .
وحاصل قول المفسرين فيما
تقدم:أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو
معنى قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) أي
بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه
إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [ المنافقون:3 ] ، أو
أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام؛
ولهذا قال تعالى: ( فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي:ما
ربحت صفقتهم في هذه البيعة، ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي:راشدين
في صنيعهم ذلك.
قال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا
يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة ( فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) قد -
والله- رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن
إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن
زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، بمثله سواء.
مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
[
يقال:مثل ومثل ومثيل - أيضا- والجمع أمثال، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [ العنكبوت:43 ] .
وتقدير
هذا المثل:أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد
التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما
عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد،
لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما
أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم
الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على
أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد
حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال:والتشبيه هاهنا في
غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور
فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم
ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله
تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [ البقرة:8 ] .
والصواب:أن
هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل
ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا
وهي قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [ المنافقون:3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ] هذا
المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات
يوم القيامة.
قال:وصح
ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ الأحزاب:19 ] أي:كدوران
عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا
كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [
الجمعة:5 ] ، وقال بعضهم:تقدير الكلام:مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا. وقال
بعضهم:المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون:الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال
الشاعر:
وإن
الــذي حـانت بفلـج دمـاؤهم هـم القـوم كـل القـوم يـا أم خـالد
قلت:وقد
التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: (
فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )
وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله تعالى: (
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) أي:ذهب عنهم ما ينفعهم،
وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان (
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) وهو ما هم فيه من الشك
والكفر والنفاق، ( لا يُبْصِرُونَ ) لا
يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ( صُمٌّ
) لا يسمعون خيرا (
بُكْمٌ ) لا يتكلمون بما ينفعهم (
عُمْيٌ ) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا
تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [
الحج:46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر
أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه:
قال
السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود،
وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: (
فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم
إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من
قذى، أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا
يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق:كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال
والحرام، و [ عرف ] الخير والشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من
الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال
مجاهد: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى.
وقال
عطاء الخرساني في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا ) قال:هذا مثل المنافق،
يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثم يدركه عمى القلب.
وقال
ابن أبي حاتم:وروي عن عكرمة، والحسن والسدي، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء
الخرساني.
وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )
إلى آخر الآية، قال:هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في
قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم
فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال
العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال:أما النور:فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون
به، وأمَّا الظلمة:فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على
هدى، ثمّ نـزع منهم، فعتوا بعد ذلك.
وأما
قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )
قال:هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون
ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ، كما سُلِب صاحب
النار ضَوءه.
وقال
أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )
فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة
الإخلاص، بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة.
وقال
الضحاك [ في قوله ] ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ )
أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال
عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
فهي لا إله إلا الله؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا، ونكحوا
النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال
سعيد، عن قتادة في هذه الآية:إن المعنى:أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت
له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله،
فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في
عمله .
(
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) قال علي بن أبي طلحة، عن
ابن عباس: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ )
يقول:في عذاب إذا ماتوا.
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) أي
يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه،
فتركهم الله في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال
السدي في تفسيره بسنده: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ )
فكانت الظلمة نفاقهم.
وقال
الحسن البصري: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
لا يُبْصِرُونَ ) فذلك حين يموت المنافق،
فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول:لا إله إلا
الله .
( صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ ) قال السدي بسنده: ( صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ ) فهم خرس عمي .
وقال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )
يقول:لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن
دعامة.
(
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) قال ابن عباس:أي لا
يرجعون إلى هدى، وكذلك قال الرّبيع بن أنس.
وقال
السدي بسنده: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لا يَرْجِعُونَ ) إلى الإسلام.
وقال
قتادة: ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) أي
لا يتوبون ولا هم يذكرون.
أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
وهذا
مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة،
ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (
كَصَيِّبٍ ) والصيب:المطر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من
الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة،
وعطية العَوْفِي، وعطاء الخراساني، والسُّدي، والرّبيع بن أنس.
وقال
الضحاك:هو السحاب.
والأشهر
هو المطر نـزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق. (
وَرَعْدٌ ) وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين
الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [
هُمُ الْعَدُوُّ ] [ المنافقون:4 ] وقال:وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ
يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ
يَجْمَحُونَ [ التوبة:56، 57 ] .
والبرق:هو
ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا
قال: ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ )
أي:ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط [ بهم ] بقدرته، وهم تحت مشيئته
وإرادته، كما قال:هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [
البروج:17- 20 ] .
[
والصواعق:جمع صاعقة، وهي نار تنـزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن
أحمد عن بعضهم صاعقة، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة، ونقل عن الحسن البصري
أنه:قرأ « من الصواقع حذر الموت »
بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم:
يحـــكوك بالمثقولــة القــواطع شــفـق البرق عــن
الصـواقـع
قال النحاس:وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة, حكى ذلك
القرطبي في تفسيره ] .
ثم
قال: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ )
أي:لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ ) يقول:يكاد مُحْكَمُ
القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال
ابن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) أي
لشدة ضوء الحق، ( كلما أضاء لهم مشوا فيه
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي
كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت
قلوبَهم فوقفوا حائرين.
وقال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ ) يقول:كلما أصاب المنافقين
من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر،
كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ] الآية [ الحج:11 ] .
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا )
أي:يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى
الكفر ( قَامُوا ) أي:متحيرين.
وهكذا
قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده، عن
الصحابة وهو أصح وأظهر. والله أعلم.
وهكذا
يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور
ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة
ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى. ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم
الخُلَّص من المنافقين، الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [ الحديد:13 ] وقال في حق
المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ الآية [ الحديد:12
] ، وقال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [
التحريم:8 ] .
ذكر
الحديث الوارد في ذلك:
قال
سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ الآية [ الحديد:12 ] ، ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقول: « من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين صنعاء
ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه » .
رواه ابن جرير.
ورواه
ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر القطان، عن قتادة، بنحوه.
وهذا
كما قال المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، قال:يؤتون
نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل
القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد مرة.
وهكذا
رواه ابن جرير، عن ابن مُثَنَّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن المنهال.
وقال
ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي
يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود: نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [ التحريم:8 ] قال:على قدر أعمالهم يمرون على الصراط،
منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في
إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال
ابن أبي حاتم أيضًا:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني،
حدثنا عُتْبَةُ بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:ليس أحد من أهل التوحيد
إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من
إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون:ربنا أتمم لنا نورنا.
وقال
الضحاك بن مزاحم:يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا؛ فإذا
انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا:
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا .
فإذا
تقرر هذا صار الناس أقسامًا:مؤمنون خُلّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول
البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان:خلص، وهم
المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لُمَعٌ من الإيمان
وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم.
وهذا
المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور، من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله
في قلبه من الهدى والنور، بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دُرّي، وهي قلب
المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من
غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.
ثم
ضرب مثل العُبّاد من الكفار، الذين يعتقدون أنهم على شيء، وليسوا على شيء، وهم
أصحاب الجهل المركب، في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئًا الآية [ النور:39 ] .
ثم
ضرب مثل الكفار الجُهَّال الجَهْلَ البسيط، وهم الذين قال [ الله ] فيهم: أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ
[ النور:40 ] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين:داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة
الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [ الحج:3 ] وقال بعده: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ
فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [ الحج:8 ] وقد قسم
الله المؤمنين في أول الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، إلى قسمين:سابقون وهم
المقربون، وأصحاب يمين وهم الأبرار.
فتلخص
من مجموع هذه الآيات الكريمات:أن المؤمنين صنفان:مقربون وأبرار، وأن الكافرين
صنفان:دعاة ومقلدون، وأن المنافقين - أيضًا- صنفان:منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من
نفاق، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ثلاث
من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
حتى يَدَعها:من إذا حَدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » .
استدلوا
به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق. إما عَمَلي لهذا
الحديث، أو اعتقادي، كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض
العلماء، كما تقدم، وكما سيأتي، إن شاء الله. قال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر،
حدثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليث، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي
سعيد، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « القلوب
أربعة:قلب أجرد، فيه مثل السراج يُزْهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس،
وقلب مُصَفَّح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف
فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب
المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيب،
ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدّها القيح والدم، فأي المدّتين غلبت على الأخرى
غلبت عليه » . وهذا إسناد جيد حسن.
وقوله:
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
قال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن
عباس، في قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ )
قال:لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته.
( إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
قال ابن عباس أي إنّ الله على كل ما أراد بعباده من نقمة، أو عفو، قدير.
وقال
ابن جرير:إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ؛ لأنه حذر
المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، و [ أنه ] على إذهاب أسماعهم
وأبصارهم قدير، ومعنى ( قَدِيرٌ )
قادر، كما أن معنى ( عَلِيمٌ )
عالم.
[
وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف
واحد من المنافقين وتكون « أو » في
قوله تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ )
بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [
الإنسان:24 ] ، أو تكون للتخبير، أي:اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، قاله
القرطبي. أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري:أن كلا
منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله:سواء ضربت لهم مثلا
بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت:وهذا
يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى
في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من
الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم،
والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله
تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ إلى أن قال: أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ الآية [ النور:39، 40 ] ،
فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع
المقلدين، والله أعلم بالصواب ] .
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
شرع
تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده، بإخراجهم
من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض
فراشا، أي:مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، (
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) وهو السقف، كما قال في
الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا
مُعْرِضُونَ [ الأنبياء:32 ] وأنـزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا-
في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛
رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومنْ أشبه آية بهذه
الآية قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ غافر:64 ]
ومضمونه:أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد
وحده ولا يُشْرَك به غَيره؛ ولهذا قال: ( فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: « أن
تجعل لله ندا، وهو خلقك » الحديث . وكذا حديث معاذ: « أتدري
ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا »
الحديث وفي الحديث الآخر: « لا يقولن أحدكم:ما شاء الله
وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله، ثم شاء فلان » .
وقال
حماد بن سلمة:حدثنا عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش، عن الطفيل بن
سَخْبَرَة، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها، قال:رأيت فيما يرى النائم، كأني أتيت على
نفر من اليهود، فقلت:من أنتم؟ فقالوا:نحن اليهود، قلت:إنكم لأنتم القوم لولا أنكم
تقولون:عُزَير ابن الله. قالوا:وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون:ما شاء الله
وشاء محمد. قال:ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت:من أنتم؟ قالوا:نحن النصارى.
قلت:إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون:المسيح ابن الله. قالوا:وإنكم لأنتم القوم
لولا أنكم تقولون:ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: « هل
أخبرت بها أحدًا؟ » فقلت:نعم. فقام، فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: « أما بعد، فإن طُفيلا رأى رؤيا
أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا
تقولوا:ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا:ما شاء الله وحده » .
هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، به . وأخرجه ابن
ماجه من وجه آخر، عن عبد الملك بن عمير به، بنحوه .
وقال
سفيان بن سعيد الثوري، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن
عباس، قال:قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:ما شاء الله وشئت. فقال: «
أجعلتني لله ندا ؟ قل:ما شاء الله وحده » .
رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس، عن الأجلح، به
.
وهذا
كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم.
وقال
محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال:قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) للفريقين جميعًا من
الكفار والمنافقين، أي:وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم.
وبه
عن ابن عباس: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
أي:لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب
لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من
توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة.
وقال
ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو، حدثنا أبي الضحاك
بن مخلد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله، عز
وجل ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] )
قال:الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن
يقول:والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول:لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا
البطّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه:ما شاء الله وشئتَ، وقول
الرجل:لولا الله وفلان. لا تجعل فيها « فلان » .
هذا كله به شرك.
وفي
الحديث:أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال: «
أجعلتني لله ندا » . وفي الحديث الآخر: « نعم
القوم أنتم، لولا أنكم تنددون، تقولون:ما شاء الله، وشاء فلان » .
قال
أبو العالية: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا ) أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة،
والسُّدي، وأبو مالك:وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال
مجاهد: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ) قال:تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر
حديث في معنى هذه الآية الكريمة:
قال
الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يُعَد من البُدَلاء،
حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن نبي
الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله عز وجل، أمر يحيى بن
زكريا، عليه السلام، بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن،
وكان يبطئ بها، فقال له عيسى، عليه السلام:إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن
وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن. فقال:يا أخي،
إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي » .
قال: « فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ
المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:إن الله أمرني بخمس كلمات
أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن:أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا،
فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي
غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه
ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت،
فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في
عصابة، كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه
ليضربوا عنقه، فقال لهم:هل لكم أن أفتدي نفسي ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل
والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرًا؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو
سِراعا في أثره، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان
إذا كان في ذكر الله » .
قال:وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وأنا آمركم بخمس الله أمرني
بهن:الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من الجماعة
قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية
فهو من جِثِيِّ جهنم » . قالوا:يا رسول الله، وإن
صام وصلى ؟ فقال: « وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛
فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل:المسلمين المؤمنين عباد الله » .
هذا
حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: « وإن
الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا » .
وهذه
الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثير من
المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال:وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن
من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها
ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه
وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل:ما الدليل على وجود الرب تعالى؟
فقال:يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير،
فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف
الخبير؟
وحكى
فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات
والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال
لهم:دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها
أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير
بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن
يسوقها أحد. فقالوا:هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال:ويحكم هذه الموجودات بما فيها من
العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع!! فبهت
القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن
الشافعي:أنه سئل عن وجود الصانع، فقال:هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج
منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام
فتلقيه بعرًا وروثا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد.
وعن
الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال:هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا
منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره
فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها
الدجاجة.
وسئل
أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تــأمل فـي نبــات الأرض وانظـر إلــى آثـار مـا صنـع
المليـــك
عيــــون مـن لجـين شـاخصات بــأحداق هــي الــذهب
السـبيـك
عـلى قضـب الزبرجـد شـاهــدات بــأن اللــه ليس لــه
شـريــك
وقال
ابن المعتز:
فيــا عجبًـا كـيف يعصـى الإلـه أم كـــيف يجحـــده
الجـــاحد
وفــي كــل شـيء لــه آيــة تـــدل عــلى أنـــه واحـــد
وقال
آخرون:من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار
والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل
يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل
جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها
كما قال:وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [
فاطر:27، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في
الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان
مع اتحاد طبيعة التربة والماء، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته
بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت
وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا.
وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
ثم شرع تعالى في تقرير
النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين: (
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا )
يعني:محمدا صلى الله عليه وسلم ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ ) من
مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا
على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عباس: (
شُهَدَاءَكُمْ ) أعوانكم [ أي:قومًا آخرين
يساعدونكم على ذلك ] .
وقال السدي، عن أبي
مالك:شركاءكم [ أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ] .
وقال مجاهد: (
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ) قال:ناس يشهدون به [
يعني:حكام الفصحاء ] .
وقد تحداهم الله تعالى بهذا
في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ القصص:49
] وقال في سورة سبحان: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ الإسراء:88 ] وقال في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ هود:13 ] ، وقال في
سورة يونس:وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ
فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ يونس:37، 38 ] وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم [ الله تعالى ]
بذلك - أيضًا- في المدينة، فقال في هذه الآية: (
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) أي: [ في ] شك (
مِمَّا نـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا )
يعني:محمدًا صلى الله عليه وسلم. (
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )
يعني:من مثل [ هذا ] القرآن؛ قاله مجاهد وقتادة، واختاره ابن جرير. بدليل قوله:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [ هود:13 ] وقوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [
الإسراء:88 ] وقال بعضهم:من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني:من رجل أمي مثله.
والصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في
مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛
ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَلَنْ تَفْعَلُوا ) « ولن »
:لنفي التأبيد أي:ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه - أيضًا- معجزة أخرى، وهو أنه أخبر
أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا
هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف
يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!
ومن تدبر القرآن وجد فيه من
وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [
هود:1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه
فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر
سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
صِدْقًا وَعَدْلا [ الأنعام:115 ] أي:صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق
وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب
وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر:إن
أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو
الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو
سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر
على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له
فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في
غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف
التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو
وجيزة، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه
العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات،
فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار
السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [
السجدة:17 ] وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ
وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ الزخرف:71 ] ، وقال في الترهيب: أَفَأَمِنْتُمْ
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [ الإسراء:68 ] ، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ
نَذِيرِ [ الملك:16، 17 ] وقال في الزجر: فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [
العنكبوت:40 ] ، وقال في الوعظ:أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ
جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يُمَتَّعُونَ [ الشعراء:205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة
والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل
معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره
من السلف:إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الآية [ الأعراف:157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف
المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه
وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت
إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على
الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس
الشيطان الرجيم.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن
أبي هريرة رضي الله عنه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « ما من
نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي
أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة » لفظ
مسلم. وقوله: « وإنما كان الذي أوتيته وحيًا »
أي:الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من
الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ] والله أعلم. وله عليه
الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت
حصر، ولله الحمد والمنة.
[ وقد قرر بعض المتكلمين
الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية، فقال:إن كان هذا
القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته، فقد
حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة
عداوتهم له، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم
على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر
معارضته، كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل التنـزل والمجادلة والمنافحة عن الحق
وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ] .
وقوله تعالى: (
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ ) أما الوَقُود، بفتح
الواو، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال: وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [ الجن:15 ] وقال تعالى: إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
[ الأنبياء:98 ] .
والمراد بالحجارة هاهنا:هي
حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت،
أجارنا الله منها.
قال عبد الملك بن ميسرة
الزرّاد عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله
تعالى: ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )
قال:هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا،
يعدها للكافرين. رواه ابن جرير، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه
وقال:على شرط الشيخين .
وقال السدي في تفسيره، عن
أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة:
( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ ) أما الحجارة فهي حجارة في
النار من كبريت أسود، يعذبون به مع النار.
وقال مجاهد:حجارة من كبريت
أنتن من الجيفة. وقال أبو جعفر محمد بن علي: [ هي ] حجارة من كبريت. وقال ابن
جريج:حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة
وأعظم.
[ وقيل:المراد بها:حجارة
الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال: إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية [ الأنبياء:98 ] ، حكاه
القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول؛ قال:لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس
بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى، وهذا الذي قاله ليس بقوي،؛ وذلك أن النار إذا
أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره
السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا-
مشاهد، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر
الأحجار تفخرها النار وتحرقها. وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها،
وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [
الإسراء:97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار
لتحمى ويشتد لهبها قال:ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها، قال:وقد جاء في الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « كل مؤذ
في النار » وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ثم قال القرطبي:وقد
فسر بمعنيين، أحدهما:أن كل من آذى الناس دخل النار ، والآخر:كل ما يؤذي فهو في
النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ] .
وقوله تعالى: (
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) الأظهر أنّ الضمير في (
أُعِدَّتْ ) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل
عوده على الحجارة، كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما
متلازمان.
و (
أُعِدَّتْ ) أي:أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال [ محمد
] بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) أي:لمن كان على مثل ما
أنتم عليه من الكفر.
وقد استدل كثير من أئمة
السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله: (
أُعِدَّتْ ) أي:أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: « تحاجت
الجنة والنار » ومنها: «
استأذنت النار ربها فقالت:رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس
في الصيف » ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « هذا حجر ألقي به من شفير جهنم
منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها » وهو
عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا
المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي
قاضي الأندلس.
تنبيه ينبغي الوقوف عليه:
قوله: (
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )
وقوله في سورة يونس: بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [ يونس:38 ] يعم كل سورة في القرآن طويلة
كانت أو قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين
من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما
أعلم فيه نـزاعًا بين الناس سلفًا وخلفًا، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين
الرازي في تفسيره:فإن قيل:قوله: (
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )
يتناول سورة الكوثر وسورة العصر، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، ونحن نعلم
بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن. فإن قلتم:إن الإتيان بمثل هذه
السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق
بالتهمة إلى الدين:قلنا:فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا:إن بلغت هذه
السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من
المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا ، فعلى التقديرين يحصل المعجز ،
هذا لفظه بحروفه. والصواب:أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها
طويلة كانت أو قصيرة.
قال الشافعي، رحمه الله:لو
تدبر الناس هذه السورة لكفتهم:وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ سورة العصر ] . وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد
على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة:ماذا أنـزل على صاحبكم بمكة في هذا
الحين؟ فقال له عمرو:لقد أنـزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال:وما هي؟
فقال:وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ففكر ساعة ثم رفع رأسه
فقال:ولقد أنـزل عليَّ مثلها، فقال:وما هو؟ فقال:يا وبْر يا وبْر، إنما أنت أذنان
وصدر، وسائرك حقر فقر، ثم قال:كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو:والله إنك لتعلم أني
لأعلم إنك تكذب .
مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
[
يقال:مثل ومثل ومثيل - أيضا- والجمع أمثال، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [ العنكبوت:43 ] .
وتقدير
هذا المثل:أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد
التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما
عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد،
لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما
أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم
الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على
أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد
حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال:والتشبيه هاهنا في
غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور
فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم
ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله
تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [ البقرة:8 ] .
والصواب:أن
هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل
ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا
وهي قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [ المنافقون:3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ] هذا
المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات
يوم القيامة.
قال:وصح
ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ الأحزاب:19 ] أي:كدوران
عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا
كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [
الجمعة:5 ] ، وقال بعضهم:تقدير الكلام:مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا. وقال بعضهم:المستوقد
واحد لجماعة معه. وقال آخرون:الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:
وإن
الــذي حـانت بفلـج دمـاؤهم هـم القـوم كـل القـوم يـا أم خـالد
قلت:وقد
التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: (
فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )
وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله تعالى: (
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) أي:ذهب عنهم ما ينفعهم،
وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان (
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) وهو ما هم فيه من الشك
والكفر والنفاق، ( لا يُبْصِرُونَ ) لا
يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ( صُمٌّ
) لا يسمعون خيرا (
بُكْمٌ ) لا يتكلمون بما ينفعهم (
عُمْيٌ ) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا
تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [
الحج:46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر
أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه:
قال
السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود،
وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: (
فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم
إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من
قذى، أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا
يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق:كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال
والحرام، و [ عرف ] الخير والشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من
الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال
مجاهد: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى.
وقال
عطاء الخرساني في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا ) قال:هذا مثل المنافق،
يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثم يدركه عمى القلب.
وقال
ابن أبي حاتم:وروي عن عكرمة، والحسن والسدي، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء
الخرساني.
وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )
إلى آخر الآية، قال:هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في
قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم
فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال
العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال:أما النور:فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون
به، وأمَّا الظلمة:فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على
هدى، ثمّ نـزع منهم، فعتوا بعد ذلك.
وأما
قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )
قال:هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون
ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ، كما سُلِب صاحب
النار ضَوءه.
وقال
أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )
فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة
الإخلاص، بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة.
وقال
الضحاك [ في قوله ] ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ )
أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال
عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
فهي لا إله إلا الله؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا، ونكحوا
النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال
سعيد، عن قتادة في هذه الآية:إن المعنى:أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت
له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله،
فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في
عمله .
(
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) قال علي بن أبي طلحة، عن
ابن عباس: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ )
يقول:في عذاب إذا ماتوا.
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) أي
يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه،
فتركهم الله في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال
السدي في تفسيره بسنده: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ )
فكانت الظلمة نفاقهم.
وقال
الحسن البصري: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
لا يُبْصِرُونَ ) فذلك حين يموت المنافق،
فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول:لا إله إلا
الله .
( صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ ) قال السدي بسنده: ( صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ ) فهم خرس عمي .
وقال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )
يقول:لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن
دعامة.
(
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) قال ابن عباس:أي لا
يرجعون إلى هدى، وكذلك قال الرّبيع بن أنس.
وقال
السدي بسنده: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لا يَرْجِعُونَ ) إلى الإسلام.
وقال
قتادة: ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) أي
لا يتوبون ولا هم يذكرون.
أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
وهذا
مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة،
ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (
كَصَيِّبٍ ) والصيب:المطر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من
الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة،
وعطية العَوْفِي، وعطاء الخراساني، والسُّدي، والرّبيع بن أنس.
وقال
الضحاك:هو السحاب.
والأشهر
هو المطر نـزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق. (
وَرَعْدٌ ) وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين
الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [
هُمُ الْعَدُوُّ ] [ المنافقون:4 ] وقال:وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ
يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ
يَجْمَحُونَ [ التوبة:56، 57 ] .
والبرق:هو
ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا
قال: ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ )
أي:ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط [ بهم ] بقدرته، وهم تحت مشيئته
وإرادته، كما قال:هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [
البروج:17- 20 ] .
[
والصواعق:جمع صاعقة، وهي نار تنـزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن
أحمد عن بعضهم صاعقة، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة، ونقل عن الحسن البصري
أنه:قرأ « من الصواقع حذر الموت »
بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم:
يحـــكوك بالمثقولــة القــواطع شــفـق البرق عــن
الصـواقـع
قال
النحاس:وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة, حكى ذلك القرطبي في تفسيره ] .
ثم
قال: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ )
أي:لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ ) يقول:يكاد مُحْكَمُ
القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال
ابن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) أي
لشدة ضوء الحق، ( كلما أضاء لهم مشوا فيه
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي
كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت
قلوبَهم فوقفوا حائرين.
وقال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ ) يقول:كلما أصاب المنافقين
من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر،
كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ] الآية [ الحج:11 ] .
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي:يعرفون
الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر (
قَامُوا ) أي:متحيرين.
وهكذا
قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده، عن
الصحابة وهو أصح وأظهر. والله أعلم.
وهكذا
يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور
ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة
ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى. ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم
الخُلَّص من المنافقين، الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [ الحديد:13 ] وقال في حق
المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ الآية [ الحديد:12
] ، وقال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [
التحريم:8 ] .
ذكر
الحديث الوارد في ذلك:
قال
سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ الآية [ الحديد:12 ] ، ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقول: « من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين صنعاء
ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه » .
رواه ابن جرير.
ورواه
ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر القطان، عن قتادة، بنحوه.
وهذا
كما قال المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، قال:يؤتون
نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل
القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد مرة.
وهكذا
رواه ابن جرير، عن ابن مُثَنَّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن المنهال.
وقال
ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي
يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود: نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [ التحريم:8 ] قال:على قدر أعمالهم يمرون على الصراط،
منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في
إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال
ابن أبي حاتم أيضًا:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني،
حدثنا عُتْبَةُ بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:ليس أحد من أهل التوحيد
إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من
إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون:ربنا أتمم لنا نورنا.
وقال
الضحاك بن مزاحم:يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا؛ فإذا
انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا .
فإذا
تقرر هذا صار الناس أقسامًا:مؤمنون خُلّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول
البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان:خلص، وهم
المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لُمَعٌ من الإيمان
وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم.
وهذا
المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور، من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله
في قلبه من الهدى والنور، بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دُرّي، وهي قلب
المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من
غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.
ثم
ضرب مثل العُبّاد من الكفار، الذين يعتقدون أنهم على شيء، وليسوا على شيء، وهم
أصحاب الجهل المركب، في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئًا الآية [ النور:39 ] .
ثم
ضرب مثل الكفار الجُهَّال الجَهْلَ البسيط، وهم الذين قال [ الله ] فيهم: أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ
[ النور:40 ] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين:داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة
الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [ الحج:3 ] وقال بعده: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ
فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [ الحج:8 ] وقد قسم
الله المؤمنين في أول الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، إلى قسمين:سابقون وهم
المقربون، وأصحاب يمين وهم الأبرار.
فتلخص
من مجموع هذه الآيات الكريمات:أن المؤمنين صنفان:مقربون وأبرار، وأن الكافرين
صنفان:دعاة ومقلدون، وأن المنافقين - أيضًا- صنفان:منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من
نفاق، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ثلاث
من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
حتى يَدَعها:من إذا حَدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » .
استدلوا
به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق. إما عَمَلي لهذا
الحديث، أو اعتقادي، كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض
العلماء، كما تقدم، وكما سيأتي، إن شاء الله. قال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر،
حدثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليث، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي
سعيد، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « القلوب
أربعة:قلب أجرد، فيه مثل السراج يُزْهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس،
وقلب مُصَفَّح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف
فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب
المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيب،
ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدّها القيح والدم، فأي المدّتين غلبت على الأخرى
غلبت عليه » . وهذا إسناد جيد حسن.
وقوله:
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
قال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن
عباس، في قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ )
قال:لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته.
( إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
قال ابن عباس أي إنّ الله على كل ما أراد بعباده من نقمة، أو عفو، قدير.
وقال
ابن جرير:إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ؛ لأنه حذر
المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، و [ أنه ] على إذهاب أسماعهم
وأبصارهم قدير، ومعنى ( قَدِيرٌ )
قادر، كما أن معنى ( عَلِيمٌ )
عالم.
[
وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف
واحد من المنافقين وتكون « أو » في
قوله تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ )
بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [
الإنسان:24 ] ، أو تكون للتخبير، أي:اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، قاله
القرطبي. أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري:أن كلا
منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله:سواء ضربت لهم مثلا
بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت:وهذا
يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى
في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من
الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم،
والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله
تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ إلى أن قال: أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ الآية [ النور:39، 40 ] ،
فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع
المقلدين، والله أعلم بالصواب ] .
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
شرع
تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده، بإخراجهم
من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض
فراشا، أي:مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، (
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) وهو السقف، كما قال في
الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا
مُعْرِضُونَ [ الأنبياء:32 ] وأنـزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا-
في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛
رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومنْ أشبه آية بهذه
الآية قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ غافر:64 ]
ومضمونه:أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد
وحده ولا يُشْرَك به غَيره؛ ولهذا قال: ( فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: « أن
تجعل لله ندا، وهو خلقك » الحديث . وكذا حديث معاذ: « أتدري
ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا »
الحديث وفي الحديث الآخر: « لا يقولن أحدكم:ما شاء الله
وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله، ثم شاء فلان » .
وقال
حماد بن سلمة:حدثنا عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش، عن الطفيل بن
سَخْبَرَة، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها، قال:رأيت فيما يرى النائم، كأني أتيت على
نفر من اليهود، فقلت:من أنتم؟ فقالوا:نحن اليهود، قلت:إنكم لأنتم القوم لولا أنكم
تقولون:عُزَير ابن الله. قالوا:وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون:ما شاء الله
وشاء محمد. قال:ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت:من أنتم؟ قالوا:نحن النصارى.
قلت:إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون:المسيح ابن الله. قالوا:وإنكم لأنتم القوم
لولا أنكم تقولون:ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: « هل
أخبرت بها أحدًا؟ » فقلت:نعم. فقام، فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: « أما بعد، فإن طُفيلا رأى رؤيا
أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا
تقولوا:ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا:ما شاء الله وحده » .
هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، به . وأخرجه ابن
ماجه من وجه آخر، عن عبد الملك بن عمير به، بنحوه .
وقال
سفيان بن سعيد الثوري، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن
عباس، قال:قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:ما شاء الله وشئت. فقال: «
أجعلتني لله ندا ؟ قل:ما شاء الله وحده » .
رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس، عن الأجلح، به
.
وهذا
كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم.
وقال
محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال:قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) للفريقين جميعًا من
الكفار والمنافقين، أي:وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم.
وبه
عن ابن عباس: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:لا تشركوا بالله غيره
من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد
علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا
شك فيه. وهكذا قال قتادة.
وقال
ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو، حدثنا أبي الضحاك
بن مخلد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله، عز
وجل ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] )
قال:الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن
يقول:والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول:لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا
البطّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه:ما شاء الله وشئتَ، وقول
الرجل:لولا الله وفلان. لا تجعل فيها « فلان » .
هذا كله به شرك.
وفي
الحديث:أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال: «
أجعلتني لله ندا » . وفي الحديث الآخر: « نعم
القوم أنتم، لولا أنكم تنددون، تقولون:ما شاء الله، وشاء فلان » .
قال
أبو العالية: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا ) أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة،
والسُّدي، وأبو مالك:وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال
مجاهد: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ) قال:تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر
حديث في معنى هذه الآية الكريمة:
قال
الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يُعَد من البُدَلاء،
حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن نبي
الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله عز وجل، أمر يحيى بن
زكريا، عليه السلام، بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن،
وكان يبطئ بها، فقال له عيسى، عليه السلام:إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن
وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن. فقال:يا أخي،
إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي » .
قال: « فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ
المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:إن الله أمرني بخمس كلمات
أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن:أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا،
فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي
غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه
ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت،
فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في
عصابة، كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه
ليضربوا عنقه، فقال لهم:هل لكم أن أفتدي نفسي ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل
والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرًا؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو
سِراعا في أثره، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان
إذا كان في ذكر الله » .
قال:وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وأنا آمركم بخمس الله أمرني
بهن:الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من
الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى
جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم » . قالوا:يا رسول الله، وإن
صام وصلى ؟ فقال: « وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛
فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل:المسلمين المؤمنين عباد الله » .
هذا
حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: « وإن
الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا » .
وهذه
الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثير من
المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال:وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن
من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها
ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه
وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل:ما الدليل على وجود الرب تعالى؟
فقال:يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير،
فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف
الخبير؟
وحكى
فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات
والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال
لهم:دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها
أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير
بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن
يسوقها أحد. فقالوا:هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال:ويحكم هذه الموجودات بما فيها من
العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع!! فبهت
القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن
الشافعي:أنه سئل عن وجود الصانع، فقال:هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج
منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام
فتلقيه بعرًا وروثا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد.
وعن
الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال:هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا
منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره
فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها
الدجاجة.
وسئل
أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تــأمل فـي نبــات الأرض وانظـر إلــى آثـار مـا صنـع
المليـــك
عيــــون مـن لجـين شـاخصات بــأحداق هــي الــذهب
السـبيـك
عـلى قضـب الزبرجـد شـاهــدات بــأن اللــه ليس لــه
شـريــك
وقال
ابن المعتز:
فيــا عجبًـا كـيف يعصـى الإلـه أم كـــيف يجحـــده
الجـــاحد
وفــي كــل شـيء لــه آيــة تـــدل عــلى أنـــه واحـــد
وقال
آخرون:من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار
والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل
يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل
جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها
كما قال:وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [
فاطر:27، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في
الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان
مع اتحاد طبيعة التربة والماء، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته
بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت
وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا.
وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
ثم شرع تعالى في تقرير
النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين: (
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا )
يعني:محمدا صلى الله عليه وسلم ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ ) من
مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا
على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عباس: (
شُهَدَاءَكُمْ ) أعوانكم [ أي:قومًا آخرين
يساعدونكم على ذلك ] .
وقال السدي، عن أبي
مالك:شركاءكم [ أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ] .
وقال مجاهد: (
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ) قال:ناس يشهدون به [
يعني:حكام الفصحاء ] .
وقد تحداهم الله تعالى بهذا
في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ القصص:49
] وقال في سورة سبحان: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ الإسراء:88 ] وقال في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ هود:13 ] ، وقال في
سورة يونس:وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ
فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ يونس:37، 38 ] وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم [ الله تعالى ]
بذلك - أيضًا- في المدينة، فقال في هذه الآية: (
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) أي: [ في ] شك (
مِمَّا نـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا )
يعني:محمدًا صلى الله عليه وسلم. (
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )
يعني:من مثل [ هذا ] القرآن؛ قاله مجاهد وقتادة، واختاره ابن جرير. بدليل قوله:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [ هود:13 ] وقوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [
الإسراء:88 ] وقال بعضهم:من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني:من رجل أمي مثله.
والصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في
مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛
ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَلَنْ تَفْعَلُوا ) « ولن »
:لنفي التأبيد أي:ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه - أيضًا- معجزة أخرى، وهو أنه أخبر
أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا
هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف
يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!
ومن تدبر القرآن وجد فيه من
وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [
هود:1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه
فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر
سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
صِدْقًا وَعَدْلا [ الأنعام:115 ] أي:صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق
وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب
وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر:إن
أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو
الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو
سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر
على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له
فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في
غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف
التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو
وجيزة، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه
العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات،
فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار
السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [
السجدة:17 ] وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ
وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ الزخرف:71 ] ، وقال في الترهيب: أَفَأَمِنْتُمْ
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [ الإسراء:68 ] ، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ
نَذِيرِ [ الملك:16، 17 ] وقال في الزجر: فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [
العنكبوت:40 ] ، وقال في الوعظ:أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ
جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يُمَتَّعُونَ [ الشعراء:205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة
والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل
معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره
من السلف:إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الآية [ الأعراف:157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف
المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه
وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت
إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على
الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس
الشيطان الرجيم.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن
أبي هريرة رضي الله عنه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « ما من
نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي
أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة » لفظ
مسلم. وقوله: « وإنما كان الذي أوتيته وحيًا »
أي:الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من
الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ] والله أعلم. وله عليه
الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت
حصر، ولله الحمد والمنة.
[ وقد قرر بعض المتكلمين
الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية، فقال:إن كان هذا
القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته، فقد
حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة
عداوتهم له، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم
على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر
معارضته، كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل التنـزل والمجادلة والمنافحة عن الحق
وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ] .
وقوله تعالى: (
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ ) أما الوَقُود، بفتح
الواو، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال: وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [ الجن:15 ] وقال تعالى: إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
[ الأنبياء:98 ] .
والمراد بالحجارة هاهنا:هي
حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت،
أجارنا الله منها.
قال عبد الملك بن ميسرة
الزرّاد عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله
تعالى: ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )
قال:هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا،
يعدها للكافرين. رواه ابن جرير، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه
وقال:على شرط الشيخين .
وقال السدي في تفسيره، عن
أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة:
( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ ) أما الحجارة فهي حجارة في
النار من كبريت أسود، يعذبون به مع النار.
وقال مجاهد:حجارة من كبريت
أنتن من الجيفة. وقال أبو جعفر محمد بن علي: [ هي ] حجارة من كبريت. وقال ابن
جريج:حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة
وأعظم.
[ وقيل:المراد بها:حجارة
الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال: إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية [ الأنبياء:98 ] ، حكاه
القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول؛ قال:لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس
بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى، وهذا الذي قاله ليس بقوي،؛ وذلك أن النار إذا
أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره
السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا-
مشاهد، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار
تفخرها النار وتحرقها. وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها، وشدة ضرامها
وقوة لهبها كما قال: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الإسراء:97 ] . وهكذا
رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها
قال:ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها، قال:وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: « كل مؤذ في النار »
وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ثم قال القرطبي:وقد فسر بمعنيين، أحدهما:أن كل
من آذى الناس دخل النار ، والآخر:كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من
السباع والهوام وغير ذلك ] .
وقوله تعالى: (
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) الأظهر أنّ الضمير في (
أُعِدَّتْ ) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل
عوده على الحجارة، كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما
متلازمان.
و (
أُعِدَّتْ ) أي:أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال [ محمد
] بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) أي:لمن كان على مثل ما
أنتم عليه من الكفر.
وقد استدل كثير من أئمة
السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله: ( أُعِدَّتْ
) أي:أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: « تحاجت
الجنة والنار » ومنها: «
استأذنت النار ربها فقالت:رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس
في الصيف » ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « هذا حجر ألقي به من شفير جهنم
منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها » وهو
عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا
المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي
قاضي الأندلس.
تنبيه ينبغي الوقوف عليه:
قوله: (
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )
وقوله في سورة يونس: بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [ يونس:38 ] يعم كل سورة في القرآن طويلة
كانت أو قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين
من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما
أعلم فيه نـزاعًا بين الناس سلفًا وخلفًا، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين
الرازي في تفسيره:فإن قيل:قوله: (
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )
يتناول سورة الكوثر وسورة العصر، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، ونحن نعلم بالضرورة
أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن. فإن قلتم:إن الإتيان بمثل هذه السور خارج
عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى
الدين:قلنا:فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا:إن بلغت هذه السورة في
الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من المعارضة
مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا ، فعلى التقديرين يحصل المعجز ، هذا لفظه
بحروفه. والصواب:أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت
أو قصيرة.
قال الشافعي، رحمه الله:لو
تدبر الناس هذه السورة لكفتهم:وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ سورة العصر ] . وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد
على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة:ماذا أنـزل على صاحبكم بمكة في هذا
الحين؟ فقال له عمرو:لقد أنـزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال:وما هي؟
فقال:وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ففكر ساعة ثم رفع رأسه
فقال:ولقد أنـزل عليَّ مثلها، فقال:وما هو؟ فقال:يا وبْر يا وبْر، إنما أنت أذنان
وصدر، وسائرك حقر فقر، ثم قال:كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو:والله إنك لتعلم أني
لأعلم إنك تكذب .
وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا
هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا
أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 25 )
لما ذكر
تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عَطف
بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم
الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن « مثاني
» على أصح أقوال العلماء، كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر
الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء، أو عكسه. وحاصله
ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه، كما سنوضحه إن شاء الله؛
فلهذا قال تعالى: ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ ) فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، كما وصف النار بأن
وقودها الناس والحجارة، ومعنى ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ ) أي:من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث:أن أنهارها
تجري من غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة
بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله [
وكرمه ] إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن
أبي حاتم:قرئ على الربيع بن سليمان:حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن ثوبان، عن عطاء
بن قرّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال - أو من تحت جبال- المسك
» .
وقال
أيضا:حدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق،
قال:قال عبد الله:أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وقوله
تعالى: ( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا
هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال
السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود،
وعن ناس من الصحابة: ( قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال:إنهم أتوا بالثمرة في
الجنة، فلما نظروا إليها قالوا:هذا الذي رزقنا من قبل في [ دار
] الدنيا.
وهكذا
قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ونصره ابن جرير.
وقال
عكرمة: ( قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ )
قال:معناه:مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد:يقولون:ما
أشبهه به.
قال ابن
جرير:وقال آخرون:بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا لشدة
مشابهة بعضه بعضًا، لقوله تعالى: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال سُنَيْد بن داود:حدثنا
شيخ من أهل المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال:يؤتى أحدهم بالصحفة
من الشيء، فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول:هذا الذي أوتينا به من قبل. فتقول
الملائكة:كُلْ، فاللون واحد، والطعم مختلف.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عامر بن يَسَاف، عن يحيى بن أبي
كثير قال:عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه
فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة:هذا الذي أتيتمونا آنفا به، فيقول
لهم الولدان:كلوا، فإن اللون واحد، والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا )
وقال أبو
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال:يشبه بعضه بعضًا، ويختلف
في الطعم.
وقال ابن
أبي حاتم:ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك.
وقال ابن
جرير بإسناده عن السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن
مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) يعني:في اللون والمرأى، وليس
يشتبه في الطعم.
وهذا
اختيار ابن جرير.
وقال
عكرمة: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا )
قال:يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب.
وقال
سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي ظِبْيان، عن ابن عباس، لا يشبه شَيءٌ مما في
الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء، وفي رواية:ليس في الدنيا مما في الجنة إلا
الأسماء. رواه ابن جرير، من رواية الثوري، وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية
كلاهما عن الأعمش، به.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال:يعرفون أسماءه كما كانوا
في الدنيا:التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة:هذا الذي رزقنا من قبل
في الدنيا، وأتوا به متشابها، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.
وقوله
تعالى: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) قال
ابن أبي طلحة، عن ابن عباس:مطهرة من القذر والأذى.
وقال
مجاهد:من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال
قتادة:مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه:لا حيض ولا كلف. وروي عن عطاء والحسن
والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك.
وقال ابن
جرير:حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،
قال:المطهرة التي لا تحيض. قال:وكذلك خلقت حواء، عليها السلام، حتى عصت، فلما عصت
قال الله تعالى:إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة. وهذا غريب.
وقال
الحافظ أبو بكر بن مردويه:حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثني جعفر بن محمد بن حرب،
وأحمد بن محمد الجُوري قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي، حدثنا عبد الرزاق بن عمر
البَزيعيّ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي
سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) قال: « من
الحيض والغائط والنخاعة والبزاق » .
هذا حديث
غريب. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن محمد بن يعقوب، عن الحسن بن علي بن عفان، عن
محمد بن عبيد، به، وقال:صحيح على شرط الشيخين.
وهذا
الذي ادعاه فيه نظر؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان
البُسْتي:لا يجوز الاحتجاج به .
قلت:والأظهر
أن هذا من كلام قتادة، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله
تعالى: ( وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) هذا هو
تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له
ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في
زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم.
إِنَّ
اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا
الْفَاسِقِينَ ( 26 )
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ ( 27 )
قال السدي
في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن
ناس من الصحابة:لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [
البقرة:17 ] وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [
البقرة:19 ] الآيات الثلاث، قال المنافقون:الله أعلى وأجل من أن يضرب
هذه الأمثال، فأنـزل الله هذه الآية إلى قوله: ( هُمُ
الْخَاسِرُونَ )
وقال عبد
الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة:لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون:ما بال
العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله [ تعالى
هذه الآية ] ( إِنَّ اللَّهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) .
وقال
سعيد، عن قتادة:أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما، قل أو كثر، وإن
الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة:ما أراد الله من ذكر هذا؟
فأنـزل الله: ( إِنَّ اللَّهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا )
قلت:العبارة
الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية، وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد، عن
قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة.
وقال ابن
أبي حاتم:روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة.
وقال أبو
جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال:هذا مثل ضربه الله للدنيا؛ إذ
البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا
المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند ذلك، ثم تلا
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
[ الأنعام:44 ] .
هكذا
رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية،
بنحوه، فالله أعلم.
فهذا
اختلافهم في سبب النـزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي؛ لأنه أمس بالسورة،
وهو مناسب، ومعنى الآية:أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي:لا يستنكف، وقيل:لا يخشى
أن يضرب مثلا ما، أي:أيّ مثل كان، بأي شيء كان، صغيرًا كان أو كبيرًا.
و « ما » هاهنا
للتقليل وتكون ( بَعُوضَةً ) منصوبة
على البدل، كما تقول:لأضربن ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيء [ أو
تكون « ما » نكرة موصوفة ببعوضة ] .
واختار ابن جرير أن ما موصولة، و (
بَعُوضَةً ) معربة بإعرابها، قال:وذلك سائغ في كلام العرب، أنهم يعربون
صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى، كما قال حسان بن
ثابت:
وَكَــفَى
بِنَا فَضْـلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا حُــب النَّبِيِّ مُحَمَّـدٍ إيَّانَـا
قال:ويجوز
أن تكون ( بَعُوضَةً ) منصوبة
بحذف الجار، وتقدير الكلام:إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما
فوقها.
[
وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت « بعوضة
» بالرفع، قال ابن جني:وتكون صلة لما وحذف العائد كما في
قوله: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [ الأنعام:154 ] أي:على الذي أحسن هو أحسن،
وحكى سيبويه:ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي:يعني بالذي هو قائل لك شيئًا ] .
وقوله: ( فَمَا
فَوْقَهَا ) فيه قولان:أحدهما:فما دونها في الصغر، والحقارة، كما إذا
وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع :نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت. وهذا قول
الكسائي وأبي عبيدة، قال الرازي:وأكثر المحققين، وفي الحديث: « لو أن
الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء » .
والثاني:فما فوقها:فما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة. وهذا
[ قول قتادة بن دعامة و ] اختيار
ابن جرير. [ ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها:أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: « ما من مسلم يشاك شوكة فما
فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » ] .
فأخبر
أنه لا يستصغر شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما [ لم
يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ] ضرب
المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [
الحج:73 ] ، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [
العنكبوت:41 ] وقال تعالى:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ
الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ [ إبراهيم:24- 27 ] ، وقال
تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [
وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ] الآية
[ النحل:75 ] ، ثم
قال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ] الآية
[ النحل:76 ] ، كما
قال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ الآية [ الروم:28
] . وقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ [ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ
] الآية [ الزمر:29 ] ، وقد
قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا
الْعَالِمُونَ [ العنكبوت:43 ] وفي
القرآن أمثال كثيرة.
قال بعض
السلف:إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول:
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ
وقال
مجاهد قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن
بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.
وقال
قتادة: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي:يعلمون أنه كلام الرحمن،
وأنه من عند الله.
وروي عن
مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال أبو
العالية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني:هذا المثل: (
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) كما
قال في سورة المدثر: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا
جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا
يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ [ المدثر:31 ] ،
وكذلك قال هاهنا: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ )
قال
السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة، عن ابن مسعود،
وعن ناس من الصحابة: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا )
يعني:المنافقين، ( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) يعني
المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من
المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم
به ( وَيَهْدِي بِهِ ) يعني
بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى
إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا
وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به ( وَمَا
يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) قال:هم
المنافقون .
وقال أبو
العالية: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) قال:هم
أهل النفاق. وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال ابن
جريج عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا
الْفَاسِقِينَ ) يقول:يعرفه الكافرون فيكفرون
به.
وقال
قتادة: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) فسقوا،
فأضلهم الله على فسقهم.
وقال ابن
أبي حاتم:حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن
سعد، عن سعد ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) يعني
الخوارج.
وقال
شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، قال:سألت أبي فقلت:قوله تعالى: (
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) إلى
آخر الآية، فقال:هم الحرورية. وهذا الإسناد إن صح عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله
عنه، فهو تفسير على المعنى، لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج، الذين
خرجوا على عليٍّ بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نـزول الآية، وإنما هم داخلون
بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم على طاعة الإمام والقيام بشرائع
الإسلام.
والفاسق
في اللغة:هو الخارج عن الطاعة أيضًا. وتقول العرب:فسقت الرطبة:إذا خرجت من قشرتها
؛ ولهذا يقال للفأرة:فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد. وثبت في الصحيحين، عن
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خمس
فواسق يُقتلن في الحل والحرم:الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور » .
فالفاسق
يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق
الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله: (
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ )
وهذه
الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة
الرعد:أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ
هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ
الْحِسَابِ الآيات، إلى أن قال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[ الرعد:19- 25 ] .
وقد
اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم:هو
وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه
من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال
آخرون:بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه
الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث
والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم
بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك [ عن ] الناس
بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم
نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول
مقاتل بن حيان.
وقال
آخرون:بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق. وعهده إلى جميعهم في
توحيده:ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما
احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها
الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا:ونقضهم ذلك:تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة
وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان
نحو هذا، وهو حسن، [ وإليه مال الزمخشري، فإنه
قال:فإن قلت:فما المراد بعهد الله؟ قلت:ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد،
كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ الأعراف:172 ] إذ أخذ الميثاق عليهم في
الكتب المنـزلة عليهم لقوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ البقرة:40
] .
وقال
آخرون:العهد الذي ذكره [ الله ] تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب
آدم الذي وصف في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى [ شَهِدْنَا ] الآيتين [ الأعراف:172، 173 ] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به.
وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال
أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ )
إلى قوله: ( الْخَاسِرُونَ )
قال:هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة على الناس أظهروا هذه
الخصال:إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله
من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت
الظَّهْرَةُ عليهم أظهروا الخصال الثلاث:إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا
اؤتمنوا خانوا.
وكذا
قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده، قوله تعالى: (
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ )
قال:هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله:
( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )
قيل:المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ [ محمد:22 ] ورجحه ابن جرير. وقيل:المراد أعم من ذلك فكل ما أمر
الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.
وقال
مقاتل بن حيان في قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
) قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: أُولَئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ الرعد:25 ] .
وقال
الضحاك عن ابن عباس:كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، فإنما
يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب.
وقال
ابن جرير في قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ ) الخاسرون:جمع خاسر، وهم
الناقصون أنفسهم [ و ] حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته
بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته
التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه:خسر الرجل يخسر
خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا، كما قال جرير بن عطية إن سَــلِيطًا فــي
الخَسَــارِ إنَّـه أولادُ قَــــومٍ خُـــلقُوا أقِنَّـــه
كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 )
يقول
تعالى محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: (
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ) أي:كيف تجحدون وجوده أو
تعبدون معه غيره! ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ) أي:قد كنتم عدمًا فأخرجكم
إلى الوجود، كما قال تعالى:أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [
الطور:35، 36 ] ، وقال هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ
يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [ الإنسان:1 ] والآيات في هذا كثيرة.
وقال
سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه:
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [ غافر:11 ]
قال:هي التي في البقرة: ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )
وقال
ابن جُريج ، عن عطاء، عن ابن عباس: (
كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ )
أمواتا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم
يحييكم حين يبعثكم. قال:وهي مثل قوله: [ رَبَّنَا ] أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .
وقال
الضحاك، عن ابن عباس في قوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ قال:كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه
حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه
حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: (
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )
وهكذا
روي عن السدي بسنده، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة، عن ابن
مسعود وعن ناس من الصحابة- وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبي صالح
والضحاك وعطاء الخراساني نَحْوُ ذلك.
وقال
الثوري، عن السدي عن أبي صالح: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) قال:يحييكم في القبر ، ثم
يميتكم.
وقال
ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ خلقهم في ظهر آدم ثم
أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم
القيامة. وذلك كقول الله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
وهذا
غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس، وأولئك الجماعة من
التابعين، وهو كقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [ الجاثية:26 ] .
[
وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس، كما قال في
الأصنام: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [ النحل:21 ] ، وقال وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ
الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [
يس:33 ] .
هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )
لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ
خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات
والأرض، فقال: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ
مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ )
أي:قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا تَضَمَّن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بإلى
( فَسَوَّاهُنَّ )
أي:فخلق السماء سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: (
فَسَوَّاهُنَّ ) . (
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي:وعلمه محيط بجميع ما
خلق . كما قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [ الملك:14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة
حم السجدة وهو قوله:قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فصلت:9- 12 ] .
ففي هذا دلالة على أنه
تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ
بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن
شاء الله. فأما قوله تعالى:أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *
وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا *
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [ النازعات:27- 32 ] فقد قيل:إن ( ثُمَّ
) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على
الفعل، كما قال الشاعر:
قــل
لمــن سـاد ثـم سـاد أبـوه ثــم قــد سـاد قبـل ذلـك جـده
وقيل:إن الدَّحْىَ كان بعد
خلق السماوات، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وقد قال السدي في تفسيره،
عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس- وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من
الصحابة ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] )
قال:إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل
الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما
عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في
يومين في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في
القرآن: ن وَالْقَلَمِ والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر
مَلَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في
السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال
فَقَرّت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [ النحل:15 ] . وخلق الجبال فيها، وأقواتَ أهلها
وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول:قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا [ فصلت:9، 10 ] . يقول:أنبت شجرها
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول:أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [ فصلت:10 ] يقول:من سأل فهكذا الأمر. ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [ فصلت:11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس،
فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما
سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا [ فصلت:12 ] قال:خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي
فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب،
فجعلها زينة وحفظًا تُحْفَظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على
العرش، فذلك حين يقول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [ الأعراف:54 ] ويقول كَانَتَا رَتْقًا
فَفَتَقْنَاهُمَا [ الأنبياء:30 ] .
وقال ابن جرير:حدثني
المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله
بن سلام أنه قال:إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين،
وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة،
وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عَجَل، فتلك الساعة التي تقوم
فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله: ( هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا )
قال:خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول:
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ (
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ )
قال:بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني بعضهن تحت بعض.
وهذه الآية دالة على أن
الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ
رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ
اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فصلت:9- 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل
السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نـزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن
قتادة:أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله
تعالى:أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [ النازعات:27- 31 ]
قالوا:فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري :أن ابن عباس سئل عن هذا
بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء،
وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا، وقد قررنا ذلك في تفسير
سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله:وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [
النازعات:30- 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما
اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان
مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها
وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن
مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضًا- من
رواية ابن جُرَيج قال:أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن
رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي
فقال: « خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد،
وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم
الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة
من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل » .
وهذا الحديث من غرائب صحيح
مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام
كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة
فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ ( 30 )
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ
الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ) أي:واذكر يا محمد إذ قال ربك
للملائكة، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [ وهو أبو عبيدة ] أنه زعم أن « إذ » هاهنا زائدة، وأن تقدير
الكلام:وقال ربك. ورده ابن جرير.
قال القرطبي:وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج:هذا
اجتراء من أبي عبيدة.
(
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) أي:قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [ الأنعام:165 ] وقال وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاءَ الأَرْضِ [
النمل:62 ] . وقال
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ [ الزخرف:60 ] . وقال فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [
مريم:59 ] . [ وقرئ في الشاذ: « إني جاعل في الأرض خليقة » حكاه الزمخشري وغيره
ونقلها القرطبي عن زيد بن علي ] . وليس
المراد هاهنا بالخليفة آدم، عليه السلام، فقط، كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه
القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في
ذلك كثير، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا
إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ ) فإنهم
إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما
فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ
مسنون [ أو
فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم
المحارم والمآثم، قاله القرطبي ] أو
أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على
وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي:لا
يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا. قال
قتادة:وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا ) الآية ] وإنما
هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون:يا ربنا، ما الحكمة في خلق
هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن
نسبح بحمدك ونقدس لك، أي:نصلي لك كما سيأتي، أي:ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع
الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ ) أي:إني
أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون
أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء،
والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون
والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح :أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى
بأعمال عباده سألهم وهو أعلم:كيف تركتم عبادي؟ فيقولون:أتيناهم وهم يصلون وتركناهم
وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث
هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: « يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل » فقولهم:أتيناهم وهم يصلون
وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وقيل:معنى قوله جوابًا لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ ) أن لي
حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل:إنه جواب لقولهم: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) فقال:
(
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل:بل تضمن قولهم: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض
بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من أن بقاءكم في السماء أصلح
لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه:
قال ابن جرير:حدثني القاسم بن الحسن قال:حدثنا الحسين
قال:حدثني الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة،
قالوا:قال الله للملائكة: (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال لهم:إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي:استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم،
قال :وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل،
وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.
( فِي
الأرْضِ ) قال
ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد
الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « دُحِيت الأرض من مكة، وأول من
طاف بالبيت الملائكة، فقال الله:إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة » .
وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مُدْرَج، وهو أن المراد بالأرض
مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
(
خَلِيفَةً ) قال
السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة، عن ابن مسعود،
وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا :ربنا وما يكون ذلك
الخليفة؟ قال:يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قال ابن جرير:فكان تأويل الآية على هذا: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً ) مني،
يخلفني في الحكم بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله
والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير:وإنما [ كان تأويل الآية على هذا ] معنى الخلافة التي ذكرها الله
إنما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال:والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلان فلانا في هذا
الأمر:إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي
الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ يونس:14 ] . ومن ذلك قيل للسلطان
الأعظم:خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خَلَفًا.
قال:وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً )
يقول:ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير:وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا
بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال:أول من سكن الأرض الجنُّ،
فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال:فبعث الله إليهم إبليس،
فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم وأسكنه
إياها، فلذلك قال: (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) .
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قال:يعنون [ به ] بني آدم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:قال الله للملائكة:إني أريد
أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله، عز وجل، خلق إلا الملائكة،
والأرض ليس فيها خلق، قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها [ ويسفك الدماء ] ؟!
وقد تقدم ما رواه السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من
الصحابة:أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم
آنفا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس:أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت
الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد
الطَّنَافِسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن
عبد الله بن عمرو، قال:كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة،
فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى
ألحقوهم بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا:أتجعل فيها من يفسد
فيها ويسفك الدماء؟ قال:إني أعلم ما لا تعلمون .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً ) إلى
قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [ البقرة:33 ] قال:خلق الله الملائكة يوم
الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت
الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء بينهم، وكان الفساد في
الأرض، فمن ثم قالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كما أفسدت الجن ( وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) كما سَفَكُوا.
قال ابن أبي حاتم:وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد
بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال:قال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً ) قال
لهم:إني فاعل. فآمنوا بربهم ، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه،
فقالوا بالعلم الذي علمهم: ( أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؟ ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا
لا تَعْلَمُونَ )
قال الحسن:إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء،
ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا ) كان [ الله ] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض
خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا ) .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام الرازي، حدثنا ابن
المبارك، عن معروف، يعني ابن خَرّبوذ المكي، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي
يقول:السّجِلّ ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات
ينظرهن في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من
الأمور، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قالا ذلك استطالة على
الملائكة.
وهذا أثر غريب. وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن
الحسن الباقر، فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم. ومقتضاه
أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضًا- حيث قال:حدثنا أبي،
حدثنا هشام بن أبي عَبْد الله، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال:سمعت أبي
يقول:إن الملائكة الذين قالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) كانوا
عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.
وهذا - أيضًا- إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم.
قال ابن جريج:إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق
آدم، فقالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ )
وقال ابن جرير:وقال بعضهم:إنما قالت الملائكة ما قالت: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم أن ذلك
كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها:وكيف يعصونك يا رب وأنت
خالقهم!؟ فأجابهم ربهم: (
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يعني:أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من
ترونه لي طائعا.
قال:وقال بعضهم:ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم
يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا:يا رب خبرنا، مسألة [ الملائكة ] استخبار منهم، لا على وجه الإنكار، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة قوله: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأرْضِ خَلِيفَةً )
فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ ) وقد
علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في
الأرض (
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ ) فكان
في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة،
قال:وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول:إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت
الملائكة:ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل
خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ فصلت:11 ] .
وقوله تعالى: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر،
عن قتادة:التسبيحُ:التسبيحُ، والتقديس:الصلاة .
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن
مُرّة، عن ابن مسعود- وعن ناس من الصحابة: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال:يقولون:نصلي لك.
وقال مجاهد: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال:نعظمك ونكبرك.
وقال الضحاك:التقديس:التطهير.
وقال محمد بن إسحاق: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال:لا نعصي ولا نأتي شيئًا
تكرهه.
وقال ابن جرير:التقديس:هو التعظيم والتطهير، ومنه
قولهم:سُبُّوح قُدُّوس، يعني بقولهم:سُبوح، تنـزيه له، وبقولهم:قدوس، طهارة وتعظيم
له. ولذلك قيل للأرض:أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ ) ننـزهك
ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف
إليك أهل الكفر بك.
[ وفي
صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل:أي الكلام أفضل ؟ قال: « ما اصطفى الله لملائكته سبحان
الله وبحمده »
وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به
سمع تسبيحًا في السماوات العلا « سبحان
العلي الأعلى سبحانه وتعالى » ] .
( قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) قال قتادة:فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة
أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد
من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة
ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم،
ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن
إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي
بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل
الصديق بعمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو
باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند
الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم، أو بقهر واحد الناس على
طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال:لا
يشترط، وقيل:بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي:يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك
عمر رضي الله عنه، الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن
عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي
هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا
بصيرًا سليم الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح، ولا يشترط الهاشمي
ولا المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه
خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: « إلا أن تروا كفرًا بواحًا
عندكم من الله فيه برهان » وهل له
أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا
لعذر وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة
والسلام: « من
جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان » . وهذا قول الجمهور، وقد حكى
الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين، وقالت الكرامية:يجوز نصب إمامين
فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا:وإذا جاز بعث نبيين في وقت
واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين
عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت
الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت:وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس
بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ( 31 ) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا
عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 ) قَالَ يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه
به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على
ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك،
فأخبرهم [
الله ] تعالى
بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم
بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا )
وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ
كُلَّهَا )
قال:عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدواب، فقيل:هذا الحمار، هذا الجمل،
هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال:هي هذه الأسماء التي
يتعارف بها الناس:إنسان، ودابة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل ، وحمار، وأشباه
ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عاصم بن كليب، عن سعيد
بن معبد، عن ابن عباس: (
وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال:علمه اسم الصحفة والقِدر، قال:نعم حتى الفسوة
والفُسَيَّة .
وقال مجاهد: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال:علمه اسم كل دابة، وكل
طير، وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف:أنه علمه
أسماء كل شيء، وقال الربيع في رواية عنه:أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي:أسماء
النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد:علمه أسماء ذريته كلهم.
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه
قال: ( ثُمَّ
عَرَضَهُمْ ) وهذا
عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم،
ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. كما قال: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ
مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ النور:45 ] .
[ وقد
قرأ عبد الله بن مسعود: « ثم
عرضهن »
وقرأ أبي بن كعب: « ثم
عرضها »
أي:السماوات ] .
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها:ذواتها وأفعالها؛ كما
قال ابن عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛
ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه:حدثنا مسلم بن
إبراهيم، حدثنا مسلم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وقال لي خليفة:حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة عن
أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال - : « يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون:لو استشفعنا إلى ربنا؟
فيأتون آدم فيقولون:أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء
كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول:لَسْتُ هُنَاكُمْ،
ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه
فيقول:لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول:ائتوا خليل
الرحمن، فيأتونه، فيقول:لست هُنَاكم؛ فيقول:ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه
التوراة، فيأتونه، فيقول:لست هُنَاكُمْ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحي من
ربه؛ فيقول:ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه،
فيقول:لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،
فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا،
فيدعني ما شاء الله، ثم يقال:ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع،
فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمُنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود
إليه، وإذا رأيت ربي مثله ، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة
فأقول:ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود » .
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلم والنسائي
من حديث هشام، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به . وأخرجه مسلم
والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد، وهو ابن أبي عَرُوبَة، عن قتادة . ووجه إيراده
هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام: « فيأتون آدم فيقولون:أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك
ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء » ، فدل
هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ )
يعني:المسميات؛ كما قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال:ثم عرض تلك الأسماء
على الملائكة (
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس -
وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) ثم عرض الخَلْق على الملائكة.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.
وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن
جرير بن حازم ومبارك بن فضالة، عن الحسن - وأبي بكر، عن الحسن وقتادة - قالا علمه
اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة.
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم
أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة:إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض
ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير:وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال
بقوله، ومعنى ذلك فقال:أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة
القائلون:أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك
الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم
صادقين في قيلكم:إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا
وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا
كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير
موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.
[
وقوله ] ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا
عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) هذا تقديس وتنـزيه من
الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما
علمهم الله تعالى، ولهذا قالوا: (
سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ )
أي:العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك
الحكمة في ذلك، والعدل التام.
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث،
عن حجاج، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس:سبحان الله، قال:تنـزيه الله نفسه عن
السوء. [ قال
] ثم قال
عمر لعلي وأصحابه عنده:لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له
علي:كلمة أحبها الله لنفسه، ورضيها، وأحب أن تقال .
قال:وحدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا النضر بن عربي قال:سأل
رجل ميمون بن مِهْرَان عن « سبحان
الله » ،
فقال:اسم يُعَظَّمُ الله به، ويُحَاشَى به من السوء.
وقوله تعالى: ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال زيد بن أسلم. قال:أنت
جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ الغراب.
وقال مجاهد في قول الله: ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) قال:اسم الحمامة، والغراب،
واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.
فلما ظهر فضل آدم، عليه السلام، على الملائكة، عليهم السلام،
في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ ) أي:ألم
أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال [ الله ] تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وكما قال تعالى إخبارا عن
الهدهد أنه قال
لسليمان:أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ .
وقيل في [
معنى ] قوله
تعالى: (
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) غيرُ ما ذكرناه؛ فروى الضحاك،
عن ابن عباس: (
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال:يقول:أعلم السر كما أعلم
العلانية، يعني:ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والاغترار.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن
مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، قال:قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا ) فهذا
الذي أبدوا ( وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
يعني:ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
وكذلك قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي، والضحاك، والثوري.
واختار ذلك ابن جرير.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة:هو
قولهم:لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) فكان
الذي أبدوا قولهم: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) وكان الذي كتموا بينهم قولهم:لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا
أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم، والكرم.
وقال ابن جرير:حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم، في قصة الملائكة وآدم:فقال الله للملائكة:كما لم تعلموا هذه الأسماء
فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته؛ ولذلك أخفيت
عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال:وسَبَقَ من الله لأَمْلأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قال:ولم تعلم الملائكة ذلك ولم
يدروه قال:ولما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل .
وقال ابن جرير:وأولى الأقوال في ذلك قولُ ابن عباس، وهو أن
معنى قوله تعالى: (
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) وأعلم
- مع علمي غيب السماوات والأرض - ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم،
فلا يخفى عَلَيَّ شيء، سواء عندي سرائركم، وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم قولهم:أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي
كانوا يكتمون ما كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره ، والتكبر عن
طاعته.
قال:وصح ذلك كما تقول العرب:قُتِل الجيش وهُزموا، وإنما قتل
الواحد أو البعض، وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج
الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ
الْحُجُرَاتِ [
الحجرات:4 ] ذكر أن
الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم، قال:وكذلك قوله: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 ) .
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث
أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وقد دل على ذلك أحاديث - أيضا- كثيرة
منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى، عليه السلام: « رَبِّ، أرني آدم الذي أخرجنا
ونفسَه من الجنة » ، فلما
اجتمع به قال: « أنت
آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته » . قال... وذكر الحديث كما
سيأتي.
وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا
بشْر بن عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:كان إبليس من حَيّ من
أحياء الملائكة يقال لهم:الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه
الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال:وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي،
قال:وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، [ وهو لسان النار الذي يكون
في طرفها إذا لهبت قال:وخلق الإنسان من طين ] . فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل
بعضهم بعضا. قال:فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذي
يقال لهم:الجنّ - فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال،
فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه، فقال:قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. قال:فاطلع
الله على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى
للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة مجيبين
له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما أفسدت الجن
وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
يقول:إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال:ثم
أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب:اللزج الصلب من حمإ
مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم بيده، قال:فمكث
أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل، أي فيصوت. قال:فهو
قول الله تعالى: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ يقول:كالشيء المنفرج الذي ليس [ الرحمن:14 ]
بمُصْمَت. قال:ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره،
ويخرج من فيه. ثم يقول:لست شيئا - للصلصلة- ولشيء ما خلقت، ولئن سُلِّطْتُ عليك
لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال:فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت
النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا، فلما
انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم
يقدر، فهو قول الله تعالى: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا قال:ضجر لا صبر له على
سراء ولا ضراء. قال:فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: « الحمد لله رب العالمين » بإلهام الله. فقال [ الله ] له: « يرحمك الله يا آدم » . قال ثم قال [ الله ] تعالى للملائكة الذين كانوا
مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات:اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون
إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال:لا أسجد له،
وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول:إن النار
أقوى من الطين. قال:فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي:آيسه من الخير كله،
وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة لمعصيته، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء
التي يتعارف بها الناس:إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من
الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني:الملائكة الذين كانوا
مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاءِ يقول:أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إن كنتم تعلمون لِمَ
أجعل في الأرض خليفة. قال:فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من
علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم قالوا:سبحانك، تنـزيها لله من
أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا إليك لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا
تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ يقول:أخبرهم بأسمائهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [ يقول:أخبرهم ] بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ ولا يعلم غيري وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ يقول:ما تظهرون وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ يقول:أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني:ما كتم إبليس في نفسه من
الكبر والاغترار .
هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا
الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس
- وعن مُرّة، عن ابن
مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:لما فرغ
الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من
قبيلة من الملائكة يقال لهم:الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس
مع مُلْكه خازنا، فوقع في صدره كبر وقال:ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على
الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا :ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال:يكون
له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قالوا:ربنا، أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني:من شأن إبليس.
فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض:إني أعوذ بالله منك أن
تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال:رب مني عاذت بك فأعذتُها، فبعث ميكائيل،
فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه.
فقال:وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ
من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين،
فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينا لازبا - واللازب:هو الذي يلتزق بعضه ببعض -
ثم قال للملائكة:إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص:71 ، 72 ] فخلقه الله بيده لئلا يتكبر
إبليس عنه، ليقول له:تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه بشرا، فكان
جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما
رأوه، وكان أشدهم فزعا منه إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار
وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرحمن:14 ] ويقول:لأمر ما خُلقت. ودخل من
فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة:لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن
سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال
للملائكة:إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في
رأسه، عَطِسَ، فقالت الملائكة:قل:الحمد لله. فقال:الحمد لله، فقال له الله:رحمك
ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل الروح في جوفه اشتهى
الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول تعالى:
خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [
الأنبياء:37 ]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ
يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [
الحجر:30، 31 ] أبى
واستكبر وكان من الكافرين. قال الله له:ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟
قال:أنا خير منه، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طين. قال الله له:اخرج منها فما يكون
لك، يعني:ما ينبغي لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ
[
الأعراف:13 ]
والصغار:هو الذل. قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثم عرض الخلق على
الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن
بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا
مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال الله: يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال:قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا فهذا الذي أبدوا « وأعلم
ما تكتمون » يعني:ما
أسر إبليس في نفسه من الكبر.
فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي
ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مُدْرَج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم
أخذوه من بعض الكتب المتقدمة. والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد
بعينه أشياء، ويقول: [ هو ] على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل
إبليس في خطابهم؛ لأنه - وإن لم يكن من عُنْصرهم - إلا أنه كان قد تشَبَّه بهم
وتوسم بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر. وسنبسط المسألة إن
- شاء الله تعالى- عند قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِ [
الكهف:50 ] .
ولهذا قال:محمد بن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن
عباس قال:كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان
الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا، وأكثرهم علما؛ فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من
حي يسمون جِنًّا.
وفي رواية عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس - أو مجاهد - عن ابن عباس،
أو غيره، بنحوه.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا
عباد - يعني:ابن العوام - عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جُبَير،
عن ابن عباس قال:كان إبليس اسمه عزازيل ، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة
الأربعة، ثم أبلس بعد.
وقال سُنَيْد ، عن حجاج، عن ابن جريج، قال:قال ابن عباس:كان
إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان
سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.
وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس، سواء.
وقال صالح مولى التَّوْأمة، عن ابن عباس:إن من الملائكة
قَبيلا يقال لهم:الجن، وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى،
فمسخه الله شيطانا رجيما. رواه ابن جرير.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب:كان إبليس رئيس ملائكة سماء
الدنيا.
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عدي بن أبي عدي، عن
عوف، عن الحسن، قال:ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما
أن آدم أصل الإنس. وهذا إسناد صحيح عن الحسن. وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
سواء.
وقال شَهْر بن حَوْشَب:كان إبليس من الجن الذين طردتهم
الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير.
وقال سُنَيْد بن داود:حدثنا هُشَيم، أنبأنا عبد الرحمن بن
يحيى، عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال:كانت
الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيرا، فكان مع الملائكة، فتعبد معها، فلما
أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس. فلذلك قال تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ
مِنَ الْجِنِّ [
الكهف:50 ] .
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا أبو عاصم، عن
شريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:إن الله خلق خلقا، فقال:اسجدوا لآدم.
فقالوا:لا نفعل. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: « إني خالق بشرا من طين، اسجدوا
لآدم. قال:فأبوا. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. ثم خلق هؤلاء، فقال:اسجدوا لآدم،
قالوا:نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم . وهذا غريب، ولا يكاد
يصح إسناده، فإن فيه رجلا مبهما، ومثله لا يحتج به، والله أعلم.»
وقال قتادة في قوله: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) فكانت الطاعة لله، والسجدة
أكرم الله آدم بها أن أسجد له ملائكته.
وقال في قوله تعالى: ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ ) حسد
عدو الله إبليسُ آدمَ، عليه السلام، على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال:أنا
ناريٌّ وهذا طينيٌّ، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدوُّ الله أن يسجد لآدم، عليه
السلام.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة،
حدثنا صالح بن حيان، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة:قوله تعالى: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) من الذين أبوا، فأحرقتهم
النار.
وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يعني:من العاصين.
وقال السدي: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) الذين لم يخلقهم الله يومئذ
يكونون بعد.
وقال محمد بن كعب القُرَظِيُّ:ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر
والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر، قال الله
تعالى: (
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
وقال بعض الناس:كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال
تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا
أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [ يوسف:100 ] وقد كان هذا مشروعا في الأمم
الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ :قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم
وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: « لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد
لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها » ورجحه الرازي، وقال بعضهم:بل
كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [ الإسراء:78 ] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر
أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة
لله، عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه
من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر:أن المراد
بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال.
قلت:وقد ثبت في الصحيح: « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر » وقد كان في قلب إبليس من الكبر
- والكفر - والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس؛ قال بعض
المعربين:وكان من الكافرين أي:وصار من الكافرين بسبب امتناعه، كما قال: فَكَانَ
مِنَ الْمُغْرَقِينَ [
هود:43 ] وقال
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [
البقرة:35 ] وقال
الشاعر:
بتيهــاء قفــر والمطــي كأنهـا قطـا الحـزن قد كانت فراخا
بيوضها
أي:قد صارت، وقال ابن فورك:تقديره:وقد كان في علم الله من
الكافرين، ورجحه القرطبي، وذكر هاهنا مسألة فقال:قال علماؤنا من أظهر الله على
يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض
الصوفية والرافضة هذا لفظه. ثم استدل على ما قال:بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى
الخارق على يديه أنه يوافي الله بالإيمان، وهو لا يقطع لنفسه بذلك، يعني والولي
الذي يقطع له بذلك في نفس الأمر.
قلت:وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير
الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر، أيضا، بما ثبت عن ابن صياد أنه قال:هو
الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [
الدخان:10 ] ، وبما
كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت به
الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن
تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك
الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال يونس بن عبد الأعلى
الصدفي:قلت للشافعي:كان الليث بن سعد يقول:إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير
في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي:قصر
الليث، رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا
به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، وقد حكى فخر الدين وغيره قولين للعلماء:هل
المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض، أو عام بملائكة السماوات والأرض، وقد رجح
كلا من القولين طائفة، وظاهر الآية الكريمة العموم:فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ [ الحجر:30 ، 31 ، ص:73 ، 74 ] ، فهذه أربعة أوجه مقوية
للعموم، والله أعلم.
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 35 )
يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم:بعد أن أمر الملائكة
بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس:إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما
شاء رَغَدًا، أي:هنيئًا واسعًا طيبًا.
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث محمد بن عيسى
الدامغاني، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ميكائيل، عن ليث، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه،
عن أبي ذر:قال:قلت:يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال: « نعم، نبيا رسولا كلمه الله
قِبَلا فقال: (
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) » .
وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم، أهي في السماء أم في
الأرض؟ والأكثرون على الأول [
وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض ] ، وسيأتي تقرير ذلك في سورة
الأعراف، إن شاء الله تعالى، وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة،
وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق، حيث قال:لما فرغ الله من معاتبة إبليس، أقبل على آدم
وقد عَلَّمه الأسماء كلها، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى
قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال:ثم ألقيت السِّنَةُ على آدم -
فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عباس وغيره
- ثم أخذ ضِلعًا من أضلاعه من شِقه الأيسر، ولأم مكانه لحما، وآدم نائم لم يهب من
نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها. فلما
كُشِفَ عنه السِّنَة وهبَّ من نومه، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله
أعلم- :لحمي ودمي وروحي . فسكن إليها. فلما زوَّجَه الله، وجعل له سكنا من نفسه،
قال له قِبَلا ( يَا
آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ
شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ )
ويقال:إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة، كما قال السدي في
تفسيره ، ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود،
وعن ناس من الصحابة:أخرج إبليس من الجنة، وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا
ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ، وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من
ضلعه، فسألها:ما أنت؟ قالت:امرأة. قال:ولم خلقت؟ قالت:لتسكن إلي. قالت له الملائكة
- ينظرون ما بلغ من علمه- :ما اسمها يا آدم؟ قال:حواء. قالوا:ولم سميت حواء؟
قال:إنها خلقت من شيء حي. قال الله: ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا
مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا )
وأما قوله: ( وَلا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) فهو
اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم. وقد اختلف في هذه الشجرة:ما هي؟
فقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس:الشجرة التي نهي عنها آدم،
عليه السلام، هي الكَرْم. وكذا قال سعيد بن جبير، والسدي، والشعبي، وجَعْدة بن
هُبَيرة، ومحمد بن قيس.
وقال السدي - أيضا- في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح،
عن ابن عباس - وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ ) هي
الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة
الأحمسي، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني، حدثنا النضر أبو عمر الخراز، عن عِكْرِمة، عن
ابن عباس، قال:الشجرة التي نُهِي عنها آدم، عليه السلام، هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق:أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن
عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن حجاج، عن مجاهد،
عن ابن عباس، قال:هي البر.
وقال ابن جرير:وحدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا مسلم بن
إبراهيم، حدثنا القاسم، حدثني
رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن
الشجرة التي أكل منها آدم، والشجرة التي تاب عندها آدم. فكتب إليه أبو
الجلد:سألتني عن الشجرة التي نُهِي عنها آدم، عليه السلام، وهي السنبلة، وسألتني
عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة .
وكذلك فسره الحسن البصري، ووهب بن مُنَبَّه، وعطية العَوفي،
وأبو مالك، ومحارب بن دِثَار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه:أنه كان
يقول:هي البُر، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من
العسل.
وقال سفيان الثوري، عن حصين، عن أبي مالك: ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ )
قال:النخلة.
وقال ابن جرير، عن مجاهد: ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) قال:تينة. وبه قال قتادة وابن
جريج.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية:كانت
الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَثٌ، وقال عبد
الرزاق:حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهْرِب قال:سمعت وهب بن منبه يقول:لما أسكن
الله آدم وزوجته الجنة، ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من
بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم
وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة.
قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير، رحمه الله :والصواب في
ذلك أن يقال:إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة،
دون سائر أشجارها ، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؟ لأن
الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة. وقد قيل:كانت
شجرة البر. وقيل:كانت شجرة العنب، وقيل:كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة
منها، وذلك عِلْمٌ، إذا علم ينفع العالمَ به علمُه، وإن جهله جاهلٌ لم يضرَّه جهله
به، والله أعلم. [
وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب ] .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا
مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ
فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 36 )
وقوله تعالى: ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) يصح أن يكون الضمير في قوله:
(
عَنْهَا ) عائدا
إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قال [ حمزة و ] عاصم
بن بَهْدلَة، وهو ابن أبي النَّجُود، فأزالهما، أي:فنجَّاهما. ويصح أن يكون عائدا
على أقرب المذكورين، وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ ( فأزلهما ) أي:من قبيل الزلل، فعلى هذا
يكون تقدير الكلام (
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) أي:بسببها، كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [ الذاريات:9 ] أي:يصرف بسببه من هو مأفوك؛
ولهذا قال تعالى: (
فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أي:من اللباس والمنـزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
(
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) أي:قرار وأرزاق وآجال ( إِلَى حِينٍ ) أي:إلى وقت مؤقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده، وأبي
العالية، ووهب بن مُنَبِّه وغيرهم، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة،
وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله، في
سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها هاهنا، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا:حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب،
حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب،
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة
سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى
عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرحمن:يا آدم،
مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال:يا رب، لا ولكن استحياء » .
قال:وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي سنة أربع وخمسين
ومائتين، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد، عن قتادة، عن
أبي بن كعب، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما ذاق آدم من الشجرة فَرَّ
هاربا؛ فتعلقت شجرة بشعره، فنودي:يا آدم، أفِرارًا مني؟ قال:بل حَيَاء منك، قال:يا
آدم اخرج من جواري؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مِثْلَك ملء الأرض
خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين » .
هذا حديث غريب، وفيه انقطاع، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب،
رضي الله عنهما .
وقال الحاكم:حدثنا أبو بكر بن بَالُويه ، عن محمد بن أحمد بن
النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قال:ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
ثم قال:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال عبد بن حميد في تفسيره:حدثنا رَوح، عن هشام، عن الحسن،
قال:لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال:خرج آدم من الجنة
للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة، على رأسه تاج من
شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة.
وقال السدي:قال الله تعالى: ( اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ) فهبطوا فنـزل آدم بالهند،
ونـزل معه الحجر الأسود، وقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند، فنبتت شجرة الطيب، فإنما
أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها
آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها .
وقال عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس، قال:أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا، أرض الهند.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عثمان بن أبي
شيبة، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد عن ابن عباس قال:أهبط آدم، عليه السلام، إلى
أرض يقال لها:دَحْنا، بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال:أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس
بدَسْتُمِيسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا محمد
بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن عدي ، عن ابن عمر، قال:أهبط آدم
بالصفا، وحواء بالمروة
وقال رجاء بن سلمة:أهبط آدم، عليه السلام، يداه على ركبتيه
مطأطئًا رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق:قال مَعْمَر:أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن
زهير، عن أبي موسى، قال:إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، عَلَّمه صنعة كل
شيء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا
تتغير .
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة،
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل
الجنة، وفيه أخرج منها » رواه
مسلم والنسائي .
وقال فخر الدين:اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل
المعاصي من وجوه:الأول:أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة
الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي، قال الشاعر:
يــا نـاظـرا يرنــو بعيني راقـد ومشــاهدا للأمــر غـير
مشـاهد
تصـل الذنـوب إلـى الذنوب وترتجي درج الجنــان ونيــل فـوز
العـابد
أنســيت ربـك حـيـن أخرج آدمـا منهــا إلـى الدنيـا بـذنب
واحــد
قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال:كنا قوما من أهل الجنة
فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا
منها. فإن قيل:فإذا كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من
العلماء، فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدري
لا يخالف ولا يمانع؟ فالجواب:أن هذا بعينه استدل به من يقول:إن الجنة التي كان
فيها آدم في الأرض لا في السماء، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية،
وأجاب الجمهور بأجوبة، أحدها:أنه منع من دخول الجنة مكرما، فأما على وجه الردع
والإهانة، فلا يمتنع؛ ولهذا قال بعضهم:كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى
الجنة، وقد قال بعضهم:يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم:يحتمل
أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد
القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
قيل:إن هذه
الكلمات مفسرة بقوله تعالى: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الأعراف - 23 ] روي هذا عن مجاهد، وسعيد بن
جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القُرَظي،
وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق
السَّبِيعي، عن رجل من بني تميم، قال:أتيت ابن عباس، فسألته: [ قلت ] :ما الكلمات التي تلقى آدم من
ربه؟ قال:عُلم [ آدم
] شَأنَ
الحج.
وقال
سفيان الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، أخبرني من سمع عبيد بن عُمَير، وفي رواية:
[ قال
]
:أخبرني مجاهد، عن عبيد بن عمير، أنه قال:قال آدم:يا رب، خطيئتي التي أخطأت شيء
كتبتُه علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال:بل شيء كتبته عليك قبل
أن أخلقك. قال:فكما كتبته علي فاغفر لي. قال:فذلك قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ )
وقال
السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس:فتلقى آدم من ربه كلمات، قال:قال آدم ، عليه
السلام:يا رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له:بلى. ونفخت في من روحك؟ قيل له:بلى.
وعَطستُ فقلتَ:يرحمك الله، وسبقت رحمتُك غَضبَك؟ قيل له:بلى، وكتبت عليّ أن أعمل
هذا؟ قيل له:بلى. قال:أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال:نعم.
وهكذا
رواه العوفي، وسعيد بن جبير، وسعيد بن مَعْبَد، عن ابن عباس، بنحوه. ورواه الحاكم
في مستدركه من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال:صحيح الإسناد، ولم يخرجاه
وهكذا فسره السدي وعطية العَوْفي.
وقد روى
ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال:حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا
علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، قال:قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال
آدم، عليه السلام:أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ، أعائدي إلى الجنة؟ قال:نعم. فذلك
قوله: (
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) .»
وهذا
حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال أبو
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) قال:إن
آدم لما أصاب الخطيئة قال:يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال الله:إذن أرجعك إلى
الجنة فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ
لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الأعراف- 23 ] .
وقال ابن
أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ )
قال:الكلمات:اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك
خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك
خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي، إنك
أنت التواب الرحيم.
وقوله
تعالى: (
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) أي:إنه يتوب على من تاب إليه وأناب، كقوله: أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [ التوبة:104 ] وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ
غَفُورًا رَحِيمًا [
النساء:110 ] ،
وقوله: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا
[
الفرقان:71 ] وغير
ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه
بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم.
وذكرنا
في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما أهبط
الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال:اللهم إنك
تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر
ذنوبي، أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت
لي. قال فأوحى الله إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرجت
همومه وغمومه، ونـزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كل تاجر زينة الدنيا
وهي كلمات عهد وإن لم يزدها » رواه
الطبراني في معجمه الكبير .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )
يقول
تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى أهبطهم من الجنة، والمراد
الذرية:أنه سينـزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية:الهُدَى
الأنبياء والرسل والبيان، وقال مقاتل بن حَيَّان:الهدى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن:الهدى القرآن. وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعَمّ.
(
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ) أي:من أقبل على ما أنـزلت به
الكتب وأرسلت به الرسل ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ )
أي:فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ( وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما فاتهم من أمور الدنيا،
كما قال في سورة طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا
يَشْقَى [ طه:123 ] قال
ابن عباس:فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [ طه:124
] كما قال هاهنا: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:مخلدون فيها، لا محيد لهم
عنها، ولا محيص.
وقد أورد
ابن جرير، رحمه الله، هاهنا حديثا ساقه من طريقين، عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد،
عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطْعَة عن أبي سعيد - واسمه سعد بن مالك بن سِنَان
الخُدْري- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما
أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكن أقواماً أصابتهم
النار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً أذنَ في الشفاعة
» . وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به .
[ وذكر هذا الإهباط الثاني
لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير، كما
تقول:قم قم، وقال آخرون:بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من
سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه ] .
يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ( 41 )
يقول
تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل
الصلاة والسلام، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب، عليه
السلام، وتقديره:يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق،
كما تقول:يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابن الشجاع، بارز الأبطال، يا ابن العالم،
اطلب العلم ونحو ذلك.
ومن ذلك
أيضاً قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا
شَكُورًا [ الإسراء:3 ]
فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي:حدثنا عبد الحميد
بن بهرام، عن شهر بن حَوشب، قال:حدثني عبد الله بن عباس قال:حضرت عصابة من اليهود
نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: « هل
تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ » . قالوا:اللهم نعم. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: « اللهم اشهد » وقال
الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس؛ أن
إسرائيل كقولك:عبد الله.
وقوله
تعالى: ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) قال
مجاهد:نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك، فَجَّر لهم الحجر،
وأنـزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.
وقال أبو
العالية:نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنـزل عليهم الكتب.
قلت:وهذا
كقول موسى عليه السلام لهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ
يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [
المائدة:20 ] يعني في زمانهم.
وقال
محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في
قوله: ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ )
أي:بلائي عندكم وعند آبائكم لِمَا كان نجاهم به من فرعون وقومه (
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ )
قال:بعهدي الذي أخذت في أَعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم. ( أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ ) أي:أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان
عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم.
[
وقال الحسن البصري:هو قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ الآية [ المائدة:12 ] . وقال آخرون:هو الذي أخذه الله عليهم في
التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد
صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة وجعل له أجران. وقد أورد
فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم السلام بمحمد صلى الله
عليه وسلم ] .
وقال أبو
العالية: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي )
قال:عهده إلى عباده:دينه الإسلام أن يتبعوه.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس: ( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ )
قال:أرْض عنكم وأدخلكم الجنة.
وكذا قال
السدي، والضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس.
وقوله: (
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أي:فاخشون؛ قاله أبو العالية،
والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة.
وقال ابن
عباس في قوله تعالى: ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أي
أنـزل بكم ما أنـزل بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من
المسخ وغيره.
وهذا
انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى
الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره،
والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم؛ ولهذا قال: (
وَآمِنُوا بِمَا أَنـزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) [ (
مُصَدِّقًا ) ماضيًا منصوبًا على الحال من ( بِمَا
) أي:بالذي أنـزلت مصدقًا أو من الضمير المحذوف من
قولهم:بما أنـزلته مصدقًا، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل وهو قوله: ( بِمَا
أَنـزلْتُ مُصَدِقًا ) ] يعني
به:القرآن الذي أنـزله على محمد النبي الأمي العربي بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا
مشتملا على الحق من الله تعالى، مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
قال أبو
العالية، رحمه الله، في قوله: ( وَآمِنُوا بِمَا أَنـزلْتُ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) يقول:يا معشر أهل الكتاب
آمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم يقول:لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم
مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
وروي عن
مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.
وقوله: ( وَلا
تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) [ قال
بعض المفسرين:أول فريق كافر به ونحو ذلك ] . قال
ابن عباس: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) وعندكم
فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
وقال أبو
العالية:يقول: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ [
كَافِرٍ بِهِ ) أول ] من كفر بمحمد صلى الله عليه
وسلم [ يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعهم بمحمد وبمبعثه ] .
وكذا قال
الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.
واختار
ابن جرير أن الضمير في قوله: ( بِهِ ) عائد
على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: ( بِمَا
أَنـزلْتُ )
وكلا
القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه
وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن.
وأما
قوله: ( أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) فيعني
به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب
بَشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة
أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.
وقوله: ( وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا )
يقول:لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة
فانية، كما قال عبد الله بن المبارك:أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن هارون
بن زيد قال:سُئِل الحسن، يعني البصري، عن قوله تعالى: (
ثَمَنًا قَلِيلا ) قال:الثمن القليل الدنيا
بحذافيرها.
وقال ابن
لَهِيعة:حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله: ( وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) وإن
آياته:كتابه الذي أنـزله إليهم، وإن الثمن القليل:الدنيا وشهواتها.
وقال
السدي: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا )
يقول:لا تأخذوا طمعًا قليلا ولا تكتموا اسم الله لذلك الطمع وهو الثمن.
وقال أبو
جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: ( وَلا تَشْتَرُوا
بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) يقول:لا تأخذوا عليه أجرًا.
قال:وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول:يا ابن آدم عَلِّم مَجَّانا كما عُلِّمت
مَجَّانا.
وقيل:معناه
لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس
لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي
داود عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من
تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح
رائحة الجنة يوم القيامة » وأما تعليم العلم بأجرة، فإن
كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما
يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم
يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه، فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي
وأحمد وجمهور العلماء، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: « إن أحق
ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله » وقوله في قصة المخطوبة: «
زوجتكها بما معك من القرآن » فأما حديث عبادة بن الصامت،
أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئًا من القرآن فأهدى له قوسًا، فسأل عنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: « إن أحببت أن تطوق بقوس من نار
فاقبله » فتركه، رواه أبو داود وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعًا فإن
صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم:أبو عمر بن عبد البر على أنه لما
علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول
الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة،
والله أعلم.
(
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو
عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية، عن طلق بن
حبيب، قال:التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، والتقوى أن
تترك معصية الله مخافة عذاب الله على نور من الله.
ومعنى
قوله: ( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) أنه
تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول، صلوات
الله وسلامه عليه.
وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 42 )
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
يقول
تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه، من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به
وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل: ( وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فنهاهم
عن الشيئين معًا، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك، عن ابن عباس
( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) لا
تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب.
وقال أبو
العالية: ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ )
يقول:ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله
عليه وسلم.
ويروى عن
سعيد بن جبير والربيع بن أنس، نحوه.
وقال
قتادة: ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) [ قال
] ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام؛ إن دين الله
الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله.
وروي عن
الحسن البصري نحو ذلك.
وقال
محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:لا
تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما
تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك.
وقال
مجاهد، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس: (
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ ) يعني:محمدا صلى الله عليه
وسلم.
[
قلت: ( وَتَكْتُمُوا )
يحتمل أن يكون مجزومًا، ويجوز أن يكون منصوبًا، أي:لا تجمعوا بين هذا وهذا كما
يقال:لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قال الزمخشري:وفي مصحف ابن مسعود: «
وتكتمون الحق » أي:في حال كتمانكم الحق
وأنتم تعلمون حال أيضًا، ومعناه:وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى:وأنتم
تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى
النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم،
والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ] .
(
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) قال
مقاتل:قوله تعالى لأهل الكتاب: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أمرهم
أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم (
وَآتُوا الزَّكَاةَ ) أمرهم أن يؤتوا الزكاة،
أي:يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( وَارْكَعُوا
مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أمرهم أن يركعوا مع الراكعين
من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول:كونوا
منهم ومعهم.
وقال علي
بن طلحة، عن ابن عباس: [ (
وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ] يعني
بالزكاة:طاعة الله والإخلاص.
وقال
وَكِيع، عن أبي جَنَاب، عن عِكْرِمة عن ابن عباس، في قوله: (
وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قال:ما يوجب الزكاة؟
قال:مائتان فصاعدا.
وقال
مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله تعالى: (
وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قال:فريضة واجبة، لا تنفع
الأعمال إلا بها وبالصلاة.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن أبي حيان [
العجمي ] التيمي، عن الحارث العُكلي في قوله: (
وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قال:صدقة الفطر.
وقوله
تعالى: ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ )
أي:وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة.
[ وقد
استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وبسط ذلك في كتاب الأحكام
الكبير إن شاء الله، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد ] .
أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 44 )
يقول تعالى:كيف
يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير- أن
تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب،
وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛
فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر،
عن قتادة في قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ )
قال:كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون،
فَعَيّرهم الله، عز وجل. وكذلك قال السدي.
وقال ابن
جريج: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ) أهل
الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما
يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال
محمد بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) أي:تتركون أنفسكم (
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )
أي:تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة، وتتركون
أنفسكم، أي:وأنتم تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون
ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، يقول:أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى
الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم.
وقال أبو
جعفر بن جرير:حدثني علي بن الحسن، حدثنا مُسلم الجَرْمي، حدثنا مَخْلَد بن الحسين،
عن أيوب السختياني، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى: (
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ ) قال:قال أبو الدرداء:لا يفقه
الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد
مقتًا.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية:هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء
ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله تعالى: (
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف [ معروف ] وهو واجب على العالم، ولكن [ الواجب و ] الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [ هود:88 ] . فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن