فهرس تفسير بن كثير للسور

4 - تفسير بن كثير سورة النساء

التالي السابق

 

تفسير سورة النسَاء

 

[ وهي مدنية ] قال العَوْفِي عن ابن عباس:نزلت سورةُ النساء بالمدينة. وكذا رَوَى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، ورَوَى من طريق عبد الله بن لَهِيعة، عن أخيه عيسى، عن عِكْرمة عن ابن عباس قال:لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حَبْس » .

وقال الحاكم في مستدركه:حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو البَخْتَرِي عبد الله بن محمد شاكر، حدثنا محمد بن بِشْر العَبْدي، حدثنا مِسْعَر بن كِدَام، عن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال:إن في سورة النساء لخمسُ آيات ما يَسُرّني أن لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الآية، و إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية، و إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ و وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ الآية، و وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ثم قال:هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف في ذلك .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن رجل، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من النساء:لهن أحب إلَيّ من الدنيا جَميعًا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا رواه ابن جرير:ثم روى من طريق صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس قال:ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طَلَعت عليه الشمس وغربت، أولاهن: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا والثالثة: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا .

ثم ذكر قول ابن مسعود سواء، يعني في الخمسة. الباقية.

وروى الحاكم من طريق أبي نُعَيم، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ سمعت ابن عباس يقول:سلوني عن سورة النساء، فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( 1 )

يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم، عليه السلام ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) وهي حواء، عليها السلام، خلقت من ضِلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، عن ابن عباس قال:خُلقَت المرأة من الرجل، فجعل نَهْمَتَها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.

وفي الحديث الصحيح: « إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج » .

وقوله: ( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ) أي:وذَرَأ منهما، أي:من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.

ثم قال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ ) أي:واتقوا الله بطاعتكم إياه، قال إبراهيم ومجاهد والحسن: ( الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ) أي:كما يقال:أسألك بالله وبالرَّحِم. وقال الضحاك:واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصِلُوها، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والربيع وغير واحد.

وقرأ بعضهم: ( والأرحام ) بالخفض على العطف على الضمير في به، أي:تساءلون بالله وبالأرحام، كما قال مجاهد وغيره.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) أي:هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ البروج:9 ] .

وفي الحديث الصحيح: « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ] وأم واحدة؛ ليعطفَ بعضهم على بعض، ويحننهم على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث جَرِير بن عبد الله البَجَلي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مُضَر - وهم مُجْتابو النِّمار - أي من عُريِّهم وفَقْرهم - قام فَخَطَب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) حتى ختم الآية وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ] [ الحشر:18 ] ثم حَضَّهم على الصدقة فقال: « تَصَدَّقَ رجُلٌ من دِينَاره، من دِرْهَمِه، من صَاعِ بُرِّه، صَاعِ تَمْره ... » وذكر تمام الحديث .

وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خُطْبَة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ] ) الآية.

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ( 2 ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ( 3 ) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ( 4 )

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضَمِّها إلى أموالهم؛ ولهذا قال: ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) قال سفيان الثوري، عن أبي صالح:لا تعْجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك.

وقال سعيد بن جبير:لا تبَدَّلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول:لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام.

وقال سعيد بن المسيّب والزهري:لا تُعْط مهزولا وتأخذ سمينا.

وقال إبراهيم النَّخَعِي والضحاك:لا تعط زائفًا وتأخذ جيدًا.

وقال السُّدِّي:كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غَنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، ويقول شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجَيِّد ويطرح مكانه الزّيْف، ويقول:درهم بدرهم.

وقوله: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ) قال مجاهد، وسعيد بن جبَيْر، ومقاتل بن حَيَّان، والسّدي، وسفيان بن حُسَين:أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا.

وقوله: ( إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) قال ابن عباس:أي إثمًا كبيرًا عظيما.

وقد رواه ابن مَرْدُويه، عن أبي هريرة قال:سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( حُوبًا كَبِيرًا ) قال: « إثما كبيرًا » . ولكن في إسناده محمد بن يونس الكُدَيْمي وهو ضعيف وهكذا رُوي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وأبي مالك، وزيد بن أسلم، وأبي سِنَان مثل قول ابن عباس.

وفي الحديث المروي في سنن أبي داود: « اغفر لنا حوبنا وخطايانا » .

وروى ابن مَرْدويه بإسناده إلى واصل، مولى أبي عيينة، عن محمد بن سِيرِين، عن ابن عباس:أن أبا أيوب طَلَّق امرأته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أبا أيوب، إن طلاق أم أيوب كان حوبا » قال ابن سيرين:الحوب الإثم .

ثم قال ابن مردويه:حدثنا عبد الباقي، حدثنا بشر بن موسى، أخبرنا هَوْذَة بن خليفة، أخبرنا عَوْف، عن أنس:أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها » ثم رواه ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم، عن حُمَيد الطويل، سمعت أنس بن مالك يقول:أراد أبو طلحة أن يطلق أم سُليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن طلاق أم سليم لحوب » فكف .

والمعنى:إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.

وقوله: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى ) أي:إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه.

وقال البخاري:حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن ابن جُرَيج، أخبرني هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة؛ أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق. وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا [ فِي الْيَتَامَى ] ) أحسبه قال:كانت شريكَتَه في ذلك العَذْق وفي ماله.

ثم قال البخاري:حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب قال:أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) قالت:يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تَشْرَكه في ماله ويعجبُه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يَقْسِط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغُوا بهنَّ أعلى سُنتهنَّ في الصداق، وأمِروا أن ينكحُوا ما طاب لهم من النساء سواهُنَّ. قال عروة:قالت عائشة:وإن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله [ تعالى ] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قالت عائشة:وقولُ الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [ النساء:127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كُن قليلات المال والجمال .

وقوله: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [ فاطر:1 ] أي:انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين، [ وإن شاء ثلاثا ] وإن شاء أربعا، كما قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [ فاطر:1 ] أي:منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع، فمن هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء؛ لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.

قال الشافعي:وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.

وهذا الذي قاله الشافعي، رحمه الله، مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حُكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم:بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين، وإما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري. وقد علقه البخاري، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع . وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع.

ذكر الأحاديث في ذلك:

قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر، عن الزهري. قال ابن جعفر في حديثه:أنبأنا ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:أن غيلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:اختر منهن أربعا. فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال:إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعنَّ نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثُهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم، كما رجم قبرُ أبي رِغَال .

وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغُنْدَر ويزيد بن زُرَيع وسعيد بن أبي عَرُوبة، وسفيان الثوري، وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ، عن مَعْمَر - بإسناده - مثله إلى قوله:اختر منهن أربعا. وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي، حيث قال بعد روايته له:سمعتُ البخاري يقول:هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شُعَيْب وغيره، عن الزهري، حُدّثتُ عن محمد بن سُوَيد الثقفي أنّ غيلان بن سلمة، فذكره. قال البخاري:وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه:أن رجلا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر:لتراجعَنَّ نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغَال.

وهذا التعليل فيه نظر، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق، عن مَعمر، عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك، عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة:وهو أصح .

قال البيهقي:ورواه عقيل، عن الزهري:بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد.

قال أبو حاتم:وهذا وَهْم، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره .

قال البيهقي:ورواه يونس وابن عُيَيْنَةَ، عن الزهري، عن محمد بن أبي سويد.

وهذا كما علله البخاري. وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصحيحين ثم قد رُوي من غير طريق مَعْمَر، بل والزهري قال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو علي الحافظ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا أبو بُرَيد عَمْرو بن يزيد الجرمي أخبرنا سيف بن عُبَيد حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر:أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. هكذا أخرجه النسائي في سننه. قال أبو علي بن السكن:تفرد به سرار بنُ مُجَشر وهو ثقة، وكذا وثقه ابن معين. قال أبو علي:وكذلك رواه السَّمَيْدع بن واهب عن سرار.

قال البيهقي:وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس، وعروة بن مسعود الثقفي، وصفوان بن أمية - يعني حديث غيلان بن سلمة .

فوجهُ الدلالة أنَّه لو كان يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع لسوغَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع بحال، وإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

حديث آخر في ذلك:روى أبو داود وابن ماجة في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن حُمَيضة بن الشَّمَرْدَل - وعند ابن ماجة:بنت الشمردل، وحكى أبو داود أن منهم من يقول:الشمرذل بالذال المعجمة - عن قيس بن الحارث. وعند أبي داود في رواية:الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال:أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اختر منهن أربعا » .

وهذا الإسناد حسن، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثلُه، لما للحديث من الشواهد .

حديث آخر في ذلك:قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، في مسنده:أخبرني من سمع ابن أبي الزِّناد يقول:أخبرني عبد المجيد بن سُهَيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الديلي، رضي الله عنه، قال:أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اختر أربعا أيتهن شئت، وفارق الأخرى » ، فَعَمَدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة، فطلقتها .

فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غَيْلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي، رحمه الله .

وقوله: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي:فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [ النساء:129 ] فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج.

وقوله: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) قال بعضهم: [ أي ] أدنى ألا تكثر عائلتكم. قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي، رحمهم الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرًا فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ التوبة:28 ] وقال الشاعر

فمــا يَــدري الفقـير متـى غنـاه ومَــا يَــدرِي الغَنـيُّ متـى يعيـل

وتقول العرب:عال الرجل يعيل عَيْلة، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا. والصحيح قول الجمهور: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) أي:لا تجوروا. يقال:عال في الحكم:إذا قَسَط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:

بميــزان قسطٍ لا يَخيـس شعيرة له شــاهد من نفسه غيـر عـائل

وقال هُشَيم:عن أبي إسحاق قال:كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه:إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير.

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن مَرْدويه، وأبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم، حدثنا محمد بن شعيب، عن عمر بن محمد بن زيد، عن عبد الله بن عمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) قال: « لا تجوروا » .

قال ابن أبي حاتم:قال أبي:هذا حديث خطأ، والصحيح:عن عائشة. موقوف .

وقال ابن أبي حاتم:وروى عن ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك وأبي رَزِين والنَّخعي، والشَّعْبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حَيَّان:أنهم قالوا:لا تميلوا وقد استشهد عِكْرمة، رحمه الله، ببيت أبي طالب الذي قدمناه، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة، وقد رواه ابن جرير، ثم أنشده جيدا، واختار ذلك.

وقوله: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:النحلة:المهر.

وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:نحلة:فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج:نحلة:أي فريضة. زاد ابن جريج:مسماه. وقال ابن زيد:النحلة في كلام العرب:الواجب، يقول:لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق.

ومضمون كلامهم:أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حَتمًا، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبًا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبًا؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، عن سفيان، عن السدي، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة، عن علي قال:إذا اشتكى أحدكم شيئًا، فَلْيسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئًا مريئًا شفاء مباركا.

وقال هُشَيم، عن سيار، عن أبي صالح قال:كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، ونزل: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان عن عمير الخثعمي، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، عن عبد الرحمن بن البَيْلَمَاني قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قالوا:يا رسول الله، فما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهْلوهُم » .

وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق حَجَّاج بن أرْطاة، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البَيْلمَاني عن عمر بن الخطاب قال:خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أنكحوا الأيامى » ثلاثا، فقام إليه رجل فقال:يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهلوهم » .

ابن البَيْلمَاني ضعيف، ثم فيه انقطاع أيضًا .

وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 5 ) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 6 )

ينهى تعالى عن تَمْكين السفهاء من التصرّف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما، أي:تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها. ومن هاهنا يُؤْخَذُ الحجر على السفهاء، وهم أقسام:فتارة يكون الحَجْرُ للصغر؛ فإن الصغير مسلوب العبارة. وتارة يكون الحجرُ للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفَلَس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاقَ ماله عن وفائها، فإذا سأل الغُرَماء الحاكم الحَجْرَ عليه حَجَرَ عليه.

وقد قال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) قال:هم بَنُوك والنساء، وكذا قال ابن مسعود، والحكم بن عُتَيبة والحسن، والضحاك:هم النساء والصبيان.

وقال سعيد بن جُبَير:هم اليتامى. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة:هم النساء.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عَمّار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العائكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وإن النساء السُّفَهاء إلا التي أطاعت قَيِّمَها » .

ورواه ابن مَرْدُويه مطولا .

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا حَرْب بن سُرَيج عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) قال:الخدم، وهم شياطين الإنس وهم الخدم.

وقوله: ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول [ تعالى ] لا تَعْمَد إلى مالك وما خَوَّلك الله، وجعله معيشة، فتعطيَه امرأتك أو بَنيكَ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمْسكْ مالك وأصلحْه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسْوتهم ومؤنتهم ورزقهم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن المثنى:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن فرَاس، عن الشعبي، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى قال:ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم:رجل كانت له امرأة سَيّئة الخُلُق فلم يُطَلقها، ورجل أعطى ماله سفيها، وقد قال: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه.

وقال مجاهد: ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ) يعني في البر والصلة.

وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة، ومَنْ تحت الحَجْر بالفعل، من الإنفاق في الكساوي والإنفاق والكلام الطيب، وتحسين الأخلاق.

وقوله تعالى: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ) قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسدي، ومقاتل بن حيان:أي اختبروهم ( حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) قال مجاهد:يعني:الحُلُم. قال الجمهور من العلماء:البلوغ في الغلام تارة يكون بالحُلُم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد. وقد روى أبو داود في سننه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال:حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يُتْم بعد احتلام ولا صُمَات يوم إلى الليل » .

وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة، رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة:عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتلمَ، وعن النائم حتى يَسْتيقظ، وعن المجنون حتى يُفِيق » أو يستكمل خمس عشرة سنة، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال:عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير .

واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج، وهو الشِّعْرة، هل تَدُل على بلوغ أم لا؟ على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين، فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم؛ لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه، فلا يعالجها. والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جِبِلِّيٌّ يستوي فيه الناس، واحتمال المعالجة بعيد، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن عَطيَّةَ القُرَظيّ، رضي الله عنه قال:عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظة فكان من أنْبَتَ قُتل، ومن لم يُنْبت خَلّي سبيله، فكنت فيمن لم يُنْبِت، فخلي سبيلي.

وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي:حسن صحيح. وإنما كان كذلك؛ لأن سعد بن معاذ، رضي الله عنه، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسَبْي الذرية.

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب « الغريب » :حدثنا ابن علية، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن عمر:أن غلاما ابتهر جارية في شعره، فقال عمر، رضي الله عنه:انظروا إليه. فلم يوجد أنبت، فَدَرَأَ عنه الحَد. قال أبو عُبَيد:ابتهرها:أي قذفها، والابتهار أن يقول:فعلت بها وهو كاذب فإن كان صادقا فهو الابتيار، قال الكميت في شعره.

قبيـــح بمثــلي نعــتُ الفَتَــاة إمَّـــا ابتهـــارًا وإمَّــا ابتيــارا

وقوله: ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) قال سعيد بن جبير:يعني:صَلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس، والحسن البصري، وغير واحد من الأئمة. وهكذا قال الفقهاء متَى بلغَ الغلام مُصْلحًا لدينه وماله، انفك الحجر عنه، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه.

وقوله: ( وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ) ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرةً قبل بلوغهم.

ثم قال تعالى: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) [ أي ] من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئا. قال الشعبي:هو عليه كالميتة والدم.

( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا الأشج، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) نزلت في مال اليتيم.

وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن، قالت:نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه.

وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) بقدر قيامه عليه.

ورواه البخاري عن إسحاق عَنْ عبد الله بن نُمَير، عن هشام، به.

قال الفقهاء:له أن يأكل أقل الأمرين:أجْرَةَ مثله أو قدر حاجته. واختلفوا:هل يرد إذا أيسر، على قولين:أحدهما:لا؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا. وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الوهاب، حدثنا حسين، عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده:أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: « كُلْ من مال يتيمك غير مُسْرِف ولا مُبذر ولا متأثِّل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال:تفدي مالك - بماله » شك حسين .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، حدثنا حسين المكتب، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله؟ قال: « بالمعروف غير مُسرف » .

ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من حديث حسين المعلم به.

وروى أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عامر الخَزّاز، عن عمرو بن دينار، عن جابر:أن رجلا قال:يا رسول الله، فيم أضرب يتيمي؟ قال:ما كنتَ ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا .

وقال ابن جرير:حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال:جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال:إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي وأفْقر فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال:إن كنت تبغي ضالتها وتهْنَأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسقى عليها، فاشرب غير مُضر بنسل، ولا ناهك في الحلب.

ورواه مالك في موطئه، عن يحيى بن سعيد به.

وبهذا القول - وهو عدمُ أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وإبراهيم النخعيّ، وعطية العوْفي، والحسن البصري.

والثاني:نعم؛ لأن مال اليتيم على الحظْر، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا:حدثنا ابن خيثمة، حدثنا وَكِيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرَب قال:قال عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه:إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرتُ قضيت .

طريق أخرى:قال سعيد بن منصور:حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:قال لي عمر، رضي الله عنه:إني أنزلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احْتَجْتُ أخذت منه، فإذا أيسَرت رَدَدْتُه، وإن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ.

إسناد صحيح وروَى البيهقي عن ابن عباس نحوَ ذلك. وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) يعني:القرض. قال:ورُوي عن عُبَيدة، وأبي العالية، وأبي وائل، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - ومجاهد، والضحاك، والسّدي نحو ذلك. وروي من طريق السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال:يأكل بثلاث أصابع.

ثم قال:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا ابن مَهْديّ، حدثنا سفيانُ، عن الحكم، عن مقْسم، عن ابن عباس: ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال:يأكل من ماله، يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. قال:ورُوي عن مجاهد وميمون بن مِهْران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك.

وقال عامر الشَّعْبِيّ:لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه، كما يضطر إلى [ أكل ] الميتة، فإن أكل منه قضاه. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن وهب:حدثني نافع بن أبي نُعَيْم القَارئ قال:سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله: ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) فقالا ذلك في اليتيم، إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء.

وهذا بعيد من السياق؛ لأنه قال: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) يعني:من الأولياء ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:منهم ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:بالتي هي أحسن، كما قال في الآية الأخرى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [ الإسراء:34 ] أي:لا تقربوه إلا مصلحين له، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.

وقوله: ( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) يعني:بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ] فحينئذ سلموهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ( فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) وهذا أمر الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم؛ لئلا يقع من بعضهم جُحُود وإنكار لما قبضه وتسلمه.

ثم قال: ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) أي:وكفى بالله محاسبا وشهيدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال:هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله. ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَن على اثنين، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم » .

 

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( 7 ) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 8 ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( 9 ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ( 10 )

قال سعيد بن جبير وقتادة:كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنـزل الله: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ [ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ] ) أي:الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله [ تعالى ] لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة، أو زوجية، أو ولاء. فإنه لُحْمَة كَلُحمة النسب. وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هَرَاسة عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال:جاءت أم كُجَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، إن لي ابنتين، وقد مات أبوهما، وليس لهما شيء، فأنـزل الله تعالى: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) الآية، وسيأتي هذا الحديثُ عند آيتي الميراث بسياق آخر، والله أعلم.

وقوله: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ] ) قيل:المراد:وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث واليتامى والمساكين فَلْيَرْضَخْ لهم من التركة نصيب، وأن ذلك كان واجبا في ابتداء الإسلام. وقيل:يستحب واختلفوا:هل هو منسوخ أم لا؟ على قولين، فقال البخاري:حدثنا أحمد بن حُمَيد أخبرنا عُبَيدُ الله الأشجعي، عن سُفْيان، عن الشَّيْباني، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ) قال:هي مُحْكَمَة، وليست بمنسوخة. تابعه سَعيد عن ابن عباس.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن الحجاج، عن الحَكَم، عن مِقْسم، عن ابن عباس قال:هي قائمة يعمل بها.

وقال الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في هذه الآية، قال:هي واجبة على أهل الميراث، ما طابت به أنفسهم. وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبي العالية، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جُبَير، ومكحول، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحيى بن يَعْمَرَ:إنها واجبة.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ، عن يونس بن عُبَيد، عن محمد بن سيرين قال:ولي عبيدة وصية، فأمر بشاة فذبحت، فأطعم أصحاب هذه الآية، وقال:لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.

وقال مالك، فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع، عن الزهري:أن عروة أعْطى من مال مصعب حين قسم ماله. وقال الزهري:وهي محكمة.

وقال مالك، عن عبد الكريم، عن مجاهد قال:هو حق واجب ما طابت به الأنفس.

ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم:

قال عبد الرزاق:أخبرنا ابن جُرَيج أخبرني ابن أبي مُلَيكة:أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والقاسم بن محمد أخبراه:أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حَية قالا فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه. قالا وتلا ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) قال القاسم:فذكرت ذلك لابن عباس فقال:ما أصاب، ليس ذلك له، إنما ذلك إلى الوصية، وإنما هذه الآية في الوصية يزيد الميت [ أن ] يوصي لهم. رواه ابن أبي حاتم .

ذكر من قال:إن هذه الآية منسوخة بالكلية:

قال سفيان الثوري، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) قال:منسوخة.

وقال إسماعيل بن مسلم المكي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال في هذه الآية: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) نسختها الآية التي بعدها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ

وقال العَوْفي، عن ابن عَبَّاس في هذه الآية: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) كان ذلك قبل أن تَنـزل الفرائض، فأنـزل الله بعد ذلك الفرائض، فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سَمى المتوفى. رواهن ابن مَرْدُويه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصبَّاح، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيج وعثمان بن عطاء عن عَطاء، عن ابن عباس قوله: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ) نسختها آية الميراث، فجعل لكل إنسان نصيبه مما تَرك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر - [ نصيبا مفروضا ]

وحدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا سعيد بن عامر، عن همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال:إنها منسوخة، كانت قبل الفرائض، كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حَضروا القسمة، ثم نسخ بعد ذلك، نسختها المواريث، فألحق الله بكل ذي حَق حقه، وصارت الوصية من ماله، يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء.

وقال مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:هي منسوخة، نسختها المواريث والوصية.

وهكذا روي عن عكرمة، وأبي الشعثاء، والقاسم بن محمد، وأبي صالح، وأبي مالك، وزيد ابن أسلم، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان، وربيعة بن أبي عبد الرحمن:أنهم قالوا:إنها منسوخة. وهذا مذهب جُمْهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم.

وقد اختار ابن جرير هاهنا قولا غريبا جدًا، وحاصله:أن معنى الآية عنده ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) أي:وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت ( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ ) لليتامى والمساكين إذا حضروا ( قَوْلا مَعْرُوفًا ) هذا مضمون ما حاوله بعد طُول العبارة والتكرار، وفيه نظر، والله أعلم.

وقد قال العَوْفي عن ابن عباس: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) وهي قسمة الميراث. وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا لا على ما سلكه أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، بل المعنى:أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يَرثون، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطون، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يُرضَخ لهم شيء من الوسَط يكون برا بهم وصدقة عليهم، وإحسانا إليهم، وجبرا لكسرهم. كما قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الأنعام:141 ] وذم الذين ينقلون المال خفية؛ خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة، كما أخبر عن أصحاب الجنة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [ القلم:17 ] أي:بليل. وقال: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [ القلم:23، 24 ] دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [ محمد:10 ] فمن جَحَد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه؛ ولهذا جاء في الحديث: « ما خالطت الصَّدَقَةُ مالا إلا أفسدته » أي:منعها يكون سبب محاق ذلك المال بالكلية

وقوله: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ] ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هذا في الرجل يَحْضُره الموت، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ.

وهكذا قال مجاهد وغير واحد، وثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال:يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: « لا » . قال:فالشَّطْر؟ قال: « لا » . قال:فالثلث؟ قال: « الثلث، والثلث كثير » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس » .

وفي الصحيح أن ابن عباس قال:لو أن الناس غَضّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الثلث، والثلث كثير » .

قال الفقهاء:إن كان ورثة الميت أغنياء استُحب للميت أن يَسْتَوفي الثلث في وصيته وإن كانوا فقراء استُحب أن يَنْقُص الثلث.

وقيل:المراد بقوله: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ) [ أي ] في مباشرة أموال اليتامى ( وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا )

حكاه ابن جرير من طريق العَوْفي، عن ابن عباس:وهو قول حسن، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما، أي:كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم.

ثم أعلمهم أن من أكل مال يتيم ظلما فإنما يأكل في بطنه نارًا؛ ولهذا قال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) أي:إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب، فإنما يأكلون نارًا تَأجَّج في بطونهم يوم القيامة. وثبت في الصحيحين من حديث سليمان ابن بلال، عن ثَوْر بن زيد عن سالم أبي الغَيْث، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات » قيل:يا رسول الله، وما هن؟ قال: « الشِّرْكُ بالله، والسِّحْر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحْفِ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبيدة أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّى، حدثنا أبو هاروي العَبْدي عن أبي سعيد الخدري قال:قلنا:يا رسول الله، ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال: « انطَلَق بي إلى خَلْقٍ من خَلْقِ الله كثير، رِجَال، كل رجل له مِشْفَران كمشفري البعير، وهو موَكَّل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم، ثم يُجَاءُ بِصَخْرَةٍ من نار فَتُقْذَف في فِي أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم خُوار وصُرَاخ. قلت يا جبريل، من هؤلاء؟ قال:هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسَيَصْلَوْن سَعِيرًا » .

وقال السدي:يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فِيهِ ومن مسامعه وأنفه وعينيه، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم.

وقال أبو بكر ابن مردويه:حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا زياد بن المنذر، عن نافع بن الحارث عن أبي برزة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تَأَجَّج أفواههم نارا » قيل:يا رسول الله، من هم؟ قال: « ألم تر أن الله قال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ] ) » الآية.

رواه ابن أبي حاتم، عن أبي زُرْعة، عن عُقْبة بن مكرم وأخرجه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه، عن أحمد بن علي بن المثنى، عن عقبة بن مكرم .

وقال ابن مَردويه:حدثنا عبد الله بن جعفر، أحمد بن عصام حدثنا أبو عامر العبدي، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عثمان بن محمد، عن المقبرِيّ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أُحَرِّجُ مال الضَّعِيفيْن:المرأة واليتيم » أي أوصيكم باجتناب مالهما.

وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:لما أنـزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ] ) انطلق من كان عنده يتيم، فَعَزَل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فَيُحْبَس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ] [ البقرة:220 ] .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 11 )

هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك وَلنذْكُرْ منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتاب « الأحكام » فالله المستعان .

وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك. وقد روى أبو داود وابن ماجة، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « العِلْمُ ثلاثة، وما سِوَى ذلك فهو فَضْلٌ:آية مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فَريضةٌ عَادَلةٌ » .

وعن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا هريرة، تَعلَّمُوا الفرائِضَ وعلِّموهُ فإنه نصْف العلم، وهو يُنْسَى، وهو أول شيء يُنْتزَع من أمتي » .

رواه ابن ماجة، وفي إسناده ضعف .

وقد رُوي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر. قال [ سفيان ] ابن عيينة:إنما سَمَّى الفرائض نصفَ العلم؛ لأنه يبتلى به الناس كلهم.

وقال البخاري عند تفسير هذه الآية:حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام:أن ابن جُرَيج أخبرهم قال:أخبرني ابن المُنْكدِر، عن جابر بن عبد الله قال:عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سَلمَةَ ماشيين، فوجَدَني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رَش عَلَيَّ، فأفقت، فقلت:ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنـزلت: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) .

وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج به، ورواه الجماعةُ كُلّهم من حديث سفيان بن عُيَينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر .

حديث آخر عن جابر في سبب نـزول الآية:قال الإمام أحمد:حَدّثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله - هو ابن عَمْرو الرقيّ - عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن جابر قال:جاءت امرأة سعد بن الرَّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتل أبوهما معك في أحُد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يَدَعْ لهما مالا ولا يُنْكَحَان إلا ولهما مال. قال:فقال: « يَقْضِي اللَّهُ في ذلك » . قال:فنـزلت آية الميراث، فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: « أعْطِ ابْنَتي سعد الثلثين، وأُمُّهُمَا الثُّمُنَ، وما بقي فهو لك » .

وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عُقَيل، به. قال الترمذي:ولا يعرف إلا من حديثه .

والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نـزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري، رحمه الله، فإنه ذكره هاهنا. والحديث الثاني عن جابر أشبه بنـزول هذه الآية، والله أعلم.

فقوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) أي:يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة، فناسب أن يُعْطَى ضعْفَيْ ما تأخذه الأنثى.

وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح.

وقد رأى امرأة من السَّبْي تدور على ولدها ، فلما وجدته أخذته فألْصَقَتْه بصَدْرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أتَروْن هذهِ طارحةَ ولدها في النار وهي تَقْدِرُ على ذلك؟ » قالوا:لا يا رسول الله:قال: « فَوَاللهِ للَّهُ أًرْحَمُ بعبادِهِ من هذه بِوَلَدِهَا » .

وقال البخاري هاهنا:حدثنا محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن عَطاء، عن ابن عباس قال:كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنَسَخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع .

وقال العَوفي، عن ابن عباس قوله: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) وذلك أنه لما نـزلت الفرائض التي فَرَضَ الله فيها ما فرض، للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا:تُعطَى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف. ويعطى الغلام الصغير. وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة.. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغير، فقال بعضهم:يا رسول الله، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفَرَس، ولا تقاتل القوم ونُعطِي الصبي الميراث وليس يُغني شيئا.. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا.

وقوله: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ) قال بعض الناس:قوله: ( فوق ) زائدة وتقديره:فإن كنّ نساء اثنتين كما في قوله [ تعالى ] فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [ الأنفال:12 ] وهذا غير مُسَلَّم لا هنا ولا هناك؛ فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع، ثم قوله: ( فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ) لو كان المراد ما قالوه لقال:فلهما ثلثا ما ترك. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضا فإنه قال: ( وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فلو كان للبنتين النصف [ أيضا ] لنص عليه، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم.

وقوله: ( وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ] ) إلى آخره، الأبوان لهما في الميراث أحوال:

أحدها:أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له - والحالة هذه - بين هذه الفرض والتعصيب.

الحال الثاني:أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم - والحالة هذه - الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم، وهو الثلثان، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. ثم اختلف العلماء:ما تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال:

أحدها:أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه وهو قول عمر وعثمان، وأصح الروايتين عن علي. وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء - رحمهم الله.

والقول الثاني:أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله: ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا. وهو قول ابن عباس. وروي عن علي، ومعاذ بن جبل، نحوه. وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه « الإيجاز في علم الفرائض » .

وهذا فيه نظر، بل هو ضعيف؛ لأن ظاهر الآية إنما هو [ ما ] إذا استبد بجميع التركة، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة، فتأخذ ثلثه، كما تقدم.

والقول الثالث:أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب. وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي؛ لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة:للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث ما بقي وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان. ويحكى هذا عن محمد بن سيرين، رحمه الله، وهو مركب من القولين الأولين، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا. والصحيح الأول، والله أعلم.

والحال الثالث من أحوال الأبوين:وهو اجتماعهما مع الإخوة، وسواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي.

وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شُعْبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال:إن الأخوين لا يَردان الأم عن الثلث، قال الله تعالى: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة. فقال عثمان:لا أستطيع تغيير ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس.

وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شُعْبَة هذا تكلَّم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه.

وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه أنه قال:الأخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه المسألة جُزءًا على حدة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة قوله: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ) أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يَرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم.

وهذا كلام حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم، وهذا قول شاذ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال:

حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ابن طاوس، عن أبيه عن ابن عباس، قال:السدس الذي حَجَبَتْه الإخوة لأم لهم، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم.

ثم قال ابن جرير:وهذا قول مخالف لجميع الأمة، وقد حدثني يونس، أخبرنا سفيان، أخبرنا عَمْرو، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس أنه قال:الكلالة من لا ولد له ولا والد.

وقوله: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) أجمع العلماء سلفًا وخلفًا:أن الدَّيْن مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فَحْوَى الآية الكريمة. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير، من حديث أبي إسحاق، عن الحارث بن عبد الله الأعور، عن علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال:إنكم تقرءون ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العَلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي:لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم .

قلت:لكن كان حافظًا للفرائض معتنياً بها وبالحساب فالله أعلم.

وقوله: ( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) أي:إنما فرضنا للآباء وللأبناء، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين الوصية، كما تقدم عن ابن عباس، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم؛ لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي - أو الأخروي أو هما - من أبيه ما لا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس؛ فلهذا قال: ( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) أي:كأن النفع متوقع ومرجو من هذا، كما هو متوقع ومرجو من الآخر؛ فلهذا فرضنا لهذا ولهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، والله أعلم.

وقوله: ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ) أي: [ من ] هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض - هو فرض من الله حكم به وقضاه، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا )

 

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 )

يقول تعالى:ولكم - أيها الرجال- نصف ما ترك أزواجكم إذا مُتْن عن غير ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [ وصية ] يوصين بها أو دين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب.

ثم قال: ( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ] ) إلخ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه.

وقوله: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ) إلخ، الكلام عليه كما تقدم.

وقوله: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) الكلالة:مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق:أنه سئل عن الكلالة، فقال:أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه:الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر بن الخطاب قال:إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. رواه ابن جرير وغيره .

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس قال:سمعت عبد الله بن عباس يقول:كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب، فسمعته يقول:القول ما قلت، وما قلت وما قلت. قال:الكلالة من لا ولد له ولا والد .

وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود، وصح عن غير وجه عن عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبي والنخعي، والحسن البصري، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم. وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم. وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان:وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه لا ولد له. والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.

وقوله: ( وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ) أي:من أم، كما هو في قراءة بعض السلف، منهم سعد بن أبي وقاص، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه، ( فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ )

وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه، أحدها:أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم. الثاني:أن ذكرهم وأنثاهم سواء. الثالث:أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب، ولا جد، ولا ولد، ولا ولد ابن. الرابع:أنهم لا يزادون على الثلث، وإن كثر ذكورهم وإناثهم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس، حدثنا ابن وَهْب، أخبرنا يونس، عن الزهري قال:قضى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم، للذكر مثل الأنثى قال محمد بن شهاب الزهري:ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذه الآية التي قال الله تعالى: ( فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ )

واختلف العلماء في المسألة المشتركة، وهي:زوج، وأم أو جدة، واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين. فعلى قول الجمهور:للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوةُ الأم.

وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأعطى الزوج النصف، والأم السدس، وجعل الثلث لأولاد الأم، فقال له أولاد الأبوين:يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم.

وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، رضي الله عنهم. وبه يقول سعيد بن المسيب، وشريح القاضي، ومسروق، وطاوس، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي، وإسحاق بن راهويه.

وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم، بل يجعل الثلث لأولاد الأم، ولا شيء لأولاد الأبوين، والحالة هذه، لأنهم عصبة. وقال وَكِيع بن الجراح:لم يختلف عنه في ذلك، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري، وهو المشهور عن ابن عباس، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وزُفَر بن الهُذيل، والإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد، وأبي ثور، وداود بن علي الظاهري، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي، رحمه الله، في كتابه « الإيجاز » .

وقوله: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) أي:لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة، أو ينقصه، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي، حدثنا عُمَر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الإضرار في الوصية من الكبائر » .

وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة، قال أبو القاسم ابن عساكر:ويعرف بمفتي المساكين. وروى عنه غير واحد من الأئمة. وقال فيه أبو حاتم الرازي:هو شيخ. وقال علي بن المديني:هو مجهول لا أعرفه. لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر، عن علي بن مُسْهِر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، موقوفًا: « الإضرار في الوصية من الكبائر » . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن عائذ بن حبيب، عن داود بن أبي هند. ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفا وفي بعضها:ويقرأ ابن عباس: ( غَيْرَ مُضَارٍّ )

قال ابن جريج والصحيح الموقوف.

ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث:هل هو صحيح أم لا؟ على قولين:أحدهما:لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله قد أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فلا وَصِيَّة لِوَارِثٍ » . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحمد بن حنبل، والقول القديم للشافعي، رحمهم الله، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاوس، وعطاء، والحسن، وعمر بن عبد العزيز.

وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه. واحتج بأنّ رَافع بن خديج أوصى ألا تُكْشَف الفَزَارية عما أغْلقَ عليه بابها قال:وقال بعض الناس:لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إياكم والظنَّ، فإن الظَّنَّ أكذبُ الحديث » . وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ النساء:58 ] فلم يخص وارثًا ولا غيره. انتهى ما ذكره.

فمتى كان الإقرارُ صحيحًا مطابقًا لما في نفس الأمر جَرَى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة ( غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) [ ثم قال الله ]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 14 )

أي:هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قُربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها؛ ولهذا قال: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:فيها، فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته ( يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي، لكونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن أشعث بن عبد الله، عن شَهْر ابن حَوْشَب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرَّجُلَ لَيَعْمَل بعمل أهل الخير سبعين سَنةً، فإذا أوْصَى حَافَ في وصيته، فيختم بشر عمله، فيدخل النار؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة » . قال:ثم يقول أبو هريرة:اقرءوا إن شئتم ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) إلى قوله: ( عَذَابٌ مُهِينٌ ) .

[ و ] قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه:حدثنا عَبْدَة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد، حدثنا [ نصر ] بن علي الحُدَّاني، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحُدَّاني، حدثني شَهْرُ بن حَوشَب:أن أبا هريرة حدثه:أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فَيُضَاران في الوصية، فتجب لهما النار » وقال:قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ حتى بلغ: ( [ وَ ] ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحُدَّاني به، وقال الترمذي:حسن غريب، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل .

 

وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ( 15 ) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 16 )

كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: ( وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ ) يعني:الزنا ( مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ) فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.

قال ابن عباس:كان الحكم كذلك، حتى أنـزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم.

وكذا رُوي عن عِكْرِمة، وسَعيد بن جُبَيْر، والحسن، وعَطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك:أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه.

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي، عن عبادة بن الصامت قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه، فأنـزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سُرِّيَ عنه قال: « خُذُوا عَنِّي، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب، والبِكْرُ بالبكرِ، الثيب جَلْدُ مائة، ورَجْمٌ بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ » .

وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: « خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » . وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن مبارك بن فَضَالة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة:أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نـزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه، فلما أنـزلت: ( أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ) [ و ] ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُذُوا خذوا، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة » .

وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا الفضل بن دَلْهَم، عن الحسن، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث، عن سلمة بن المُحَبَّق قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُذُوا عَنِّي، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » .

وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم، ثم قال:وليس هو بالحافظ، كان قصابًا بواسط .

حديث آخر:قال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا عباس بن حمدان، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عمرو بن عبد الغفار، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن أبي بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ، والشَّيْخانِ يُرجَمان » . هذا حديث غريب من هذا الوجه .

وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة، عن أخيه عيسى بن لهيعة، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:لما نـزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حبس بعد سورة النساء » .

وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد، قالوا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين، ولم يجلدهم قبل ذلك، فدل على أن الجلد ليس بحتم، بل هو منسوخ على قولهم، والله أعلم.

وقوله: ( وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا ) أي:واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير وغيرهما:أي بالشتم والتعيير، والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم.

وقال عكرمة، وعطاء، والحسن، وعبد الله بن كثير:نـزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا.

وقال السدي:نـزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا.

وقال مجاهد:نـزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى، وكأنه يريد اللواط، والله أعلم.

وقد روى أهل السنن، من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ »

وقوله: ( فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا ) أي:أقلعا ونـزعا عما كانا عليه، وصَلُحت أعمالهما وحسنت ( فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ) أي:لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) وقد ثبت في الصحيحين « إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها » أي:ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 17 ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 18 )

يقول تعالى:إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [ لقبض ] روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة.

قال مجاهد وغير واحد:كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينـزع عن الذنب.

وقال قتادة عن أبي العالية:أنه كان يحدث:أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون:كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. رواه ابن جرير.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال:اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره .

وقال ابن جُرَيْج:أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال:كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها. قال ابن جريج:وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه.

وقال أبو صالح عن ابن عباس:مِنْ جَهالته عمل السوء.

وقال علي بن أبي طَلْحَة، عن ابن عباس ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) قال:ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت، وقال الضحاك:ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي:ما دام في صحته. وهو مروى عن ابن عباس. وقال الحسن البصري: ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) ما لم يُغَرْغر. وقال عكرمة:الدنيا كلها قريب.

ذكر الأحاديث في ذلك:

قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عَيَّاش وعصام بن خالد، قالا حدثنا ابن ثَوْبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نُفَيْر عن ابن عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر » .

[ و ] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، به وقال الترمذي:حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجه:عن عبد الله بن عَمْرو. وهو وَهْم، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب.

حديث آخر عن ابن عُمَر:قال أبو بكر بن مردويه:حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال:سمعت عطاء بن أبي رباح قال:سمعت عبد الله بن عُمَر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه، وأدْنَى من ذلك، وقَبْل موته بيوم وساعة، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه » .

حديث آخر:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، أخبرنا إبراهيم بن ميمون، أخبرني رجل من مِلْحَان يقال له:أيوب - قال:سمعت عبد الله بن عمر يقول:من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. فقلت له:إنما قال الله: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) فقال:إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي، وأبو عمر الحَوْضي، وأبو عامر العَقدي، عن شعبة.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا حُسين بن محمد، حدثنا محمد بن مطَرَّف، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني قال:اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ » . فقال الآخر:أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. قال:وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم » فقال الثالث:أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. قال:وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو » . قال الرابع:أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله [ تعالى ] يقبل توبة العبد ما لم يُغَرغر بنفسه » . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني فذكر قريبًا منه .

حديث آخر:قال أبو بكر بن مردويه:حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا عمران بن عبد الرحيم، حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عَوْف، عن محمد بن سِيرِين، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ » .

أحاديث في ذلك مرسلة:

قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن عَوْف، عن الحسن قال:

بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ » هذا مرسل حسن . عن الحسن البصري، رحمه الله.

آخر:قال ابن جرير أيضًا، رحمه الله:حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بشير بن كعب؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ » .

وحدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر مثله .

أثر آخر:قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة قال:كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة، فحدث أبو قِلابة فقال:إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال:وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح. فقال الله:وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح.

وقد ورد هذا في حديث مرفوع، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قال إبليس:وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم. فقال الله عز وجل:وعزتي وجلالي، لا أزال أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني » .

فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة، فإن توبته مقبولة [ منه ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) فأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ، ولات حين مناص؛ ولهذا قال [ تعالى ] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) وهذا كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ] الآيتين، [ غافر:84 ، 85 ] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [ تعالى ] يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا الآية [ الأنعام:158 ] .

وقوله: ( وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) [ الآية ] يعني:أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ ذهبا ] .

قال ابن عباس، وأبو العالية، والربيع بن أنس: ( وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) قالوا:نـزلت في أهل الشرك.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، قال:حدثني أبي، عن مكحول:أن عُمَرَ بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان:أن أبا ذر حدثهم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يقبل تَوْبَةَ عَبْدِه - أو يغفر لعبده- ما لم يَقَعِ الحِجَاب » . قيل:وما وُقُوع الحجاب؟ قال: « أن تَخرجَ النَّفْسُ وهي مُشْرِكة » ؛ ولهذا قال [ تعالى ] أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) أي:موجعا شديدا مقيما.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( 19 )

قال البخاري:حدثنا محمد بن مُقَاتل، حدثنا أسْبَاط بن محمد، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة، عن ابن عباس - قال الشيباني:وذكره أبو الحسن السَّوَائي، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس- : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) قال:كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنـزلت هذه الآية في ذلك.

هكذا رواه البخاري وأبو داود، والنسائي، وابن مَرْدُويه، وابن أبي حاتم، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان- عن عكرمة، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء، كوفي أعمى- كلاهما عن ابن عباس بما تقدم .

وقال أبو داود:حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي، حدثني علي بن حُسَين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك، أي نهى عن ذلك.

تفرد به أبو داود وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو ذلك، فقال وَكِيع عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مِقْسم، عن ابن عباس:كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا، كان أحق بها، فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) .

وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) قال:كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها.

وروى العوفي عنه:كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ:فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

وقال زيد بن أسلم في الآية [ ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) ] كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله، وكان يعضُلها حتى يرثها، أو يزوجها من أراد، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. رواه ابن أبي حاتم.

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا علي بن المنذر، حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال:لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنـزل الله: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل، به. ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال:أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم، فنـزلت: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) الآية.

قال ابن جريج:وقال مجاهد:كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته، ينكحها إن شاء، إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه.

قال ابن جريج:وقال عكرمة:نـزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت، فجنَحَ عليها ابنُه، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:يا رسول الله، لا أنا وَرِثْتُ زوجي، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح، فنـزلت هذه الآية.

وقال السدي عن أبي مالك:كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ، فأنـزل الله: [ تعالى ] ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

وقال مجاهد في الآية:كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته، فيتزوجها أو يزوجها ابنه. رواه ابن أبي حاتم. ثم قال:ورُوِيَ عن الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وأبي مِجْلَز، والضحاك، والزهري، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك.

قلت:فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما ذكره مجاهد ومن وافقه، وكل ما كان فيه نوع من ذلك، والله أعلم.

وقوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) أي:لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) يقول:ولا تقهروهن ( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) يعني:الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها لتفتدي.

وكذا قال الضحاك، وقتادة [ وغير واحد ] واختاره ابن جرير.

وقال ابن المبارك وعبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَرٌ قال:أخبرني سِمَاك بن الفضل، عن ابن البَيْلمَاني قال:نـزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمرالإسلام. قال عبد الله بن المبارك:يعني قوله: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) في الجاهلية ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) في الإسلام.

وقوله: ( إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والشَّعْبِيُّ، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جُبَيْرٍ، ومجاهد، وعِكْرَمَة، وعَطاء الخراسانيّ، والضَّحَّاك، وأبو قِلابةَ، وأبو صالح، والسُّدِّي، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي هلال:يعني بذلك الزنا، يعني:إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ] الآية [ البقرة:229 ] .

وقال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك:الفاحشة المبينة:النُّشوز والعِصْيان.

واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه:الزنا، والعصيان، والنشوز، وبَذاء اللسان، وغير ذلك.

يعني:أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيد، والله أعلم، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] في قوله: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال:وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي نهى عن ذلك.

قال عكرمة والحسن البصري:وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام.

قال عبد الرحمن بن زيد:كان العَضْل في قريش بمكة، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تُزوّج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عَضلها. قال:فهذا قوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) الآية.

وقال مجاهد في قوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) هو كالعضل في سورة البقرة.

وقوله: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ البقرة:228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي » وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت:سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: « هذِهِ بتلْك » ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منـزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منـزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب:21 ] .

وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب « الأحكام » ، ولله الحمد.

وقوله تعالى: ( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [ وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ] ) أي:فعَسَى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة. كما قال ابن عباس في هذه الآية:هو أن يَعْطف عليها، فيرزقَ منها ولدًا. ويكون في ذلك الولد خير كثير وفي الحديث الصحيح: « لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر » .

 

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 20 ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 21 ) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ( 22 )

وقوله: ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) أي:إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئاً، ولو كان قنطارا من مال.

وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا.

وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سِيرين، قال:نُبِّئْت عن أبي العَجْفَاء السُّلميِّ قال:سمعت عمر بن الخطاب يقول:ألا لا تُغْلُوا في صَداق النساء، فإنها لو كانت مَكْرُمَةً في الدنيا أو تَقْوَى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصْدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة، وإن كان الرجل ليُبْتَلَى بصَدُقَةِ امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول:كَلِفْتُ إليك عَلَق القِرْبة، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق، عن محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء - واسمه هرم ابن مُسَيب البصري- وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح .

طريق أخرى عن عمر:قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، قال:ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال:أيها الناس، ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنماالصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فَلا أعرفَنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال:ثم نـزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نَهَيْتَ الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم؟ قال:نعم. فقالت:أما سمعت ما أنـزل الله في القرآن؟ قال:وأي ذلك؟ فقالت:أما سمعت الله يقول: ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ] ) [ النساء:20 ] قال:فقال: اللهم غَفْرًا، كُلُّ الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال:إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى:وأظنه قال:فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي .

طريق أخرى:قال ابن المنذر:حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، عن قيس بن ربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:قال عمر بن الخطاب:لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة:ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: « وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب » . قال:وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: « فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا » فقال عمر:إن امرأة خاصمت عمر فخصمته .

طريق أخرى:عن عمر فيها انقطاع:قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال:قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة - يعني يزيد ابن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة- من صُفَّة النساء طويلة، في أنفها فَطَس - :ما ذاك لك. قال:ولم؟ قالت:لأن الله [ تعالى ] قال: ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) الآية. فقال عمر:امرأة أصابت ورجل أخطأ .

ولهذا قال [ الله ] منكرا: ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ) أي:وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضَتْ إليك.

قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وغير واحد:يعني بذلك الجماع.

وقد ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما: « الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب » ثلاثًا. فقال الرجل:يا رسول الله، مالي - يعني:ما أصدقها - قال: « لا مال لك إن كنت صدَقْت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها » .

وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرًا في خدرها، فإذا هي حامل من الزنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقضى لها بالصداق وفرَّق بينهما، وأمر بجلدها، وقال: « الولد عبد لك » .

فالصداق في مقابلة البُضْع، ولهذا قال تعالى: ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ )

وقوله: ( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) روي عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير:أن المراد بذلك العَقْد.

وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله: ( وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا [ غَلِيظًا ] ) قال:قوله:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

قال ابن أبي حاتم:وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي العالية، والحسن، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، والضحاك والسدي- نحو ذلك.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في الآية هو قوله:أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فإن « كلمة الله » هي التشهد في الخطبة. قال:وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به قال له:جعلت أمتك لا تجوز لهم خُطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي. رواه ابن أبي حاتم.

وفي صحيح مسلم، عن جابر في خُطبة حِجة الوداع:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها: « واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فُروجهن بِكَلِمَة الله » .

وقوله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ] ) يُحَرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم، وإعظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سَوَّار، عن عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار قال:لما توفي أبو قَيْس - يعني ابن الأسلت- وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنَه قيس امرأته، فقالت:إنما أعُدُّكَّ ولدا وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:إن أبا قيس تُوفِّي. فقال: « خيرا » . ثم قالت:إن ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولدًا، فما ترى؟ فقال لها: « ارجعي إلى بيتك » . قال:فنـزلت هذه الآية ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ] ) الآية.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا، حسين، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرمة في قوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) [ الآية ] قال:نـزلت في أبي قيس ابن الأسلت، خُلِّفَ على أم عبيد الله بنت صخر وكانت تحت الأسلت أبيه، وفي الأسود بن خَلَفَ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبيه خَلَف، وفي فاخِتَة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، كانت عند أمية بن خَلَف، فخُلِّف عليها صفوان ابن أمية .

وقد زعم السُّهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية؛ ولهذا قال: ( إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) كما قال وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ قال:وقد فعل ذلك كِنَانة بن خزيمة، تزوج بامرأة أبيه، فأولدها ابنه النضْر بن كنانة قال:وقد قال صلى الله عليه وسلم: « وُلِدتُ من نِكاحٍ لا من سِفَاحٍ » . قال:فدل على أنَّه كان سائغًا لهم ذلك، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحًا فيما بينهم، فقد قال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا قُرَاد، حدثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنـزل الله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ وهكذا قال عطاء وقتادة. ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، والله أعلم. على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة، مُبَشَّع غاية التبشع ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ) ولهذا قال [ تعالى ] وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [ الأنعام:151 ] وقال وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [ الإسراء:32 ] فزاد هاهنا: ( وَمَقْتًا ) أي:بُغْضًا، أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة؛ لأنهن أمهات، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب [ للأمة ] بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه.

وقال عَطاء بن أبي رَباح في قوله: ( ومقتا ) أي:يمقت الله عليه ( وَسَاءَ سَبِيلا ) أي:وبئس طريقا لمن سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل، ويصير ماله فيئا لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب، عن خاله أبي بردة - وفي رواية:ابن عمر- وفي رواية:عن عمه:أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله.

وقال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، حدثنا أشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له:أي عم، أين بعثك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ قال:بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه .

مسألة:

وقد أجمع العلماءُ على تحريم من وطئها الأبُ بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضًا، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية. فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك. قد روى [ الحافظ ] ابن عساكر في ترجمة خُدَيْج الحِصْنِيّ مولى معاوية قال:اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب. فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول:هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية. ثم قال:لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرَشِي - وكان فقيها- فلما دخل عليه قال:إن هذه أتيت بها مجردة، فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال:لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له. ثم قال:نعم ما رأيت. ثم قال:ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري، فدعوته، وكان آدم شديد الأدمة، فقال:دونك هذه، بَيض بها ولدك. قال:و [ قد ] كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس عَلَى عَلِي [ بن أبي طالب ] رضي الله عنه.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 23 )

هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر، كما قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:حُرمت عليكم سبع نَسَبًا، وسبع صِهْرًا، وقرأ: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) الآية.

وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء عن عُمَير مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال:يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، ثم قرأ: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ ) فهن النسب.

وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: ( وبناتكم ) ؛ فإنها بنت فتدخل في العموم، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل. وقد حُكيَ عن الشافعي شيء في إباحتها؛ لأنها ليست بنتًا شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية. والله أعلم.

وقوله: ( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ) أي كما تحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك؛ ولهذا روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة » ، وفي لفظ لمسلم: « يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب » .

وقد قال بعض الفقهاء:كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور. وقال بعضهم:ست صور، هي مذكورة في كتب الفروع. والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يرد على الحديث شيء أصلا البتة، ولله الحمد.

ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية. وهذا قول مالك، ويحكى عن ابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المُسَيَّب، وعُرْوَة بن الزبير، والزُّهْرِي.

وقال آخرون:لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم، من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تُحرِّم المصةُ والمصتان » .

وقال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تُحرم الرَّضْعَة ولا الرضعتان، والمصَّة ولا المصتان » ، وفي لفظ آخر: « لا تحرم الإمْلاجَة ولا الإملاجتان » رواه مسلم .

وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وأبو ثور. ويحكى عن علي، وعائشة، وأم الفضل، وابن الزبير، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، رحمهم الله.

وقال آخرون:لا يحرم أقل من خمس رضعات، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمْرة عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:كان فيما أنـزل [ الله ] من القرآن:عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة نحو ذلك .

وفي حديث سَهْلة بنت سهيل:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُرضِع مولى أبي حذيفة خمس رضعات وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يُرْضع خمس رضعات. وبهذا قال الشافعي، رحمه الله [ تعالى ] وأصحابه. ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة، عند قوله: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ الآية:233 ] .

واختلفوا:هل يحرم لبن الفَحْل، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم؟ وإنما يختص الرضاع بالأم فقط، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف؟ على قولين، تحرير هذا كله في كتاب « الأحكام الكبير » .

وقوله: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل. وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل بها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها، ولهذا قال: ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) [ أي ] في تزويجهن، فهذا خاص بالربائب وحدهن.

وقد فهم بعضُهم عود الضمير إلى الأمهات [ و ] الربائب فقال:لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها؛ لقوله: ( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ )

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد عن قتادة، عن خِلاس بن عَمْرو، عن علي، رضي الله عنه، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ قال:هي بمنـزلة الربيبة.

وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال:إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها.

وفي رواية عن قتادة، عن سعيد، عن زيد بن ثابت؛ أنه كان يقول:إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كُره أن يخلف على أمها، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل.

وقال ابن المنذر:حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال:أخبرني أبو بكر بن حفص، عن مسلم بن عويمر الأجدع أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال:فلم أجامعها حتى توفي عَمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي:هل لك في أمها؟ قال:فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر فقال:انكح أمها. قال:فسألت ابن عمر فقال:لا تنكحها. فأخبرت أبي ما قال ابن عباس وما قال ابن عمر، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عُمَر وابن عباس فكتب معاوية:إني لا أحلّ ما حَرم الله، ولا أحرم ما أحل [ الله ] وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن سِمَاك بن الفضل، عن رجل، عن عبد الله بن الزبير قال:الربيبة والأم سواء، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة. وفي إسناده رجل مبهم لم يسم.

وقال ابن جريج أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدًا قال له: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) أراد بهما الدخول جميعًا فهذا القول مروى كما ترى عن علي، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، ومجاهد، وابن جبير وابن عباس، وقد توقف فيه معاوية، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني، فيما نقله الرافعي عن العبادي. [ وقد خالفه جمهور العلماء من السلف والخلف، فرأوا أن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على الأم،وإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على الربيبة ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عَزْرة حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس:أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها، أنه قال:إنها مبهمة، فكرهها.

ثم قال:ورُويَ عن ابن مسعود، وعمران بن حُصَين، ومسروق، وطاوس، وعكرمة، وعطاء، والحسن، ومكحول، وابن سيرين، وقتادة، والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا، ولله الحمد والمنة.

قال ابن جرير:والصواب، أعنى قَوْلَ من قال: « الأم من المبهمات » ؛ لأن الله لم يشرط معهن الدخول كما شرط ذلك مع أمهات الربائب، مع أن ذلك أيضًا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر، غير أنَّ في إسناده نظرًا، وهو ما حدثني به المثنى، حدثنا حبان بن موسى، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عن النبي صلىالله عليه وسلم قال:إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة .

ثم قال:وهذا الخبر، وإن كان في إسناده ما فيه، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مُسْتَغْنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.

وأما قوله: ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) فجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا:وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ النور:33 ]

وفي الصحيحين أن أم حَبيبة قالت:يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان - وفي لفظ لمسلم:عزة بنت أبي سفيان- قال: « أو تحبين ذلك؟ » قالت:نعم، لَسْتُ لك بمُخْليَة، وأحب من شاركني في خير أختي. قال: « فإن ذلك لا يَحل لي » . قالت:فإنا نُحَدثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال « بنْتَ أم سلمة؟ » قالت نعم. قال: « إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّتْ لي، إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة فلا تَعْرضْن علي بناتكن ولا أخواتكن » . وفي رواية للبخاري: « إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي » .

فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف. وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف- عن ابن جريج، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال:كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي، فوجِدْت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال:مالك؟ فقلت:توفيت المرأة. فقال علي:لها ابنة؟ قلت:نعم، وهي بالطائف. قال:كانت في حجرك؟ قلت:لا هي بالطائف قال:فانكحها. قلت:فأين قول الله [ عز وجل ] ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) قال:إنها لم تكن في حجْرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك.

هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم، وهو قول غريب جدًّا، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك، رحمه الله، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عَرَض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية، رحمه الله، فاستشكله، وتوقف في ذلك، والله أعلم .

وقال ابن المنذر:حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا الأثرم، عن أبي عبيدة قوله: ( اللاتِي فِي حُجُورِكُم ) قال:في بيوتكم.

وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس، عن ابن شهاب:أن عمر بن الخطاب سُئلَ عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى؟ فقال عمر:ما أحب أن أخبرهما جميعًا. يريد أن أطَأهُمَا جميعا بملك يميني. وهذا منقطع.

وقال سُنَيد بن داود في تفسيره:حدثنا أبو الأحوص، عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال:قلت لابن عباس:أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال:أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله.

قال الشيخ أبو عُمَر بن عبد البر، رحمه الله:لا خلاف بين العلماء أنَّه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين، لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ ) وملك اليمين هم تبع للنكاح، إلا ما روي عن عُمَر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة:بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة. وكذا قال قتادة عن أبي العالية.

ومعنى قوله تعالى: ( اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) أي:نكحتموهن. قاله ابن عباس وغير واحد.

وقال ابن جريج عن عطاء:هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. قلت:أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها. قال:هو سواء، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها.

وقال ابن جرير:وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يُحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومُبَاشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.

وقوله: ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) أي:وحُرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يَتَبَنَونهم في الجاهلية، كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ] الآية [ الأحزاب:37 ] .

وقال ابن جُرَيْج:سألت عطاء عن قوله: ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) قال:كنا نُحَدِّث، والله أعلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد، قال المشركون بمكة في ذلك، فأنـزل الله [ عز وجل ] ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) ونـزلت: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [ الأحزاب:4 ] . ونـزلت: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الأحزاب:40 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا الجرح بن الحارث، عن الأشعث، عن الحسن بن محمد أن هؤلاء الآيات مبهمات: ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ ) ( أُمَّهَاتُ نِسَائِكُم ) ثم قال:وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك.

قلت:معنى مبهمات:أي عامة في المدخول بها وغير المدخول، فتحرم بمجرد العقد عليها، وهذا متفق عليه. فإن قيل:فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة، كما هو قول الجمهور، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم: « يَحْرُم من الرّضاع ما يحرم من النسب » .

وقوله: ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ] ) أي:وحرم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف، كما قال: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى [ الدخان:56 ] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا. وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان خير، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة.

قال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لَهِيعة عن أبي وهْب الجيْشاني عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال:أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمَرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما .

ثم رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، من حديث ابن لهيعة. وأخرجه أبو داود والترمذي أيضًا من حديث يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني. قال الترمذي:واسمه ديلم بن الهُوشَع، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه، به وفي لفظ للترمذي:فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اختر أيتهما شئت » . ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن .

وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرُّعَيْني قال:قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تَزَوجْتُهما في الجاهلية، فقال: « إذا رَجَعْتَ فَطلقْ إحداهما » .

قلت:فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز، ويحتمل أن يكون غيره، فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين، عن فيروز الديلمي، والله أعلم.

وقال ابن مَرْدويه:حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني حدثنا هيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن إسحاق، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة عن رُزَيق بن حكيم، عن كثير بن مرة، عن الديلمي قال:قلت:يا رسول الله، إن تحتي أختين؟ قال: « طَلق أيهما شئت » .

فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي [ رضي الله عنه ] قال أبو زرعة الدمشقي:كان يصحب عبد الملك بن مروان، والثاني هو أبو فيروز الديلمي، رضي الله عنه، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي المتنبئ لعنه الله.

وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية، وقال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة عن ابن مسعود:أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين، فكرهه، فقال له- يعني السائل- :يقول الله عز وجل: إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فقال له ابن مسعود:وبعيرك مما ملكت يمينك.

وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن قَبيصة بن ذُؤيب:أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان:أحلتهما آية وحَرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك فقال:لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. قال مالك:قال ابن شهاب:أرَاه علي بن أبي طالب:قال:وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك.

قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري، رحمه الله، في كتابه « الاستذكار » :إنما كني قبيصة بن ذُؤيب عن علي بن أبي طالب، لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

ثم قال أبو عمر، رحمه الله:حدثني خلف بن أحمد، رحمه الله، قراءة عليه:أن خلف بن مطرف حدثهم:حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا:حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي، حدثني عمي إياس بن عامر قال:سألت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] فقلت:إن لي أختين مما ملكت يميني، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادًا، ثم رغبت في الأخرى، فما أصنع؟ فقال علي، رضي الله عنه:تعتق التي كنت تطَأُ ثم تطأ الأخرى. قلت:فإن ناسًا يقولون:بل تَزَوّجها ثم تطأ الأخرى. فقال علي:أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي:إنه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد - أو قال:إلا الأربع- ويَحْرُم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب.

ثم قال أبو عمر:هذا الحديث رحلة لو لم يصب الرجل من أقصى المشرق أو المغرب إلى مكة غيره لما خابت رحلته .

قلت:وقد روي عن علي نحو ما تقدم عن عثمان، وقال أبو بكر بن مردويه:

حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن العباس، حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك المخرّمي حدثنا عبد الرحمن بن غَزْوان، حدثنا سفيان، عن عَمْرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال لي علي بن أبي طالب:حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين- قال ابن عباس:يحرمهن علي قرابتي منهن، ولا يحرمهن على قرابة بعضهن من بعض - يعني الإماء- وكانت الجاهلية يحرمون ما تُحَرَّمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلما جاء الإسلام أنـزل الله [ عز وجل ] ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) يعني:في النكاح.

ثم قال أبو عمر:روى الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا محمد بن سلمة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود قال:يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد. وعن ابن سيرين والشعبي مثل ذلك.

قال أبو عمر، رحمه الله:وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف، منهم:ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونَفْي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله [ تعالى ] ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ] ) إلى آخر الآية:أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون نظرًا وقياسًا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها، والله المحمود .

 

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 24 )

وقوله [ تعالى ] ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي:وحرم عليكم الأجنبيات المحصنات وَهُنَّ المزوجات ( إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يعني:إلا ما ملكتموهن بالسبي، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن، فإن الآية نـزلت في ذلك.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان - هو الثوري- عن عثمان البَتِّي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري قال:أصبنا نساء من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنـزلت هذه الآية: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) [ قال ] فاستحللنا فروجهن.

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن هُشَيم، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، ثلاثتهم عن عثمان البتي، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سواري عن عثمان البتي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيد الخدري، فذكره، وهكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة عن أبي الخليل، عن أبي سعيد، به .

وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل، عن أبي عَلْقَمَةَ الهاشمي، عن أبي سعيد قال الإمام أحمد:

حدثنا ابن أبي عَدِيّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي عَلْقَمَةَ، عن أبي سعيد الخدري؛ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس، لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال:فنـزلت هذه الآية في ذلك: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )

وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة - زاد مسلم:وشعبة- ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، بإسناده نحوه. وقال الترمذي:هذا حديث حسن، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة. كذا قال. وقد تابعه سعيد وشعبة، والله أعلم .

وقد روى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس:أنها نـزلت في سبايا خيبر، وذكر مثل حديث أبي سعيد، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها، أخذا بعموم هذه الآية. قال ابن جرير:حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم:أنه سُئل عن الأمة تباع ولها زوج؟ قال:كان عبد الله يقول:بيعها طلاقها، ويتلو هذه الآية ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )

وكذا رواه سفيان عن منصور، ومغيرة والأعمش عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال:بيعها طلاقها. وهو منقطع.

وقال سفيان الثوري، عن خالد، عن أبي قِلابة، عن ابن مسعود قال:إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها.

ورواه سعيد، عن قتادة قال:إن أبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس قالوا:بيعها طلاقها.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، [ حدثنا ] ابن علية، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:طلاق الأمة ست بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب قوله: ( وَالْمُحْصَناَتُ مِنَ النِّسَاءِ ) قال:هُن ذوات الأزواج، حرّم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر:وقال الحسن مثل ذلك.

وهكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال:إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها.

وقال عوف، عن الحسن:بيع الأمة طلاقها وبيعُه طلاقُها.

فهذا قول هؤلاء من السلف [ رحمهم الله ] وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقها ؛ لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما؛ فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وَنَجَّزَتْ عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصتها مشهورة، فلو كان بيع الأمة طلاقها - كما قال هؤلاء لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط، والله أعلم.

وقد قيل:المراد بقوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) يعني:العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعا. حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عُمَر وعبيدة: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.

وقوله: ( كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) أي:هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه.

وقد قال عبيدة وعطاء والسّدّي في قوله: ( كِتَابَ الله عَلَيْكُم ) يعني الأربع. وقال إبراهيم: ( كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) يعني:ما حرم عليكم.

وقوله: ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) أي:ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي: ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) ما دون الأربع، وهذا بعيد، والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) يعني:ما ملكت أيمانكم.

وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال:أحلتهما آية وحرمتهما آية .

وقوله: ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) أي:تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي؛ ولهذا قال: ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )

وقوله: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) أي:كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك، كقوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [ النساء:21 ] وكقوله وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً وكقوله [ النساء:4 ] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ البقرة:229 ]

وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، مرتين. وقال آخرون أكثر من ذلك، وقال آخرون:إنما أبيح مرة، ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك.

وقد رُويَ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القولُ بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى. وكان ابن عباس، وأبيّ بن كعب، وسعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّي يقرءون: « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة » . وقال مجاهد:نـزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال:نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب « الأحكام » .

وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سَبْرَة بن معبد الجهني، عن أبيه:أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، فقال: « يأيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حَرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا » وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب « الأحكام » .

وقوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال:فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به وزيادة للجعل .

قال السدي:إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها- قبل انقضاء الأجل بينهما فقال:أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) .

قال السدي:إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه.

ومن قال بالقول الأول جعل معناه كقوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ] [ النساء:4 ] أي:إذا فرضت لها صداقًا فأبرأتك منه، أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال:زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) أيها الناس ( فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرَيضَةِ ) يعني:إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ، واختار هذا القول ابن جرير، وقال [ علي ] بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) والتراضي أن يُوَفيها صداقها ثم يخيرها، ويعني في المقام أو الفراق.

وقوله: ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [ العظيمة ] .

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 25 )

يقول [ تعالى ] ومن لم يجد ( طَوْلا ) أي:سعة وقدرة ( أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) أي الحرائر.

وقال ابن وَهْب:أخبرني عبد الجبار، عن ربيعة: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ) قال ربيعة الطوْل الهوى، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ثم شرع يشنع على هذا القول ويَرُدّه ( فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) أي:فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون، ولهذا قال: ( مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات ) قال ابن عباس وغيره:فلينكح من إماء المؤمنين، وكذا قال السدي ومقاتل بن حَيَّان.

ثم اعترض بقوله: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) أي:هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور.

ثم قال: ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) فدلَّ على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده، ليس لعبده أن يتزوج إلا بإذنه، كما جاء في الحديث: « أيما عبد تَزَوّج بغير إذن مَوَاليه فهو عَاهِر » أي زان.

فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها؛ لما جاء في الحديث: « لا تُزَوِّجُ المرأةُ [ المرأةَ، ولا المرأةُ نفسها ] فإن الزانية هي التي تزوج نفسها » .

وقوله: ( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:وادفعوا مهورهن بالمعروف، أي:عن طيب نفس منكم، ولا تبخسوا منه شيئًا استهانة بهن؛ لكونهن إماء مملوكات.

وقوله: ( مُحْصَنَاتٍ ) أي:عفائف عن الزنا لا يتعاطينه؛ ولهذا قال: ( غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ) وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة.

وقوله: ( ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) قال ابن عباس:المسافحات، هن الزواني المعالنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة. ( ومتخذات أخدان ) يعني:أخلاء.

وكذا روي عن أبي هريرة، ومجاهد والشعبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، ويحيى بن أبي كثير، ومقاتل بن حيان، والسدي، قالوا:أخلاء. وقال الحسن البصري:يعني:الصديق. وقال الضحاك أيضا: ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) ذات الخليل الواحد [ المسيس ] المقرة به، نهى الله عن ذلك، يعني [ عن ] تزويجها ما دامت كذلك.

وقوله: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) اختلف القراءُ في ( أُحْصِنَّ ) فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد، مبني لما لم يسم فاعله، وقُرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل:معنى القراءتين واحد. واختلفوا فيه على قولين:

أحدهما:أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام. رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأنس، والأسود بن يزيد، وزِرّ بن حُبَيْش، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، إبراهيم النَّخعي، والشعبي، والسُّدِّي. وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب، وهو منقطع. وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ] في رواية الربيع، قال:وإنما قلنا [ ذلك ] استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم.

وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا مرفوعًا، قال:حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقى ] حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبي حمزة، عن جابر، عن رجل، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال:قال رسول الله صلى عليه وسلم: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) قال: « إحصانها إسلامها وعفافها » . وقال المراد به هاهنا التزويج، قال:وقال علي:اجلدوهن.

[ ثم ] قال ابن أبي حاتم:وهو حديث منكر.

قلت:وفي إسناده ضعف، ومنهم من لم يسم، و [ مثله ] لا تقوم به حجة .

وقال القاسم وسالم:إحصانها:إسلامها وعفافها.

وقيل:المراد به هاهنا:التزويج. وهو قولُ ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وطاوس، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه « الإيضاح » عن الشافعي، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد أنه قال:إحصان الأمة أن ينكحها الحر، وإحصان العبد أن ينكح الحرة. وكذا رَوَى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، رواهما ابن جرير في تفسيره، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي.

وقيل معنى القراءتين متباين فمن قرأ ( أُحْصِنَّ ) بضم الهمزة، فمراده التزويج، ومن قرأ « أحصن » بفتحها، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسيره، وقرره ونصره.

والأظهر - والله أعلم- أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه، حيث يقول سبحانه وتعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ ) والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) أي:تزوجن، كما فسره ابن عباس ومن تبعه.

وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور؛ وذلك أنهم يقولون:إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا:لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، عن علي، رضي الله عنه، أنه خطب فقال:يا أيها الناس، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « أحْسَنْتَ، اتركها حتى تَماثَل » .

وعند عبد الله بن أحمد، عن غير أبيه: « فإذا تَعالتْ من نَفْسِها حدَّها خمسين » .

وعن أبي هريرة قال:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر » ولمسلم إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة « . »

وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يَسار، عن عبد الله بن عيَّاش بن أبي ربيعة المخزومي قال:أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.

الجواب الثاني:جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، وإنما تضرب تأديبا، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، وإليه ذهب طاوس، وسعيد بن جُبَير، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه. وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ؟ قال: « إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير » قال ابن شهاب:لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة.

أخرجاه في الصحيحين وعند مسلم:قال ابن شهاب:الضفير الحبل .

قالوا:فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم.

وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور، عن سفيان، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس على أمة حد حتى تحصن - أو حتى تزوج- فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات » .

وقد رواه ابن خزيمة، عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا. وقال:رفعه خطأ، إنما هو من قول ابن عباس، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة .

قالوا:وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ] قضايا أعيان، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة:

أحدها:أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث.

الثاني:أن لفظ الحد في قوله:فليجلدها الحد، لفظ مقحم من بعض الرواة، بدليل الجواب الثالث وهو:

أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم من رواية واحد، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، من حديث عَبَّاد بن تميم، عن عمه - وكان قد شهد بدرًا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير » .

الرابع:أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة، ورجم الثيب أو اللائط، والله أعلم.

وقد روى ابن جرير في تفسيره:حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول:لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج .

وهذا إسناد صحيح عنه، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا، ولا ينفي ضربها تأديبا، فهو كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك، والله أعلم.

الجواب الثالث:أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة، كقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النور:2 ] وكحديث عبادة بن الصامت: « خُذوا عَنِّي، خذوا عني، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة » والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث.

وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري، وهو في غاية الضعف؛ لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان. وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: « اجلدوها » ولم يقل مائة، فلو كان حكمها كما قال داود لوجب بيان ذلك لهم؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء، وإلا فما الفائدة في قولهم: « ولم تحصن » لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نـزلت، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر، فبينه لهم. كما [ ثبت ] في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه، فذكرها لهم ثم قال: « والسلام ما قد علمتم » وفي لفظ:لما أنـزل الله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ الأحزاب:56 ] قالوا:هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ وذكر الحديث، وهكذا هذا السؤال .

الجواب الرابع - عن مفهوم الآية- :جواب أبي ثور، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه، ذلك أنه يقول فإذا أحْصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم، وهو لا يتناصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين. فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي، رحمه الله:ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، والألف واللام في المحصنات للعهد، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ) والمراد بهن الحرائر فقط، من غير تعرض لتزويج غيره، وقوله: ( نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم، والله أعلم.

ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ] نَصا في رَدِّ مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية كانت قد زنت برجل من الحمس، فولدت غلاما، فادعاه الزاني، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ] فرفعهما إلى علي بن أبي طالب، فقال علي:أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر » وجلدهما خمسين خمسين .

وقيل:بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى، أي:أن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة. قال ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي، فيما رواه ابن عبد الحكم، عنه. وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار، وهو بعيد عن لفظ الآية؛ لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها، وقال:بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله- فأما قبل الإحصان فله ذلك، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة. وهذا أيضا بعيد؛ لأنه ليس في لفظ الآية ما يدل عليه.

ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام في التنصيف، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة أو رجمهن، كما أثبت في الدليل عليه، وقد تقدم عن علي أنه قال:أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور: « إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فتبين زِناهَا فَليجْلِدها الحدَّ ولا يثرب عَلَيْها » .

ملخص الآية:أنها إذا زنت أقوال:أحدها:أنها بجلد خمسين قبل الإحصان وبعده، وهل تنفى؟ فيه ثلاثة أقوال:

[ أحدها ] أنها تنفى عنه والثاني:لا تنفى عنه مطلقًا. [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ] والثالث:أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف الحرة. وهذا الخلاف في مذهب الشافعي، وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد، وإنما هو رأي الإمام، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال، وأما النساء فلا ؛ لأن ذلك مضاد لصيانتهن، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عُبَادَة وحديث أبي هريرة ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه، رواه البخاري، و [ كل ] ذلك مخصوص بالمعنى، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم.

والثاني:أن الأمة إذا زنت تُجلد خمسين بعد الإحصان، وتضرب [ قبله ] تأديبا غير محدود بعدد محصور، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير:أنها لا تضرب قبل الإحصان، وإن أراد نفيه فيكون مذهبًا بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني.

القول الآخر:أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين، كما هو المشهور عن داود، و [ هو ] أضعف الأقوال:أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده، وهو قول أبي ثور، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقوله: ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) أي:إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا، وشق عليه الصبر عن الجماع، وعنت بسبب ذلك [ كله، فحينئذ يتزوج الأمة، وإن ترك تزوج الأمة ] وجاهد نفسه في الكف عن الزنا، فهو خير له؛ لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي، ولهذا قال: ( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهورُ العلماء في جواز نكاح الإماء، على أنه لا بد من عدم الطَّوْل لنكاح الحرائر ومن خوف العنت؛ لما في نكاحهن من مفْسَدة رق الأولاد، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن. وخالف الجمهورَ أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين، فقالوا:متى لم يكن الرجل مزوجا بحرّة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا، سواء كان واجدًا الطول لحرة أم لا وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه [ عموم ] قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ المائدة:5 ] أي:العفائف، وهو يعم الحرائر والإماء، وهذه الآية عامة، وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 26 )

يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون- ما أحل لكم وحرم عليكم، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها، ( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يعني:طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها ( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) أي من الإثم والمحارم، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله.

 

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ( 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( 28 )

وقوله: ( [ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ] وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ) أي:يُريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة ( أَنْ تَمِيلُوا ) يعني:عن الحق إلى الباطل ( مَيْلا عَظِيمًا* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) أي:في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، ولهذا أباح [ نكاح ] الإماء بشروطه، كما قال مجاهد وغيره: ( خُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) فناسبه التخفيف؛ لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل [ الأحمسي ] حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: ( خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا ) أي:في أمر النساء، وقال وكيع:يذهب عقله عندهن.

وقال موسى الكليم عليه الصلاة والسلام لنبينا صلوات الله وسلامه عليه ليلة الإسراء حِينَ مر عليه راجعا من عند سدْرة المنتهى، فقال له:ماذا فرض عليكم ؟ فقال: « أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة » فقال له:ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا، فرجع فوضع عشرا، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسًا [ قال الله عز وجل: « هن خمس وهن خمسون، الحسنة بعشر أمثالها » ] الحديث .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ( 31 )

نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل، أي:بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا، حتى قال ابن جرير:

حدثني ابن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول:إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما- قال:هو الذي قال الله عز وجل: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، عن داود الأودي عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله [ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) ] قال:إنها [ كلمة ] محكمة، ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لما أنزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) قال المسلمون:إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكيف للناس ! فأنزل الله بعد ذلك: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [ النور:61 ] الآية، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ] .

وقوله: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) قرئ:تجارة بالرفع وبالنصب، وهو استثناء منقطع، كأنه يقول:لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال. كما قال [ الله ] تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [ الأنعام:151 ] ، وكقوله لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى [ الدخان:56 ] .

ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ] على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول؛ لأنه يدل على التراضي نَصا، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد، وخالف الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا، ومنهم من قال:يصح في المحقَّرات، وفيما يعده الناس بيعا، وهو احتياط نظر من محققي المذهب، والله أعلم.

قال مجاهد: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) بيعا أو عطاء يعطيه أحد أحدًا. ورواه ابن جرير [ ثم ] قال:

وحدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجُعْفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلمًا » . هذا حديث مرسل .

ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس، كما ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا » وفي لفظ البخاري: « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » .

وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي، وأحمد [ بن حنبل ] وأصحابهما، وجمهورُ السلف والخلف. ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ] بحسب ما يتبين فيه مال البيع، ولو إلى سنة في القرية ونحوها، كما هو المشهور عن مالك، رحمه الله. وصححوا بيع المعاطاة مطلقا، وهو قول في مذهب الشافعي، ومنهم من قال:يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا، وهو اختيار طائفة من الأصحاب.

وقوله: ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي:بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) أي:فيما أمركم به، ونهاكم عنه.

قال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمْران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال:احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال:فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: « يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ! » قال:قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فذكرت قول الله [ عز وجل ] ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.

وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، به. ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عنه، فذكر نحوه. وهذا، والله أعلم، أشبه بالصواب .

وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه:حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي، حدثنا عُبَيد عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا يوسف بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس:أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فدعاه فسأله عن ذلك، فقال:يا رسول الله، خفْتُ أن يقتلني البرد، وقد قال الله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ] ) قال:فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .

ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مُتَرد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا » .

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وعن أبي قِلابة، عن ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة » . وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة وفي الصحيحين من حديث الحسن، عن جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان رَجُلٌ ممن كان قبلكم وكان به جُرْح، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ، قال الله عز وجل:عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه، حرَّمت عليه الْجَنَّة » .

ولهذا قال الله تعالى: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا ) أي:ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما في تعاطيه، أي:عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه ( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فَلْيحذَرْ منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد.

وقوله: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) . أي:إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة؛ ولهذا قال: ( وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ) .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا مؤمل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا خالد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس [ يرفعه ] : « الذي بلغنا عن ربنا، عز وجل، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر، يقول الله [ تعالى ] ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) » .

وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر:

قال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيم عن مُغِيرة، عن أبي مَعْشَر، عن إبراهيم، عن قَرْثَع الضَّبِّي، عن سلمان الفارسي قال:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « أتدري ما يوم الجمعة؟ » قلت:هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم. قال: « لكن أدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ، لا يتطهر الرجل فيُحسِنُ طُهُوره، ثم يأتي الجُمُعة فيُنصِت حتى يقضي الإمام صلاته، إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة، ما اجْتُنبت المقتلة وقد رَوَى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه . »

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثني المثنى [ بن إبراهيم ] حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المُجْمر، أخبرني صهيب مولى العُتْوارِي، أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد يقولان:خَطَبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: « والذي نَفْسي بِيَدِهِ » - ثلاث مرات- ثم أكَبَّ، فأكب كل رجل منا يبكي، لا ندري على ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حُمْر النَّعَم، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] ما من عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَواتِ الخمسَ، ويَصُومُ رمضانَ، ويُخرِج الزكاة، ويَجْتنبُ الكبائر السَّبعَ، إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجَنَّةِ، ثم قيل له:ادْخُل بسَلامٍ « . »

وهكذا رواه النسائي، والحاكم في مستدركه، من حديث الليث بن سعد، رواه الحاكم أيضا وابن حِبَّان في صحيحه، من حديث عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، به. ثم قال الحاكم:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .

تفسير هذه السبع:

وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال، عن ثَوْر بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجْتَنِبُوا السبعَ المُوبِقَاتِ » قيل:يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: « الشِّركُ بالله، وقَتْلُ النَّفْس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق، والسِّحرُ، وأكْلُ الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف، وقَذْفُ المحصنَات المؤمنات الغافلات » .

طريق أخرى عنه:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فَهْد بن عَوْف، حدثنا أبو عَوَانة، عن عَمْرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الكبائر سَبْعٌ، أولها الإشراكُ بالله، ثم قَتْل النَّفْس بغير حقها، وأكْلُ الرِّبَا، وأَكْلُ مال اليتيمِ إلى أن يكبر، والفِرَارُ من الزَّحْفِ، ورَميُ المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بَعْدَ الهِجْرَةِ » .

فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب، وهو ضعيف عند عدم القرينة، ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال:

حدثنا أحمد بن كامل القاضي، إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد، حدثنا معاذ بن هانئ، حدثنا حَرْب بن شَدَّاد، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سِنَان، عن عبيد بن عُمَيْر، عن أبيه - يعني عُمَير بن قتادة- رضي الله عنه أنه حدثه - وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: « ألا إن أولياء الله المُصَلُّون من يُقِيم الصلواتِ الخمسَ التي كُتبت عليه، ويَصومُ رمضان ويَحتسبُ صومَهُ، يرى أنه عليه حق، ويُعطي زكاةَ ماله يَحْتسِبها، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها » . ثم إن رجلا سأله فقال:يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال: « تسع:الشِّركُ بالله، وقَتْلُ نَفْسِ مؤمن بغير حق وفِرارُ يوم الزّحْفِ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرِّبا، وقذفُ المُحصنَة وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا، ثم قال:لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر، ويقيم الصلاة، ويُؤتِي الزكاة، إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذَهَبٍ » .

وهكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا من حديث معاذ بن هانئ، به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطًا ثم قال الحاكم:رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان .

قلت:وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث، وقد ذكره ابن حِبَّان في كتاب الثقات، وقال البخاري:في حديثه نظر.

وقد رواه ابن جرير، عن سليمان بن ثابت الجحدري، عن سلم بن سلام، عن أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد بن عُمَير، عن أبيه، فذكره. ولم يذكر في الإسناد:عبد الحميد بن سنان، فالله أعلم .

حديث آخر في معنى ما تقدم:قال ابن مَرْدُويه:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد، عن المطلب عن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال:صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: « لا أقْسِمُ، لا أقْسِمُ » . ثم نزل فقال: « أبْشِرُوا، أبْشِرُوا، من صَلَّى الصلوات الخمس، واجْتَنَبَ الكبائر السَّبعَ، نُودِيَ من أبواب الجنة:ادخُل » . قال عبد العزيز:لا أعلمه إلا قال: « بسلام » . قال المطلب:سمعت من سأل عبد الله بن عَمْرو:أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن؟ قال:نعم: « عقوق الوالدين، وإشْرَاكٌ بالله، وقَتْلُ النفس، وقَذْفُ المُحْصنات، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، والفِرارُ من الزَّحفِ، وأكْلُ الرِّبَا » .

حديث آخر في معناه:قال أبو جعفر بن جرير في التفسير:حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا زياد بن مِخْرَاق عن طيسلة بن مياس قال:كنت مع النَّجدات، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر، فلقيت ابن عُمَر فقلت له:إني أصبت ذُنُوبا لا أراها إلا من الكبائر قال:ما هي؟ قلت:أصبت كذا وكذا. قال:ليس من الكبائر. قلت:وأصبت كذا وكذا. قال:ليس من الكبائر قال - بشيء لم يسمه طَيْسَلَة- قال:هي تسع وسأعدهن عليك:الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلما، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر وبكاء الوالدين من العقوق. قال زياد:وقال طيسلة لما رأى ابن عمر:فَرَقي. قال:أتخاف النار أن تدخلها؟ قلت:نعم. قال:وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت:نعم. قال:أحيّ والداك؟ قلت:عندي أمي. قال:فوالله لئن أنت ألَنْتَ لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا سليمان بن ثابت الْجَحْدَرِي الواسطي، حدثنا سلم بن سلام، حدثنا أيوب بن عتبة، عن طَيْسَلة بن علي النهدي قال:أتيت ابن عمر وهو في ظل أرَاك يوم عَرَفة، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت أخبرني عن الكبائر؟ قال:هي تسع. قلت:ما هي؟ قال:الإشراك بالله، وقذف المحصنة - قال:قلت:قبل القتل ؟ قال:نعم وَرَغْمَا - وقتل النفس المؤمنة، والفِرارُ من الزَّحْفِ، والسِّحْرُ، وأكْلُ الربا، وأكل مال اليتيم، وعُقوق الوالدين المسلمين، وإلْحاد بالبيت الحرام، قبْلَتكم أحياء وأمواتا .

هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا، وقد رواه علي بن الجَعْدِ، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي [ النهدي ] قال:أتيت ابن عمر عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وهو تحت ظلِّ أرَاكة، وهو يَصُبُّ الماء على رأسه، فسألته عن الكبائر، فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « هُنّ سبع » . قال:قلت:وما هُنّ؟ قال: « الإشراك بالله، وقذف المحصنة - قال:قلت:قبل الدم؟ قال:نعم ورغما - وقتلُ النفس المؤمنة، والفرار من الزَّحفِ، والسِّحرُ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعُقوق الوالدين، وإلحاد بالبيت الحرامِ قِبْلَتَكُم أحياء وأمواتا » .

وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب، عن أيوب بن عتبة اليماني - وفيه ضعف - والله أعلم.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا زكريا بن عَديّ، حدثنا بَقِيَّة، عن بَحير بن سعد عن خالد بن مَعْدان:أن أبا رُهْم السمعي حدثهم، عن أبي أيوب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من عَبَدَ الله لا يُشرِكُ به شيئا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجْتَنَبَ الكبائر، فله الجنة - أو دخل الجنة » فسأله رجل:ما الكبائر؟ فقال الشرك بالله، وقَتْلُ نفس مسلمة، والفِرار يوم الزَّحْف « . »

ورواه أحمد أيضًا والنسائي، من غير وجه، عن بقية .

حديث آخر:روى الحافظ أبو بكر ابن مردويه في تفسيره، من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف- عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم، عن أبيه، عن جده قال:كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، قال:وكان في الكتاب: « إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة:إشْراكٌ باللهِ وقَتْل النفْسِ المؤمنة بغير حَقٍّ، والفِرارُ في سبيل الله يوم الزَّحْفِ، وعُقوق الوالدين، ورَمْي المحصنة، وتَعَلُّم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم » .

حديث آخر:فيه ذكر شهادة الزور؛ قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني عُبَيد الله بن أبي بكر قال:سمعت أنس بن مالك قال:ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر - أو سئل عن الكبائر- فقال: « الشِّرْكُ بالله، وقَتْلُ النفْسِ، وعُقوق الوالدين » . وقال: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » قال: « قول الزور - أو شهادة الزور » . قال شعبة:أكبر ظنى أنه قال « » شهادة الزور « . »

أخرجاه من حديث شعبة به. وقد رواه ابن مَرْدُويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس، بنحوه .

حديث آخر:أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بَكْرة، عن أبيه قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » ، قلنا:بلى يا رسول الله، قال: « الإشراك بالله، وعقوق الوالدين » وكان متكئا فجلس فقال: « ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور » . فما زال يكررها حتى قلنا:ليته سكت .

حديث آخر:فيه ذكر قتل الولد، وهو ثابت في الصحيحين، عن عبد الله بن مسعود قال:قلت:يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ - وفي رواية:أكبر- قال: « أن تجعل لله نِدا وهو خَلَقكَ » قلت:ثم أيّ؟ قال: « أن تَقْتُلَ ولدك خَشْيَةَ أن يَطْعَم معك » . قلت:ثم أيّ؟ قال: « أن تُزاني حَلِيلَةَ جارِك » ثم قرأ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] إلى قوله: إِلا مَنْ تَابَ [ الفرقان:68- 70 ] .

حديث آخر فيه ذكر شرب الخمر. قال ابن أبي حاتم:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثني أبو صخر:أن رجلا حَدّثه عن عمرة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عَمْرو بن العاص وهو بالحِجْر بمكة وسُئل عن الخمر، فقال:والله إنَّ عظيمًا عند الله الشيخُ مثلي يكذبُ في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب فسأله ثم رجع فقال:سألته عن الخمر فقال: « هي أكبر الكبائر، وأم الفواحش، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته » غريب من هذا الوجه.

طريق أخرى:رواها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن داود بن صالح، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه:أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وعُمَر بن الخطاب وأناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين، جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه، فأرسلوني إلى عبد الله بن عَمْرو بن العاص أسأله عن ذلك، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَلِكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيَّره بين أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسا، أو يزاني أو يأكل لحم خنزير، أو يقتله فاختار شُرْبَ الخمر وإنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أراده منه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا: « ما من أحد يشرب خمرًا إلا لم تُقْبَلْ له صَلاةٌ أربعين ليلة، ولا يموت أحد في مَثَانَتِهِ منها شيء إلا حَرَّم الله عليه الجنة فإنْ مات في أربعين ليلة مات ميتَةً جاهلية » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا، وداود بن صالح هو التَّمار المدني مولى الأنصار، قال الإمام أحمد:لا أرى به بأسا. وذكره ابن حبان في الثقات، ولم أر أحدًا جرحه .

حديث آخر:عن عبد الله بن عَمْرو وفيه ذكْرُ اليمين الغَمُوس. قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبة، عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعُقُوق الوالدين، أو قَتْل النَّفْس - شعبة الشاك- واليمين الغَمُوس » . ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة:زاد البخاري وشيبان، كلاهما عن فراس، به .

حديث آخر:في اليمين الغموس: « قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قُنْفُذ التيمي، عن أبي أمامة الأنصاري، عن عبد الله بن أنيس الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أكبر الكبائر الشرك بالله، وعُقوق الوالدين، واليمين الغَمُوس، وما حَلَفَ حالف بالله يمين صَبْر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة، إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة » . وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، وعبد بن حميد في تفسيره، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدّب، عن الليث بن سعد، به. وأخرجه الترمذي [ في تفسيره ] عن عبد بن حميد [ به ] ثم قال:وهذا حديث حسن غريب، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة، ولا يعرف اسمه. وقد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث .

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي:وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني، عن محمد بن زيد، عن عبد الله بن أبي أمامة، عن أبيه عن عبد الله بن أنيس. فزاد عبد الله بن أبي أمامة.

قلت:هكذا وقع في تفسير ابن مَرْدُويه وصحيح ابن حبّان، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا، فسَح اللهُ في أجله .

حديث آخر:عن عبد الله بن عمرو، في التسبب إلى شتم الوالدين. قال ابن أبي حاتم:حدثنا عَمْرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن مِسْعر وسفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو - رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو - قال: « من الكبائر أن يَشْتُم الرجلُ والديه » :قالوا:وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: « يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه » .

وقد أخر هذا الحديث البخاري عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن عَمْرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من أكبر الكبائر أن يَلْعَن الرجلُ والديه » . قالوا:وكيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديه؟‍‍‍! قال: « يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه » .

وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم، به مرفوعا بنحوه. وقال الترمذي:صحيح .

وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سِبابُ المسلم فُسُوقٌ، وقِتاله كُفْر » .

حديث آخر في ذلك:قال ابن أبي حاتم:حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا زهير بن محمد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أكبر الكبائر عِرْضُ الرجل المسلم، والسَّبَّتَان والسَّبَّة » .

هكذا روي هذا الحديث، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه، عن جعفر بن مسافر، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أكبر الكبائر استطالةُ المرْءِ في عِرْضِ رجلٍ مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة » .

وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زَيْر عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله .

حديث آخر:في ذكْرُ الجمع بين الصلاتين من غير عذر؛ قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نُعَيم بن حماد، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان، عن أبيه، عن حَنَش عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من جمع بين الصَّلاتين من غير عُذْرٍ، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر » . وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف، عن المعتمر بن سليمان، به ثم قال:حَنَش هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره .

وقد روى ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة - يعنى العدوي- قال:قرئ علينا كتابُ عمر:من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير عذر- والفِرَار من الزَّحْفِ، والنُّهْبَة.

وهذا إسناد صحيح:والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرًا، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة، فما ظنك بمن ترك الصلاةِ بالكلية؟ ولهذا روى مسلم في صحيحه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة » وفي السنن عنه، عليه السلام، أنه قال: « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تَرَكَها فقد كَفر » وقال: « من ترك صلاةَ العَصْرِ فقد حبطَ عَمَلُه » وقال: « من فاتته صَلاةُ الْعَصْرِ فكأنما وَتِرَ أهله وماله » .

حديث آخر:فيه اليأسُ من رَوْح الله، والأمنُ من مَكْر الله. قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل، حدثنا أبي، حدثنا شَبِيب بن بِشْر، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال:ما الكبائر؟ فقال: « الشِّرْكُ بالله، واليأس من رَوْح الله، والقُنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر » .

وقد رواه البزار، عن عبد الله بن إسحاق العطار، عن أبي عاصم النبيل، عن شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رجلا قال:يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: « الإشراك بالله، واليأس من رَوْح الله، والقُنوط من رحمة الله عز وجل » .

وفي إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفا، فقد روي عن ابن مسعود نحوُ ذلك قال ابن جرير:

حدثنى يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيم، أخبرنا مطرف، عن وَبْرة بن عبد الرحمن، عن أبي الطفيل قال:قال ابن مسعود:أكبر الكبائر الإشراك بالله والإياس من رَوْح الله، والقُنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.

وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق، عن وَبْرة، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود، به ثم رواه من طُرُق عدة، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود. وهو صحيح إليه بلا شك.

حديث آخر:فيه سوء الظن بالله؛ قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن إبراهيم بن بُنْدار، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان، حدثنا محمد بن مهاجر حدثنا أبو حذيفة البخاري، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل » . حديث غريب جدًّا.

حديث آخر:فيه التعرب بعد الهجرة، قد تقدم في رواية عَمْرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا، قال أبو بكر بن مرْدويه:حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رشدين، حدثنا عَمْرو بن خالد الحراني، حدثنا ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن سهل ابن أبي حَثْمة عن أبيه قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الكبائر سبع، ألا تسألوني عنهن؟ الشِّركُ بالله، وقَتْلُ النفْسِ، والفِرارُ يوم الزَّحْفِ، وأكْلُ مال اليتيم، وأكل الربا، وقَذْفُ المحصَنَة، والتعرب بعد الهجرة » .

وفي إسناده نظر، ورفعه غلط فاحش والصواب ما رواه ابن جرير:حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن سهيل بن أبي حثْمة عن أبيه قال:إني لفي هذا المسجد - مسجد الكوفة- وعلي، رضي الله عنه، يَخْطُب الناسَ على المنبر، فقال:يا أيها الناس، الكبائر سبع فأصاخ الناسُ، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال:لم لا تسألوني عنها؟ قالوا:يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال:الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي:يا أبت، التعرب بعد الهجرة، كيف لحق هاهنا؟ قال:يا بني، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سهمه في الفيء، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيًا كما كان .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا هاشم، حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان- عن منصور، عن هلال بن يسَاف، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: « ألا إنما هن أربع:ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفْسَ التي حَرَّمَ الله إلا بالحق، ولا تَزْنُوا، ولا تسرقوا » . قال:فما أنا بأشح عليهن منى، إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه، من حديث منصور، بإسناده مثله .

حديث آخر:تقدم من رواية عُمَر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ من الكبائر » . والصحيح ما رواه غيره، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس [ قوله ] قال ابن أبي حاتم:وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله.

حديث آخر في ذلك: « قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ، فقالوا:الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » فأين تجعلون الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ آل عمران:77 ] ؟! إلى آخر الآية. في إسناده ضعف، وهو حسن .

ذكر أقوال السلف في ذلك:

قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي، رضي الله عنهما، في ضمن الأحاديث المذكورة. وقال ابن جرير:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُليَّة، عن ابن عَوْن، عن الحسن:أن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا:نرى أشياء من كتاب الله، أمَرَ أن يُعمل بها فلا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر، رضي الله عنه، فقال:متى قدمت؟ فقال:منذ كذا وكذا قال:أبإذن قدمت؟ قال:فلا أدري كيف رد عليه. فقال:يا أمير المؤمنين، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا:إنا نرى أشياء من كتاب الله، أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال:اجمعهم لي. قال:فجمعتهم له - قال ابن عون:أظنه قال:في بَهْو- فأخذ أدناهم رجلا فقال:نشدتك بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال:نعم قال فهل أحصيته في نفسك؟ قال اللهم لا. قال:ولو قال:نعم لخصمه. قال:فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم. قال:فثكلت عمر أمه. أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟! قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات. قال:وتلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) ثم قال:هل علم أهل المدينة - أو قال:هل علم أحد- بما قدمتم؟ قالوا:لا. قال:لو علموا لوعظت بكم.

إسناد حسن ومتن حسن، وإن كان من رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري- حدثنا علي بن صالح، عن عثمان بن المغيرة، عن مالك بن جوين، عن علي، رضي الله عنه، قال:الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنَة، والفرار من الزَّحْف، والتعرب بعد الهجرة، والسِّحْر، وعُقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة.

وتقدم عن ابن مسعود أنه قال:أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، عز وجل.

وروى ابن جرير، من حديث الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، كلاهما عن ابن مسعود قال:الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. ومن حديث سفيان الثوري وشعبة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ بن حُبيشِ، عن ابن مسعود قال:الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال:أكبر الكبائر:الشرك بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضول الماء بعد الري، ومنع طروق الفحل إلا بجُعْلٍ.

وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ » وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم:رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه ابن السَّبيل » ، وذكر الحديث بتمامه .

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعا: « من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم القيامة » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة الواسطي، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت:ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر. قال ابن أبي حاتم:يعني قوله: عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ ] الآية [ الممتحنة:12 ] .

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا زياد بن مِخْراق، عن معاوية بن قُرَّة قال:أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا قال:لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال. ثم سكت هُنية ثم قال:والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر، فما لنا ولها، ثم تلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) .

أقوال ابن عباس في ذلك:

روى ابن جرير، من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن طاوس قال:ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا:هي سبع، فقال:هي أكثر من سبع وسبع. قال سليمان:فما أدري كم قالها من مرة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا قُبَيْصَة، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس قال:قلت لابن عباس:ما السبع الكبائر؟ قال:هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.

ورواه ابن جرير، عن ابن حميد، عن ليث، عن طاوس قال:جاء رجل إلى ابن عباس فقال:أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله؟ ما هن؟ قال:هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر عن طاوس، عن أبيه قال:قيل لابن عباس:الكبائر سبع؟ قال:هن إلى السبعين أقرب، وكذا قال أبو العالية الرياحي، رحمه الله.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شِبْل، عن قيس عن سعد، عن سعيد بن جُبير؛ أن رجلا قال لابن عباس:كم الكبائر؟ سبع؟ قال:هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث شبل، به.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال:الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. ورواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:الكبائر:كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال:نبئت أن ابن عباس كان يقول:كل ما نهى الله عنه كبيرة. وقد ذكرت الطَّرْفة [ فيه ] قال:هي النظرة.

وقال أيضا:حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن معدان، عن أبي الوليد قال:سألت ابن عباس عن الكبائر فقال هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة.

أقوال التابعين

قال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيّة، عن ابن عَوْن، عن محمد قال:سألت عَبِيدة عن الكبائر، فقال:الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرار يوم الزَّحْف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال:ويقولون:أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون:فقلت لمحمد:فالسحر؟ قال:إن البهتان يجمع شرا كبيرا .

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق، عن عُبيد بن عُمَير قال:الكبائر سبع، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله:الإشراك بالله منهن: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ [ الحج:31 ] و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [ النساء:10 ] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ البقرة:275 ] و إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [ النور:23 ] والفرار من الزحف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [ فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ] [ الأنفال:15 ] ، والتعرب بعد الهجرة: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [ محمد:25 ] ، وقتل المؤمن: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا الآية [ النساء:93 ] .

وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق، عن عُبَيد، بنحوه.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء - يعني ابن أبي رباح- قال:الكبائر سبع:قتل النَّفْسِ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقُوق الوالدين، والفِرَار من الزَّحْف.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن مغيرة قال:كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، من الكبائر.

قلت:وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة، وهو رواية عن مالك بن أنس، رحمه الله:وقال محمد بن سيرين:ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر، وعمر، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي.

وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عبد الله بن عيَّاش، قال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) من الكبائر:الشرك، والكفر بآيات الله ورسوله، والسحر، وقتل الأولاد، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة، ومثل ذلك من الأعمال، والقول الذي لا يصلح معه عمل، وأما كل ذنب يصلح معه دين، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات.

وقال ابن جرير:حدثنا بِشْر بن معاذ، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية:إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجْتَنِبُوا الْكَبائر، وسَدِّدُوا، وأبْشِرُوا » .

وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس، وعن جابر مرفوعا: « شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي » ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف، إلا ما رواه عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شَفاعتي لأهْلِ الكبائرِ من أمتي » . فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه، عن عباس العَنْبري، عن عبد الرزاق ثم قال:هذا حديث حسن صحيح وفي الصحيح شاهد لمعناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة: « أترَوْنَها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ » .

وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل:هي ما عليه حدٌّ في الشرع.

ومنهم من قال:هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة. وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، في كتابه الشرح الكبير الشهير، في كتاب الشهادات منه:ثم اختلف الصحابة، رضي الله [ تعالى ] عنهم، فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه:

أحدها:أنها المعصية الموجبة للحد.

والثاني:أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة. وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهو وإلى الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر.

والثالث:قال إمام الحرمين في « الإرشاد » وغيره:كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة.

والرابع:ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة:كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حدًّا من قتل أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة، والرواية، واليمين.

هذا ما ذكره على سبيل الضبط.

ثم قال:وفصل القاضي الروياني فقال:الكبائر سبع:قتل النفس بغير الحق، والزنا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف. وزاد في « الشامل » على السبع المذكورة:شهادة الزور. وأضاف إليها صاحب العدة:أكل الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها، بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا، وسب أصحابه، وكتمان الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله ويقال:الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما يعد من الكبائر:الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.

ثم قال الرافعي:وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال.

قلت:وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة، وإذا قيل:إن الكبيرة [ هى ] ما توعد الشارع عليها بالنار بخصوصها، كما قال ابن عباس، وغيره، وتتبع ذلك، اجتمع منه شيء كثير، وإذا قيل:كل ما نهى الله [ تعالى ] عنه فكثير جدًّا، والله [ تعالى ] أعلم.

وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 32 )

قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ )

ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أمّ سلمة أنها قالت:قلت:يا رسول الله... فذكره، وقال:غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن أم سلمة قالت...

ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من حديث الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) ثم نزلت: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [ آل عمران:195 ] .

ثم قال ابن أبي حاتم:وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ. وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت:قلت:يا رسول الله... وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك.

وروى ابن جرير من حديث ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن شيخ من أهل مكة قال:نزلت هذه الآية في قول النساء:ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل .

وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في [ قوله ] ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) قال:أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت:يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية: ( وَلا تَتَمَنَّوْا ) فإنه عدل مني، وأنا صنعته.

وقال السدي:قوله:في الآية ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فإن الرجال قالوا:نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء:نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم:سلوني من فضلي قال:ليس بعرض الدنيا.

وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:قوله: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) قال ولا يتمنى الرجل فيقول: « ليت لو أن لي مال فلان وأهله! » فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله.

وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح: « لا حَسَد إلا في اثنتين:رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق، فيقول رجل:لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء » فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي:في الأمور الدنيوية، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة، وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح:نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون. رواه ابن جرير.

ثم قال: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) أي:كل له جزاء على عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهو قول ابن جرير.

وقيل:المراد بذلك في الميراث، أي:كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس:

ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) [ أي ] لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب.

وقد روى الترمذي، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد:سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سلُوا الله من فَضْلِه؛ فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج » .

ثم قال الترمذي:كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو نُعَيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح

وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله: « سَلُوا الله من فَضْلِه، فإن الله يحب أن يُسأل، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج » .

ثم قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي:هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 33 )

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في قوله: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) أي:ورثة. وعن ابن عباس في رواية:أي عَصَبة. قال ابن جرير:والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس:

مَهْــلا بنـي عَمّنـا مَهْـلا مَوالينـا لا تُظْهـِرَن لنا مــا كــان مـدفُـونا

قال:ويعني بقوله: ( مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام:ولكلكم - أيها الناس- جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.

وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة - أنتم وهم- فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.

قال البخاري:حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) قال:ورثة، ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) نُسخت، ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.

ثم قال البخاري:سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مُصَرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ] ) الآية، قال:كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) نُسخت. ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .

وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حَجّاج، عن ابن جُرَيْج - وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول:ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ، فلا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شدَّةً، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ » . فنسختها هذه الآية: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ الأنفال:75 ] .

ثم قال:وروي عن سعيد بن المُسَيَّب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح، والشَّعْبِي، وسليمان بن يَسار، وعكرمة، والسُّدِّي، والضَّحَّاك، وقتادة، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا:هم الحلفاء.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا شَريك، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس - ورفعه- قال: « ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا حدة وشدة » .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شريك، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حِلْفَ في الإسلام، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شِدَّة، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة » هذا لفظ ابن جرير .

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « شهِدتُ حِلْف المُطيَّبين، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا أنكثُهُ » . قال الزهري:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لم يُصب الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً » . قال: « ولا حِلْف في الإسلام » . وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، بتمامه .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم:أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال:فقال: « ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفٍ في الإسلام » .

وكذا رواه أحمد عن هشيم .

وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جُدْعان، عن جدته، عن أم سلمة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّةً » .

وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال:لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال: « يا أيها الناس، ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلامِ » .

ثم رواه من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عَمْرو بن شعيب، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً » .

وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة، بإسناده، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة - بإسناده، مثله.

ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر، به. ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هشيم، قال:مغيرة أخبرنى، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم:أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، فقال: « ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ » .

وكذا رواه شعبة، عن مغيرة - وهو ابن مِقْسَم- عن أبيه، به.

وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال:كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع، مع ابن ابنها موسى بن سعد - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر - فقرأت عليها ( وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) فقالت:لا ولكن: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قالت:إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه.

رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود والعهود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة:لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة.

وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل،رحمه الله.

والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) أي:ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ » أي:اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة، وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي:قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث، فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له.

وقد قيل:إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم.

حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال:من النصرة والنصيحة والرّفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث.

ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، نحو ذلك.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ ) قال:كان الرجل يعاقد الرجل، أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [ الأحزاب:6 ] . يقول:إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.

وهذا نص غير واحد من السلف:أنها منسوخة بقوله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا

وقال سعيد بن جبير: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:من الميراث. قال:وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير.

وقال الزهري عن سعيد بن المسيب:أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير.

وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث - حتى تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة.

وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس:كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك, فكيف يقول:إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟! والله أعلم.

 

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( 34 )

يقول تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) أي:الرجل قَيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت ( بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي:لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة؛ ولهذَا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك المُلْك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « لن يُفلِح قومٌ وَلَّوا أمْرَهُم امرأة » رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك.

( وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) أي:من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قَيّما عليها، كما قال [ الله ] تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ الآية [ البقرة:228 ] .

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) يعني:أمراء عليها أي تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعتُه:أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل، والسدي، والضحاك.

وقال الحسن البصري:جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعديه على زوجها أنه لَطَمَها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « القِصَاص » ، فأنـزل الله عز وجل: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) الآية، فرجعت بغير قصاص.

رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من طرق، عنه. وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة، وابن جُرَيج والسدي، أورد ذلك كله ابن جرير. وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال:

حدثنا أحمد بن علي النسائي، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا محمد بن محمد الأشعث، حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال:أتى النبي رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت:يا رسول الله، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليْسَ ذَلِكَ لَه » . فأنـزل الله: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] ) أي:قوامون على النساء في الأدب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَرَدْتُ أمْرًا وأرَادَ الله غَيْرَه » .

وقال الشعبي في هذه الآية: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) قال:الصداق الذي أعطاها، ألا ترى أنه لو قَذَفَها لاعنَها، ولو قذفته جُلِدت.

وقوله: ( فَالصَّالِحَاتُ ) أي:من النساء ( قانِتَاتٌ ) قال ابن عباس وغير واحد:يعني مطيعات لأزواجهن ( حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ ) .

قال السدي وغيره:أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله.

وقوله: ( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) أي:المحفوظ من حفظه.

قال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا سعيد بن أبي سعيد الْمقبري، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خَيرُ النساءِ امرأةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ وإذا أمَرْتَها أطاعتكَ وإذا غِبْتَ عنها حَفِظتْكَ في نَفْسِها ومالِكَ » . قال:ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) إلى آخرها.

ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، به مثله سواء .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عُبيد الله بن أبي جعفر:أن ابن قارظ أخبره:أن عبد الرحمن بن عوف قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا صَلَّت المرأة خَمسها، وصامت شهرها وحفظت فَرْجَها؛ وأطاعت زوجها قِيلَ لها:ادخُلِي الجنة من أيِّ أبواب الجنة شِئْتِ » .

تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف .

وقوله تعالى ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) أي:والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن. والنشوز:هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المُعْرِضَة عنه، المُبْغِضَة له. فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظْها وليخوّفها عقابَ الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تَسْجُدَ لزوجها، من عِظَم حَقِّه عليها » وروى البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إلى فِرَاشِه فأبَتْ عليه، لَعَنَتْهَا الملائكة حتى تُصْبِح » ورواه مسلم، ولفظه: « إذا باتت المرأة هَاجرة فِراش زَوْجِها، لعنتها الملائكة حتى تُصبِح » ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ) .

وقوله: ( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الهجران هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره. وكذا قال غير واحد، وزاد آخرون - منهم:السدي، والضحاك، وعكرمة، وابن عباس في رواية- :ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها.

وقال علي بن أبي طلحة أيضا، عن ابن عباس:يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد.

وقال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم، ومحمد بن كعب، ومِقْسم، وقتادة:الهجر:هو أن لا يضاجعها.

وقد قال أبو داود:حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي حرّة الرقاشي، عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فَإِن خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ » قال حماد: يعني النكاح .

وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال:يا رسول الله، ما حق امرأة أحدنا؟ قال: « أن تُطعمها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكْتَسَيْتَ، ولا تَضْرِب الوَجْهَ ولا تُقَبِّح، ولا تَهْجُر إلا في البَيْتِ » .

وقوله: ( وَاضْرِبُوهُنَّ ) أي:إذا لم يَرْتَدِعْن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه قال في حجة الوداع: « واتَّقُوا اللهَ في النِّساءِ، فإنهن عندكم عَوَانٌ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشكم أحدا تكرهونه، فإن فَعَلْن فاضربوهن ضَرْبا غير مُبَرِّح، ولهن رزْقُهنَّ وكِسْوتهن بالمعروف » .

وكذا قال ابن عباس وغير واحد:ضربا غير مبرح. قال الحسن البصري:يعني غير مؤثر. قال الفقهاء:هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضرب ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت وإلا فقد حَل لك منها الفدية.

وقال سفيان بن عُيَينة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تَضْرِبوا إماءَ اللهِ » . فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ذئِرَت النساء على أزواجهن. فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد أطافَ بآل محمد نِسَاءٌ كثير يَشْكُونَ أزواجهن، ليس أولئك بخياركم » رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود - يعني أبا داود الطيالسي- حدثنا أبو عوانة، عن داود الأوْدِيِّ، عن عبد الرحمن المُسْلي عن الأشعث بن قيس، قال ضفْتُ عمر، فتناول امرأته فضربها، وقال:يا أشعث، احفظ عني ثلاثا حَفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا تَسألِ الرَّجُلَ فِيمَ ضَرَبَ امرَأَتَهُ، ولا تَنَم إلا على وِتْر... ونسي الثالثة.

وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن داود الأوديّ، به .

وقوله: ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا ) أي:فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 )

ذكر [ تعالى ] الحال الأول، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني وهو:إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا )

قال الفقهاء:إذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق وتَشَوف الشارع إلى التوفيق؛ ولهذا قال: ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أمر الله عز وجل، أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل، ورجلا مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال:بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر:بلغني أن عثمان بعثهما، وقال لهما:إن رأيتما أن تُجْمَعا جُمِعْتُما، وإن رأيتما أن تُفَرَّقا فُرَّقْتما .

وقال:أنبأنا ابن جريج، حدثني ابن أبي مليكة، أن عَقيل بن أبي طالب تَزَوَّج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت:تصير إليَّ وأنفق عليك. فكان إذا دخل عليها قالت:أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ قال:على يسارك في النار إذا دخلت. فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان، فذكرت له ذلك فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس:لأفرِّقَن بينهما. فقال معاوية:ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال:شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فِئَام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما، فقال علي للحَكَمَين:أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا، جمعتما. فقالت المرأة:رضيت بكتاب الله لي وعَليّ. وقال الزوج:أما الفرقة فلا. فقال علي:كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله، عز وجل، لك وعليك.

رواه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير، عن يعقوب، عن ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، مثله. ورواه من وجه آخر، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، به .

وهذا مذهب جمهور العلماء:أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة، حتى قال إبراهيم النخعي:إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا. وهو رواية عن مالك.

وقال الحسن البصري:الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق، وكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم. وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود، ومأخذهم قوله تعالى: ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) ولم يذكر التفريق.

وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين، فإنه يُنَفَّذُ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف.

وقد اختلف الأئمة في الحكمين:هل هما منصوبان من عند الحاكم، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان، أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين:فالجمهور على الأول؛ لقوله تعالى: ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ) فسماهما حكمين، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديدُ من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

الثاني منهما، بقول علي، رضي الله عنه، للزوج - حين قال:أما الفرقة فلا- قال:كذبت، حتى تقر بما أقرت به، قالوا:فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم.

قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر:وأجمع العلماء على أن الحكمين - إذا اختلف قولهما- فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا:هل ينفذ قولهما في التفرقة؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ( 36 )

يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: « أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد ؟ » قال:الله ورسوله أعلم. قال: « أن يَعْبدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئا » ، ثم قال: « أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك؟ ألا يُعَذِّبَهُم » ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن الله، سبحانه، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرا ما يقرنُ الله، سبحانه، بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [ لقمان:14 ] وكقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ الإسراء:23 ] .

ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، كما جاء في الحديث: « الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ » .

ثم قال: ( وَالْيَتَامَى ) وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم.

ثم قال: ( وَالْمَسَاكِينِ ) وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم. وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.

وقوله: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) قال علي بن أبي طَلْحَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) يعني الذي بينك وبينه قرابة، ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) الذي ليس بينك وبينه قرابة. وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ، ومُجَاهد، وميمون بنِ مهْرانَ، والضحاك، وزيد بْنِ أَسْلَمَ، ومقاتل بن حيَّان، وقتادة.

وقال أبو إسحاق عن نَوْف البِكَالِي في قوله: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) يعني المسلم ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) يعني اليهودي والنصراني رواه ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي حَاتم.

وقال جَابِرٌ الْجُعْفِيّ، عن الشعبي، عن علي وابنِ مسعود: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) يعني المرأة. وقال مُجَاهِد أيضا في قوله: ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) يعني الرفيق في السفر.

وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فنذكر منها ما تيسر، والله المستعان:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمر بن محمد بن زيد:أنه سمع أباه محمدًا يحدث، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما زال جِبرِيل يوصيني بالْجَارِ حَتِّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه » .

أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، به .

الحديث الثاني:قال الإمامُ أحمدُ:حدثنا سُفْيَانُ، عن داودَ بنِ شَابُورٍ، عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمْرٍو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالْجَارِ حتى ظننْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ » .

وروى أبو داود والترمذي نحوه، من حديث سفيان بن عيينة، عن بَشِيرِ أبي إسْمَاعيلَ - زاد الترمذي:وداود بن شابور - كلاهما عن مجاهد، به ثم قال الترمذي:حسن غريب من هذا الوجه وقد رُوي عن مجاهد عن عائشةَ وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثالث عنه:قال أحمد أيضا:حدثنا عبد الله بن يَزِيد، أخبرنا حَيْوةُ، أخبرنا شَرْحَبِيلُ بنُ شُرَيكٍ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خَيْرُ الأصْحَابِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرانِ عند اللهِ خيرهم لِجَارِهِ » .

ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح - به، وقال: [ حديث ] حسن غريب .

الحديث الرابع:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عن عُمَر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يَشْبَعُ الرجل دون جَارِهِ » . تفرد به أحمد .

الحديث الخامس:قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا ظَبْية الكَلاعِيّ، سمعت المقدادَ بن الأسود يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [ « ما تقولون في الزنا؟ » قالوا:حرام حَرَّمَهُ اللهُ ورسُولُه، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال:رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ] لأنْ يَزني الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَة، أَيْسَرُ عليه من أَن يزنيَ بامرَأَةِ جَارِهِ « . قال:ما تقولون في السَّرِقَة؟ قالوا:حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فهي حرام. قَالَ » لأن يَسْرِقَ الرجل مِن عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرِقَ مِنْ جَارِهِ « . »

تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ:قلت:يا رسول الله، أيُّ الذَّنْب أَعْظَمُ؟ قَالَ: « أن تجعل لله نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ » . قُلْتُ:ثُمَّ أَيُّ؟ قال: « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَن يُطْعَم معك » . قُلتُ:ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: « أَنْ تُزَاني حَليلةَ جَارِكَ » .

الحديث السادس:قال الإمامُ أحمد:حدثنا يَزِيدُ، أخبرنا هِشَامُ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أبِي الْعَالية، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار قال:خَرَجْتُ من أهلي أريدُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذَا به قَائِمٌ ورجل مَعَهُ مُقْبِل عَليه، فَظَنَنْتُ أَنَّ لهما حَاجة - قَالَ الأنْصَارِيُّ:لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أَرْثِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من طُولِ الْقِيَامِ، فَلمَّا انْصَرفَ قُلْتُ:يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرَّجُلُ حتى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك من طُولِ الْقِيَامِ. قال: « وَلَقَدْ رَأَيتَه؟ » قُلتُ:نعم. قَالَ: « أَتَدْرِي مَن هُوَ؟ » قُلْتُ:لا. قَال: « ذَاكَ جِبْرِيِلُ، ما زال يُوصِينِي بِالجِارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُورثُه. ثُمَّ قال:أَمَا إِنَّك لَو سَلَّمْتَ عليه، رد عليك السلام » .

الحديث السابع:قال عبد بن حُمَيْدٍ في مسنده:حدثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْد، حدثنا أَبُو بَكْرٍ - يعني الْمدَنيّ- عن جابر بن عبد الله قال:جاء رجل من الْعَوَالِي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجِبْرِيلُ عليه السلام يُصَلِّيانِ حَيْثُ يُصَلَّى على الْجَنائِز، فلما انصرف قال الرجل:يا رسولَ الله، من هذا الرجل الذي رأيت معك؟ قال: « وقد رأيْتَه؟ » قال:نعم. قال: « لقد رأَيْتَ خَيْرًا كثيرًا، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بالجار حتى رُئِيت أَنَّه سَيُورثُه » .

تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.

الحديث الثامن:قال أبو بكر البزار:حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الرَّبِيعِ الْحَارِثِيّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي فُدَيْك، أخبرني عبد الرَّحمن بنُ الْفَضل عن عَطَاء الخَراساني، عن الحسن، عن جابر بنِ عَبْدِ الله قال:قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « الجِيرانُ ثَلاثَةٌ:جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا، وجار له حقَّان، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ » .

قال البَزَّارُ:لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك .

الحديث التاسع:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عِمْرَانَ، عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْد اللهِ، عن عائشة؛ أنها سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: « إنَّ لي جَارَيْنِ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: » إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا « . »

ورواه البخاري من حديث شعبة، به .

وقوله: ( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) قال الثوريُّ، عن جابر الْجُعْفِي، عن الشَّعبي، عن علي وابنِ مسعودٍ قالا هي المرأة.

وقال ابن أبي حاتم:ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات- نحوُ ذلك.

وقال ابن عباس ومجاهدٌ، وعِكْرِمَةُ، وقَتَادةُ:هو الرفيق في السفر. وقال سعيد بن جُبَيْرٍ:هو الرفيق الصالح. وقال زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ:هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر.

وأما ( ابْنِ السَّبِيلِ ) فعن ابن عباس وجماعة هو:الضيف.

وقال مجاهد، وأبو جَعْفَرٍ الباقرُ، والحسنُ، والضحاكُ، ومقاتلُ:هو الذي يمر عليك مجتازًا في السفر.

وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضيف:المار في الطريق، فهما سواء. وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة، وبالله الثقة وعليه التكلان.

وقوله: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) وصية بالأرقاء؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يُوصِي أُمَّتَه في مرضِ الموت يقول: « الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم » . فجعل يُرَدِّدُها حتى ما يَفِيضُ بها لسانه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بَقِيّة، حدثنا بَحِيرُ بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن الْمِقْدَامِ بن مَعْدِ يكَرِب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أطعمت نَفْسَك فهو لك صدقةٌ، وما أطعمتَ وَلَدَكَ فهو لك صدقة، وما أطعمت زَوْجَتَكَ فهو لك صَدَقَةٌ، ومَا أطعَمْتَ خَادِمَكَ فهو لَك صَدَقَهٌ » .

ورواه النسائي من حديث بَقِيَّة، وإسناده صحيح ولله الحمد.

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لِقَهْرَمَانَ له:هل أعطيت الرقيق قُوتَهم؟ قال:لا. قال:فانطلق فأعطهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم » رواه مسلم .

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « للمملوك طعامه وكِسْوتُه، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يُطيق » . رواه مسلم أيضا .

وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكْلَةً أو أكْلَتين، فإنه وَليَ حَرّه وعلاجه » .

أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مَشْفُوها قليلا فَلْيضع في يده أكلة أو أكلتين « . »

وعن أبي ذر، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « هم إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم » . أخرجاه .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ) أي:مختالا في نفسه، معجبا متكبرا، فخورا على الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض.

قال مجاهد في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا ) يعني:متكبرا ( فَخُورًا ) يعني:يَعُد ما أعطي، وهو لا يشكر الله، عز وجل. يعني:يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كَثيرٍ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال:لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا - وتلا ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ] ) ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا - وتلا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [ مريم:32 ] .

وروى ابن أبي حاتم، عن العوام بن حَوْشَبٍ، مثله في المختال الفخور. وقال:

حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأسود بن شَيْبَان، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال:قال مُطَرِّف:كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت:يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: « إن الله يحب ثلاثة ويُبْغض ثلاثة » ؟ قال:أجل، فلا إخالنى أكذب على خليلي، ثلاثا. قلت:من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال:المختال الفخور، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنـزل؟ ثم قرأ الآية: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ) [ النساء:36 ] .

وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْبُ عن خالد، عن أبي تَمِيمَةَ عن رجل من بَلْهُجَيم قال:قلت يا رسول الله، أوصني. قال: « إياك وإسبالَ الإزار، فإن إسبال الإزار من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المَخِيلة » .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 37 )

يقول تعالى ذامًّا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجُنُب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء - ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وأي داء أَدْوَأ من البخل؟ » . وقال: « إياكم والشّحَ، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا » .

وقوله: ( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) فالبخيل جَحُود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين، لا في أكله ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى: إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ العاديات:6 ، 7 ] أي:بحاله وشمائله، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ العاديات:8 ] وقال هاهنا: ( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ولهذا توعَّدهم بقوله: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه.

وفي الحديث: « إن الله إذا أنعم نعمةً على عبدٍ أحبَّ أن يَظْهَرَ أثرُها عليه » وفي الدعاء النبوي: « واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها - ويروى:قائليها- وأتممها علينا » .

وقد حمل بعضُ السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك؛ ولهذا قال: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) رواه ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس. وقاله مجاهد وغير واحد.

ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء، وكذا الآية التي بعدها ، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ .

 

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ( 38 ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ( 39 )

فَذَكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار، وهم:العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال:ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله:كذبت؛ إنما أردت أن يقال:جواد فقد قيل. أي:فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك.

وفي الحديث:أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ: « إن أباك رامَ أمرًا فبلغه » .

وفي حديث آخر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جُدعان:هل ينفعه إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فقال: « لا إنه لم يقل يوما من الدهر:رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » .

ولهذا قال: ( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ] ) أي:إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح ( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) ولهذا قال الشاعر عَـن المَـرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه فكـلُّ قــرين بـالمقـارن يَقْتَــدي

ثم قال تعالى: ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ] ) أي:وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة، وعَدَلُوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها.

وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ) أي:وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة، عياذا بالله من ذلك [ بلطفه الجزيل ] .

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( 40 ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ( 41 ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ( 42 )

يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ] [ الأنبياء:47 ] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ] [ لقمان:16 ] وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .

وفي الصحيحين، من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ، وفيه:فيقول الله عز وجل: « ارْجِعُوا، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار » . وفي لفظ: « أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا » ثم يقول أبو سعيد:اقرؤوا إن شئتم: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ] ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا عيسى بن يُونُس، عن هارونَ بن عنترة عن عبد الله بن السائب، عن زَاذَانَ قال:قال عبدُ الله بن مَسْعُود:يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخِرين:هذا فلانُ بنُ فلانٍ، من كان له حق فليأت إلى حقه. فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها. ثم قرأ: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصَب للناس فينادَي:هذا فلانُ بن فلانٍ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه. فيقول:رَبّ، فَنِيَت الدنيا، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم؟ قال:خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله ففَضَلَ له مثقالُ ذرة، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة، ثم قرأ علينا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) قال:ادخل الجنة؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك:ربِّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير؟ فيقول:خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار.

ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر، عن زاذان - به نحوه. ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثتا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا فُضَيلٌ - يعني ابن مرزوق- عن عطيَّة العَوْفي، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال:نزلت هذه الآية في الأعراب: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الأنعام:160 ] قال رجل:فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن؟ قال:ما هو أفضلُ من ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .

وحدثنا أبو زُرْعَةَ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ، حدثني عبد الله بن لَهِيعَةَ، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله ( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة، ولا يخرج من النار أبدا. وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال:يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء؟ قال: « نعم هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار » .

وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه حدثنا عِمْرَانُ، حدثنا قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة » .

وقال أبو هريرة، وعِكْرِمَةُ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، في قوله: ( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني:الجنة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا سُلَيْمانُ - يعني ابن الْمُغَيْرَةِ- عن علي بن زَيْدٍ، عن أبي عثمان قال:بلغني عن أبي هريرة أنه قال:بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال:فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا، فلقيته فقلت:بلغني عنك حديث أنك تقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة » قال أبو هريرة:لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة » ثم تلا ( يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) فمن يقدره قدره .

رواه الإمام أحمد فقال:حدثنا يَزِيدُ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال:أتيت أبا هريرة فقلت له:بلغنى أنك تقول:إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة؟ قال:وما أعجبك من ذلك؟ فوالله لقد سمعت - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- كذا قال أبي - يقول: « إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة » .

علي بن زيد في أحاديثه نكارة، فالله أعلم.

وقوله: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) يقول تعالى - مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه:فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام؟ كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ] [ الزمر:69 ] وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ] [ النحل:89 ] .

قال البخاري:حدثنا محمد بن يُوسُفَ، حدثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن إبراهيمَ، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم « اقرأ علي » قلت:يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: « نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري » فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) قال: « حسبك الآن » فإذا عيناه تَذْرِفَان.

ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش، به وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود، فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رَزِين، عنه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه، فقال: « يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره؟ » .

وقال ابن جرير:حدثني عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود- ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم » .

وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في « التذكرة » حيث قال:باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته:قال:أخبرنا ابن المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول:ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه. وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: [ قد تقدم ] أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة. قال:ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء، عليهم السلام.

وقوله ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) أي:لو انشقت وبلعتهم، مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ] وقوله ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا.

قال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حكَّام، حدثنا عمرو، عن مُطرِّف، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال:أتى رجل ابن عباس فقال:سمعتُ الله، عز وجل، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا- : وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [ الأنعام:23 ] وقال في الآية الأخرى: ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) فقال ابنُ العباس:أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا:تعالوا فَلْنَجْحَدْ، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال:جاء رجل إلى ابن عباس فقال:أشياء تختلف علي في القرآن. قال:ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال:ليس هو بالشك. ولكن اختلاف. قال:فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال:أسمع الله يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [ الأنعام:23 ] وقال ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) ؛ فقد كتموا! فقال ابن عباس:أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك: ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )

وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك:إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس فقال:يا ابن عباس، قول الله: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) وقوله وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ؟ فقال له ابن عباس:إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون:إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون:تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قال:فَيُخْتَم على أفواههم، وتُسْتَنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تَمَنَّوْا لو أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) رواه ابن جرير.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ( 43 )

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها - وهي المساجد- للجُنُب، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله [ تعالى ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ] الآية [ البقرة:219 ] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر، فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية، تلاها عليه، فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله [ تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ المائدة:90، 91 ] فقال عمر:انتهينا، انتهينا.

وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو - وهو ابن شُرَحبيل- عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه:فنزلت الآية التي في [ سورة النساء ] : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي:ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران. لفظ أبي داود.

وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم .

حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَة، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال:سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال:نزلت في أربعُ آيات:صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر بها أنف سعد، فكان سعد مَفْزور الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية.

والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة. ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه، من طُرُق عن سِماكٍ به .

سبب آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمَّار، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي، عن علي بن أبي طالب قال:صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا - قال:فقرأ:قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون. [ قال ] فأنزل الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )

هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيْدٍ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، به، وقال:حسن صحيح .

وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سفيانَ الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: ( قُلْ [ يَا ] أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فخلط فيها، فنزلت: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .

وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث الثوري، به.

ورواه ابن جَرِير أيضا، عن ابن حُمَيْدٍ، عن جَرِيرٍ، عن عطاء، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال:كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )

ثم قال:حدثني المُثَنَّى، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب - وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ:قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) .

وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ] ) وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى، قبل أن تحرم الخمر، فقال الله: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية. رواه ابن جرير. وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ. وقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة:كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.

وقال الضَّحَّاكُ في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) لم يعن بها سُكْرَ الخمر، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ثم قال ابن جرير:والصواب أن المراد سُكْر الشراب. قال:ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب؛ لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف .

وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له؛ فإن الفهم شرط التكليف. وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم. وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ آل عمران:102 ] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.

وقوله: ( حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) هذا أحسن ما يقال في حد السكران:إنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب، به وفي بعض ألفاظ الحديث فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه.

وقوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال:لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال:تمر به مرًّا ولا تجلس. ثم قال:ورُوي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي عُبَيْدَةَ، وسعيد بن المُسَيَّبِ، وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد، ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار، والحكم بن عُتَيْبَة وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة، نحوُ ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني المُثَنَّى، حدثنا أبو صالح، حدثني اللَّيْثُ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ )

ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ، رحمه اللهُ، ما ثبت في صحيح البخاري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر » .

وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علما منه أن أبا بكر، رضي الله عنه، سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه، رضي الله عنه. ومن روى: « إلا باب علي » كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ، والصحيح. ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال:يمنع مرورهما لاحتمال التلويث. ومنهم من قال:إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها قالت:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ناوليني الخُمْرة من المسجد » فقلت:إني حائض. فقال: « إن حيضتك ليست في يدك » . وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم.

وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة العامري، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ » قال أبو مسلم الخَطَّابي:ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا:أفلت مجهول. لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدوج الذهلي، عن جَسْرة، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، به. قال أبو زرعة الرازي:يقولون:جسْرة عن أم سلمة. والصحيح جسرة عن عائشة.

فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي، من حديث سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن أبي سعيد الخُدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا علي، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك. إنه حديث ضعيف لا يثبت؛ فإن سالما هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف والله أعلم.

قول آخر في معنى الآية:قال ابن أبي حاتم:حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ بن حُبَيش، عن علي: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) قال:لا يقرب الصلاة، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء.

ثم رواه من وجه آخر، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن علي بن أبي طالب، فذكره. قال:ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير، والضحاك، نحو ذلك.

وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش - عن علي فذكره. ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ، عن ابن عباس، فذكره. ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وعن مجاهد، والحسن بن مُسْلِمٍ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ، مثل ذلك، وروي من طريق ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن كَثِير قال:كنَّا نسمع أنه في السفر.

ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي قِلابة، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حججٍ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير » .

ثم قال ابن جرير - بعد حكايته القولين- :والأوْلَى قول من قال: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله:أو وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ المائدة:6 ] إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) لو كان معنيا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ) معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل. قال:والعابر السبيل:المجتاز مَرّا وقطعا. يقال منه: « عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا » ومنه قيل: « عبر فلان النهر » إذا قطعه وجاوزه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار:هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار؛ لقوتها على قطع الأسفار.

وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم .

وقوله: ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة:أبو حنيفة ومالك والشافعي:أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم، إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح:أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك؛ قال سعيد بن منصور:

حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدرَاوَرْدِي- عن هِشَام بنِ سَعْدٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار قال:رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فالله أعلم.

وقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء. ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل، حدثنا قيس عن خَصِيف عن مجاهد في قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ) قال:نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.

هذا مرسل. والسفر معروف، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير.

وقوله: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ) الغائط:هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر.

وأما قوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) فقرئ: « لَمَسْتم » و « لامستم » واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك، على قولين:

أحدهما: « أن ذلك كناية عن الجماع » لقوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [ البقرة:237 ] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الأحزاب:49 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) قال:الجماع. ورُوي عن علي، وأبيّ بن كعب، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وعُبَيد بن عمير، وسعيد بن جبير، والشَّعْبي، وقتادة، ومقاتل بن حيَّان - نحوُ ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا شُعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير قال:ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي:ليس بالجماع. وقال ناس من العرب:اللمس الجماع:قال:فأتيت ابن عباس فقلت له:إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي. ليس بالجماع. وقالت العرب:الجماع. قال:من أيّ الفريقين كنت؟ قلت:كنت من الموالي. قال:غُلب فريقُ الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة:الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء.

ثم رواه عن ابن بشَّار، عن غُنْدَر، عن شعبة - به نحوه. ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير، نحوه.

ومثله قال:حدثني يعقوب، حدثنا هشيم قال:حدثنا أبو بشر، أخبرنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:اللمس والمس والمباشرة:الجماع، ولكن الله يكني بما يشاء.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، أنبأنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال:الملامسة:الجماع، ولكن الله كريم يكني بما يشاء.

وقد صح من غير وجه، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك. ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم.

ثم قال ابن جرير:وقال آخرون:عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه.

ثم قال:حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ، عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال:اللمس ما دون الجماع.

وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله. وروي من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:القبلة من المس، وفيها الوضوء.

وقال:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عُبَيد الله بن عمر، عن نافع:أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول:هي من اللماس.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال:اللمس ما دون الجماع.

ثم قال ابن أبي حاتم:ورُوي عن ابن عمر، وعبيدة، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود- وعامر الشَّعْبي، وثابت بن الحجَّاج، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم نحو ذلك.

قلت:وروى مالك، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه كان يقول:قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء.

وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني [ في سننه ] عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك. ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر:أنه كان يقبل امرأته، ثم يصلي ولا يتوضأ. فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب، والله أعلم.

والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل، رحمهم الله، قال ناصر هذه المقالة:قد قرئ في هذه الآية ( لامَسْتُمُ ) ( ولمستم ) واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال [ الله ] تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [ الأنعام:7 ] ، أي جسوه وقال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم لماعز - حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار- : « أنك قبلت أو لمست » وفي الحديث الصحيح: « واليد زناها اللمس » وقالت عائشة، رضي الله عنها:قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا، فيقبّل ويلمس. ومنه ما ثبت في الصحيحين:أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا:ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر:

وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى

واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير - وقال أبو سعيد:حدثنا عبد الملك بن عُمَير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال:يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها، غير أنه لم يجامعها؟ قال:فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [ هود:114 ] قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « توضأ ثم صَلِّ » . قال معاذ:فقلت:يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: « بل للمؤمنين عامة » .

ورواه الترمذي من حديث زائدة به، وقال:ليس بمتصل. وأخرجه النسائي من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا .

قالوا:فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها. وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة، كما تقدم في حديث الصدِّيق [ رضي الله عنه ] « ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له » الحديث، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ ] الآية [ آل عمران:135 ] .

ثم قال ابن جرير:وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:عنى الله بقوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم قال:حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال:أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن عائشة قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ .

ثم قال:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت:من هي إلا أنت؟ فضحكت.

وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم، عن وكيع، به .

ثم قال أبو داود:روي عن الثوري أنه قال:ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ، وقال يحيى القطَّان لرجل:احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء.

وقال الترمذي:سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال:حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة.

وقد وقع في رواية ابن ماجه:عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة.

وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة وهذا نص في كونه عروة بن الزبير، ويشهد له قوله:من هي إلا أنت، فضحكت .

لكن روى أبو داود، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني، عن عبد الرحمن بن مَغْراء، عن الأعمش قال:حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة فذكره، والله أعلم.

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ، عن شهاب بن عبَّاد، حدثنا مَنْدَل بن علي، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة - وعن أبي رَوْق، عن إبراهيم التَّيمي، عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي روق الهمْدَاني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ.

[ و ] رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان - زاد أبو داود:وابن مهدي- كلاهما عن سفيان الثوري به. ثم قال أبو داود، والنسائي:لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة.

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن سِنَان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءًا .

وقال أيضا:حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن غِياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ.

وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن فُضَيل، عن حجاج بن أَرْطَاة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به .

وقوله: ( فلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية:أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع، كما هو مقرر في موضعه، كما هو في الصحيحين، من حديث عِمران بن حصين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال: « يا فلان، ما منعك أن تصلي مع القوم؟ ألست برجل مسلم؟ » قال:بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء. قال: « عليك بالصعيد، فإنه يكفيك » .

ولهذا قال تعالى: ( فلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) فالتيمم في اللغة هو:القصد. تقول العرب:تيممك الله بحفظه، أي:قصدك. ومنه قول امرئ القيس

وَلَمَّـــا رَأتْ أنَّ المَــنِية ورِدُها وأن الحـصَى مـن تحـت أقدامها دَامِ

تيممـت العيـن التـي عنــد ضـارج يفـيء عليهـا الفـيء عَرْمَضها طام

والصعيد قيل:هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب، والرمل، والشجر، والحجر، والنبات، وهو قول مالك. وقيل:ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ، والنورة، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل:هو التراب فقط، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، واحتجوا بقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [ الكهف:40 ] أي:ترابا أملس طيبا، وبما ثبت في صحيح مسلم، عن حذيفة بن اليمان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فضلنا على الناس بثلاث:جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء » وفي لفظ: « وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء » . قالوا:فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.

والطيب هاهنا قيل:الحلال. وقيل:الذي ليس بنجس. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده، فليمسه بَشرته، فإن ذلك خير له » .

وقال الترمذي:حسن صحيح:وصححه ابن حبان أيضا ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان. وقال ابن عباس:أطيب الصعيد تراب الحرث. رواه ابن أبي حاتم، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره .

وقوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال.

أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد- :أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ المائدة:38 ] قالوا:وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية. وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « التيمم ضربتان:ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين » . ولكن لا يصح؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم وروى أبو داود عن ابن عمر - في حديث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه.

ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي:هو الصواب. وقال البيهقي:رفع هذا الحديث منكر .

واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصَّمَّة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه.

وقال ابن جرير:حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حَمَّاد، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عُقْبة، عن الأعرج، عن أبي جُهيم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى فرغ، ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد علي السلام .

والقول الثاني:إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو القول القديم للشافعي.

والثالث:أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة؛ قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن ذَرّ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه؛ أن رجلا أتى عمر فقال:إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال عمر:لا تصل. فقال عمار:أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: « إنما كان يكفيك » . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه .

وقال أحمد أيضا:حدثنا عفَّان، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عَزْرَة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى، عن أبيه، عن عمار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: « ضربة للوجه والكفين » .

طريق أخرى:قال أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال:كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله:لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل؟ فقال عبد الله:لا. فقال أبو موسى:أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر:ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل، فأصابتني جنابة، فتمرغت في التراب؟ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فضحك وقال: « إنما كان يكفيك أن تقول هكذا » ، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة؟ فقال عبد الله:لا جرم، ما رأيت عمر قنع بذاك قال:فقال له أبو موسى:فكيف بهذه الآية في سورة النساء: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا ) ؟ قال:فما درى عبد الله ما يقول، وقال:لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم .

وقال تعالى في آية المائدة: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ المائدة:6 ] ،استدل بذلك الشافعي، رحمه الله تعالى، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة:أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه.

وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي:في الدين الذي شَرَعه لكم وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ:فعنده طَهُورُه مسجده- وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » .

وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم: « فضلنا على الناس بثلاث:جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء » .

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) أي:ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء، فإن الله، عز وجل، قد أرخص في التيمم والحالة هذه، رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة.

ذكر سبب نزول مشروعية التيمم:

وإنما ذكرنا ذلك هاهنا؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد، يقال:في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هاهنا، وبالله الثقة.

قال الإمام أحمد:حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة:أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة:جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا .

طريق أخرى:قال البخاري:حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا في البيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا:ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال:حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! قالت عائشة:فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير:ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر. قالت:فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته.

وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل. ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح قال:قال ابن شهاب:حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار، فحبس الناس ابتغاء عقدها، وذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط .

وقد رواه ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا صيفى، عن ابن أبي ذئب، [ عن الزُّهْرى ] عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر فتغيّظ أبو بكر على عائشة [ رضي الله عنها ] فنزلت عليه الرخصة:المسح بالصعيد الطيب. فدخل أبو بكر فقال لها:إنك لمباركة! نزلت فيك رخصة! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.

حديث آخر:قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا العلاء بن أبي سوية، حدثني الهيثم عن زُرَيق المالكي - من بني مالك بن كعب بن سعد، وعاش مائة وسبع عشرة سنة- عن أبيه، عن الأسلع بن شريك قال:كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت. ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: « يا أسلع، مالي أرى رحلتك تغيرت؟ » قلت:يا رسول الله، لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: « ولم ؟ » قلت:إني أصابتني جنابة، فخشيت القُرَّ على نفسي، فأمرته أن يرحلها، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى: ( ل