سقوط غرناطة ونهاية حكم المسلمين في الأندلس .

تفاصيل الحدث :

زحف الملك فرديناند ملك قشتالة على غرناطة سنة 895 وحاصرها وشدد الحصار عليها, وامتدَّ الحصار إلى هذه السنة وقعت خلاله ملاحم كثيرة، والمسلمون كانوا يلحُّون على حمايتها, فلم يزالوا يدافعون عنها ويقاتلون من قصَدَها حتى قصر عنها العدو؛ لكثرة ما قُتل له عليها من خيل ورجال، ولم تزل الحرب متصلة وقد أصيب فيها كثير من أنجاد فرسان المسلمين بالجراحات، واستشهد آخرون، ومن النصارى أضعاف ذلك, والمسلمون فوق ذلك صابرون محتسبون واثقون بنصر الله تعالى، يقاتلون عدوهم بنية صادقة وقلوب صافية, وكان يُغيرُ منهم رجال في الليل على النصارى فيغنموا ما وجدوا عندهم من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم ورجال، حتى صار اللحم بالبلد من كثرته الرطل بدرهم, والحرب متصلة بينهم والقتل والجراح فاشيان في الفريقين سبعة أشهر إلى أن فنيت خيل المسلمين بالقتل، ولم يبق منها إلا القليل، وفني أيضًا كثير من نجدة الرجال, وفي هذه المدة انجلى كثير من الناس إلى بلاد البشرة لما نالهم من الجوع والخوف وكانت الطريق للبشرة على جبل شلير، وكان يأتي للبلد من البشرة على ذلك الطريق خير كثير من القمح والشعير والذرة والزيت والزبيب والفواكه والسلع، وما زال حال البلد يضعف ويقل من الطعام والرجال إلى أن دخل محرم سنة 897 ودخل فصل الشتاء والثلج نازل بالجبل، وقُطع الطريق من البشرة، فقل الطعام في أسواق المسلمين بغرناطة واشتد الغلاء، وأدرك الجوع كثيرًا من الناس، وكثر السُّؤَّال والعدو ساكن ببلده ومحلته، ولقد منع المسلمين من الحرث والزراعة وانقطعت الحرب في هذه المدة بين الفريقين، فلما دخل صفر اشتد الحال على الناس بالجوع وقلة الطعام وأدرك الجوع كثيرًا من الناس الموسرين، فاجتمع أعيان الناس من الخاصة والعامة والفقهاء والأمناء والأشياخ والعرفاء ومن بقي من أنجاد الفرسان، ومن لهم النظر بغرناطة، وساروا إلى أميرهم أبي عبد الله الصغير، فأعلموه بحال الناس وما هم فيه من الضعف وشدة الجوع وقلة الطعام، وأن بلدهم بلد كبير لا يقوم به طعام مجلوب، فكيف ولم يُجلَب إليه شيء، وأن الطريق التي كانت يأتيهم عليها الطعام والفواكه من البشرة انقطعت بسبب الثلوج، وأن أنجاد الفرسان هلكوا وفنوا، ومن بقي منهم أُثخِن بالجراحات، وقد امتنع عنهم الطعام والزرع والحرث، وأن رجالهم هلكوا في تلك الملاحم، ثم قالوا له: إن إخواننا المسلمين من أهل عدوة المغرب بعثنا إليهم فلم يأتنا أحد منهم لنُصرتنا وإغاثتنا، وعدُوُّنا قد بنى علينا وسكَنَ معنا وهو يزداد قوةً ونحن نزداد ضعفًا والمَدَد يأتيه من بلاده ونحن لا مدد لنا، وهذا فصل الشتاء قد دخل وحملة عدونا تفرقت وضعفت، وقد قطع عنا الحرب، وإن تكلمنا مع الملك فرديناند الآن قَبِلَ منا وأعطانا كل ما نطلب منه، وإن بقينا حتى يدخل فصل الربيع تجتمع عليه جيوشُه مع ما يلحقنا نحن من الضعف والقلة، فلن يعود يقبلُ منا ما نطلبه منه، ولا نأمن نحن على أنفسنا منه؛ فقد هرب لحملته من بلدنا أناس كثيرون يدلونه على عوراتنا ويستعين بهم علينا، فقال لهم أبو عبد الله الصغير: انظروا ما يظهر لكم وما تتفقون عليه من الرأي الذي فيه صلاحكم، فاتفق رأي الجميع من الخاصة والعامة أن يبعثوا للملك فرديناند من يتكلم معه في أمرهم،وقد زعم كثير من الناس أن أمير غرناطة ووزيره وقواده كان قد تقدم بينهم وبين فرديناند الكلام في إعطائه البلد، إلا أنهم خافوا من العامة وكانوا يحتالون عليهم ويلاطفونهم، فحين أتوهم بما كانوا أضمروا عليه أسعفوهم من حينهم, فأرسل أبو عبد الله الصغير المندوبين لهذه المهمة، فوجدوا الملك فرديناند راغبًا في الصلح بالتسليم، فأنعم لهم بجميع ما طلبوا منه وما شرطوا عليه, فتمت المفاوضة بوضع معاهدة التسليم، ووقَّع الطرفان عليها وتضمنت ستة وخمسين بندًا تعهد فيها الأمير أبو عبد الله الصغير ووزراؤه والفقهاء والعلماء بتسليم المدينة في ظرف ستين يومًا ابتداء من تاريخ المعاهدة التي بدأت في الثاني من محرم 897 الموافق لتشرين الثاني 1491م ومن جملة الشروط التي شرط أهل غرناطة على فرديناند: أن يؤمِّنَهم على أنفسهم وبلادهم ونسائهم وصبيانهم ومواشيهم ورباعهم وجناتهم ومحارثهم، وجميع ما بأيديهم، ولا يغرمون إلا الزكاة والعُشر لمن أراد الإقامة ببلده غرناطة، ومن أراد الخروج منها يبيع أصله بما يرضاه من الثمن لمن يريده من المسلمين والنصارى من غير غَبن، ومن أراد الجواز لبلاد العدوة بالغرب يبيع أصله ويحمل أمتعته ويحمله في مراكبه إلى أي أرض أراد من بلاد المسلمين من غير كراء ولا شيء يلزمه لمدة ثلاث سنين، ومن أراد الإقامة بغرناطة من المسلمين فله الأمان على نحو ما ذُكر، وقد كتب لهم فرديناند ملك قشتالة بذلك كتابًا وأخذوا عليه عهودًا ومواثيق في دينه مغلَّظة على أنه يوفِّي لهم بجميع ما شرطوه عليه, فلما تمت هذه العقود والمواثيق قُرئت على أهل غرناطة, فلما سمعوا ما فيها اطمأنوا إليها وانقادوا لطاعته، وكتبوا بيعتهم وأرسلوها لصاحب قشتالة وسمحوا له في الدخول إلي مدينة الحمراء وإلى غرناطة, فعند ذلك أمر أمير غرناطة أبو عبد الله الصغير محمد بن علي بإخلاء مدينة الحمراء فأُخليت دُورها وقصورها ومنازلها، وأقاموا ينتظرون دخول النصارى لقبضها، فلما كان اليوم الثاني لربيع الأول سنة897 أقبل فرديناند بجيوشه فبعث جناحًا من جيشه فدخلوا مدينة الحمراء وبقي هو ببقية الجيش خارج البلد؛ لأنه كان يخاف من الغدر، وكان طلب من أهل البلد حين وقع بينهم الاتفاق رهونًا من أهل البلد ليطمئن بذلك، فأعطوه خمسمائة رجل منهم, فلما اطمأن من أهل البلد ولم ير منهم غدرًا سرَّح جنوده لدخول البلد والحمراء، فدخل منهم خلق كثير وبقي هو خارج البلد وأشحن الحمراء بكثير من الدقيق والطعام والعدة، وترك بها قائدًا من قواده وانصرف راجعًا إلى محلته، وأخذ يبعث بالدقيق والعلوفات وأنواع الطعام والعدة وما يحتاجون إليه, فلما سمع أهل البشرة أن أهل غرناطة دخلوا تحت ذمة النصارى أرسلوا بيعتهم إلى الملك فرديناند ودخلوا في ذمته، ولم يبق حينئذ للمسلمين موضع بالأندلس، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولما اطمأن الملك فرديناند من غدر أهل غرناطة سرَّح الذين كانوا عنده مرتهنين مؤمَّنين في أموالهم وأنفسهم مكرَّمين، ثم أقبل في جيوشه فدخل مدينة الحمراء في بعض خواصه، وبقي الجند خارج المدينة وبقي هو يتنزه في الحمراء في القصور والمنازل المشيدة إلى آخر النهار، ثم خرج بجنده وصار إلى محلته, ومن غدٍ أخذ في بناء الحمراء وتشييدها وتحصينها وإصلاح شأنها وفتح طرقها، وهو مع ذلك يتردد إليها بالنهار ويرجع بالليل لمحلته، فلم يزل كذلك حتى ازداد اطمئنانًا من غدر المسلمين، فسرَّح للمسلمين الجواز إلى أرض العدوة فأتاهم بالمراكب في الساحل, فصار كل من أراد الجواز يبيع ماله ورباعه ودوره، فكان الواحد منهم يبيع الدار الكبيرة الواسعة المعتبرة بالثمن القليل وكذلك يبيع جنانه وأرض حرثه وكرمه وفدانه بأقل من ثمن الغلة التي كانت فيه، فمنهم من اشتراه من المسلمين الذين عزموا على الدجن- المداهنة- ومنهم من اشتراه من النصارى وكذلك جميع الحوائج والأمتعة، وأمرهم بالمسير إلى الساحل بما معهم فيرفعهم النصارى في البحر محترمين مكرمين، ويجوزونهم إلى عدوة المغرب آمنين مطمئنين.

العودة الى الفهرس