تفسير البغوي
تفسير الآية رقم 30 من سورة الروم
قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين ) أي : أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه : إقامة الدين ، وقال غيره : سدد عملك . والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ) ( حنيفا ) مائلا مستقيما عليه ( فطرة الله ) دين الله ، وهو نصب على الإغراء ، أي : إلزم فطرة الله ( التي فطر الناس عليها ) أي : خلق الناس عليها ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة : الدين ، وهو الإسلام . وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين . وهم الذين فطرهم الله على الإسلام : أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يولد يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتجون البهيمة ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ ، قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير ، وزاد : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) . قوله : " من يولد يولد على الفطرة " يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله : " ألست ، بربكم قالوا بلى " ( الأعراف - 172 ) ، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار ، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ، قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) ، وقالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ( الزمر - 3 ) ، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى أنه يقول : " فأبواه يهودانه " ؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي ، وحماد بن سلمة .
وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته ، أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة ، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها ، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين ، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما . وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد ، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره . . . ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك على الفطرة السليمة والمحجة المستقيمة . ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه .
قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) فمن حمل الفطرة على الدين قال : معناه لا تبديل لدين الله ، وهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله . قال مجاهد ، وإبراهيم : معنى الآية الزموا فطرة الله ، أي دين الله ، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك ( ذلك الدين القيم ) المستقيم ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وقيل : لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاء لا يتبدل ، فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا . وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم .