تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 38 من سورة يونس
وقوله : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) أي : إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله ، وقلتم كذبا ومينا : " إن هذا من عند محمد " ، فمحمد بشر مثلكم ، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن ، فأتوا أنتم بسورة مثله ، أي : من جنس القرآن ، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان .
وهذا هو المقام الثالث في التحدي ، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم ، إن كانوا صادقين في دعواهم ، أنه من عندمحمد ، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا سبيل لهم إليه ، فقال تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ الإسراء : 88 ] ، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه ، فقال في أول سورة هود : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ هود : 13 ] ، ثم تنازل إلى سورة ، فقال في هذه السورة : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) وكذا في سورة البقرة - وهي مدنية - تحداهم بسورة منه ، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا ، فقال : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار ) الآية : [ البقرة : 24 ] .
هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم ، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به ، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته ، وجزالته وطلاوته ، وإفادته وبراعته ، فكانوا أعلم الناس به ، وأفهمهم له ، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا ، كما عرف السحرة ، لعلمهم بفنون السحر ، أن هذا الذي فعله موسى ، عليه السلام ، لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله ، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله . وكذلك عيسى ، عليه السلام ، بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى ، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه ، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله ؛ ولهذا جاء في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا .