تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 110 من سورة يوسف
يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى : ( وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة : 214 ] ، وفي قوله : ( كذبوا ) قراءتان ، إحداهما بالتشديد : " قد كذبوا " ، وكذلك كانت عائشة - رضي الله عنها - تقرؤها ، قال البخاري :
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله : ( حتى إذا استيئس الرسل ) قال : قلت : أكذبوا أم كذبوا ؟ فقالت عائشة : كذبوا . فقلت : فقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت : أجل ، لعمري لقد استيقنوا بذلك . فقلت لها : وظنوا أنهم قد كذبوا ؟ قالت معاذ الله ، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، ( حتى إذا استيئس الرسل ) ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك .
حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرنا عروة ، فقلت : لعلها قد كذبوا مخففة ؟ قالت : معاذ الله . انتهى ما ذكره .
وقال ابن جريج أخبرني ابن أبى مليكة : أن ابن عباس قرأها : ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) خفيفة ، قال عبد الله هو ابن مليكة : ثم قال لي ابن عباس : كانوا بشرا وتلا ابن عباس : ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة : 214 ] ، قال ابن جريج : وقال لي ابن أبي مليكة : وأخبرني عروة عن عائشة : أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت : ما وعد الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم . قال ابن أبي مليكة في حديث عروة : كانت عائشة تقرؤها " وظنوا أنهم قد كذبوا " مثقلة ، للتكذيب .
وقال ابن أبي حاتم : أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال : إن محمد بن كعب القرظي يقول هذه الآية : ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) فقال القاسم : أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) تقول : كذبتهم أتباعهم . إسناد صحيح أيضا .
والقراءة الثانية بالتخفيف ، واختلفوا في تفسيرها ، فقال ابن عباس ما تقدم ، وعن ابن مسعود ، فيما رواه سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قرأ : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) مخففة ، قال عبد الله : هو الذي تكره .
وهذا عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - مخالف لما رواه آخرون عنهما . أما ابن عباس فروى الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم ، جاءهم النصر على ذلك ، ( فنجي من نشاء )
وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعمران بن الحارث السلمي ، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس بمثله .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حرة الجزري قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم ، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا . فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا .
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر : أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه ، وقال : فرج الله عنك كما فرجت عني .
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جبر ، وغير واحد من السلف ، حتى إن مجاهدا قرأها : " وظنوا أنهم قد كذبوا " ، بفتح الذال . رواه ابن جرير ، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله : ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم ، أي : وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر .
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن جحش بن زياد الضبي ، عن تميم بن حذلم قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية : ( حتى إذا استيأس الرسل ) من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا ، بالتخفيف .
فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور ، وزيف القول الآخر بالكلية ، ورده وأباه ، ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم .