تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 103 من سورة البقرة
( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) أي : ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم ، لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به ، كما قال تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ) [ القصص : 80 ] .
وقد استدل بقوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) من ذهب إلى تكفير الساحر ، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف . وقيل : بل لا يكفر ، ولكن حده ضرب عنقه ، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل ، رحمهما الله : أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، أنه سمع بجالة بن عبدة يقول : كتب [ أمير المؤمنين ] عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال : فقتلنا ثلاث سواحر . وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا . وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها ، فأمرت بها فقتلت . قال أحمد بن حنبل : صح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [ أذنوا ] في قتل الساحر .
وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن جندب الأزدي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حد الساحر ضربه بالسيف " .
ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه . وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث ، والصحيح : عن الحسن عن جندب موقوفا .
قلت : قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن ، عن جندب ، مرفوعا . والله أعلم .
وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله ! يحيي الموتى ! ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه ، وذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر ، وقال : إن كان صادقا فليحيي نفسه . وتلا قوله تعالى : ( أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) [ الأنبياء : 3 ] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه ، والله أعلم .
وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثني أبو إسحاق ، عن حارثة قال : كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله ، فقال : أراه كان ساحرا ، وحمل الشافعي ، رحمه الله ، قصة عمر ، وحفصة على سحر يكون شركا . والله أعلم .
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر ، قال : وربما كفروا من اعتقد وجوده . قال : وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حمارا ، والحمار إنسانا ، إلا أنهم قالوا : إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى و [ تلك ] الكلمات المعينة ، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافا للفلاسفة والمنجمين الصابئة ، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى ، بقوله تعالى : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر ، وأن السحر عمل فيه ، وبقصة تلك المرأة مع عائشة ، رضي الله عنها ، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر ، قال : وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة ، ثم قال بعد هذا :
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور : اتفق المحققون على ذلك ; لأن العلم لذاته شريف وأيضا لعموم قوله تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [ الزمر : 9 ] ; ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ; فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا فكيف يكون حراما وقبيحا ؟ !
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة ، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه ، أحدها : قوله : " العلم بالسحر ليس بقبيح " . إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر ، وفي الصحيح : " من أتى عرافا أو كاهنا ، فقد كفر بما أنزل على محمد " . وفي السنن : " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " . وقوله : ولا محظور اتفق المحققون على ذلك " . كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرناه من الآية والحديث ؟ ! واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم ، وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله [ علم ] السحر في عموم قوله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فيه نظر ; لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين بالعلم الشرعي ، ولم قلت إن هذا منه ؟ ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ، ضعيف بل فاسد ; لأن معظم معجزات رسولنا ، عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم ، كانوا يعلمون المعجز ، ويفرقون بينه وبين غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه ، والله أعلم .
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية :
الأول : سحر الكلدانيين والكشدانيين ، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة ، وهي السيارة ، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر ، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلا لمقالتهم ورادا لمذهبهم ، وقد استقصى في " كتاب السر المكتوم ، في مخاطبة الشمس والنجوم " المنسوب إليه فيما ذكره القاضي ابن خلكان وغيره ويقال : إنه تاب منه . وقيل إنه صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد . وهذا هو المظنون به ، إلا أنه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة ، وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه ، وما يتنسكون به .
قال : والنوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، ثم استدل على أن الوهم له تأثير ، بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه . قال : وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام .
قال : وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق .
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " .
قال : فإذا عرفت هذا ، فنقول : النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا ، فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات ، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات . وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات ، صارت كأنها روح من الأرواح السماوية ، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم . وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية ، فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن . ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ، والانقطاع عن الناس والرياء .
قلت : وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال ، وهو على قسمين : تارة تكون حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويترك ما نهى الله عنه ورسوله ، وهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ، ولا يسمى هذا سحرا في الشرع . وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتصرف بها في ذلك . فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم ، كما أن الدجال لعنه الله له من الخوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة ، مع أنه مذموم شرعا لعنه الله . وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام . وبسط هذا يطول جدا ، وليس هذا موضعه .
قال : النوع الثالث من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية ، وهم الجن ، خلافا للفلاسفة والمعتزلة : وهم على قسمين : مؤمنون ، وكفار ، وهم الشياطين . قال : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية ، لما بينهما من المناسبة والقرب ، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخل والتجريد . وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير .
النوع الرابع من السحر : التخيلات ، والأخذ بالعيون والشعبذة ، ومبناه [ على ] أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ، ألا ترى أن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه ، عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة ، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه . فيتعجبون منه جدا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه ، لفطن الناظرون لكل ما يفعله .
قال : وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعا من أنواع الخلل أشد ، كان العمل
أحسن ، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا ، أو مظلم ، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها بكلالها والحالة هذه .
قلت : وقد قال بعض المفسرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ، ولهذا قال تعالى : ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ) [ الأعراف : 116 ] وقال تعالى : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ طه : 66 ] قالوا : ولم تكن تسعى في نفس الأمر . والله أعلم .
النوع الخامس من السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة من النسب الهندسية ، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق ، من غير أن يمسه أحد . ومنها الصور التي تصورها الروم والهند ، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، حتى يصورونها ضاحكة وباكية .
إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل . قال : وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل .
قلت : يعني ما قاله بعض المفسرين : أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي ، فحشوها زئبقا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق ، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها .
قال الرازي : ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة .
قال : وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر ; لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها .
قلت : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم ، بما يرونهم إياه من الأنوار ، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام [ منهم ] وأما الخواص فهم يعترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ، فيرون ذلك سائغا لهم . وفيه شبه للجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب ، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " . وقوله : " حدثوا عني ولا تكذبوا علي ؛ فإنه من يكذب علي يلج النار " .
ثم ذكر هاهنا حكاية عن بعض الرهبان ، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة ، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ، ليتبلغ به ، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله ، وتوصل إلى أن جعله أجوف ، فإذا دخلته الريح يسمع له صوت كصوت ذلك الطائر ، وانقطع في صومعة ابتناها ، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم ، وعلق ذلك الطائر في مكان منها ، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحية ، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة ، فيسمع صوتها كذلك الطائر في شكله أيضا ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ، ولا يدرون ما سببه ؟ ففتنهم بذلك ، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .
قال الرازي : النوع السادس من السحر : الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة والدهانات . قال : واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص ، فإن أثر المغناطيس مشاهد .
قلت : يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص ، مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات .
قال : النوع السابع من السحر : تعليق القلب ، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن يكون ذلك السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرهب والمخافة ، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء .
قلت : هذا النمط يقال له التنبلة ، وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم . وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه ، فإذا كان المتنبل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .
قال : النوع الثامن من السحر : السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة ، وذلك شائع في الناس .
قلت : النميمة على قسمين ، تارة تكون على وجه التحريش [ بين الناس ] وتفريق قلوب المؤمنين ، فهذا حرام متفق عليه . فأما إذا كانت على وجه الإصلاح [ بين الناس ] وائتلاف كلمة المسلمين ، كما جاء في الحديث : " ليس بالكذاب من ينم خيرا " أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة " فهذا أمر مطلوب ، كما جاء في الحديث : " الحرب خدعة " . وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة ، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاما ، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ، ثم لأم بين ذلك ، فتناكرت النفوس وافترقت . وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة . والله المستعان .
ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه .
قلت : وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر ، للطافة مداركها ; لأن السحر في اللغة : عبارة عما لطف وخفي سببه . ولهذا جاء في الحديث : " إن من البيان لسحرا " . وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل ، والسحر : الرئة ، وهي محل الغذاء ، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سحرك أي : انتفخت رئته من الخوف . وقالت عائشة ، رضي الله عنها : توفي رسول صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري . وقال : ( سحروا أعين الناس ) أي : أخفوا عنهم عملهم ، والله أعلم .
[ فصل ] وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة في كتابه : " الإشراف على مذاهب الأشراف " بابا في السحر ، فقال : أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة ، فإنه قال : لا حقيقة له عنده . واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله ، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك . ومن أصحاب أبي حنيفة من قال : إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر . وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر . وقال الشافعي ، رحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له : صف لنا سحرك . فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة ، وأنها تفعل ما يلتمس منها ، فهو كافر . وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر .
قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين . وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي ، فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصا .
قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : تقبل . وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل ، كما يقتل الساحر المسلم . وقال مالك والشافعي وأحمد : لا يقتل . يعني لقصة لبيد بن الأعصم .
واختلفوا في المسلمة الساحرة ، فعند أبي حنيفة لا تقتل ، ولكن تحبس . وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل ، والله أعلم .
وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي ، قال : قرأ على أبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل عمر بن هارون ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، قال : يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها .
وقد نقل القرطبي عن مالك ، رحمه الله ، أنه قال في الذمي إذا سحر : يقتل إن قتل سحره ، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما : أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل ، والثانية : أنه يقتل وإن أسلم ، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى : " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر . لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق ، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه ولم نقتله ، فإن قتل سحره قتل . قال الشافعي : فإن قال : لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية .
مسألة : وهل يسأل الساحر حل سحره ؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري ، وقال عامر الشعبي : لا بأس بالنشرة ، وكره ذلك الحسن البصري ، وفي الصحيح عن عائشة : أنها قالت : يا رسول الله ، هلا تنشرت ، فقال : " أما الله فقد شفاني ، وخشيت أن أفتح على الناس شرا " . وحكى القرطبي عن وهب : أنه قال : يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به ، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته .
قلت : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب ذلك وهما المعوذتان ، وفي الحديث : " لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما " وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان . وقال أبو عبد الله القرطبي : وعندنا أن السحر حق ، وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء .
خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني من الشافعية حيث قالوا : إنه تمويه وتخيل . قال : ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد ; لخفة سيره . قال ابن فارس : هذه الكلمة من كلام أهل البادية . قال القرطبي : ومنه ما يكون كلاما يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى ، وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك . قال : وقوله ، عليه السلام : " إن من البيان لسحرا " يحتمل أن يكون مدحا كما تقوله طائفة ، ويحتمل أن يكون ذما للبلاغة . قال : وهذا الأصح . قال : لأنها تصوب الباطل حين يوهم السامع أنه حق كما قال : " فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " فاقتضى له ، الحديث .