تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 109 من سورة البقرة
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم . ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح . ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن الزهري ، في قوله تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب ) قال : هو كعب بن الأشرف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه أنزل الله : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) إلى قوله : ( فاعفوا واصفحوا )
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا ; ولذلك قال الله تعالى : ( كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة ، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم .
وقال الربيع بن أنس : ( من عند أنفسهم ) من قبل أنفسهم . وقال أبو العالية : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) من بعد ما تبين [ لهم ] أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيا ; إذ كان من غيرهم . وكذا قال قتادة والربيع والسدي .
وقوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) مثل قوله تعالى : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ آل عمران : 186 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) نسخ ذلك قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) إلى قوله : ( وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] فنسخ هذا عفوه عن المشركين . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله : ( حتى يأتي الله بأمره )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش .
وهذا إسناده صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ] .