تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 116 من سورة البقرة
اشتملت هذه الآية الكريمة ، والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ، ممن جعل الملائكة بنات الله ، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا . فقال تعالى : ( سبحانه ) أي : تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا ( بل له ما في السماوات والأرض ) أي : ليس الأمر كما افتروا ، وإنما له ملك السماوات والأرض ، وهو المتصرف فيهم ، وهو خالقهم ورازقهم ، ومقدرهم ومسخرهم ، ومسيرهم ومصرفهم ، كما يشاء ، والجميع عبيد له وملك له ، فكيف يكون له ولد منهم ، والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين ، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له ، فكيف يكون له ولد ! كما قال تعالى : ( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) [ الأنعام : 101 ] وقال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) [ مريم : 88 - 95 ] وقال تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص ] .
فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم ، الذي لا نظير له ولا شبيه له ، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة ، فكيف يكون له منها ولد ! ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة : أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن عبد الله بن أبي حسين ، حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد . فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا " .
انفرد به البخاري من هذا الوجه .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي ، حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني . وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته . وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا . وأنا الله الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد " .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ; إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " .
وقوله : ( كل له قانتون ) قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أسباط ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : ( قانتين ) مصلين .
وقال عكرمة وأبو مالك : ( كل له قانتون ) مقرون له بالعبودية . وقال سعيد بن جبير : ( كل له قانتون ) يقول : الإخلاص . وقال الربيع بن أنس : يقول كل له قائم يوم القيامة . وقال السدي : ( كل له قانتون ) يقول : له مطيعون يوم القيامة .
وقال خصيف ، عن مجاهد : ( كل له قانتون ) قال : مطيعون ، كن إنسانا فكان ، وقال : كن حمارا فكان .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كل له قانتون ) مطيعون ، يقول : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره .
وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها ، وهو أن القنوت : هو الطاعة والاستكانة إلى الله ، وذلك شرعي وقدري ، كما قال تعالى : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ الرعد : 15 ] .
وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة " .
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن دراج بإسناده ، مثله .
ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه . ورفع هذا الحديث منكر ، وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه ، والله أعلم . وكثيرا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة ، فلا يغتر بها ، فإن السند ضعيف ، والله أعلم .