تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 275 من سورة البقرة
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) أي : لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ; وذلك أنه يقوم قياما منكرا . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق . رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .
وحكي عن عبد الله بن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) يعني : لا يقومون يوم القيامة . وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، والضحاك ، وابن زيد .
وروى ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن ابن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه أنه كان يقرأ : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : ( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) قال : وذلك حين يقوم من قبره .
وفي حديث أبي سعيد في الإسراء ، كما هو مذكور في سورة سبحان : أنه ، عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم ، فقيل : هؤلاء أكلة الربا . رواه البيهقي مطولا .
وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا " .
ورواه الإمام أحمد ، عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به . وفي إسناده ضعف .
وقد روى البخاري ، عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : " فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ، [ ما يسبح ] ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا " وذكر في تفسيره : أنه آكل الربا .
وقوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ) أي : إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع ; لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : ( إنما البيع مثل الربا ) أي : هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي : هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا !
وقوله تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم ، أي : قالوا : ما قالوه من الاعتراض ، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها ، وما ينفع عباده فيبيحه لهم ، وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ; ولهذا قال : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ) أي : من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه . فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : ( عفا الله عما سلف ) [ المائدة : 95 ] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس " ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ، بل عفا عما سلف ، كما قال
تعالى : ( فله ما سلف وأمره إلى الله )
قال سعيد بن جبير والسدي : ( فله ما سلف ) فإنه ما كان أكل من الربا قبل التحريم .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين ، أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم . قالت : فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة . فقالت : بئس ما شريت ! وبئس ما اشتريت ! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب . قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت : نعم ، ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) .
وهذا الأثر مشهور ، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ، مع ما جاء فيها من الأحاديث المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة .
ثم قال تعالى : ( ومن عاد ) أي : إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه ، فقد استوجب العقوبة ، وقامت عليه الحجة ; ولهذا قال : ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى بن معين ، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يذر المخابرة ، فليأذن بحرب من الله ورسوله " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن خثيم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجه .
وإنما حرمت المخابرة وهي : المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي : اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي : اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها ، حسما لمادة الربا ; لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف . ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة . ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا ، والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : ( وفوق كل ذي علم عليم ) [ يوسف : 76 ] .
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا . والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ; لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " .
وفي السنن عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . وفي الحديث الآخر : " الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس " . وفي رواية : " استفت قلبك ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " .
وقال الثوري : عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا . رواه [ البخاري ] عن قبيصة ، عنه .
وقال أحمد ، عن يحيى ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة .
رواه ابن ماجه وابن مردويه .
وروى ابن مردويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .
وقد قال ابن ماجه : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن زبيد ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون بابا " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عمرو بن علي الفلاس ، بإسناد مثله ، وزاد : " أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وقال ابن ماجه : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الربا سبعون حوبا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قال : " من لم يأكله منهم ناله من غباره "وكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن ، به .
ومن هذا القبيل ، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهن ، فحرم التجارة في الخمر .
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ، من طرق ، عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري ، عند تفسير الآية : فحرم التجارة ، وفي لفظ له ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر . قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال ، عليه السلام في الحديث المتفق عليه : " لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها " .
وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، عند لعن المحلل في تفسير قوله : ( حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه " . قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ; لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
وقد صنف الإمام ، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في " إبطال التحليل " تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك وشفى ، فرحمه الله ورضي عنه .