تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 70 من سورة الفرقان
وقوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل [ عملا ] صالحا ) أي : جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر ( إلا من تاب ) في الدنيا إلى الله من جميع ذلك ، فإن الله يتوب عليه .
وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) [ النساء : 93 ] فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة ، فتحمل على من لم يتب ، لأن هذه مقيدة بالتوبة ، ثم قد قال [ الله ] تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ، 116 ] .
وقد ثبتت السنة الصحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل ، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب ، وقبل منه ، وغير ذلك من الأحاديث .
وقوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ) : في معنى قوله : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قولان :
أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قال : هم المؤمنون ، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات .
وروى مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية :
بدلن بعد حره خريفا وبعد طول النفس الوجيفا
يعني : تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها .
وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا ، يكون الرجل على هيئة قبيحة ، ثم يبدله الله بها خيرا .
وقال سعيد بن جبير : أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .
وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما .
وهذا قول أبي العالية ، وقتادة ، وجماعة آخرين .
والقول الثاني : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته ، كما ثبتت السنة بذلك ، وصحت به الآثار المروية عن السلف ، رحمهم الله تعالى - وهذا سياق الحديث - قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار ، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة : يؤتى برجل فيقول : نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال : فيقال له : عملت يوم كذا وكذا كذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول : نعم - لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا - فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة . فيقول : يا رب ، عملت أشياء لا أراها هاهنا " . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه . وانفرد به مسلم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن يزيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان : أعطني صحيفتك . فيعطيه إياها ، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ، وكتبهن حسنات ، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ، ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة ، فتلك مائة " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت - يعني : ابن يزيد أبو زيد - حدثنا عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : يعطى رجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها ، فإذا سيئاته ، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود ، حدثنا أبو العنبس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات ، قيل : من هم يا أبا هريرة؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر ، حدثنا أبو حمزة ، عن أبي الضيف - وكان من أصحاب معاذ بن جبل - قال : يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف : المتقين ، ثم الشاكرين ، ثم الخائفين ، ثم أصحاب اليمين . قلت : لم سموا أصحاب اليمين؟ قال : لأنهم عملوا الحسنات والسيئات ، فأعطوا كتبهم بأيمانهم ، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا - قالوا : يا ربنا ، هذه سيئاتنا ، فأين حسناتنا؟ . فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات ، فعند ذلك قالوا : ( هاؤم اقرؤوا كتابيه ) ، فهم أكثر أهل الجنة .
وقال علي بن الحسين زين العابدين : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قال : في الآخرة .
وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات : [ رواهما ابن أبي حاتم ، وروى ابن جرير ، عن سعيد بن المسيب مثله ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو جابر ، أنه سمع مكحولا يحدث قال : جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه ، فقال : يا رسول الله ، رجل غدر وفجر ، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه ، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم ، فهل له من توبة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلمت؟ " قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ، ومبدل سيئاتك حسنات " . فقال : يا رسول الله ، وغدراتي وفجراتي؟ فقال : " وغدراتك وفجراتك " . فولى الرجل يهلل ويكبر .
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي فروة - شطب - أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ، ولم يترك حاجة ولا داجة ، فهل له من توبة؟ فقال : " أسلمت؟ " فقال : نعم ، قال : " فافعل الخيرات ، واترك السيئات ، فيجعلها الله لك خيرات كلها " . قال : وغدراتي وفجراتي؟ قال : " نعم " . قال فما زال يكبر حتى توارى .
ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي ، عن ياسين الزيات ، عن أبي سلمة الحمصي ، عن يحيى بن جابر ، عن سلمة بن نفيل مرفوعا .
وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان ، عن فليح الشماس ، عن عبيد بن أبي عبيد عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : جاءتني امرأة فقالت : هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته . فقلت لا ولا نعمت العين ولا كرامة . فقامت وهي تدعو بالحسرة . ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح ، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئسما قلت! أما كنت تقرأ هذه الآية : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) إلى قوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ) فقرأتها عليها . فخرت ساجدة وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجا .
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم . وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه ، وعنده : فخرجت تدعو بالحسرة وتقول : يا حسرتا! أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تطلبها في جميع دور المدينة فلم يجدها ، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته ، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرت ساجدة ، وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجا وتوبة مما عملت . وأعتقت جارية كانت معها وابنتها ، وتابت إلى الله عز وجل