تفسير ابن كثير

تفسير الآية رقم 6 من سورة الأحزاب

قد علم الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم ، كما قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء : 65 ] . وفي الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " . وفي الصحيح أيضا أن عمر ، رضي الله عنه ، قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال : " لا يا عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال : " الآن يا عمر " .
ولهذا قال تعالى في هذه الآية : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) .
وقال البخاري عندها : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا [ محمد بن ] فليح ، حدثنا أبي ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . فإن ترك دينا أو ضياعا ، فليأتني فأنا مولاه " . تفرد به البخاري .
ورواه أيضا في " الاستقراض " وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن فليح ، به مثله . ورواه الإمام أحمد ، من حديث أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا ، فإلي . ومن ترك مالا فلورثته " . ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، به نحوه .
وقوله : ( وأزواجه أمهاتهم ) أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام والتوقير والإعظام ، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم . وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء . ونص الشافعي على أنه يقال ذلك . وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ، فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليبا ؟ فيه قولان : صح عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لا يقال ذلك . وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي ، رحمه الله .
وقد روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس أنهما قرآ : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " ، وروي نحو هذا عن معاوية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي . حكاه البغوي وغيره ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا ابن المبارك ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستطب بيمينه " ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ، وينهى عن الروث والرمة .
وأخرجه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن عجلان .
والوجه الثاني : أنه لا يقال ذلك ، واحتجوا بقوله : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) : وقوله : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أي : في حكم الله ( من المؤمنين والمهاجرين ) أي : القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار . وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه ، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام ، رضي الله عنه ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي - من ساكني بغداد - عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله ، عز وجل ، فينا خاصة معشر قريش والأنصار : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة ، قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان ، فواخيناهم ووارثناهم . فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخى عمر فلانا ، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا من بني زريق ، سعد الزرقي ، ويقول بعض الناس غيره . قال الزبير : وواخيت أنا كعب بن مالك ، فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، فوالله يا بني ، لو مات يومئذ عن الدنيا ، ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .
وقوله : ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) أي : ذهب الميراث ، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية .
وقوله : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) أي : هذا الحكم ، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول ، الذي لا يبدل ، ولا يغير . قاله مجاهد وغير واحد . وإن كان قد يقال : قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي ، وقضائه القدري الشرعي .