تفسير ابن كثير

تفسير الآية رقم 54 من سورة سبأ

وقوله : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) : قال الحسن البصري ، والضحاك ، وغيرهما : يعني : الإيمان .
وقال السدي : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) وهي : التوبة . وهذا اختيار ابن جرير ، رحمه الله .
وقال مجاهد : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) من هذه الدنيا ، من مال وزهرة وأهل . وروي [ ذلك ] عن ابن عباس وابن عمر والربيع بن أنس . وهو قول البخاري وجماعة . والصحيح : أنه لا منافاة بين القولين; فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة ، فمنعوا منه .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرا غريبا [ عجيبا ] جدا ، فلنذكره بطوله فإنه قال : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا بشر بن حجر السامي ، حدثنا علي بن منصور الأنباري ، عن الشرقي بن قطامي ، عن سعيد بن طريف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) إلى آخر الآية ، قال : كان رجل من بني إسرائيل فاتحا - أي فتح الله له مالا - فمات فورثه ابن له تافه - أي : فاسد - فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله . فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه ، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت ، ثم رحل فأتى عينا ثجاجة فسرح فيها ماله ، وابتنى قصرا . فبينما هو ذات يوم جالس إذ شملت عليه [ ريح ] بامرأة من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا - أي : ريحا - فقالت : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا امرؤ من بني إسرائيل قالت : فلك هذا القصر ، وهذا المال ؟ قال : نعم . قالت : فهل لك من زوجة ؟ قال : لا . قالت : فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك ؟ قال : قد كان ذلك . فهل لك من بعل ؟ قالت : لا . قال : فهل لك إلى أن أتزوجك ؟ قالت : إني امرأة منك على مسيرة ميل ، فإذا كان غد فتزود زاد يوم وأتني ، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يهولنك . فلما كان من الغد تزود زاد يوم ، وانطلق فانتهى إلى قصر ، فقرع رتاجه ، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا - أي : ريحا - فقال : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا الإسرائيلي . قال فما حاجتك ؟ قال : دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها . قال : صدقت ، قال فهل رأيت في طريقك [ هولا ؟ ] قال : نعم ، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس علي ، لهالني الذي رأيت; أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بكلبة فاتحة فاها ، ففزعت ، فوثبت فإذا أنا من ورائها ، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها . فقال له الشاب : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويبزهم حديثهم .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بمائة عنز حفل ، وإذا فيها جدي يمصها ، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئا ، فتح فاه يلتمس الزيادة . فقال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، ملك يجمع صامت الناس كلهم ، حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئا فتح فاه يلتمس الزيادة .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر ، فأعجبني غصن من شجرة منها ناضر ، فأردت قطعه ، فنادتني شجرة أخرى : " يا عبد الله ، مني فخذ " . حتى ناداني الشجر أجمع : " يا عبد الله ، منا فخذ " . قال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقل الرجال ويكثر النساء ، حتى إن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين ، يغرف لكل إنسان من الماء ، فإذا تصدعوا عنه صب في جرته فلم تعلق جرته من الماء بشيء . قال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها ، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها ، وإذا رجل قد أخذ بذنبها ، وإذا رجل قد ركبها ، وإذا رجل يحلبها . فقال : أما العنز فهي الدنيا ، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها ، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقا ، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه ، وأما الذي ركبها فقد تركها . وأما الذي يحلبها فبخ [ بخ ] ، ذهب ذلك بها .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، وإذا أنا برجل يمتح على قليب ، كلما أخرج دلوه صبه في الحوض ، فانساب الماء راجعا إلى القليب . قال : هذا رجل رد الله [ عليه ] صالح عمله ، فلم يقبله .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل يبذر بذرا فيستحصد ، فإذا حنطة طيبة . قال : هذا رجل قبل الله صالح عمله ، وأزكاه له .
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل مستلق على قفاه ، قال : يا عبد الله ، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني ، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله فأخذت بيده ، فقام يسعى حتى ما أراه . فقال له الفتى : هذا عمر الأبعد نفد ، أنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك . . . أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا المكان ، ثم أصيره إلى نار جهنم قال : ففيه نزلت هذه : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) الآية .
هذا أثر غريب ، وفي صحته نظر ، وتنزيل [ هذه ] الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا ، كما جرى لهذا المغرور المفتون ، ذهب يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة ، وحيل بينه وبين ما يشتهي .
وقوله : ( كما فعل بأشياعهم من قبل ) أي : كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل ، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم ، ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) [ غافر : 84 ، 85 ] .
وقوله : ( إنهم كانوا في شك مريب ) أي : كانوا في الدنيا في شك وريبة ، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب .
قال قتادة : إياكم والشك والريبة . فإن من مات على شك بعث عليه ، ومن مات على يقين بعث عليه .
آخر تفسير سورة " سبأ " ولله الحمد والمنة .