تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 21 من سورة الزمر
يخبر تعالى : أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) [ الفرقان : 48 ] ، فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها ; ولهذا قال : ( فسلكه ينابيع في الأرض ) .
قال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) ، قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله تعالى : ( فسلكه ينابيع في الأرض ) ، فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعده .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء .
وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني : أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في قرارها ، فتنبع العيون من أسافلها .
وقوله : ( ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ) أي : ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا ( مختلفا ألوانه ) أي : أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، ( ثم يهيج ) أي : بعد نضارته وشبابه يكتهل ( فتراه مصفرا ) ، قد خالطه اليبس ، ( ثم يجعله حطاما ) أي : ثم يعود يابسا يتحطم ، ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) أي : الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خضرة نضرة حسناء ، ثم تعود عجوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا [ قد خالطه اليبس ] ، وبعد ذلك كله الموت . فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء ، وينبت به زروعا وثمارا ، ثم يكون بعد ذلك حطاما ، كما قال تعالى : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) [ الكهف : 45 ] .