تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 41 من سورة النساء
وقوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) يقول تعالى - مخبرا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه : فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء [ وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ] ) [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ] ) [ النحل : 89 ] .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : " حسبك الآن " فإذا عيناه تذرفان .
ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش ، به وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه . ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رزين ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه ، فقال : " يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟ " .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " .
وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في " التذكرة " حيث قال : باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته : قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المنهال بن عمرو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية ، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه . وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : [ قد تقدم ] أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة . قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام .
وقوله ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ) أي : لو انشقت وبلعتهم ، مما يرون من أهوال الموقف ، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله : ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ] ) وقوله ( ولا يكتمون الله حديثا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ، ولا يكتمون منه شيئا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام ، حدثنا عمرو ، عن مطرف ، عن بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : أتى رجل ابن عباس فقال : سمعت الله ، عز وجل ، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا - : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] وقال في الآية الأخرى : ( ولا يكتمون الله حديثا ) فقال ابن العباس : أما قوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( ولا يكتمون الله حديثا )
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف علي في القرآن . قال : ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال : ليس هو بالشك . ولكن اختلاف . قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك . قال : أسمع الله يقول : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] وقال ( ولا يكتمون الله حديثا ) ; فقد كتموا ! فقال ابن عباس : أما قوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، جحد المشركون ، فقالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) ; رجاء أن يغفر لهم . فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك : ( يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا )