تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 8 من سورة النساء
وقوله : ( وإذا حضر القسمة [ أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ] ) قيل : المراد : وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث واليتامى والمساكين فليرضخ لهم من التركة نصيب ، وأن ذلك كان واجبا في ابتداء الإسلام . وقيل : يستحب واختلفوا : هل هو منسوخ أم لا ؟ على قولين ، فقال البخاري : حدثنا أحمد بن حميد أخبرنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين ) قال : هي محكمة ، وليست بمنسوخة . تابعه سعيد عن ابن عباس .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها .
وقال الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في هذه الآية ، قال : هي واجبة على أهل الميراث ، ما طابت به أنفسهم . وهكذا روي عن ابن مسعود ، وأبي موسى ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأبي العالية ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء بن أبي رباح ، والزهري ، ويحيى بن يعمر : إنها واجبة .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن اسماعيل بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن محمد بن سيرين قال : ولي عبيدة وصية ، فأمر بشاة فذبحت ، فأطعم أصحاب هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي .
وقال مالك ، فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع ، عن الزهري : أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله . وقال الزهري : وهي محكمة .
وقال مالك ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد قال : هو حق واجب ما طابت به الأنفس .
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم :
قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة : أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، والقاسم بن محمد أخبراه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية قالا فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه . قالا وتلا ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له ، إنما ذلك إلى الوصية ، وإنما هذه الآية في الوصية يريد الميت [ أن ] يوصي لهم . رواه ابن أبي حاتم .
ذكر من قال : إن هذه الآية منسوخة بالكلية :
قال سفيان الثوري ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : ( وإذا حضر القسمة ) قال : منسوخة .
وقال إسماعيل بن مسلم المكي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال في هذه الآية : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) نسختها الآية التي بعدها : ( يوصيكم الله في أولادكم )
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى . رواهن ابن مردويه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين ) نسختها آية الميراث ، فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر - [ نصيبا مفروضا ]
وحدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنها منسوخة ، كانت قبل الفرائض ، كان ما ترك الرجل من مال أعطي منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ، ثم نسخ بعد ذلك ، نسختها المواريث ، فألحق الله بكل ذي حق حقه ، وصارت الوصية من ماله ، يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء .
وقال مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : هي منسوخة ، نسختها المواريث والوصية .
وهكذا روي عن عكرمة ، وأبي الشعثاء ، والقاسم بن محمد ، وأبي صالح ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنهم قالوا : إنها منسوخة . وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم .
وقد اختار ابن جرير هاهنا قولا غريبا جدا ، وحاصله : أن معنى الآية عنده ( وإذا حضر القسمة ) أي : وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت ( فارزقوهم منه وقولوا لهم ) لليتامى والمساكين إذا حضروا ( قولا معروفا ) هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار ، وفيه نظر ، والله أعلم .
وقد قال العوفي عن ابن عباس : ( وإذا حضر القسمة ) وهي قسمة الميراث . وهكذا قال غير واحد ، والمعنى على هذا لا على ما سلكه أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بل المعنى : أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون ، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل ، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه ، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهذا يأخذ ، وهم يائسون لا شيء يعطون ، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم ، وإحسانا إليهم ، وجبرا لكسرهم . كما قال الله تعالى : ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) [ الأنعام : 141 ] وذم الذين ينقلون المال خفية; خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة ، كما أخبر عن أصحاب الجنة ( إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ) [ القلم : 17 ] أي : بليل . وقال : ( فانطلقوا وهم يتخافتون . أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ) [ القلم : 23 ، 24 ] ( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) [ محمد : 10 ] فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه; ولهذا جاء في الحديث : " ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته " أي : منعها يكون سبب محاق ذلك المال بالكلية .