تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 12 من سورة الحجرات
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله ; لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثير منه احتياطا ، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا ، وأنت تجد لها في الخير محملا .
وقال أبو عبد الله بن ماجه : حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النضري ، حدثنا عبد الله بن عمر قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة ويقول : " ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك . والذي نفس محمد بيده ، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ، ماله ودمه ، وأن يظن به إلا خير . تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه .
وقال مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " .
رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن العتبي [ ثلاثتهم ] ، عن مالك ، به .
وقال سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام " .
رواه مسلم والترمذي - وصححه - من حديث سفيان بن عيينة ، به .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي ، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني ، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري ، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال ، عن أبيه ، عن جده حارثة بن النعمان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث زمات لأمتي : الطيرة ، والحسد وسوء الظن " . فقال رجل : ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال : " إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فأمض " . وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد قال : أتي ابن مسعود ، رضي الله عنه برجل ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا ليث ، عن إبراهيم بن نشيط الخولاني ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي الهيثم ، عن دخين كاتب عقبة قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم . قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دخين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشرط فيأخذونهم . قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دخين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " .
ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد ، به نحوه .
وقال سفيان الثوري ، عن ثور ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم " أو : " كدت أن تفسدهم " . فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعه الله بها . رواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري ، به .
وقال أبو داود أيضا : حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن جبير بن نفير ، وكثير بن مرة ، وعمرو بن الأسود ، والمقدام بن معدي كرب ، وأبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس ، أفسدهم " .
[ وقوله ] : ( ولا تجسسوا ) أي : على بعضكم بعضا . والتجسس غالبا يطلق في الشر ، ومنه الجاسوس . وأما التحسس فيكون غالبا في الخير ، كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب [ عليه السلام ] أنه قال : ( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله ) [ يوسف : 87 ] ، وقد يستعمل كل منهما في الشر ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " .
وقال الأوزاعي : التجسس : البحث عن الشيء . والتحسس : الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون ، أو يتسمع على أبوابهم . والتدابر : الصرم . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) فيه نهي عن الغيبة ، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " .
ورواه الترمذي عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به . وقال : حسن صحيح . ورواه ابن جرير عن بندار ، عن غندر ، عن شعبة ، عن العلاء . وهكذا قال ابن عمر ، ومسروق ، وقتادة ، وأبو إسحاق ، ومعاوية بن قرة .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر ، عن أبي حذيفة ، عن عائشة قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا ! - قال غير مسدد : تعني قصيرة - فقال : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . قالت : وحكيت له إنسانا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما أحب أني حكيت إنسانا ، وإن لي كذا وكذا " .
ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع ، ثلاثتهم عن سفيان الثوري ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الأرحبي ، عن عائشة ، به . وقال : حسن صحيح .
وقال ابن جرير : حدثني ابن أبي الشوارب : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا حسان بن المخارق ; أن امرأة دخلت على عائشة ، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : إنها قصيرة - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغتبتيها " .
والغيبة محرمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر : " ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة " ، وكقوله لفاطمة بنت قيس - وقد خطبها معاوية وأبو الجهم - : " أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " . وكذا ما جرى مجرى ذلك . ثم بقيتها على التحريم الشديد ، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ; ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت ، كما قال تعالى : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) ؟ أي : كما تكرهون هذا طبعا ، فاكرهوا ذاك شرعا ; فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير عنها والتحذير منها ، كما قال عليه السلام ، في العائد في هبته : " كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه " ، وقد قال : " ليس لنا مثل السوء " . وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه عليه السلام ، قال في خطبة [ حجة ] الوداع : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا " .
وقال أبو داود : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا أسباط بن محمد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل المسلم على المسلم حرام : ماله وعرضه ودمه ، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " .
ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد ، عن أبيه ، به . وقال : حسن غريب .
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن سعيد بن عبد الله بن جريج ، عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " .
تفرد به أبو داود . وقد روي من حديث البراء بن عازب ، فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا إبراهيم بن دينار ، حدثنا مصعب بن سلام ، عن حمزة بن حبيب الزيات ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أسمع العواتق في بيوتها - أو قال : في خدورها - فقال : " يا معشر من آمن بلسانه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته " .
طريق أخرى عن ابن عمر : قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : أخبرنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيى بن أكثم ، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ; فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك .
قال أبو داود : وحدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، عن ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن وقاص بن ربيعة ، عن المستورد أنه حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم ، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم . ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " . تفرد به أبو داود .
وحدثنا ابن مصفى ، حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم " .
تفرد به أبو داود ، وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، حدثنا أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] قال : قلنا : يا رسول الله ، حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك ؟ . . . قال : " ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم فيحذون منه الحذوة من مثل النعل ثم يضعونه في في أحدهم ، فيقال له : " كل كما أكلت " ، وهو يجد من أكله الموت - يا محمد - لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت : يا جبرائيل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون اللمازون أصحاب النميمة . فيقال : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) وهو يكره على أكل لحمه .
هكذا أورد هذا الحديث ، وقد سقناه بطوله في أول تفسير " سورة سبحان " ولله الحمد .
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا الربيع ، عن يزيد ، عن أنس ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحد حتى آذن له . فصام الناس ، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول : ظللت منذ اليوم صائما ، فائذن لي فأفطر فيأذن له ، ويجيء الرجل فيقول ذلك ، فيأذن له حتى جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين ، فائذن لهما فليفطرا فأعرض عنه ، ثم أعاد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما صامتا ، وكيف صام من ظل يأكل لحوم الناس ؟ اذهب ، فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا " . ففعلتا ، فقاءت كل واحدة منهما علقة علقة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار " .
إسناد ضعيف ، ومتن غريب . وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون : حدثنا سليمان التيمي قال : سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد - مولى رسول الله - أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن رجلا أتى رسول الله فقال : يا رسول الله ، إن هاهنا امرأتين صامتا ، وإنهما كادتا تموتان من العطش - أراه قال : بالهاجرة - فأعرض عنه - أو : سكت عنه - فقال : يا نبي الله ، إنهما - والله قد ماتتا أو كادتا تموتان . فقال : ادعهما . فجاءتا ، قال : فجئ بقدح - أو عس - فقال لإحداهما : " قيئي " فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح . ثم قال للأخرى : قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح . فقال : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما ، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما ، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس .
وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي ، كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي ، به مثله أو نحوه . ثم رواه أيضا من حديث مسدد ، عن يحيى القطان ، عن عثمان بن غياث ، حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان ، عن سعد - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم أمروا بصيام ، فجاء رجل في نصف النهار فقال : يا رسول الله ، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد . فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : " ادعهما " . فجاء بعس - أو : قدح - فقال لإحداهما : " قيئي " ، فقاءت لحما ودما عبيطا وقيحا ، وقال للأخرى مثل ذلك ، فقال : " إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما ، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما ، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحا " .
وقال البيهقي : كذا قال " عن سعد " ، والأول - وهو عبيد - أصح .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ، حدثنا أبي أبو عاصم ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير عن ابن عم لأبي هريرة أن ماعزا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فأعرض عنه - قالها أربعا - فلما كان في الخامسة قال : " زنيت " ؟ قال : نعم . قال : " وتدري ما الزنا ؟ " قال : نعم ، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا . قال : " ما تريد إلى هذا القول ؟ " قال : أريد أن تطهرني . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر ؟ " . قال : نعم ، يا رسول الله . قال : فأمر برجمه فرجم ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب . ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مر بجيفة حمار فقال : أين فلان وفلان ؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " قالا : غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا ؟ قال : " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه ، والذي نفسي بيده ، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " ] إسناده صحيح ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثني أبي ، حدثنا واصل - مولى ابن عيينة - حدثني خالد بن عرفطة ، عن طلحة بن نافع ، عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتفعت ريح جيفة منتنة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين " .
طريق أخرى : قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن سليمان ، عن أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع - عن جابر قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فهاجت ريح منتنة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن نفرا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين ، فلذلك بعثت هذه الريح " وربما قال : " فلذلك هاجت هذه الريح " .
وقال السدي في قوله : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) : زعم أن سلمان الفارسي كان مع رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر يخدمهما ويخف لهما ، وينال من طعامهما ، وأن سلمان لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان نائما ، لم يسر معهم ، فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه ، فضربا الخباء فقالا : ما يريد سلمان - أو : هذا العبد - شيئا غير هذا : أن يجيء إلى طعام مقدور ، وخباء مضروب ! فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب لهما إداما ، فانطلق فأتى رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] ومعه قدح له ، فقال : يا رسول الله ، بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك ؟ قال : " ما يصنع أصحابك بالأدم ؟ قد ائتدموا " . فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلقا حتى أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : لا والذي بعثك بالحق ، ما أصبنا طعاما منذ نزلنا . قال : " إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما " .
قال : ونزلت : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) ، إنه كان نائما .
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه " المختارة " من طريق حبان بن هلال ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار ، وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما ، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما ، فقالا : إن هذا لنئوم ، فأيقظاه ، فقالا له : ائت رسول الله فقل له : إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام ، ويستأدمانك .
فقال : " إنهما قد ائتدما " فجاءا فقالا : يا رسول الله ، بأي شيء ائتدمنا ؟ فقال : " بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده ، إني لأرى لحمه بين ثناياكما " . فقالا : استغفر لنا يا رسول الله فقال : " مراه فليستغفر لكما " .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا محمد بن مسلم ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمه موسى بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أكل من لحم أخيه في الدنيا ، قرب له لحمه في الآخرة ، فيقال له : كله ميتا كما أكلته حيا . قال : فيأكله ويكلح ويصيح " . غريب جدا .
وقوله : ( واتقوا الله ) أي : فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فراقبوه في ذلك واخشوا منه ، ( إن الله تواب رحيم ) أي : تواب على من تاب إليه ، رحيم بمن رجع إليه ، واعتمد عليه .
قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ، ويعزم على ألا يعود . وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع ، وأن يتحلل من الذي اغتابه . وقال آخرون : لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه ، فطريقه إذا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ، فتكون تلك بتلك ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أحمد بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن سليمان ; أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجهني أخبره ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حمى مؤمنا من منافق يعيبه ، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم . ومن رمى مؤمنا بشيء يريد شينه ، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال " . وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله - وهو ابن المبارك - به بنحوه .
وقال أبو داود أيضا : حدثنا إسحاق بن الصباح ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا الليث : حدثني يحيى بن سليم ; أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول : سمعت جابر بن عبد الله ، وأبا طلحة بن سهل الأنصاري يقولان : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله في مواطن يحب فيها نصرته . وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في مواطن يحب فيها نصرته " . تفرد به أبو داود .