تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 1 من سورة المائدة
تفسير سورة المائدة [ وهي مدنية ] قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية شيبان ، عن ليث عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة . وروى ابن مردويه من حديث صالح بن سهيل ، عن عاصم الأحول قال : حدثتني أم عمرو ، عن عمها ; أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندق عنق الراحلة من ثقلها . وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها .
تفرد به أحمد وقد روى الترمذي عن قتيبة ، عن عبد الله بن وهب ، عن حيي عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة أنزلت : سورة المائدة والفتح ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب حسن . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : " إذا جاء نصر الله والفتح " [ سورة النصر : 1 ] .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وقال الحاكم أيضا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا بحر بن نصر قال : قرئ على عبد الله بن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ورواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، وزاد : وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : القرآن . وراوه النسائي من حديث ابن مهدي .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مسعر حدثني معن وعوف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] فقال : اعهد إلي . فقال : إذا سمعت الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا ) فارعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه .
وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دحيم - حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي عن الزهري قال : إذا قال الله : ( يا أيها الذين آمنوا ) افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم .
وحدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن خيثمة قال : كل شيء في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو في التوراة : " يا أيها المساكين " .
فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بذيمة ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : ( يا أيها الذين آمنوا ) إلا أن عليا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب ، فإنه لم يعاتب في شيء منه . فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر .
قال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر . قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غال ، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل . وقوله : " ولم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا عليا " إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى ، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي ونزل قوله : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله ) الآية [ سورة المجادلة : 13 ] وفي كون هذا عتابا نظر ; فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير من أحد منهم خلافه . وقوله عن علي : " إنه لم يعاتب في شيء من القرآن " فيه نظر أيضا ; فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء عمت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضعف هذا الأثر ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) فكتب الآيات منها حتى بلغ : ( إن الله سريع الحساب ) .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم . فكتب له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " .
قوله تعالى ( أوفوا بالعقود ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود . وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف وغيره . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) إلى قوله : ( سوء الدار ) [ الرعد : 25 ] .
وقال الضحاك : ( أوفوا بالعقود ) قال : ما أحل الله وما حرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام .
وقال زيد بن أسلم : ( أوفوا بالعقود ) قال : هي ستة : عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين .
وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة .
وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : ( أوفوا بالعقود ) قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك . وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ للبخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد .
وقوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) هي : الإبل والبقر ، والغنم . قاله الحسن وقتادة وغير واحد . قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب . وقد استدل ابن عمر وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طريق مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله؟ فقال : " كلوه إن شئتم ; فإن ذكاته ذكاة أمه " . وقال الترمذي : حديث حسن .
[ و ] قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عتاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . تفرد به أبو داود .
وقوله : ( إلا ما يتلى عليكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة والدم ولحم الخنزير .
وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ) فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ; ولهذا قال : ( إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ) يعني : منها . فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقه ; ولهذا قال تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) أي : إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .
وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) قال بعضهم : هذا منصوب على الحال . والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام .
وقيل : المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) أي : أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما ] أحللنا الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ; ولهذا قال : ( إن الله يحكم ما يريد )