تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 18 من سورة ق
( ما يلفظ ) أي : ابن آدم ( من قول ) أي : ما يتكلم بكلمة ( إلا لديه رقيب عتيد ) أي : إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها ، لا يترك كلمة ولا حركة ، كما قال تعالى : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 10 - 12 ] .
وقد اختلف العلماء : هل يكتب الملك كل شيء من الكلام ؟ وهو قول الحسن وقتادة ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس ، على قولين ، وظاهر الآية الأول ، لعموم قوله : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي ، عن أبيه ، عن جده علقمة ، عن بلال بن الحارث المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه " . قال : فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث .
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من حديث محمد بن عمرو به . وقال الترمذي : حسن صحيح . وله شاهد في الصحيح .
وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمين يكتب الخير ، وهو أمير على صاحب الشمال ، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها ، وإن أبى كتبها . رواه ابن أبي حاتم .
وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) : يابن آدم ، بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك ، وجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقول : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) [ الإسراء : 13 ، 14 ] ثم يقول : عدل - والله - فيك من جعلك حسيب نفسك .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر ، حتى إنه ليكتب قوله : " أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت " ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله ، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، وذلك قوله : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) [ الرعد : 39 ] ، وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه ، فبلغه عن طاوس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين . فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله .