تفسير ابن كثير

تفسير الآية رقم 32 من سورة النجم

ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي : لا يتعاطون المحرمات والكبائر ، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم ، كما قال في الآية الأخرى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) [ النساء : 31 ] . وقال هاهنا : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . وهذا استثناء منقطع ; لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الرزاق ، به .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور حدثنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ; أن ابن مسعود قال : " زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم " . وكذا قال مسروق ، والشعبي .
وقال عبد الرحمن بن نافع - الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي - قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : ( إلا اللمم ) قال : القبلة ، والغمزة ، والنظرة ، والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنا .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( إلا اللمم ) إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال : في هذه الآية : ( إلا اللمم ) قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه ، قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟ !
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : ( إلا اللمم ) قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ، قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟ !
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا .
قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟ !
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري ، عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار : لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه . وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة " تنزيل " وفي صحته مرفوعا نظر .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - أراه رفعه - : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : " اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود " ، قال : " ذلك الإلمام " .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قول الله : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر ، فيجتنبها ويتوب منها .
وقال ابن جرير ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( إلا اللمم ) يلم بها في الحين . قلت : الزنا ؟ قال : الزنا ثم يتوب .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : ( اللمم ) الذي يلم المرة .
وقال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن ( اللمم ) فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب . وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم . حكاه البغوي .
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب ; أن عبد الله بن عمرو قال : ( اللمم ) : ما دون الشرك .
وقال سفيان الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن عطاء ، عن ابن الزبير : ( إلا اللمم ) قال : ما بين الحدين : حد الدنيا وعذاب الآخرة . وكذا رواه شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، مثله سواء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( إلا اللمم ) كل شيء بين الحدين : حد الدنيا وحد الآخرة ، تكفره الصلوات ، وهو اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخر عقوبته إلى الآخرة . وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .
وقوله : ( إن ربك واسع المغفرة ) أي : رحمته وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كقوله : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [ الزمر : 53 ] .
وقوله : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ) أي : هو بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر عنكم وتقع منكم ، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ، ثم قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير . وكذا قوله : ( وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله ، وشقي أم سعيد .
قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا ، فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة ، فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا - لا أبا لك - فماذا بعد هذا ننتظر ؟ رواه ابن أبي حاتم عنه .
وقوله : ( فلا تزكوا أنفسكم ) أي : تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، ( هو أعلم بمن اتقى ) ، كما قال : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) [ النساء : 49 ] .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم " . فقالوا : بم نسميها ؟ قال : " سموها زينب " .
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : مدح رجل رجلا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ويلك ! قطعت عنق صاحبك - مرارا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا - والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا - أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " .
ثم رواه عن غندر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، به . وكذا رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من طرق عن خالد الحذاء ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب .
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري ، عن منصور ، به .