تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 35 من سورة الواقعة
وقوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ) جرى الضمير على غير مذكور . لكن لما دل السياق ، وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها ، اكتفى بذلك عن ذكرهن ، وعاد الضمير عليهن ، كما في قوله : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ) [ ص : 31 ، 32 ] يعني : الشمس ، على المشهور من قول المفسرين .
قال الأخفش في قوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء ) أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك . وقال أبو عبيدة : ذكرن في قوله : ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) [ الواقعة : 22 ، 23 ] .
فقوله : ( إنا أنشأناهن ) أي : أعدناهن في النشأة الآخرة بعدما كن عجائز رمصا ، صرن أبكارا عربا ، أي : بعد الثيوبة عدن أبكارا عربا ، أي : متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة .
وقال بعضهم : ( عربا ) أي : غنجات .
قال موسى بن عبيدة الربذي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا أنشأناهن إنشاء ) قال : " نساء عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا " . رواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم . ثم قال الترمذي : غريب ، وموسى ويزيد ضعيفان .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا آدم - يعني : ابن أبي إياس - حدثنا شيبان ، عن جابر ، عن يزيد بن مرة ، عن سلمة بن يزيد قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله : ( إنا أنشأناهن إنشاء ) يعني : " الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا " .
وقال عبد بن حميد : حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : أتت عجوز فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة . فقال : " يا أم فلان ، إن الجنة لا تدخلها عجوز " . قال : فولت تبكي ، قال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا )
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي ، حدثنا سليمان بن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن قول الله : ( وحور عين ) [ الواقعة : 22 ] ، قال : " حور : بيض ، عين : ضخام العيون ، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر " . قلت : أخبرني عن قوله : ( كأمثال اللؤلؤ المكنون ) [ الواقعة : 23 ] ، قال : " صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف ، الذي لم تمسه الأيدي " . قلت : أخبرني عن قوله : ( فيهن خيرات حسان ) [ الرحمن : 70 ] . قال : " خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه " . قلت : أخبرني عن قوله : ( كأنهن بيض مكنون ) [ الصافات : 49 ] ، قال : " رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر ، وهو : الغرقئ " . قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله : ( عربا أترابا ) . قال : " هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصا شمطا ، خلقهن الله بعد الكبر ، فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات ، أترابا على ميلاد واحد " . قلت : يا رسول الله ، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال : " بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين ، كفضل الظهارة على البطانة " . قلت : يا رسول الله ، وبم ذاك ؟ قال : " بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل ، ألبس الله وجوههن النور ، وأجسادهن الحرير ، بيض الألوان ، خضر الثياب ، صفر الحلي ، مجامرهن الدر ، وأمشاطهن الذهب ، يقلن : نحن الخالدات فلا نموت أبدا ، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا ، طوبى لمن كنا له وكان لنا " . قلت : يا رسول الله ، المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها ، من يكون زوجها ؟قال : " يا أم سلمة ، إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا ، فتقول : يا رب ، إن هذا كان أحسن خلقا معي فزوجنيه ، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " .
وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة فيقول الله : قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها . فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " والذي بعثني بالحق ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ، فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة ، سبعين مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله ، بعبادتهما الله في الدنيا ، يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة ، على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ ، عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق وإنه ليضع يده بين كتفيها ، ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ، كبده لها مرآة - يعني : وكبدها له مرآة - فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ، ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يفتر ذكره ، ولا تشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية ، فبينما هو كذلك إذ نودي : إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أن لك أزواجا غيرها ، فيخرج ، فيأتيهن واحدة واحدة ، كلما جاء واحدة قالت : والله ما في الجنة شيء أحسن منك ، وما في الجنة شيء أحب إلي منك " .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له : أنطأ في الجنة ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده دحما دحما ، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا " .
وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي ، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيق الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي ، حدثنا شريك ، عن عاصم الأحول ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا " . وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء " . قلت : يا رسول الله ، ويطيق ذلك ؟ قال : " يعطى قوة مائة " .
ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال : صحيح غريب .
وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي ، عن زائدة ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال : " إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء " .
قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي : هذا الحديث عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم .
وقوله : ( عربا ) قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن ، ألم تر إلى الناقة الضبعة ، هي كذلك .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : العرب : العواشق لأزواجهن ، وأزواجهن لهن عاشقون . وكذا قال عبد الله بن سرجس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن أبي كثير ، وعطية ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال ثور بن زيد ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن قوله : ( عربا ) قال : هي الملقة لزوجها .
وقال شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة : هي الغنجة .
وقال الأجلح بن عبد الله ، عن عكرمة : هي الشكلة .
وقال صالح بن حيان ، عن عبد الله بن بريدة في قوله : ( عربا ) قال : الشكلة بلغة أهل مكة ، والغنجة بلغة أهل المدينة .
وقال تميم بن حذلم : هي حسن التبعل .
وقال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : العرب : حسنات الكلام .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سهل بن عثمان العسكري : حدثنا أبو علي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عربا ) قال : " كلامهن عربي " .
وقوله : ( أترابا ) قال الضحاك ، عن ابن عباس يعني : في سن واحدة ، ثلاث وثلاثين سنة .
وقال مجاهد : الأتراب : المستويات . وفي رواية عنه : الأمثال . وقال عطية : الأقران . وقال السدي : ( أترابا ) أي : في الأخلاق ، المتواخيات بينهن ، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد ، يعني : لا كما كن ضرائر [ في الدنيا ] ضرائر متعاديات .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن عبد الله بن الكهف ، عن الحسن ومحمد : ( عربا أترابا ) قالا : المستويات الأسنان ، يأتلفن جميعا ، ويلعبن جميعا .
وقد روى أبو عيسى الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن أبي معاوية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجنة لمجتمعا للحور العين ، يرفعن أصواتا لم تسمع الخلائق بمثلها ، يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنا له " . ثم قال : هذا حديث غريب .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن فلان بن عبد الله بن رافع ، عن بعض ولد أنس بن مالك ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الحور العين ليغنين في الجنة ، يقلن نحن خيرات حسان ، خبئنا لأزواج كرام " .
قلت : إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات . وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم ، عن ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع ، عن ابن لأنس ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الحور العين يغنين في الجنة : نحن الجوار الحسان ، خلقنا لأزواج كرام " .