تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 2 من سورة الطلاق
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده . ( بمعروف ) أي : محسنا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها ( بمعروف ) أي : من غير مقابحة ، ولا مشاتمة ، ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن .
وقوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) أي : على الرجعة إذا عزمتم عليها ، كما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن عمران بن حصين : أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ، ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ، ولا على رجعتها ، فقال : طلقت لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تعد
وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) قال : لا يجوز في نكاح ، ولا طلاق ، ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر .
وقوله : ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة .
ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح . وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها .
وقوله : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا كهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل ، عن أبي ذر قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو علي هذه الآية : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) حتى فرغ من الآية ، ثم قال : " يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " . وقال : فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست ، ثم قال : " يا أبا ذر ، كيف تصنع إن أخرجت من المدينة ؟ . " قلت : إلى السعة والدعة أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة . قال : " كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟ " . قال : قلت : إلى السعة والدعة ، وإلى الشام ، والأرض المقدسة . قال : " وكيف تصنع إن أخرجت من الشام ؟ " . قلت : إذا - والذي بعثك بالحق - أضع سيفي على عاتقي . قال : " أوخير من ذلك ؟ " . قلت : أوخير من ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع ، وإن كان عبدا حبشيا "
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا ، عن عامر ، عن شتير بن شكل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) [ النحل : 90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجا : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا )
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الحكم بن مصعب ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب "
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، ( ويرزقه من حيث لا يحتسب )
وقال الربيع بن خثيم : ( يجعل له مخرجا ) أي : من كل شيء ضاق على الناس .
وقال عكرمة : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجا . وكذا روي عن ابن عباس ، والضحاك .
وقال ابن مسعود ، ومسروق : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى ( من حيث لا يحتسب ) أي من حيث لا يدري .
وقال قتادة : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) أي : من شبهات الأمور والكرب عند الموت ، ( ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل .
وقال السدي : ( ومن يتق الله ) يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له : " عوف بن مالك الأشجعي " كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالصبر ، ويقول له : " إن الله سيجعل لك فرجا " ، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )
رواه ابن جرير ، وروي أيضا من طريق سالم بن أبي الجعد ، مرسلا نحوه
وقال الإمام أحمد ، حدثنا ، وكيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " .
ورواه النسائي ، وابن ماجه من حديث سفيان - وهو الثوري - به
وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : له أسر ابني عوف . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة . فقالت أمه : واسوأتاه . وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره ، وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسأله عنها . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبر عوف ، وخبر الإبل ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعا بمالك " . ونزل : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )
رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن هشام بن حسان ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها "