تفسير ابن كثير

تفسير الآية رقم 12 من سورة الأنفال

وقوله : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ، ليشكروه عليها ، وهو أنه - تعالى وتقدس وتبارك وتمجد - أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين ، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا .
قال ابن إسحاق : وازروهم . وقال غيره : قاتلوا معهم . وقيل : كثروا سوادهم . وقيل : كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : سمعت هؤلاء القوم - يعني المشركين - يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم . حكاه ابن جرير ، وهذا لفظه بحروفه .
وقوله : ( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) أي : ثبتوا أنتم المسلمين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك ، سألقي الرعب والمذلة والصغار على من خالف أمري ، وكذب رسولي ( فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) أي : اضربوا الهام ففلقوها ، واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم ، وهي أيديهم وأرجلهم .
وقد اختلف المفسرون في معنى : ( فوق الأعناق ) فقيل : معناه اضربوا الرءوس . قاله عكرمة .
وقيل : معناه : ( فوق الأعناق ) أي : على الأعناق ، وهي الرقاب . قاله الضحاك ، وعطية العوفي .
ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) [ محمد : 4 ] .
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق .
واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام .
قلت : وفي مغازي " الأموي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول :
نفلق هاما . . . .
فيقول أبو بكر :
من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأول البيت ، ويستطعم أبا بكر - رضي الله عنه - إنشاد آخره ؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر ، كما قال تعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) [ يس : 69 ] .
وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا هم بضرب فوق الأعناق ، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به .
وقوله : ( واضربوا منهم كل بنان ) قال ابن جرير : معناه : واضربوه أيها المؤمنون من عدوكم كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم . و " البنان " : جمع بنانة ، كما قال الشاعر :
ألا ليتني قطعت منه بنانة ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( واضربوا منهم كل بنان ) يعني بالبنان : الأطراف . وكذا قال الضحاك وابن جريج .
وقال السدي : البنان : الأطراف ، ويقال : كل مفصل .
وقال عكرمة ، وعطية العوفي والضحاك - في رواية أخرى - : كل مفصل .
وقال الأوزاعي في قوله تعالى : ( واضربوا منهم كل بنان ) قال : اضرب منه الوجه والعين ، وارمه بشهاب من نار ، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك .
وقال العوفي ، عن ابن عباس - فذكر قصة بدر إلى أن قال - : فقال أبو جهل : لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا ، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ، ورغبتهم عن اللات والعزى . فأوحى الله إلى الملائكة : ( أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) فقتل أبو جهل لعنه الله ، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبرا ، فوفى ذلك سبعين - يعني قتيلا .