تفسير ابن كثير

تفسير الآية رقم 36 من سورة الأنفال

قال محمد بن إسحاق : حدثني الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ ، قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم ، وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ! ففعلوا . قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله - عز وجل - : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم [ ليصدوا عن سبيل الله ] ) إلى قوله : ( والذين كفروا إلى جهنم يحشرون )
وهكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحكم بن عتيبة ، وقتادة ، والسدي ، وابن أبزى : أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر .
وعلى كل تقدير ، فهي عامة . وإن كان سبب نزولها خاصا ، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق ، فسيفعلون ذلك ، ثم تذهب أموالهم ، ( ثم تكون عليهم حسرة ) أي : ندامة ؛ حيث لم تجد شيئا ؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ، وناصر دينه ، ومعلن كلمته ، ومظهر دينه على كل دين . فهذا الخزي لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار ، فمن عاش منهم ، رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ، ومن قتل منهم أو مات ، فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي ؛ ولهذا قال : ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) وقوله تعالى : ( ليميز الله الخبيث من الطيب ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ليميز الله الخبيث من الطيب ) فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء وقال السدي : يميز المؤمن من الكافر . وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة ، كما قال تعالى : ( ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم ) [ يونس : 28 ] ، وقال تعالى ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ) [ الروم : 14 ] ، وقال في الآية الأخرى : ( يومئذ يصدعون ) [ الروم : 43 ] ، وقال تعالى : ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) [ يس : 59 ] .
ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا ، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين ، وتكون " اللام " معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله ، أي : إنما أقدرناهم على ذلك