تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 9 من سورة الأنفال
ال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قراد ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : لما كان يوم بدر نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة ، ثم مد يديه ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : اللهم أين ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا ، قال : فما زال يستغيث ربه [ عز وجل ] ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا رسول الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله - عز وجل - : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) فلما كان يومئذ والتقوا ، فهزم الله المشركين ، فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعليا وعمر فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد - قال عمر - غدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، [ أخبرني ] ما يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ! قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، قد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة ، وأنزل الله [ عز وجل ] ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) إلى قوله : ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم ) [ الأنفال : 67 ، 68 ] من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم ، فلما كان يوم أحد من العام المقبل ، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله [ عز وجل ] ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) [ آل عمران : 165 ] بأخذكم الفداء . .
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، من طرق عن عكرمة بن عمار ، به . وصححه علي بن المديني والترمذي ، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني .
وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي ، عن ابن عباس : أن هذه الآية الكريمة قوله : ( إذ تستغيثون ربكم [ فاستجاب لكم ] ) أنها في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قال يزيد بن يثيع ، والسدي ، وابن جريج .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه أشد النشدة يدعو ، فأتاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله ، بعض نشدتك ، فوالله ليفين الله لك بما وعدك .
وقال البخاري في " كتاب المغازي " ، باب قول الله - عز وجل - : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) إلى قوله : ( فإن الله شديد العقاب ) حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول كما قال قوم موسى لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا ) [ المائدة : 24 ] ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرق وجهه وسره - يعني قوله .
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر : اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك ! فخرج وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر ) [ القمر : 45 ] .
ورواه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي .
وقوله تعالى : ( بألف من الملائكة مردفين ) أي : يردف بعضهم بعضا ، كما قال هارون بن عنترة عن ابن عباس : ( مردفين ) متتابعين .
ويحتمل أن [ يكون ] المراد ) مردفين ) لكم ، أي : نجدة لكم ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس : ( مردفين ) يقول : المدد ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .
وهكذا قال مجاهد ، وابن كثير القارئ ، وابن زيد : ( مردفين ) ممدين .
وقال أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) قال : وراء كل ملك ملك .
وفي رواية بهذا الإسناد : ( مردفين ) قال : بعضهم على أثر بعض . وكذا قال أبو ظبيان ، والضحاك ، وقتادة .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، عن الزمعي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير ، عن علي - رضي الله عنه - قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الميسرة .
وهذا يقتضي - لو صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها ؛ ولهذا قرأ بعضهم : مردفين بفتح الدال ، فالله أعلم .
والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ، ومسلم ، من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل سماك بن وليد الحنفي ، عن ابن عباس ، عن عمر ، الحديث المتقدم . ثم قال أبو زميل حدثني ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : " أقدم حيزوم " إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا قال : فنظر إليه ، فإذا هو قد خطم أنفه ، وشق وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة ، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
وقال البخاري : " باب شهود الملائكة بدرا " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة .
انفرد بإخراجه البخاري وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج ، وهو خطأ والصواب رواية البخاري ، والله [ تعالى ] أعلم .
وفي الصحيحين : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة : إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .