تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 101 من سورة التوبة
يخبر تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون ( مردوا على النفاق ) أي : مرنوا واستمروا عليه : ومنه يقال : شيطان مريد ومارد ، ويقال : تمرد فلان على الله ، أي : عتا وتجبر .
وقوله : ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) لا ينافي قوله تعالى : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) الآية [ محمد : 30 ] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين . وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن رجل ، عن جبير بن مطعم ، رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب " وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : " إن في أصحابي منافقين "
ومعناه : أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم . وتقدم في تفسير قوله : ( وهموا بما لم ينالوا ) [ التوبة : 74 ] أنه عليه السلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، والله أعلم .
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " أبي عمر البيروتي " من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا بن جابر ، حدثني شيخ بيروت يكنى أبا عمر ، أظنه حدثني عن أبي الدرداء ؛ أن رجلا يقال له " حرملة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى لسانه - والنفاق هاهنا - وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبي ، وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير " . فقال : يا رسول الله ، إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : " من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على دينه فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا " قال : وكذا رواه أبو أحمد الحاكم ، عن أبي بكر الباغندي ، عن هشام بن عمار ، به .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ؟ فلان في الجنة وفلان في النار . فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك . قال نبي الله نوح : ( قال وما علمي بما كانوا يعملون ) [ الشعراء : 112 ] وقال نبي الله شعيب : ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) [ هود : 86 ] وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : " اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، واخرج يا فلان فإنك منافق " . فأخرج من المسجد ناسا منهم ، فضحهم . فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم . فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، قد فضح الله المنافقين اليوم . قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبر
وكذا قال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك نحو هذا .
وقال مجاهد في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) يعني : القتل والسباء وقال - في رواية - بالجوع ، وعذاب القبر ، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم )
وقال ابن جريج : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب النار .
وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا ، وعذاب في القبر
وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله ( فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ) [ التوبة : 85 ] فهذه المصائب لهم عذاب ، وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) قال : النار .
وقال محمد بن إسحاق : ( سنعذبهم مرتين ) قال : هو - فيما بلغني - ما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة والخلد فيه .
وقال سعيد ، عن قتادة في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال : " ستة منهم تكفيكهم الدبيلة : سراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا " . وذكر لنا أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة ، فإن صلى عليه وإلا تركه . وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشدك بالله ، أمنهم أنا ؟ قال : لا . ولا أومن منها أحدا بعدك .