تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 3 من سورة القدر
( وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر )
قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني ، عن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سودت وجوه المؤمنين - أو : يا مسود وجوه المؤمنين - فقال : لا تؤنبني ، رحمك الله ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : ( إنا أعطيناك الكوثر ) يا محمد يعني نهرا في الجنة ، ونزلت : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) يملكها بعدك بنو أمية يا محمد . قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يوما ولا تنقص يوما .
ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل ، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي . قال : وشيخه يوسف بن سعد - ويقال : يوسف بن مازن - رجل مجهول ، ولا نعرف هذا الحديث ، على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه .
وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه ، من طريق القاسم بن الفضل ، عن يوسف بن مازن به . وقول الترمذي : إن يوسف هذا مجهول - فيه نظر ; فإنه قد روى عنه جماعة ، منهم : حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد . وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور ، وفي رواية عن ابن معين [ قال ] هو ثقة . ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل ، عن عيسى بن مازن ، كذا قال ، وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث ، والله أعلم . ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدا ، قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي : هو حديث منكر .
قلت : وقول القاسم بن الفضل الحداني إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص ، ليس بصحيح ; فإن معاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنه ، استقل بالملك حين سلم إليه الحسن بن علي الإمرة سنة أربعين ، واجتمعت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة ، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها ، لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريبا من تسع سنين ، لكن لم تزل يدهم عن الإمرة بالكلية ، بل عن بعض البلاد ، إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة ، وذلك أزيد من ألف شهر ، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير ، وعلى هذا فتقارب ما قاله للصحة في الحساب ، والله أعلم .
ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم دولة بني أمية ، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق ; فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم أيامهم ، فإن ليلة القدر شريفة جدا ، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر ، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة ، بمقتضى هذا الحديث ، وهل هذا إلا كما قال القائل :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وقال آخر :
إذا أنت فضلت امرأ ذا براعة على ناقص كان المديح من النقص
ثم الذي يفهم من ولاية الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية ، والسورة مكية ، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية ، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها ؟! والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة ، فهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث ونكارته ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا مسلم - يعني ابن خالد - ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، قال : فعجب المسلمون من ذلك ، قال : فأنزل الله عز وجل : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام بن سلم ، عن المثنى بن الصباح عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني مسلمة بن علي ، عن علي بن عروة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل ، عبدوا الله ثمانين عاما ، لم يعصوه طرفة عين : فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون - قال : فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة ، لم يعصوه طرفة عين ; فقد أنزل الله خيرا من ذلك . فقرأ عليه : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك . قال : فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه .
وقال سفيان الثوري : بلغني عن مجاهد : ليلة القدر خير من ألف شهر . قال : عملها ، صيامها وقيامها خير من ألف شهر . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جريج عن مجاهد : ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس في تلك الشهور ليلة القدر . وهكذا قال قتادة بن دعامة والشافعي وغير واحد .
وقال عمرو بن قيس الملائي : عمل فيها خير من عمل ألف شهر .
وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر - وليس فيها ليلة القدر - هو اختيار ابن جرير . وهو الصواب لا ما عداه ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : " رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل " . رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ، ونية صالحة : " أنه يكتب له عمل سنة ، أجر صيامها وقيامها " إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي هريرة قال : لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " .
ورواه النسائي من حديث أيوب به .
ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .