تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 5 من سورة الفاتحة
قوله تعالى : إياك نعبد رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين ; لأن من أول السورة إلى هاهنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه ، كقوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا . ثم قال : إن هذا كان لكم جزاء . وعكسه : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم على ما يأتي .
و ( نعبد ) معناه نطيع ; والعبادة الطاعة والتذلل . وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين ; قاله الهروي . ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى ; إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك . وإياك نستعين أي نطلب العون والتأييد والتوفيق .
قال السلمي في حقائقه : سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول : سمعت أبا حفص الفرغاني يقول : من أقر ب إياك نعبد وإياك نستعين فقد برئ من الجبر والقدر .
إن قيل : لم قدم المفعول على الفعل ؟ قيل له : قدم اهتماما ، وشأن العرب تقديم الأهم . يذكر أن أعرابيا سب آخر فأعرض المسبوب عنه ; فقال له الساب : إياك أعني : فقال له الآخر : وعنك أعرض ; فقدما الأهم . وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود ; فلا يجوز نعبدك ونستعينك ، ولا نعبد إياك ونستعين إياك ; فيقدم الفعل على كناية المفعول ، وإنما يتبع لفظ القرآن . وقال العجاج :
إياك أدعو فتقبل ملقي واغفر خطاياي وكثر ورقي
ويروى : وثمر . وأما قول الشاعر :
إليك حتى بلغت إياكا
فشاذ لا يقاس عليه . والورق بكسر الراء من الدراهم ، وبفتحها المال . وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك .
الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من إياك في الموضعين . وقرأ عمرو بن قائد : ( إياك ) بكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها . وهذه قراءة مرغوب عنها ، فإن المعنى يصير : شمسك نعبد أو ضوءك ; وإياة الشمس ( بكسر الهمزة ) : ضوءها ; وقد تفتح . وقال [ طرفة بن العبد ] :
سقته إياة الشمس إلا لثاته أسف فلم تكدم عليه بإثمد
فإن أسقطت الهاء مددت . ويقال : الإياة للشمس كالهالة للقمر ، وهي الدارة حولها . وقرأ الفضل الرقاشي : " أياك " ( بفتح الهمزة ) وهي لغة مشهورة . وقرأ أبو السوار الغنوي : " هياك " في الموضعين ، وهي لغة ; قال :
فهياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره
وإياك نستعين عطف جملة على جملة . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش : ( نستعين ) بكسر النون ، وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ; ليدل على أنه من استعان ، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل . وأصل " نستعين " نستعون ، قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء والمصدر استعانة ، والأصل استعوان ; قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة ، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ، ولزمت الهاء عوضا .