تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 7 من سورة الماعون
قوله تعالى : ويمنعون الماعون فيه اثنا عشر قولا :
الأول : أنه زكاة أموالهم . كذا روى الضحاك عن ابن عباس . وروي عن علي - رضي الله عنه - مثل ذلك ، وقاله مالك . والمراد به المنافق يمنعها . وقد روى أبو بكر بن عبد العزيز عن مالك قال : بلغني أن قول الله تعالى : فويل للمصلين الذين هم على صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون قال : إن المنافق إذا صلى صلى رياء ، وإن فاتته لم يندم عليها ، ويمنعون الماعون الزكاة التي فرض الله عليهم . قال زيد بن أسلم : لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا .
القول الثاني : أن الماعون المال ، بلسان قريش ; قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب .
وقول ثالث : أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك ; قاله ابن مسعود ، وروي عن ابن عباس أيضا . قال الأعشى :
بأجود منه بماعونه إذا ما سماؤهم لم تغم
الرابع : ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة ، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير ; وأنشدوا بيت الأعشى . قالوا : والماعون في الإسلام : الطاعة والزكاة ; وأنشدوا قول الراعي :
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا ماعونهم ويضيعوا التهليلا
يعني الزكاة .
الخامس : أنه العارية ; وروي عن ابن عباس أيضا .
السادس : أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم ; قاله محمد بن كعب والكلبي .
السابع : أنه الماء والكلأ .
الثامن : الماء وحده . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون : الماء ; وأنشدني فيه :
يمج صبيره الماعون صبا
الصبير : السحاب .
التاسع : أنه منع الحق ; قاله عبد الله بن عمر .
العاشر : أنه المستغل من منافع الأموال ; مأخوذ من المعن وهو القليل ; حكاه الطبري وابن عباس . قال قطرب : أصل الماعون من القلة . والمعن : الشيء القليل ; تقول العرب : ( ما له سعنة ولا معنة ) ; أي شيء قليل . فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونا ; لأنه قليل من كثير . ومن الناس من قال : الماعون : أصله معونة ، والألف عوض من الهاء ; حكاه الجوهري . ابن العربي : الماعون : مفعول من أعان يعين ، والعون : هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر .
الحادي عشر : أنه الطاعة والانقياد . حكى الأخفش عن أعرابي فصيح : لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون ; أي تنقاد لك وتعطيك . قال الراجز :
متى تصادفهن في البرين يخضعن أو يعطين بالماعون
وقيل : هو ما لا يحل منعه ، كالماء والملح والنار ; لأن عائشة رضوان الله عليها قالت : قلت يا رسول الله ، ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال : الماء والنار والملح قلت : يا رسول الله هذا الماء ، فما بال النار والملح ؟ فقال : يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار ، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح ، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء ، فكأنما أعتق ستين نسمة . ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد ، فكأنما أحيا نفسا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . ذكره الثعلبي في تفسيره ، وخرجه ابن ماجه في سننه . وفي إسناده لين ; وهو القول الثاني عشر . الماوردي : ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله . والله أعلم .
وقيل لعكرمة مولى ابن عباس : من منع شيئا من المتاع كان له الويل ؟ فقال : لا ، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل ; يعني : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالماعون .
قلت : كونها في المنافقين أشبه ، وبهم أخلق ; لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالمال ; قال الله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ، وقال : ولا ينفقون إلا وهم كارهون . وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق ، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ ، وذلك في منع الماعون إذا تعين ; كالصلاة إذا تركها . والله أعلم . إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة . والله أعلم .