تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 56 من سورة هود
قوله تعالى : إني توكلت على الله ربي وربكم أي رضيت بحكمه ، ووثقت بنصره .
ما من دابة أي نفس تدب على الأرض ; وهو في موضع رفع بالابتداء .
إلا هو آخذ بناصيتها أي يصرفها كيف يشاء ، ويمنعها مما يشاء ; أي فلا تصلون إلى ضري . وكل ما فيه روح يقال له داب ودابة ; والهاء للمبالغة . وقال الفراء : مالكها ، والقادر عليها . وقال القتبي : قاهرها ; لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته . وقال الضحاك : يحييها ثم يميتها ; والمعنى متقارب . والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس . ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته . قال ابن جريج : إنما خص الناصية ; لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع ; فيقولون . ما ناصية فلان إلا بيد فلان ; أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء . وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه ; فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم . وقال الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " قوله تعالى : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد ، ثم نظر إليها ، ثم خلق خلقه ، وقد نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم ، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور آخذ بنواصيهم ، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير . وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ; رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة . ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي ، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال ، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم ، ولذلك ما قوي هود النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال : فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير ، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة ، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه ، فسمي ذلك الموضع منه ناصية ; لأنها تنص حركات العباد بما قدر ; فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها ووصف ناصية أبي جهل فقال : ناصية كاذبة خاطئة يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة ; فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ . والله أعلم .
إن ربي على صراط مستقيم قال النحاس : الصراط في اللغة المنهاج الواضح ; والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق . وقيل : معناه لا خلل في تدبيره ، ولا تفاوت في خلقه سبحانه .