تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 23 من سورة يوسف
قوله تعالى : وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
قوله تعالى : وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وهي امرأة العزيز ، طلبت منه أن يواقعها . وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين . والرود والرياد طلب الكلأ ; وقيل : هي من رويد ; يقال : فلان يمشي رويدا ، أي برفق ; فالمراودة الرفق في الطلب ; يقال في الرجل : راودها عن نفسها ، وفي المرأة راودته عن نفسه . والرود التأني ; يقال : أرودني أمهلني .
وغلقت الأبواب غلق للكثير ، ولا يقال : غلق الباب ; وأغلق يقع للكثير والقليل ; كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء :
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
يقال : إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها .
وقالت هيت لك أي هلم وأقبل وتعال ; ولا مصدر له ولا تصريف . قال النحاس : فيها سبع قراءات ; فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقرأ هيت لك قال فقلت : إن قوما يقرءونها " هيت لك " فقال : إنما أقرأ كما علمت . قال أبو جعفر : وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يبعد ذلك ; لأن قوله : إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع ، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة ; وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي . قال عبد الله بن مسعود : لا تقطعوا في القرآن ; فإنما هو مثل قول أحدكم : هلم وتعال . وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي " قالت هيت لك " بفتح الهاء وكسر التاء . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن كثير " هيت لك " بفتح الهاء وضم التاء ; قال طرفة :
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة . وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع " وقالت هيت لك " بكسر الهاء وفتح التاء . وقرأ يحيى بن وثاب " وقالت هيت لك " بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة . وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن عباس ومجاهد وعكرمة : " وقالت هئت لك " بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة . وعن ابن عامر وأهل الشام : " وقالت هئت " بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء ; قال أبو جعفر : " هئت لك " بفتح التاء لالتقاء الساكنين ، لأنه صوت نحو مه وصه يجب ألا يعرب ، والفتح خفيف ; لأن قبل التاء ياء مثل أين وكيف ; ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر ; لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر ، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية ; أي قالت : دعائي لك ، فلما حذفت الإضافة بني على الضم ; مثل حيث وبعد . وقراءة أهل المدينة فيها قولان : أحدهما : أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر . والآخر : أن يكون فعلا من هاء يهيء مثل جاء يجيء ; فيكون المعنى في " هئت " أي حسنت هيئتك ، ويكون " لك " من كلام آخر ، كما تقول : لك أعني . ومن همز وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك ; وكذلك من قرأ " هيت لك " . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة ; قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو : باطل ; جعلها من تهيأت ! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا ؟ ! وقال الكسائي أيضا : لم تحك " هئت " عن العرب . قال عكرمة : " هئت لك " أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت ، وهي قراءة غير مرضية ; لأنها لم تسمع في العربية . قال النحاس : وهي جيدة عند البصريين ; لأنه يقال : هاء الرجل يهاء ويهيء هيأة فهاء يهيء مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت . وكسر الهاء في " هيت " لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها . قال الزجاج : أجود القراءات " هيت " بفتح الهاء والتاء ; قال طرفة :
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
بفتح الهاء والتاء . وقال الشاعر في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا
إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا
قال ابن عباس والحسن : " هيت " كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها . وقال السدي : معناها بالقبطية هلم لك . قال أبو عبيد : كان الكسائي يقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال ; قال أبو عبيد : فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم ; وبه قال عكرمة . وقال مجاهد وغيره : هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها ، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء ; قال الجوهري : يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه ; قال :
قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا
أي صاح ; وقال آخر :
يحدو بها كل فتى هيات
قوله تعالى : قال معاذ الله أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه ; وهو مصدر ، أي أعوذ بالله معاذا ; فيحذف المفعول وينتصب المصدر بالفعل المحذوف ، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول ، كما تقول : مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو .
إنه ربي يعني زوجها ، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه ; قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي . وقال الزجاج : أي إن الله ربي تولاني بلطفه ، فلا أرتكب ما حرمه . إنه لا يفلح الظالمون وفي الخبر أنها قالت له : يا يوسف ! ما أحسن صورة وجهك ! قال : في الرحم صورني ربي ; قالت : يا يوسف ما أحسن شعرك ! قال : هو أول شيء يبلى مني في قبري ; قالت : يا يوسف ! ما أحسن عينيك ؟ قال : بهما أنظر إلى ربي . قالت : يا يوسف ! ارفع بصرك فانظر في وجهي ، قال : إني أخاف العمى في آخرتي . قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني ؟ ! قال : أريد بذلك القرب من ربي . قالت : يا يوسف ! القيطون فرشته لك فادخل معي ، قال : القيطون لا يسترني من ربي . قالت : يا يوسف ! فراش الحرير قد فرشته لك ، قم فاقض حاجتي ، قال : إذا يذهب من الجنة نصيبي ; إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها ; إلى أن هم بها .
وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ; فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه . واختلف العلماء في همه . ولا خلاف أن همها كان المعصية ، وأما يوسف فهم بها لولا أن رأى برهان ربه ولكن لما رأى البرهان ما هم ; وهذا لوجوب العصمة للأنبياء ; قال الله تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فإذا في الكلام تقديم وتأخير ; أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها . قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله :