تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 95 من سورة الكهف
قوله تعالى : قال ما مكني فيه ربي خير فيه مسألتان :
[ الأولى ] قوله - تعالى - : قال ما مكني فيه ربي خير المعنى قال لهم ذو القرنين : ما بسطه الله - تعالى - لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان ، أي برجال وعمل منكم بالأبدان ، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله - تعالى - لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولوكلوه إلى البنيان ، ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج . وقرأ ابن كثير وحده " ما مكنني " بنونين . وقرأ الباقون ما مكني فيه ربي
[ الثانية ] في هذه الآية دليل على أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم ، وسد فرجتهم ، وإصلاح ثغورهم ، من أموالهم التي تفيء عليهم ، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره ، حتى لو أكلتها الحقوق ، وأنفذتها المؤن ، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم ، وعليه حسن النظر لهم ; وذلك بثلاثة شروط : الأول : ألا يستأثر عليهم بشيء . الثاني : أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم ، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم ، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير ، وتصريف بتدبير ; فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال : لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم فأعينوني بقوة أي اخدموا بأنفسكم معي ، فإن الأموال عندي والرجال عندكم ، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم ، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه ، فيعود بالأجر عليهم ، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى . وضابط الأمر أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض ، فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا ، وينفق بالعدل لا بالاستئثار ، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر . والله - تعالى - الموفق للصواب .