تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 2 من سورة البقرة
ذلك الكتاب قيل : المعنى هذا الكتاب . و ذلك قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر ، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب ; كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ; ومنه قول خفاف بن ندبة : أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا . ف ( ذلك ) إشارة إلى القرآن ، موضوع موضع هذا ، تلخيصه : الم هذا الكتاب لا ريب فيه . وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما ; ومنه قوله تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق أي هذه ; لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك . وفي البخاري " وقال معمر : ذلك الكتاب هذا القرآن " . هدى للمتقين بيان ودلالة ; كقوله : ذلكم حكم الله يحكم بينكم هذا حكم الله .
قلت : وقد جاء " هذا " بمعنى " ذلك " ; ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام : يركبون ثبج هذا البحر أي ذلك البحر ; والله أعلم . وقيل : هو على بابه إشارة إلى غائب .
واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة ; فقيل : ذلك الكتاب أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق . لا ريب فيه ; أي لا مبدل له . وقيل : ذلك الكتاب ; أي الذي كتبت على نفسي في الأزل أن رحمتي سبقت غضبي . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده : أن رحمتي تغلب غضبي في رواية : ( سبقت ) . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ; فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال : إنما بعثتك ; لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان الحديث .
وقيل : الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة .
وقيل : إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل ; فلما أنزل عليه بالمدينة : الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة .
وقيل : إن ذلك إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل . و ( الم ) اسم للقرآن ; والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل ; يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما .
وقيل : إن ذلك الكتاب إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما ; والمعنى : الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين ; أي : هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين ; فعبر ب ( ذلك ) عن الاثنين بشاهد من القرآن ; قال الله تبارك وتعالى : إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك أي عوان بين تينك : الفارض والبكر ; وسيأتي .
وقيل : إن ذلك إشارة إلى اللوح المحفوظ .
وقال الكسائي : ذلك إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد .
وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا ; فالإشارة إلى ذلك الوعد . قال المبرد : المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا .
وقيل : إلى حروف المعجم في قول من قال : ( الم ) الحروف التي تحديتكم بالنظم منها .
والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع ; ومنه قيل : كتيبة ; لاجتماعها . وتكتبت الخيل صارت كتائب . وكتبت البغلة : إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير ; قال :
لا تأمنن فزاريا حللت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
والكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة ، والجمع كتب . والكتب : الخرز . قال ذو الرمة :
وفراء غرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتب
والكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة ; وسمي كتابا وإن كان مكتوبا ; كما قال الشاعر :
تؤمل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب : الفرض والحكم والقدر ; قال الجعدي :
يا بنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
قوله تعالى : لا ريب نفي عام ; ولذلك نصب الريب به . وفي الريب ثلاثة معان : أحدها : الشك ; قال عبد الله بن الزبعرى :
ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها : التهمة ; قال جميل :
بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها : الحاجة ; قال [ كعب بن مالك ] :
قضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب ; والمعنى : أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله ، وصفة من صفاته ، غير مخلوق ولا محدث ، وإن وقع ريب للكفار .
وقيل : هو خبر ومعناه النهي ; أي لا ترتابوا ، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا . وتقول : رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا . وأراب : صار ذا ريبة ; فهو مريب . ورابني أمره . وريب الدهر : صروفه .
قوله تعالى : فيه هدى للمتقين فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ( فيه ) الهاء في ( فيه ) في موضع خفض بفي ، وفيه خمسة أوجه ; أجودها : فيه هدى ويليه فيه هدى ( بضم الهاء بغير واو ) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر . ويليه فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير . ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز فيه هدى ( مدغما ) وارتفع هدى على الابتداء والخبر " فيه " . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان ، أي فيه كشف لأهل المعرفة ، ورشد ، وزيادة بيان وهدى .
الثانية : الهدى هديان : هدى دلالة ، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ; قال الله تعالى : ولكل قوم هاد . وقال : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ; وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إنك لا تهدي من أحببت فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ; ومنه قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم وقوله : ويهدي من يشاء والهدى : الاهتداء ، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت . قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ; من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ومنه قوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم معناه فاسلكوهم إليها .
الثالثة : الهدى لفظ مؤنث . قال الفراء : بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول : هذه هدى حسنة . وقال اللحياني : هو مذكر ; ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك ، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في " الفاتحة " ، تقول : هديته الطريق وإلى الطريق ، والدار وإلى الدار ; أي عرفته . الأولى لغة أهل الحجاز ، والثانية حكاها الأخفش . وفي التنزيل : اهدنا الصراط المستقيم و الحمد لله الذي هدانا لهذا وقيل : إن الهدى اسم من أسماء النهار ، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مآربهم ; ومنه قول ابن مقبل : حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
الرابعة : قوله تعالى : ( للمتقين ) خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم ; لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه . وروي عن أبي روق أنه قال : هدى للمتقين أي : كرامة لهم ; يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم . وأصل ( للمتقين ) : للموتقيين بياءين مخففتين ، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين .
الخامسة : التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام ; حكاه ابن فارس .
قلت : ومنه الحديث التقي ملجم ، والمتقي فوق المؤمن والطائع وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى ، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه ; كما قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقال آخر : فألقت قناعا دونه الشمس واتقت
بأحسن موصولين كف ومعصم
وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : قال يوما لابن أخيه : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال : نعم ; قال : لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت : بلى ; قال : لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم . وقال أبو يزيد البسطامي : المتقي من إذا قال قال لله ، ومن إذا عمل عمل لله . وقال أبو سليمان الداراني : المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات . وقيل : المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق . قال ابن عطية : وهذا فاسد ; لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى ; فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم : قال فما عملت فيه ؟ قال : تشمرت وحذرت ; قال : فذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه :
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
السادسة : التقوى فيها جمع الخير كله ، وهي وصية الله في الأولين والآخرين ، وهي خير ما يستفيده الإنسان ; كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء ; فقال :
يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجه في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله . والأصل في التقوى : وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته ; ورجل تقي أي خائف ; أصله وقى ; وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة ; كما قالوا : تجاه وتراث ، والأصل وجاه ووراث .