تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 73 من سورة الحج
قوله تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا هذا متصل بقوله : ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا . وإنما قال ضرب مثل لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم . فإن قيل : فأين المثل المضروب ؛ ففيه وجهان : الأول : قال الأخفش : ليس ثم مثل ، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم ؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره ؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه . الثاني : قول القتبي : وأن المعنى يا أيها الناس ، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه . وقال النحاس : المعنى ضرب الله - عز وجل - ما يعبد من دونه مثلا ، قال : وهذا من أحسن ما قيل فيه ؛ أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم .
إن الذين تدعون من دون الله قراءة العامة تدعون بالتاء . وقرأ السلمي ، وأبو العالية ، ويعقوب ( يدعون ) بالياء على الخبر . والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله ، وكانت حول الكعبة ، وهي ثلاثمائة وستون صنما . وقيل : السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله - عز وجل - . وقيل : الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى ؛ والأول أصوب . لن يخلقوا ذبابا الذباب اسم واحد للذكر والأنثى ، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان ؛ على مثل غراب وأغربة وغربان ؛ وسمي به لكثرة حركته . الجوهري : والذباب معروف الواحدة ذبابة ، ولا تقل ذبانة . والمذبة ما يذب به الذباب . وذباب أسنان الإبل حدها . وذباب السيف طرفه الذي يضرب به . وذباب العين إنسانها . والذبابة البقية من الدين . وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية . والتذبذب التحرك . والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء . والذبذب الذكر لتردده . وفي الحديث من وقي شر ذبذبه . وهذا مما لم يذكره - أعني - قوله : وفي الحديث . وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه الاستنقاذ والإنقاذ التخليص . قال ابن عباس : ( كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه ) . وقال السدي : كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله . ضعف الطالب والمطلوب قيل : الطالب الآلهة والمطلوب الذباب . وقيل بالعكس . وقيل : الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم ؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه ، والصنم المطلوب إليه . وقد قيل : وإن يسلبهم الذباب شيئا راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها . وخص الذباب لأربعة أمور تخصه : لمهانته ، وضعفه ، ولاستقذاره ، وكثرته ؛ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله - عز وجل - على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين . وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان .