تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 74 من سورة الفرقان
قوله تعالى : والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين قال الضحاك : أي مطيعين لك . وفيه جواز الدعاء بالولد . وقد تقدم . والذرية تكون واحدا وجمعا . فكونها للواحد قوله : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة فهب لي من لدنك وليا وكونها للجمع ذرية ضعافا وقد مضى في ( البقرة ) اشتقاقها مستوفى . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن : " وذرياتنا " وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى : " وذريتنا " بالإفراد . قرة أعين نصب على المفعول ، أي قرة أعين لنا . وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه . وقد تقدم بيانه في ( آل عمران ) و ( مريم ) وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله ، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة ، معاونون له على وظائف الدين والدنيا ، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده ، فتسكن عينه عن الملاحظة ، ولا تمتد عينه إلى ما ترى ; فذلك حين قرة العين وسكون النفس . ووحد " قرة " لأنه مصدر ; تقول : قرت عينك قرة . وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار ، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر . والقر البرد ; لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد . وأيضا فإن دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، فمن هذا يقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله عين العدو . وقال الشاعر :
فكم سخنت بالأمس عين قريرة وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما أي قدوة يقتدى بنا في الخير ، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة ; وهذا هو قصد الداعي . وفي الموطأ : " إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم " فكان ابن عمر يقول في دعائه : اللهم اجعلنا من أئمة المتقين . وقال : " إماما " ولم يقل " أئمة " على الجمع ; لأن الإمام مصدر . يقال : أم القوم فلان إماما ; مثل الصيام والقيام . وقال بعضهم : أراد أئمة ، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء ، يعني أمراءنا . وقال الشاعر :
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير
أي أمراء . وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول : الإمامة بالدعاء لا بالدعوى ، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه . وقال إبراهيم النخعي : لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين . وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى ، كما قال تعالى : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا وقال مكحول : اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون . وقيل : هذا من المقلوب ; مجازه : واجعل المتقين لنا إماما ; وقال مجاهد . والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول ، ويكون فيه دليل . على أن طلب الرياسة في الدين ندب . و " إمام " واحد يدل على جمع ; لأنه مصدر كالقيام . قال الأخفش : الإمام جمع " آم " من أم يؤم ، جمع على فعال ، نحو صاحب وصحاب ، وقائم وقيام .