تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 23 من سورة النمل
قوله تعالى : إني وجدت امرأة تملكهم لما قال الهدهد : وجئتك من سبإ بنبإ يقين قال سليمان : وما ذلك الخبر ؟ قال : إني وجدت امرأة تملكهم يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبإ . ويقال : كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة ، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة ، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف . ويروى أن أحد أبويها كان من الجن . قال ابن العربي : وهذا أمر تنكره الملحدة ، ويقولون : الجن لا يأكلون ولا يلدون ; كذبوا لعنهم الله أجمعين ; ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت .
قلت : خرج أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال : قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا . وفي صحيح مسلم : فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ فقال : هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما وهذا كله نص في أنهم يطعمون . وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في ( سبحان ) عند قوله : وشاركهم في الأموال والأولاد . وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال : كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه ; ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح ذلك عنه ، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ; ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة ، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير . وقد روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق . ولم يصح فلا تلتفتوا إليه ، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث . وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية ، فقال أبو الفرج : الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها ، وسماع البينة عليها ، والفصل بين الخصوم فيها ، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل . فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى ; فإن الغرض منه حفظ الثغور ، وتدبير الأمور وحماية البيضة ، وقبض الخراج ورده على مستحقه ، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل . قال ابن العربي : وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء ; فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس ، ولا تخالط الرجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير ; لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها ، وإن كانت برزة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم ، وتكون مناظرة لهم ; ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده .
قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء مبالغة ; أي مما تحتاجه المملكة . وقيل : المعنى : أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا . فحذف المفعول ; لأن الكلام دل عليه . ولها عرش عظيم أي سرير ; ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان . قيل : كان من ذهب تجلس عليه . وقيل : العرش هنا الملك ; والأول أصح ; لقوله تعالى : أيكم يأتيني بعرشها . الزمخشري : فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم ؟ قلت : بين الوصفين بون عظيم ; لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض . قال ابن عباس : كان طول عرشها ثمانين ذراعا ، وعرضه أربعين ذراعا ، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا ، مكلل بالدر والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر . قتادة : وقوائمه لؤلؤ وجوهر ، وكان مسترا بالديباج والحرير ، عليه سبعة مغاليق . مقاتل : كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا ، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا ، وهو مكلل بالجواهر . ابن إسحاق : وكان يخدمها النساء ، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة . قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن ، ذات ملك عظيم ، وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار .