تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 43 من سورة فاطر
استكبارا أي عتوا عن الإيمان ومكر السيئ أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم . وأنث من إحدى الأمم لتأنيث أمة ; قاله الأخفش . وقرأ حمزة والأخفش ( ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ ) فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني . قال الزجاج : وهو لحن ; وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه . وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر ; لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها ، لأنها دخلت للفرق بين المعاني . وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا ، قال : إنما كان يقف عليه ، فغلط من أدى عنه ، قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين . وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره :
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
وقال الآخر : [ شعر امرئ القيس ] .
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وهذا لا حجة فيه ; لأن سيبويه لم يجزه ، وإنما حكاه عن بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة ، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه . وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده :
إذا اعوججن قلت صاح قوم
وأنه أنشد :
فاليوم اشرب غير مستحقب
بوصل الألف على الأمر ; ذكر جميعه النحاس . الزمخشري : وقرأ حمزة ( ومكر السيئ ) بسكون الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات ، ولعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ ( ولا يحيق ) . وقرأ ابن مسعود ( ومكرا سيئا ) وقال المهدوي : ومن سكن الهمزة من قوله : ( ومكر السيئ ) فهو على تقدير الوقف عليه . ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات ، كما قال :
فاليوم أشرب غير مستحقب
قال القشيري : وقرأ حمزة ( ومكر السيئ ) بسكون الهمزة ، وخطأه أقوام . وقال قوم : لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام ، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج ، وقد سبق الكلام في أمثال هذا ، وقلنا : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال : إنه لحن ، ولعل مراد من صار إلى التخطئة أن غيره أفصح منه ، وإن كان هو فصيحا . ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله أي لا ينزل عاقبة الشرك إلا بمن أشرك . وقيل : هذا إشارة إلى قتلهم ببدر . وقال الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت ذراعا بعدما كانت تحيق
أي تنزل ، وهذا قول قطرب . وقال الكلبي : يحيق بمعنى يحيط . والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا أي أحاط به . وعن ابن عباس أن كعبا قال له : إني أجد في التوراة ( من حفر لأخيه حفرة وقع فيها ) ، فقال ابن عباس : فإني أوجدك في القرآن ذلك . قال : وأين ؟ قال : فاقرأ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ومن أمثال العرب ( من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا ) وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وقال تعالى : إنما بغيكم على أنفسكم يعني بعد . . " وقال بعض الحكماء :
يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى تحصي المصائب وتنسى النعم
وفي الحديث المكر والخديعة في النار . فقوله : ( في النار ) يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار ; لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ; ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث : وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة . وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة ، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة .
قوله تعالى : فهل ينظرون إلا سنة الأولين أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين . فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا أي أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة فيهم ، فهو يعذب بمثله من استحقه ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره . والسنة الطريقة ، والجمع سنن . وقد مضى في ( آل عمران ) وأضافها إلى الله عز وجل . وقال في موضع آخر : سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين ; وهو كالأجل ، تارة يضاف إلى الله ، وتارة إلى القوم ; قال الله تعالى : فإن أجل الله لآت وقال : فإذا جاء أجلهم .