تفسير القرطبي

تفسير الآية رقم 22 من سورة ص

إذ دخلوا على داود جاءت إذ مرتين ، لأنهما فعلان . وزعم الفراء : أن إحداهما بمعنى لما . وقول آخر : أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينا لما قبلها . قيل : إنهما كانا إنسيين ، قاله النقاش . وقيل : ملكين ، قاله جماعة . وعينهما جماعة فقالوا : إنهما جبريل وميكائيل . وقيل : ملكين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته . فمنعهما الحرس الدخول ، فتسوروا المحراب عليه ، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين ، وهو قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب أي : علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب ، قاله سفيان الثوري وغيره . وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود - عليه السلام - حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم . فقيل له : إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه ، فخذ حذرك . فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه ، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير ، فجعل يدرج بين يديه . فهم أن يتناوله بيده ، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب ، فدنا منه ليأخذه فطار ، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل ، فلما رأته غطت جسدها بشعرها . قال السدي : فوقعت في قلبه . قال ابن عباس : وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان ، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا ، فقدمه فيهم فقتل ، فلما انقضت عدتها خطبها داود ، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده ، وكتبت عليه بذلك كتابا ، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل ، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب ، وتسور الملكان ، وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه . ذكره الماوردي وغيره . ولا يصح . قال ابن العربي : وهو أمثل ما روي في ذلك .
قلت : ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي ، سمع أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن داود النبي - عليه السلام - حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه ، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ، فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله ، فقدم فقتل زوج المرأة ، ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة . وقال سعيد عن قتادة : كتب إلى زوجها وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب ، وفيه الموت الأحمر ، فتقدم فقتل . وقال الثعلبي قال قوم من العلماء : إنما امتحن الله داود بالخطيئة ; لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم ، ويعطيه نحو ما أعطاهم . وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام ، يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه ، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله . وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب . فقال : يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي ، فأوحى الله تعالى إليه : إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتلى بها غيرهم فصبروا عليها ، ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بالذبح ، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك . فقال داود - عليه السلام - : فابتلني بمثل ما ابتليتهم ، وأعطني مثل ما أعطيتهم ، فأوحى الله تعالى إليه : إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة . فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه ، وجعل يصلي ويقرأ الزبور . فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فيها من كل لون حسن ، فوقف بين رجليه ، فمد يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير ، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها ، فامتد إليها ليأخذها فتنحت ، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها فطارت ، ونظر داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها ، فنظر امرأة في بستان على شط بركة تغتسل ، قاله الكلبي . وقال السدي : تغتسل عريانة على سطح لها ، فرأى أجمل النساء خلقا ، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده إعجابا بها . وكان زوجها أوريا بن حنان ، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود ، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا ، وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد . فقدمه ففتح له ، فكتب إلى داود يخبره بذلك . قال الكلبي : وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود ، وكان إذا ضرب ضربة وكبر كبر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، وكبرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش ، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره . قال : وكان سيوف الله ثلاثة ، كالب بن يوفنا في زمن موسى ، وأوريا في زمن داود ، وحمزة بن عبد المطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه : أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت ، ففتح الله عليه ، فقتل في الثالث شهيدا . فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدتها . فهي أم سليمان بن داود . وقيل : سبب امتحان داود - عليه السلام - أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة شيء . قال الحسن : إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء ، جزءا لنسائه ، وجزءا للعبادة ، وجزءا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم ، ويوما للقضاء . فتذاكروا هل يمر على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك ، فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته ، وأمر ألا يدخل عليه أحد ، وأكب على قراءة الزبور ، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه . وذكر نحو ما تقدم . قال علماؤنا : وفي هذا دليل وهي : الثانية : على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم ، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة . وقد مضى هذا المعنى في [ النساء ] . وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره - رضي الله عنهما . وقد قال - عليه السلام - لعبد الله بن عمرو : إن لزوجك عليك حقا . . . الحديث . وقال الحسن أيضا ومجاهد : إن داود - عليه السلام - قال لبني إسرائيل حين استخلف : والله لأعدلن بينكم ، ولم يستثن فابتلي بهذا . وقال أبو بكر الوراق : كان داود كثير العبادة ، فأعجب بعمله وقال : هل في الأرض أحد يعمل كعملي . فأرسل الله إليه جبريل ، فقال : إن الله تعالى يقول لك : أعجبت بعبادتك ، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب ، فإن أعجبت ثانية وكلتك إلى نفسك . قال : يا رب كلني إلى نفسي سنة . قال : إن ذلك لكثير . قال : فشهرا . قال : إن ذلك لكثير . قال : فيوما . قال : إن ذلك لكثير . قال : يا رب فكلني إلى نفسي ساعة . قال : فشأنك بها . فوكل الأحراس ، ولبس الصوف ، ودخل المحراب ، ووضع الزبور بين يديه ، فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه ، فكان من أمر المرأة ما كان . وقال سفيان الثوري : قال داود ذات يوم : يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم ، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم . فأوحى الله إليه : يا داود منك ذلك أو مني ؟ وعزتي لأكلنك إلى نفسك . قال : يا رب اعف عني . قال : أكلك إلى نفسك سنة . قال : لا بعزتك . قال : فشهرا . قال : لا بعزتك . قال : فأسبوعا . قال : لا بعزتك . قال : فيوما . قال : لا بعزتك . قال : فساعة . قال : لا بعزتك . قال : فلحظة . فقال له الشيطان : وما قدر لحظة . قال : كلني إلى نفسي لحظة . فوكله الله إلى نفسه لحظة . وقيل : له : هي في يوم كذا في وقت كذا . فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة ، ووكل الأحراس حول مكانه . قيل : أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثين ألفا أو ثلاثة وثلاثين ألفا . وخلا بعبادة ربه ، ونشر الزبور بين يديه ، فجاءت الحمامة فوقعت له ، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان . وأرسل الله - عز وجل - إليه الملكين بعد ولادة سليمان ، وضربا له المثل بالنعاج ، فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخر ساجدا أربعين ليلة على ما يأتي .
قوله تعالى : ففزع منهم لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم . وقيل : لدخولهم عليه بغير إذنه . وقيل : لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب . قال ابن العربي : وكان محراب داود - عليه السلام - من الامتناع بالارتفاع ، بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته ، مع أعوان يكثر عددهم ، وآلات جمة مختلفة الأنواع . ولو قلنا : إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك : تسوروا المحراب إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها ، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا ، وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان ; لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي . قال الثعلبي : وقد قيل : كان المتسوران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم . فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة : فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود . قال الثعلبي : والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل .
قلت : وعلى هذا أكثر أهل التأويل . فإن قيل : كيف يجوز أن يقول الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض وذلك كذب ، والملائكة عن مثله منزهون . فالجواب عنه : أنه لا بد في الكلام من تقدير ، فكأنهما قالا : قدرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالحق ، وعلى ذلك يحمل قولهما : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل ، والله أعلم .
إن قيل : لم فزع داود وهو نبي ، وقد قويت نفسه بالنبوة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة ؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ، ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فقال الله - عز وجل - : لا تخافا . وقالت الرسل للوط : لا تخف إنا رسل ربك لن يصلوا إليك وكذا قال الملكان هنا : لا تخف . قال محمد بن إسحاق : بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلا ضربه الله له ولأوريا ، فرآهما واقفين على رأسه ، فقال : ما أدخلكما علي ؟ قالا : لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فجئناك لتقضي بيننا .
قال ابن العربي : فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما ، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن ؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه : الأول : أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن ، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام ، وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام ، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان . الثاني : أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب ، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له . الثالث : أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه ، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا ؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه ؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة ، ومثل ضربه الله في القصة ، وأدب وقع على دعوى العصمة . الرابع : أنه يحتمل أن يكون في مسجد ، ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد .
قلت : وقول خامس ذكره القشيري ، وهو أنهما قالا : لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب ، توصلنا إلى الدخول بالتسور ، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا . فقبل داود عذرهم ، وأصغى إلى قولهم .
قوله تعالى : خصمان إن قيل : كيف قال : خصمان وقبل هذا : إذ تسوروا المحراب فقيل : لأن الاثنين جمع ، قال الخليل : كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين . وقال الكسائي : جمع لما كان خبرا ، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة ، خبر الاثنان عن أنفسهما فقالا خصمان . وقال الزجاج : المعنى نحن خصمان . وقال غيره : القول محذوف ، أي : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض قال الكسائي : ولو كان بغى بعضهما على بعض ، لجاز . الماوردي : وكانا ملكين ، ولم يكونا خصمين ولا باغيين ، ولا يتأتى منهما كذب ، وتقدير كلامهما ما تقول : إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض . وقيل : أي : نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض . وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع . ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر ، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان ، فعرف داود بذكر النكاح القصة . وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر . والبغي التعدي والخروج عن الواجب . يقال : بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى ، إلى ما يفحش ، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة .
قوله تعالى : فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط أي لا تجر ، قاله السدي . وحكى أبو عبيد : شططت عليه وأشططت أي : جرت . وفي حديث تميم الداري : ( إنك لشاطي ) أي : جائر علي في الحكم . وقال قتادة : لا تمل . الأخفش : لا تسرف . وقيل : لا تفرط . والمعنى متقارب . والأصل فيه البعد ، من شطت الدار أي : بعدت ، شطت الدار تشط وتشط شطا وشطوطا بعدت . وأشط في القضية أي : جار ، وأشط في السوم واشتط أي : أبعد ، وأشطوا في طلبي أي : أمعنوا . قال أبو عمرو : الشطط مجاوزة القدر في كل شيء . وفي الحديث : لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط أي : لا نقصان ولا زيادة . وفي التنزيل : لقد قلنا إذا شططا أي جورا من القول وبعدا عن الحق .
واهدنا إلى سواء الصراط أي أرشدنا إلى قصد السبيل .