تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 2 من سورة النساء
قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
فيه خمس مسائل :
الأولى قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما ؛ كقوله : وألقي السحرة ساجدين ولا سحر مع السجود ، فكذلك لا يتم مع البلوغ . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يتيم أبي طالب " استصحابا لما كان . وآتوا أي أعطوا . والإيتاء الإعطاء . ولفلان أتو ، أي عطاء . أبو زيد : أتوت الرجل آتوه إتاوة ، وهي الرشوة . واليتيم من لم يبلغ الحلم ، وقد تقدم في " البقرة " مستوفى . وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء . نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه ؛ فنزلت ، فقال العم : نعوذ بالله من الحوب الكبير ! ورد المال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره يعني جنته . فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله ، فقال عليه السلام : ثبت الأجر وبقي الوزر . فقيل : كيف يا رسول الله ؟ فقال : ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده لأنه كان مشركا .
الثانية : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين :
أحدهما - إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية ؛ إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير .
الثاني - الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه ، وذلك عند الابتلاء والإرشاد ، وتكون تسميته مجازا ، المعنى : الذي كان يتيما ، وهو استصحاب الاسم ؛ كقوله تعالى : وألقي السحرة ساجدين أي الذين كانوا سحرة . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يتيم أبي طالب " . فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله كله على كل حال ، لأنه يصير جدا .
قلت : لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن : لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما ، فأقول : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد ، وجب دفع المال إليه ، وإن كان دون ذلك لم يجب ، عملا بالآيتين . وقال أبو حنيفة : لما بلغ أشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم ؟ ! وهل ذلك إلا في غاية البعد ؟ . قال ابن العربي : وهذا باطل لا وجه له ؛ لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص ، وليس في هذه المسألة . وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة ، ولا الدرهم الطيب بالزيف . وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى ، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم ؛ ويقولون : اسم باسم ورأس برأس ؛ فنهاهم الله عن ذلك . هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية . وقيل : المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم . وقالمجاهد وأبو صالح وباذان : لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله . وقال ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث . عطاء : لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير . وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية ؛ فإنه يقال : تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه . ومنه البدل .
الرابعة : قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم قال مجاهد : وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ؛ فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم . وقال ابن فورك ، عن الحسن : تأول الناس في هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة . وقالت طائفة من المتأخرين : إن إلى بمعنى مع ، كقوله تعالى : من أنصاري إلى الله . وأنشد القتبي :
يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر
وليس بجيد . وقال الحذاق : إلى على بابها وهي تتضمن الإضافة ، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل . فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع .
الخامسة : قوله تعالى : إنه كان حوبا كبيرا " إنه " أي الأكل كان حوبا كبيرا أي إثما كبيرا ؛ عن ابن عباس والحسن وغيرهما . يقال : حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم . وأصله الزجر للإبل ؛ فسمي الإثم حوبا ؛ لأنه يزجر عنه وبه . ويقال في الدعاء : اللهم اغفر حوبتي ؛ أي إثمي . والحوبة أيضا الحاجة . ومنه في الدعاء : إليك أرفع حوبتي ؛ أي حاجتي . والحوب الوحشة ؛ ومنه قوله عليه السلام لأبي أيوب : إن طلاق أم أيوب لحوب . وفيه ثلاث لغات " حوبا " بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز . وقرأ الحسن " حوبا " بفتح الحاء . وقال الأخفش : وهي لغة تميم . مقاتل : لغة الحبش .
والحوب المصدر ، وكذلك الحيابة . والحوب الاسم . وقرأ أبي بن كعب " حابا " على المصدر مثل القال . ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد . والحوأب ( بهمزة بعد الواو ) . المكان الواسع . والحوأب ماء أيضا . ويقال : ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة ؛ ومنه قولهم : بات بحيبة سوء . وأصل الياء الواو . وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه . والتحوب أيضا التحزن . وهو أيضا الصياح الشديد ؛ كالزجر ، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل :
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب