تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 22 من سورة فصلت
قوله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم : ويجوز أن يكون من قول الله - عز وجل - أو الملائكة . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ، قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم : فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول ؟ فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله - عز وجل - : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم الآية ، خرجه الترمذي فقال : اختصم عند البيت ثلاثة نفر . ثم ذكره بلفظه حرفا حرفا وقال : حديث حسن صحيح ، حدثنا هناد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قال عبد الله : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، قرشي وختناه ثقفيان ، أو ثقفي وختناه قرشيان ، فتكلموا بكلام لم أفهمه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ، فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله . فقال عبد الله : فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم إلى قوله : فأصبحتم من الخاسرين قال : هذا حديث حسن صحيح . قال الثعلبي : والثقفي عبد ياليل ، وختناه ربيعة وصفوان بن أمية . ومعنى تستترون تستخفون في قول أكثر العلماء ، أي : ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرا من شهادة الجوارح عليكم ; لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله ، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية . وقيل : الاستتار بمعنى الاتقاء ، أي : ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة . وقال معناه مجاهد . وقال قتادة : وما كنتم تستترون أي : تظنون أن يشهد عليكم سمعكم بأن يقول : سمعت الحق وما وعيت ، وسمعت ما لا يجوز من المعاصي ولا أبصاركم فتقول : رأيت آيات الله وما اعتبرت ، ونظرت فيما لا يجوز " ولا جلودكم " تقدم .
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم . روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم قال : إنكم تدعون يوم القيامة مفدمة أفواهكم بفدام ، فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه قال عبد الله بن عبد الأعلى الشامي فأحسن :
العمر ينقص والذنوب تزيد وتقال عثرات الفتى فيعود هل يستطيع جحود ذنب واحد
رجل جوارحه عليه شهود والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي
تقليلها وعن الممات يحيد
وعن معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه : يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد ، فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا ، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا . ويقول الليل مثل ذلك ذكره أبو نعيم الحافظ وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة " في باب شهادة الأرض والليالي والأيام والمال . وقال محمد بن بشير فأحسن :
مضى أمسك الأدنى شهيدا معدلا ويومك هذا بالفعال شهيد
فإن تك بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير منك إلى غد لعل غدا يأتي وأنت فقيد