تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 21 من سورة الجاثية
قوله تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون .
قوله تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن اكتسبوها . والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، قال الكلبي : الذين اجترحوا عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة . والذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم . وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا : إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ، كما أخبر الرب عنهم في قوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى . وقوله : أم حسب : استفهام معطوف معناه الإنكار . وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب . وقوم يقولون : فيه إضمار ، أي : والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم ؟ . وقيل : هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . وقراءة العامة ( سواء ) بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم ، أي : محياهم ومماتهم سواء . والضمير في محياهم ومماتهم يعود على الكفار ، أي : محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش سواء بالنصب ، واختاره أبو عبيد قال : معناه نجعلهم سواء . وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر ومماتهم بالنصب ، على معنى سواء في محياهم ومماتهم ، فلما أسقط الخافض انتصب . ويجوز أن يكون بدلا من الهاء والميم في نجعلهم ، المعنى : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم . ويجوز أن يكون الضمير في محياهم ومماتهم للكفار والمؤمنين جميعا . قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا . وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى . عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية كلها . وقال بشير : بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد . وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت شعري! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة .