تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 38 من سورة المائدة
قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم
فيه خمس وعشرون مسألة :
قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما الآية . لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي بيانه أثناء الباب ; وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب ، وقد قطع السارق في الجاهلية ، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة ، فأمر الله بقطعه في الإسلام ، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم ، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد ; وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه ، وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك ; لقوله عليه السلام : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا فبين أنه إنما أراد بقوله : والسارق والسارقة بعض السراق دون بعض ; فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ، أو فيما قيمته ربع دينار ; وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي وأبو ثور ; وقال مالك : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما ، والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ; فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه ، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور ، وقال أحمد وإسحاق : إن سرق ذهبا فربع دينار ، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق ، وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر ; والحجة للأول حديث ابن عمر أن رجلا سرق حجفة ، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم ، وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه ، وترك حديث ابن عمر لما رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فابن عمر يقول : ثلاثة دراهم ; وابن عباس يقول : عشرة دراهم ; وأنس يقول : خمسة دراهم ، وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه ، ورفعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته ; قاله أبو عمر وغيره ، وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه ; وهو قول إسحاق ; فقف على هذين الأصلين فهما عمدة الباب ، وهما أصح ما قيل فيه . وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا ; ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل ; وحجتهم حديث ابن عباس ; قال : قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم ، ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم ; أخرجهما الدارقطني وغيره ، وفي المسألة قول رابع ، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال : لا تقطع الخمس إلا في خمس ; وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة ; وقال أنس بن مالك : قطع أبو بكر - رحمه الله - في مجن قيمته خمسة دراهم ، وقول خامس : وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا ; روي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وقول سادس : وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه ; قاله عثمان البتي . وذكر الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم ، وقول سابع : وهو أن اليد تقطع في كل ما له قيمة على ظاهر الآية ; هذا قول الخوارج ، وروي عن الحسن البصري ، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه ، والثانية كما روي عن عمر ، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد ؟ فاتفق رأينا على درهمين ، وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك ; فإن قيل : قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير ; فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير ، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام : من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ، وقيل : إن ذلك مجاز من وجه آخر ; وذلك أنه إذا ضري بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده ، وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال : كانوا يرون أنه بيض الحديد ، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم .
قلت : كحبال السفينة وشبه ذلك ، والله أعلم .
الثانية : اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا جمع الثياب في البيت ، وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقا صحيحا ، والحمد لله .
الثالثة : الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله على ما يأتي بيانه . قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم ، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم ، وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز ، وفي الموطأ لمالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن قال أبو عمر : هذا حديث يتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ، وعبد الله هذا ثقة عند الجميع ، وكان أحمد يثني عليه ، وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة وفي رواية . ( وجلدات نكال ) بدل ( والعقوبة ) . قال العلماء : ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع . قال أبو عمر : قوله ( غرامة مثليه ) منسوخ لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب بن أبي بلتعة ; خرجه مالك ; ورواية عن أحمد بن حنبل ، والذي عليه الناس في الغرم بالمثل ; لقوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال : كنت نائما في المسجد علي خميصة لي ثمن ثلاثين درهما ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع ، قال : فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها ; قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به ؟ ، ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين ، ثم الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا ، وبقيت الأطماع متعلقة بها ، والآمال محومة عليها ; فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق ، ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم ، فإذا أحرزها مالكها فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان ; فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة ، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب .
الرابعة : فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه ، فلا يخلو ، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه أو لا ، إلا بتعاونهم ، فإذا كان الأول فاختلف فيه علماؤنا على قولين : أحدهما يقطع فيه ، والثاني لا يقطع فيه ; وبه قال أبو حنيفة والشافعي ; قالا : لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم ، ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل ; قال ابن العربي : وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء ; لئلا يتعاون على سفكها الأعداء ، فكذلك في الأموال مثله ; لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما ، وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء ; ذكره ابن العربي .
الخامسة : فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر ، فإن كانا متعاونين قطعا ، وإن انفرد كل منهما بفعله دون اتفاق بينهما ، بأن يجيء آخر فيخرج فلا قطع على واحد منهما . وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة ; وقال الشافعي : لا قطع ; لأن هذا نقب ولم يسرق ، والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة . وقال أبو حنيفة : إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع ، ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة ، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة .
السادسة : ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه القطع ، ويعاقب الأول ; وقال أشهب : يقطعان . وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ ، وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قطعا جميعا .
السابعة : والقبر والمسجد حرز ، فيقطع النباش عند الأكثر ; وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه ; لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له ; لأن الميت لا يملك ، ومنهم من ينكر السرقة ; لأنه ليس فيه ساكن ، وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الأعين ، ويتحفظ من الناس ; وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر ، وقال الجمهور : هو سارق لأنه تدرع الليل لباسا واتقى الأعين ، وقصد وقتا لا ناظر فيه ولا مار عليه ، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد ، وخلو البلد من جميعهم ، وأما قولهم : إن القبر غير حرز فباطل ; لأن حرز كل شيء بحسب حاله الممكنة فيه . وأما قولهم : إن الميت لا يملك فباطل أيضا ; لأنه لا يجوز ترك الميت عاريا فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز ، وقد نبه الله تعالى عليه بقوله : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ليسكن فيها حيا ، ويدفن فيها ميتا ، وأما قولهم : إنه عرضة للتلف ; فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والإخلاق بلباسه ، إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني ; وقد روى أبو داود عن أبي ذر قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف ، يعني القبر ; قلت : الله ورسوله أعلم قال : عليك بالصبر قال حماد : فبهذا قال من قال تقطع يد السارق ; لأنه دخل على الميت بيته ، وأما المسجد ، فمن سرق حصره قطع ; رواه عيسى عن ابن القاسم ، وإن لم يكن للمسجد باب ; ورآها محرزة ، وإن سرق الأبواب قطع أيضا ; وروي عن ابن القاسم أيضا إن كانت سرقته للحصر نهارا لم يقطع ، وإن كان تسور عليها ليلا قطع ; وذكر عن سحنون إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع ، وإلا لم يقطع . قال أصبغ : يقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه ، كما لو سرق بابه مستسرا أو خشبة من سقفه أو من جوائزه ، وقال أشهب في كتاب محمد : لا قطع في شيء من حصر المسجد وقناديله وبلاطه .
الثامنة : واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : لا يجتمع الغرم مع القطع بحال ; لأن الله سبحانه قال : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ولم يذكر غرما . وقال الشافعي : يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا ، وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه ; وهو قول أحمد وإسحاق ، وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا : إن كانت العين قائمة ردها ، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم ، وإن كان معسرا لم يتبع دينا ولم يكن عليه شيء ; وروى مالك مثل ذلك عن الزهري ; قال الشيخ أبو إسحاق : وقد قيل إنه يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا ; قال : وهو قول غير واحد من علمائنا من أهل المدينة ، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة ، ثم قال : وبهذا أقول ، واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه وأسنده في كتابه . وقال بعضهم : إن الإتباع بالغرم عقوبة ، والقطع عقوبة ، ولا تجتمع عقوبتان ; وعليه عول القاضي عبد الوهاب ، والصحيح قول الشافعي ومن وافقه ; قال الشافعي : يغرم السارق ما سرق موسرا كان أو معسرا ; قطع أو لم يقطع ، وكذلك إذا قطع الطريق ; قال : ولا يسقط الحد لله ما أتلف للعباد ، وأما ما احتج به علماؤنا من الحديث ( إذا كان معسرا ) فبه احتج الكوفيون وهو قول الطبري ، ولا حجة فيه ; رواه النسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف . قال أبو عمر : هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة ، وقال ابن العربي : وهذا حديث باطل ، وقال الطبري : القياس أن عليه غرم ما استهلك ، ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك . قال أبو عمر : ترك القياس لضعيف الأثر غير جائز ; لأن الضعيف لا يوجب حكما .
التاسعة : واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه ; فقال علماؤنا : يقطع ، وقال الشافعي : لا يقطع ; لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز ، وقال علماؤنا : حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه ، ويد السارق كلا يد ، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع ، فإن قيل : اجعلوا حرزه كلا حرز ; قلنا : الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز .
العاشرة : واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة ; فقال الأكثر : يقطع ، وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه ، وعموم القرآن يوجب عليه القطع ، وهو يرد قوله ، وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشيء المسروق بشراء أو هبة قبل القطع : فإنه لا يقطع ، والله تعالى يقول : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شيء .
الحادية عشرة : قرأ الجمهور " والسارق " بالرفع . قال سيبويه : المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة ، وقيل : الرفع فيهما على الابتداء ، والخبر فاقطعوا أيديهما . وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معينا لوجب النصب ; تقول : زيدا اضربه ; بل هو كقولك : من سرق فاقطع يده . قال الزجاج : وهذا القول هو المختار ، وقرئ " والسارق " بالنصب فيهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة ; وهو اختيار سيبويه ; لأن الفعل بالأمر أولى ; قال سيبويه رحمه الله تعالى : الوجه في كلام العرب النصب ; كما تقول : زيدا أخرجه ; ولكن العامة أبت إلا الرفع ; يعني عامة القراء وجلهم ، فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ ابن مسعود " والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم " وهو يقوي قراءة الجماعة ، والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر من سرق يسرق سرقا بفتح الراء . قاله الجوهري ، وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفية من الأعين ، ومنه استرق السمع ، وسارقه النظر . قال ابن عرفة : السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له ، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس ، فإن تمنع بما في يده فهو غاصب .
قلت : وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته ، قالوا : وكيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها خرجه الموطأ وغيره ، فسماه سارقا وإن كان ليس سارقا من حيث هو موضع الاشتقاق ، فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالبا .
الثانية عشرة : قوله تعالى : ( فاقطعوا ) القطع معناه الإبانة والإزالة ، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق ، وفي الموضع المسروق منه ، وفي صفته . فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف ; وهي البلوغ والعقل ، وأن يكون غير مالك للمسروق منه ، وألا يكون له عليه ولاية ، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده ، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال ; لأن العبد وماله لسيده . ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه آخذ لماله ، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة : غلامكم سرق متاعكم . وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي قال : لم يرفعه غير فهد بن سليمان ، والصواب أنه موقوف ، وذكر ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سرق العبد فبيعوه ولو بنش أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة ; قال ابن ماجه : وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس ; أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس ، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه ، وقال : مال الله سرق بعضه بعضا وجبارة بن المغلس متروك ; قاله أبو زرعة الرازي ، ولا قطع على صبي ولا مجنون .
الثالثة عشرة : ويجب على الذمي والمعاهد ، والحربي إذا دخل بأمان ، وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف ; وهي النصاب وقد مضى القول فيه ، وأن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه ، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك ، وابن القاسم ; وقيل : لا قطع عليه ; وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ; لأنه ليس بمال ، وقال علماؤنا : هو من أعظم المال ; ولم يقطع السارق في المال لعينه ، وإنما قطع لتعلق النفوس به ، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد ، وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا ، ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب . قال ابن القاسم : ولا يقطع سارق الكلب ; وقال أشهب : ذلك في المنهي عن اتخاذه ، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه . قال : ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم ، وقال ابن حبيب قال أصبغ : إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع ; وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع ، وإن كان مما يجوز اتخاذ أصله وبيعه ، فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطنبور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر ; فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع ، وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة ، وكذلك الصليب من ذهب أو فضة ، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصابا قطع فيه . الوصف الثالث ; ألا يكون للسارق فيه ملك ، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره ، ولا شبهة ملك ، على اختلاف بين علمائنا وغيرهم في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال ; لأن له فيه نصيبا . وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم ير عليه قطعا وقال : له فيه نصيب ، وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال ، وقيل : يجب عليه القطع تعلقا بعموم لفظ آية السرقة ، وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي الكبير ; لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه . لا يقطع فيه ، وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق ، وجملة القول فيه أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه ، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه ; فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها ، غاب عنها أهلها أو حضروا ، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين ، والسارق لا يستحق فيه شيئا ، وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الإمام وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية ; ألا ترى أن الإمام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس ، أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوما دون قوم ; ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه . وكذلك المغانم لا تخلو : أن تتعين بالقسمة ; فهو ما ذكرناه في بيت المال ; وتتعين بنفس التناول لمن شهد الواقعة ; فيجب أن يراعى قدر ما سرق ، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع .
الرابعة عشرة : وظهور الدواب حرز لما حملت ، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت ، كان معه أهله أم لا ; سرقت بليل أو نهار ، وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة ، والدواب على مرابطها محرزة ، كان معها أهلها أم لا ; فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ ; ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه فإنه حرز لها . والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة ; فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة ، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فربطها حرز ; وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة ، كالدابة بباب المسجد معها حافظ ; إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلا فيربطوها فهو حرز لها كان صاحبها معها أم لا .
الخامسة عشرة : ولا خلاف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة ، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ - وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار - شيئا وإن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار ، ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار ; لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء ، إلا أن تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع .
السادسة عشرة : ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما ; لقوله عليه السلام : أنت ومالك لأبيك . ويقطع في سرقة مالهما ; لأنه لا شبهة له فيه ، وقيل : لا يقطع ; وهو قول ابن وهب وأشهب ; لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة ، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فلأن لا يقطع ابنه في ماله أولى . واختلفوا في الجد ; فقال مالك وابن القاسم : لا يقطع ، وقال أشهب : يقطع ، وقول مالك أصح أنه أب ; قال مالك : أحب إلي ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم وإن لم تجب لهم نفقة . قال ابن القاسم وأشهب : ويقطع من سواهما من القرابات . قال ابن القاسم : ولا يقطع من سرق من جوع أصابه ، وقال أبو حنيفة : لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم ; وهو قول الثوري ، وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يقطع من سرق من هؤلاء ، وقال أبو ثور : يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد ; إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع ، والله أعلم .
السابعة عشرة : واختلفوا في سارق المصحف ; فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور : يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد ; وبه قال ابن القاسم ، وقال النعمان : لا يقطع من سرق مصحفا . قال ابن المنذر : يقطع سارق المصحف ، واختلفوا في الطرار يطر النفقة من الكم ، فقالت طائفة : يقطع من طر من داخل الكم أو من خارج ; وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب . قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق : إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع ، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع ، وقال الحسن : يقطع . قال ابن المنذر : يقطع على أي جهة طر .
الثامنة عشرة : واختلفوا في قطع اليد في السفر ، وإقامة الحدود في أرض الحرب ; فقال مالك والليث بن سعد : تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والإسلام ، وقال الأوزاعي : يقيم من غزا على جيش - وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار - الحدود في عسكره غير القطع . وقال أبو حنيفة : إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره ، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره . استدل الأوزاعي ومن قال بقوله بحديث جنادة بن أبي أمية قال : كنا مع بسر بن أرطاة في البحر ، فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو ولولا ذلك لقطعته . بسر هذا يقال ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه ، وهو الذي ذبح طفلين لعبد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها ، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله ، فكان كذلك . قال يحيى بن معين : كان بسر بن أرطاة رجل سوء . استدل من قال بالقطع بعموم القرآن ; وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود : مخافة أن يلحق ذلك بالشرك ، والله أعلم .
التاسعة عشرة : فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع ؟ فقال الكافة : تقطع من الرسغ والرجل من المفصل ، ويحسم الساق إذا قطع ، وقال بعضهم : يقطع إلى المرفق ، وقيل : إلى المنكب ، لأن اسم اليد يتناول ذلك . وقال علي رضي الله عنه : تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب ; وبه قال أحمد وأبو ثور . قال ابن المنذر : وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل فقال : احسموها وفي إسناده مقال ; واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما ، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف .
الموفية عشرين : لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا ، ثم اختلفوا إن سرق ثانية ; فقال مالك وأهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم : تقطع رجله اليسرى ، ثم في الثالثة يده اليسرى ، ثم في الرابعة رجله اليمنى ، ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس ، وقال أبو مصعب من علمائنا : يقتل بعد الرابعة ; واحتج بحديث خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال : اقتلوه فقالوا : يا رسول الله ، إنما سرق ، قال : اقتلوه ، قالوا : يا رسول الله إنما سرق ، قال : اقطعوا يده ، قال : ثم سرق فقطعت رجله ، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها ، ثم سرق أيضا الخامسة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال : اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه ; منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال : أمروني عليكم فأمروه عليهم ، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه ، وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال : اقتلوه . قال جابر : فانطلقنا به فقتلناه ، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة . رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال : هذا حديث منكر وأحد رواته ليس بالقوي ، ولا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا . قال ابن المنذر : ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل . وقيل : تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها ، ثم إذا عاد عزر وحبس ; وروي عن علي بن أبي طالب ، وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل . قال الزهري : لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل ، وقال عطاء : تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع : ذكره ابن العربي وقال : أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه .
الحادية والعشرون : واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره ، فقال قتادة : قد أقيم عليه الحد ولا يزاد عليه ; وبه قال مالك : إذا أخطأ القاطع فقطع شماله ، وبه قال أصحاب الرأي استحسانا ، وقال أبو ثور : على الحزاز الدية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع . قال ابن المنذر : ليس يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين ; إما أن يكون القاطع عمد ذلك فعليه القود ، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع ; وقطع يمين السارق يجب ، ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ ، وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم شماله فتقطع ; قال : تقطع يمينه أيضا . قال ابن المنذر : وهذا صحيح . وقالت طائفة : تقطع يمينه إذا برئ ; وذلك أنه هو أتلف يساره ، ولا شيء على القاطع في قول أصحاب الرأي ، وقياس قول الشافعي ، وتقطع يمينه إذا برئت ، وقال قتادة والشعبي : لا شيء على القاطع وحسبه ما قطع منه .
الثانية والعشرون : وتعلق يد السارق في عنقه ، قال عبد الله بن محيريز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو ؟ فقال : جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ، ثم أمر بها فعلقت في عنقه ; أخرجه الترمذي - وقال : حديث حسن غريب - وأبو داود والنسائي .
الثالثة والعشرون : إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا ; فقال مالك : يقتل ويدخل القطع فيه ، وقال الشافعي : يقطع ويقتل ; لأنهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه ، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وهو اختيار ابن العربي .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : أيديهما لما قال أيديهما ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان في ذلك - قال ابن العربي : وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم - فقال الخليل بن أحمد والفراء : كل شيء يوجد من خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول : هشمت رءوسهما وأشبعت بطونهما ، و إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، ولهذا قال : اقطعوا أيديهما ولم يقل يديهما ، والمراد فاقطعوا يمينا من هذا ويمينا من هذا . ويجوز في اللغة ; فاقطعوا يديهما وهو الأصل ; وقد قال الشاعر فجمع بين اللغتين :
ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين
وقيل : فعل هذا لأنه لا يشكل ، وقال سيبويه : إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية ، وحكي عن العرب ; وضعا رحالهما ، ويريد به رحلي راحلتيهما ; قال ابن العربي : وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك ، بل تقطع الأيدي والأرجل ، فيعود قوله أيديهما إلى أربعة وهي جمع في الاثنين ، وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته ، ولو قال : فاقطعوا أيديهم لكان وجها ; لأن السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة ، وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : جزاء بما كسبا مفعول من أجله ، وإن شئت كان مصدرا وكذا نكالا من الله يقال : نكلت به إذا فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك الفعل والله عزيز لا يغالب حكيم فيما يفعله ; وقد تقدم .