تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 42 من سورة المائدة
قوله تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : سماعون للكذب كرره تأكيدا وتفخيما ، وقد تقدم
الثانية : قوله تعالى : أكالون للسحت على التكثير ، والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة ; قال الله تعالى : فيسحتكم بعذاب ، وقال الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلفا
كذا الرواية . أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى ; لأن معنى لم يدع لم يبق . ويقال للحالق : أسحت أي استأصل ، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي : يذهبها ويستأصلها ، وقال الفراء : أصله كلب الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ; فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم ، وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .
قلت : والقول الأول أولى ; لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ، ولا مروءة لمن لا دين له .
قال ابن مسعود وغيره : السحت الرشا ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا : يا رسول الله ; وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم ، وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها ، وقال ابن خويز منداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ، ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام ، وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل ، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك .
قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ; لأن أخذ الرشوة منه فسق ، والفاسق لا يجوز حكمه . والله أعلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : لعن الله الراشي والمرتشي ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية ، وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء ؟ فقال : لا ; إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك ، أو تدفع حقا قد لزمك ; فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام . قال أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ ; لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة . وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع ; قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه .
قلت : الصحيح في كسب الحجام أنه طيب ، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته ، وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ; قال ابن عبد البر : هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل ، وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم ، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتا لم يعطه ، والسحت والسحت لغتان قرئ بهما ; قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين ، والباقون بضم السين وحدها ، وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته ; يقال : أسحت وسحت بمعنى واحد . وقال الزجاج : سحته ذهب به قليلا قليلا .
قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم هذا تخيير من الله تعالى ; ذكره القشيري ; وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود ، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة ، بل يجوز الحكم إن أردنا . فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا ؟ قولان للشافعي ; وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم . قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي ، واختلفوا في الذميين ; فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير ; روي ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما ، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى ; فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها ، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما ; وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما ، وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال : يجلدان ولا يرجمان ، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا . قال ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض ، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك ، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي ، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم . فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام ، وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم ، وواجب قطع الفساد عنهم ، منهم ومن غيرهم ; لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ; ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ; ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات ; لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين ، وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا ، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم ، وليس كذلك الديون والمعاملات ; لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد . والله أعلم .
وفي الآية قول ثان : وهو ما روي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن على الحاكم أن يحكم بينهم ; وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم ، وروي عن عكرمة أنه قال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها آية أخرى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، وقال مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا آيتان ; قوله : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله ; وقوله : لا تحلوا شعائر الله نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقال الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله . قال السمرقندي : وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة إنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا ، وقال النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له : قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ ; لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير ، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم ، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل وأن احكم بينهم بما أنزل الله . وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي ; وهو الصحيح من قول الشافعي ; قال في كتاب الجزية : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه ; لقوله عز وجل : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . قال النحاس : وهذا من أصح الاحتجاجات ; لأنه إذا كان معنى قوله : وهم صاغرون أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم ; فإذا وجب هذا فالآية منسوخة ، وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد ، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم ، غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم .
وقال الباقون : يحكم فثبت أن قول أكثر العلماء إن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس ; ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة ; لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم ، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة ، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا ، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه . قال النحاس : ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر ; منهم من يقول : على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل : وأن احكم بينهم يحتمل أمرين :
أحدهما : وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك .
والآخر : وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا : فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا ; فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال : أهكذا حد الزاني عندكم فقالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم فقال : لا . الحديث ، وقد تقدم . قال النحاس : فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث . فإن قال قائل : ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ; قيل له : ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو عمر بن عبد البر : لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج ; لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل : إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، دليل على أنهم حكموه ، وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره . فإن قال قائل : ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه . قيل له : حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته . ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم ، ويقيم حدودهم عليهم ، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
قوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر ; فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله ; فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط النفس بالنفس ، ونزلت:أفحكم الجاهلية يبغون