تفسير القرطبي

تفسير الآية رقم 4 من سورة المجادلة

من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه ، فله أن يصوم عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يصوم ، وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك . وقال مالك : إذا كان له دار وخادم لزمه العتق ، فإن عجز عن الرقبة ، وهي :
فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما ، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض ، فقيل : يبني ؛ قاله ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي . وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه . وقال مالك : إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح . ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ . وهو أحد قولي الشافعي .
إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي ؛ لأنه بذلك أمر حين دخل فيه . ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه ، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها ، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء . وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر ، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ، لقوله : متتابعين . ويبني في قول الحسن البصري ، لأنه عذر وقياسا على رمضان ، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة - كالعيدين وشهر رمضان - انقطع .
إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا ، بطل التتابع في قول الشافعي ، وليلا فلا يبطل ، لأنه ليس محلا للصوم . وقال مالك وأبو حنيفة : يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة ، لقوله تعالى : من قبل أن يتماسا وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين ، وإلى أبعاضهما ، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به ، فلزمه استئنافه ، كما لو قال : صل قبل أن تكلم زيدا . فكلم زيدا في الصلاة ، أو قال : صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها ، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا ، والله أعلم .
ومن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر ، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام . ولو كان مرضه مما يرجى برؤه ، واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام . ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه .
ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم . ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام . وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر . ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق . ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى . وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه . ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه - وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة - أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك .
ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه . وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين . وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين . وقد قيل : إن ذلك يجزيه . ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى . ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى . ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين ، لم يجزه العتق ولا الصيام ، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين ، وإن لم يقدر فرق ، بخلاف العتق والصيام ، لأن صيام الشهرين لا يفرق ، والإطعام يفرق .
فصل وفيه أربع مسائل :
الأولى : ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم . وإن أطعم مدا بمد هشام ، وهو مدان إلا ثلثا ، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه . قال أبو عمر بن عبد البر : وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار من أوسط ما تطعمون فواجب قصد الشبع . قال ابن العربي : وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم : مد بمد هشام وهو الشبع هاهنا ، لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط . وقال في رواية أشهب : مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم : قيل له : ألم تكن قلت : مد هشام ؟ قال : بلى ، مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي . وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا .
قلت : وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك : أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم . وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه . ومذهب الشافعي وغيره : مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك ، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد ، أصله كفارة الإفطار واليمين . ودليلنا قوله تعالى : فإطعام ستين مسكينا وإطلاق الإطعام يتناول الشبع ، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه . وكذلك قال أشهب : قلت لمالك : أيختلف الشبع عندنا وعندكم ؟ قال : نعم ! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم ، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن . وقال أبو الحسن القابسي : إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا . قال ابن العربي : وقع الكلام هاهنا في مد هشام كما ترون ، ووددت أن يهشم الزمان ذكره ، ويمحو من الكتب رسمه ، فإن المدينة التي نزل الوحي بها ، واستقر الرسول بها ، ووقع عندهم الظهار ، وقيل لهم فيه : فإطعام ستين مسكينا - فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع ، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم ، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا ، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام ، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه ، ولا مثله من حواشيه ونظرائه ، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه ، فجعله رطلين وحمل الناس عليه ، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال ، فغير السنة ، وأذهب محل البركة . قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم ، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة ، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده ، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة ، وإذهاب هذه البركة ، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام ، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره ، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام ، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم ، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام . ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب : الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة . وبهذا أقول ؛ فإن العبادة إذا أديت بالسنة فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول ، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان ، وأبرك في يد الآخذ ، وأطيب في شدقه ، وأقل آفة في بطنه ، وأكثر إقامة لصلبه . والله أعلم .
الثانية : ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه .
الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال : إن الحجر على الحر باطل . واحتج بقوله تعالى : فتحرير رقبة ولم يفرق بين الرشيد والسفيه ، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره ، فإن هذه الآية عامة ، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه ، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه ، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام .
الرابعة : وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا ، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما .
الخامسة : قوله تعالى : ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي : ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة لتؤمنوا أي : لتصدقوا أن الله أمر به . وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى ، لما ذكرها وأوجبها قال : ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي : ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها ، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد - إيمانا ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان . فإن قيل : معنى قوله : ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي : لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور . وقيل له : قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا ، فيكون المعنى : ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا ، إذ كان الله منع من مسيسها ، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة ، وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله ، لأنها حدود تحفظونها ، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان . وبالله التوفيق .
السادسة : قوله تعالى : وتلك حدود الله أي : بين معصيته وطاعته ؛ فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة .
وللكافرين عذاب أليم أي : لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم .