تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 12 من سورة الأعراف
قوله تعالى قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى ما منعك ما في موضع رفع بالابتداء ; أي أي شيء منعك . وهذا سؤال توبيخ .
ألا تسجد في موضع نصب ، أي من أن تسجد . و لا زائدة . وفي " ص " ما منعك أن تسجد وقال الشاعر :
أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود نائله
أراد أبى جوده البخل ، فزاد " لا " . وقيل : ليست بزائدة ; فإن المنع فيه طرف من القول والدعاء ، فكأنه قال : من قال لك ألا تسجد ؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد ؟ كما تقول : قد قلت لك ألا تفعل كذا . وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد . قال العلماء : الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد ; وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك . وكان أمره من قبل خلق آدم ; يقول الله تعالى : إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فكأنه دخله أمر عظيم من قوله فقعوا له ساجدين . فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له ; فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت . فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا ، وبقي هو قائما بين أظهرهم ; فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره . فقال الله تعالى : ما منعك ألا تسجد أي ما منعك من الانقياد لأمري ; فأخرج سر ضميره فقال : أنا خير منه .
الثانية قوله تعالى إذ أمرتك يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة ; لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة : اسجدوا لآدم وهذا بين .
الثالثة قوله تعالى قال أنا خير منه أي منعني من السجود فضلي عليه ; فهذا من إبليس جواب على المعنى . كما تقول : لمن هذه الدار ؟ فيقول المخاطب : مالكها زيد . فليس هذا عين الجواب ، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب .
خلقتني من نار وخلقته من طين فرأى أن النار أشرف من الطين ; لعلوها وصعودها وخفتها ، ولأنها جوهر مضيء . قال ابن عباس والحسن وابن سيرين : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس . فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس . قال ابن سيرين : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وقالت الحكماء : أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين ، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق . فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة :
أحدها : أن من جوهر الطين الرزانة والسكون ، والوقار والأناة والحلم ، والحياء ، والصبر . وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع ، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية . ومن جوهر النار الخفة ، والطيش ، والحدة ، والارتفاع ، والاضطراب . وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ; فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء ; قاله القفال .
الثاني : أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر ، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا .
الثالث : أن النار سبب العذاب ، وهي عذاب الله لأعدائه ; وليس التراب سببا للعذاب .
الرابع : أن الطين مستغن عن النار ، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب .
قلت : ويحتمل قولا خامسا ، وهو أن التراب مسجد وطهور ; كما جاء في صحيح الحديث . والنار تخويف وعذاب ; كما قال تعالى : ذلك يخوف الله به عباده . وقال ابن عباس : كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه ، وهو أول من قاس برأيه . والقياس في مخالفة النص مردود .
الرابعة : واختلف الناس في القياس إلى قائل به ، وراد له ; فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون ، وجمهور من بعدهم ، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا ، وهو الصحيح . وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسن البصري إلى وجوب التعبد به عقلا . وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا ; ورده بعض أهل الظاهر . والأول الصحيح . قال البخاري في " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " : المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس . وقد ترجم على هذا " باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل " . وترجم بعد هذا " باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها " . وقال الطبري : الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب ، والفرض اللازم لأهل العلم . وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة الصحابة والتابعين . وقال أبو تمام المالكي : أجمعت الأمة على القياس ; فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة . وقال أبو بكر : أقيلوني بيعتي . فقال علي : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا ؟ فقاس الإمامة على الصلاة . وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال : والله لا أفرق بين ما جمع الله . وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال : إنه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ; فحده حد القاذف . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه : الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة ، اعرف الأمثال والأشباه ، ثم قس الأمور عند ذلك ، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى . الحديث بطوله ذكره الدارقطني . وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء ، حين رجع عمر من سرغ : نفر من قدر الله ؟ فقال عمر : نعم ! نفر من قدر الله إلى قدر الله . ثم قال له عمر : أرأيت . . . فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار ، وحسبك . وأما الآثار وآي القرآن في هذا المعنى فكثير . وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين ، وعصمة من عصم المسلمين ، يرجع إليه المجتهدون ، ويفزع إليه العلماء العاملون ، فيستنبطون به الأحكام . وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة ، ولا يلتفت إلى من شذ عنها . وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة ; لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان ; قال الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم . وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم ، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم . وتتميم هذا الباب في كتب الأصول .